يبني الروائي المصري الشاب عالم واحة في وسط الصحراء ويتغلل في نسيجها المجتمعي وتقاليدها وأعرافها من خلال سيرة أحدى أبنائها في حبه وأبوته وحلمه في نص يشبه القصيدة التي تتفجر في الختام وتقول حكمتها، بصورة يتحول معها النص الروائي إلى استعارة شعرية شفيفة تدير حوارها مع الواقع العربي المهزوم.

الـمــواويــة (رواية)

هشـام عـلـوان

«أما مدن الشعوب، التي يهبها الرب لكم ميراثاً، فلا تستبقوا فيها نسمة حيّة. بل دمروها على بكرة أبيها»

(سفر التثنية، الإصحاح: 20)

إهداء أول
إلى روح أخي وصديقي:
إبراهيم عبد السلام شرباش
العاشق للمباغتة، والراحل منى خلسة.

فسلام على: إبراهيم.

***

إهداء أخير
إلى محمد هشام علوان
نور يبزغ في حلكة أيامى
هشام

 

ما قاله الرواة حول هذا النص
رواية أولى:

- قالوا:
إنَّ تلك الحكايات كانت مكتوبة في أوراق وجدها أحد الرعيان منثورة على جسد رجل محتضر، وكأنها كفن.

رواية ثانية:
- إن تلك الحكايات من نسج شاعر سكير، مسته الجن بضر ذات مساء، حين كان يهيم على وجهه في الصحراء، فأخذ يهذى بها.

رواية ثالثة:
- قال جدى زهير:
"والله هذه سيرة بنى خليل، سمعتها وأنا صغير من شاعر مواوى جوّال يعزف على ربابة قديمة.. ويصدح مغنياً بها، في مقابل صاع من تمر أو قدح من خمر."

تعليق:
ونحن نميل لتلك الرواية، ليس لأن جدنا زهير
– لا فض فوه – مُنزّه عن الكذب، ولكن لأنها الأقرب للتصديق.

تنويه:
قال أصحاب الرواية الأولى، إنهم وجدوا هذه العبارة مكتوبة في أول ورقة من أوراق الحكاية .. تقول العبارة "أحداث تلك الرواية حقيقية، والعهدة على الراوى".
المواوية: هم فئة من الشعراء الفقراء الجوّالين، يقفون أمام أبواب الدور "يواوون" من أجل كسرة خبز أو حفنة قمح أو ذرة.

 

الواحة
تماماً كالجزيرة في وسط الماء، أو كالبحيرة في قلب اليابسة كانت واحتنا في وسط الصحراء، قطعة من الفردوس محاطة بالمكارِه، والمكارِه – هنا – هي الصحراء الشاسعة، التي تحيط بواحتنا من كل جانب، وما تحويه من مخاطر متمثلة في ندرة المياه، وكثرة الوحوش والهوام.

أما عن واحتنا فهى عبارة عن فيض من اللون الأخضر، المسكوب في كرم لا نهائى، يتخلله نُهير عذب، كأنه مُحلّى بالعسل، وتنتشر في ربوعها أشجار النخيل الباسقة بكثرة لافتة للنظر، وكان نخيل واحتنا شامخاً.. يتحدى الريح .. ضارباً بجذوره في قرار سحيق.

أما عن حلاوة تمره، وجمال رُطبه وثمره، فحدث ولا حرج: كان طعامنا الشهى، حين نأكله رُطباً أو جافاً، وشرابنا الطهور، حين نبلله بالماء أو اللبن.

والنخلة – بالنسبة لأهل واحتنا – كأعز ما يكون الولد؛ فكنا نعاملها برقة الأب، وحنان البنت، وكانت تعاملنا كأحسن ما تكون الأم الرؤوم.

***

والناس في واحتنا طيّبون .. كرماء.. يحبون الخير للجميع.. فكانت تسكن واحتنا عشرون قبيلة .. مرتبطة بعضها البعـض بوشائـح القرابة والنسب، والمشاركـة في فلاحة الأرض والعمل، وكانت كل قبيلة لها شيخها أو مختارها الذى يتحدث باسمها، ويَبتُ في كل أمر من أمورها. أما عن أعمال الناس في واحتنا .. فكان معظمهم يعملون في فلاحة الأرض، والبعض الآخر في رعى الإبل والماشية. والمرأة في واحتنا تلعب دوراً أساسياً بجوار زوجها.. فهى تساعده في حقله، وتحلب له ماشيته، وتصنع الجبن والزبد، وتغزل وتنسج له ولأولاده، وتُصلح وترتق ما فعله الزمن – بثيابهم – بمهارة وبراعة.

والزواج في واحتنا غريب، فلا يتم إلا في الربيع: موسم الخصب والنماء.

وقلما تجد رجلاً متزوجاً امرأة واحدة، فالجنس يشكل عند أبناء واحتي اهتماماً كبيراً، ففي أعرافهم أن امرأة واحدة لا تكفى.

الغريب – أيضاً – أنّ الرجل منا يتزوج زوجته الأولى وهو في الرابعة عشرة تقريباً، وتكون هي في الثانية عشرة .. وحين يود أن يزيد حريمه، تتقدم زوجته الأولى لتخطب له، فتختار عروسه، وتزيَنها له، وتزفها إليه بكل مودة وسرور، ليس لأن الله قد نزع الغل من صدور الزوجات الأوائل، ولكن – لأن – نظام قبائلنا يعطى -دائماً – السيادة والإمارة للزوجة الأولى ... فالزوجة الثانية – هي – تابعة لها .. تأتمر بأمرها، وكأنها إحدى جواريها .. لذا فكل زوجة أولى تسعى – دائماً – لتزويج زوجها من عدة زوجات، حتى تصبح متفرغة للبقية المتبقية من جمالها القديم.

أما أعمال الحقل والنسج والغزل، وسائر أعمال البيت، فتقع على عاتق الزوجة الثانية، التي تؤديها بكل رضا وسماحة .. لأنها تحفظ – عن ظهر قلب – قانون القبائل، فإذا تزوج الزوج مرة ثالثة أو رابعة – وهذا كثيراً ما يحدث – تقل مسئوليات الزوجة الأخرى، وتحتفظ الزوجة الأولى " القديمة " – دائماً – بالسيادة. فإذا ماتت الزوجة الأولى في حياة زوجها، صعدت الثانية محلها، وترثها في المُلك والهيمنة على شئون الدار.

***

وطقوس الزواج في واحتنا، تتم في نظام بديع .. توارثه الأجيال عبر قرون عديدة. فحين يبلغ الولد أربعة عشر عاماً أو يزيد، يذهب والده إلى مختار القبيلة ليزوجه إحدى بناتها، فإن لم يجد فيهنَّ مأربه.. رشح له إحدى بنات القبائل الأخرى، التي تتجاور في أحياء واحتنا الفسيحة، فإن أعجبته .. ذهب وفد من كبراء القبيلة وعلى رأسهم مختارها، لمقابلة مختار القبيلة الأخرى، الذى يقابلهم بكل حفاوة وكرم، ويوافق على شرف مصاهرتهم دون تردد، ودون أن يأخذ رأى الفتاة أو ولى أمرها .. فهذا أمر مختار القبيلة، وأمره واجب النفاذ.

ويقدم العريس هداياه التي – غالباً – ما تكون قطعة من الحُلىّ، وأجولة من التمر الفاخر، والقمح، والشعير، وقطعاً من القماش الملون. ثم يأتى الشيخ " محيى " وهو كهلُ في الأربعين، يحفظ القرآن  الكريم، ويصلى بالناس في المسجد العريق الذى يُطل على النُهير في الطرف الشرقى للواحة، حيث الناس يتوضأون من النُهير ثم يصلون في مسجد واحتنا العريق .. مسجد سيدى: "خليل" وله قصة تُقال على ألسنة عجائز واحتنا .. وهي:

أنَّ سيدي "خليل" – هذا – كان بدويّاً رحالة .. يجوب البلاد، وفيه "شئّ لله"، وأنه حين نزل على هذه الواحة، كانت لا تزال صحراء .. جرداء .. لا نبت بها، ولا ماء .. فدعا الله أن يجعلها ملاذاً له ولأولاده من بعده .. فأمر الله أن تتحوّل تلك الأرض الجرداء إلى واحة فيحاء .. وتفجّر بها ينبوعً من  الماء.. أصبح بعد طول السنين .. هذا النُهير الذى نشرب منه، ونغتسل فيه.

وبنى سيدي "خليل"، هذا المسجد كي يتعبد هو وأولاده فيه، ويشكروا الله على ما أفاء عليهم من نعمائه. وأنجب سيدي "خليل"، وتكاثرت ذريته، حتى جئنا – نحن – من سلالته الطاهرة، وحين مات .. بنى له أولاده ضريحاً بجوار المسجد .. كي يتبركوا به، ويتزاوروا مقامه الشريف .. لذا ليس عجيباً أن تسمى واحتنا:
"واحة سيدي خليل"،

أما عن الشيخ "محيى"، كما يحلو لكثيرين أن ينادوه، فهو شيخ واحتنا الجليل .. توارث شرف خدمة المسجد، والقيام بأداء المناسك ... أباً عن جد، فهو الذى يزوّج أبناء واحتنا، وهو – أيضاً – الذى يُغَسّلُ موتاهم، ويُلقّنهم الشهادتين قبل الرحيل.. بالإضافة أنه يفتيهم في مسائل دينهم، كما عَلّمه أبوه، وكما علم – هو – ولده، الذى يعده لخلافته من بعده. وفى مقابل هذا .. يخرج له شيخ كل قبيلة ريعاً وخيراً كثيراً ... إجلالاً وإكباراً للعلم وأهله.

لذا .. فالشيخ " محيى " محبوب جداً في واحتنا، وقد حرص كل شيخ قبيلة على شرفِ مصاهرته .. فالشيخ "محيى" متزوج من أربع نساء .. من أربع قبائل مختلفة، وتقوم زوجته الأولى – تماماً – بنفس مهامه، ولكن مع سيدات القبائل.

يأتي الشيخ "محيى" إلى مجلس القبيلة، ومعه دفتر قديم يسجل فيه الزواج .. ثم يتم الإعلان عنه بالزغاريد، والأهازيج. وتستمر الأفراح لمدة ثلاثة أيام متتالية.. ترقص فيها السيدات للعروس.. ويرقص فيها الرجال.

ولكل قبيلة رقصتها التي تميزها .. وتتوارثها .. ويشاركهم بالرقص العريس.. الذى يحمل سيفاً ويمارس رقص قبيلته، وينشد أناشيد العرس، التي يصاحبها تصفيق منغم مع دقات الدفوف. ويدخل العريس على عروسه البكر، ويخرج بعد لحظات، ممسكاً بقطعة قماش بيضاء، ملوثة بدماء بكارة فتاته، فتعلو الزغاريد، ويزداد قرع الطبول، ويحضنه حماه ووالده، ويحمله أقرانه وأصدقاؤه؛ مبتهجين مسرورين.

***

أما عن الحزن في واحتنا، فهو يختلف من قبيلة لأخرى حسب عرفها وتقاليدها .. ولكنه لا يقل – أبدا – عن الشهر، ولا يزيد عن العام.. حسب أهمية الميت ومكانته .. مثلاً حين يموت مختار القبيلة .. تظل في حداد عليه لمدة عام، ويخلفه ولده الأكبر من زوجته الأولى، فإن لم يكن في أولاد زوجته الأولى ذكور، يخلفه أكبر أبنائه الذكور من زوجته الثانية .. وهكذا.. فإن لم يكن في أولاده – من زوجاته – أى ذكور – وهذا قلما يحدث – فإن الأخ الأكبر للمختار هو الذى يخلفه، فإن كان متوفياً فإن الذى يخلفه هو ابنه الأكبر .. وهكذا كانت أعراف القبائل، وقوانينها التي توارثناها من مئات السنين.

ويقوم الشيخ "محيى"، - أيضاً – بمهامه على أكمل وجه. وتشارك القبائل بعضها البعض في الأحزان والأفراح، فهم متشابكون في علاقات أسرية حميمة، وهم جميعاً أبناء سيدى: "خليل"، وأولاد رحم واحد.

ويختلف في واحتي حزن النساء عن الرجال .. فالمرأة في حداد على زوجها لمدة عام، ويحق لها أن تتحلل من السواد بعده؛ كما يحق لها – أيضاً – أن تتزوج من آخر، وتنتقل لداره، ولكن الزوجة الأولى – قلما – ترضى بذلك، فهى تظل حبيسة السواد طيلة عمرها، ليس وفاء "للمرحوم" ولكنها لا تريد أن تنتقل لعصمة رجل آخر، وتكون الزوجة رقم اثنين أو ثلاثة في حياته، فهى تعلم – بل تحفظ – قانون القبيلة فقد عاشت ملكة وسيدة الدار .. الآمرة .. الناهية فصعب عليها أن تتنازل عن هذه المكانة لامرأة أخرى، أيا كانت تلك الأخرى. كما أنها تعلم – علم اليقين – أن أى رجل في قبيلتها – دائماً – ما يحبذ أن تكون زوجته الأولى بكراً فكيف تكون الأولى – بكل مميزاتها – وهى الآن ثيب؟! لذا فهى تفضل عدم الزواج ليس إخلاصاً للراحل "الغالي"، بقدر ما هو حفاظاً على مكانتها كملكة سابقة .. متوجة في دارها على مجموعة من الجواري.

أما الزوجات الثانية .. وحتى الرابعة إن وجد ... فإنهن سرعان ما يتزوجن بعد مرور العام، وقد تطمع إحداهن في تحسين مركزها، فلربما أصبحت – ذات يوم – سيدة الدار الأولى، وملكتها المتوجة!

***

أما عن تسلية رجال واحتى .. فهم حين ينتهون من أعمالهم، يجتمعون ليلاً، ويتسامرون حتى يغالبهم النعاس فيغلق عليهم جفونهم، فيقومون ملبين نداء سلطان النوم وتدور في مجالسهم أحاديث شتى .. بعضها عن أعمالهم، وتطلعاتهم .. وأغلبها عن الجنس.. فالناس في واحتى يفكرون بخصيهم أو ربما كانت عقولهم بين أفخاذهم. فهم يتباهون بفحولتهم .. ومقدرتهم الجبارة التي لا تستطيع امرأة واحدة أن تتحملها .. ولذا فهم – دائماً – يبررون كثرة زواجهم لهذه الخاصية ولعل أغرب ما في الموضوع .. أنك تجد شيخاً مسناً كعم "وهدان"، يتحدث عن مقدرته غير العادية، ويحمد الله على هذه النعمة بتقبيل باطن اليد، وظاهرها .. ثلاثاً. وقد أبدى أحد الشباب اعتراضاً على قوة عم "وهدان"، وفحولته المزعومة ..فما كان من عم "وهدان " إلا أن أقسم أن يتزوج في الربيع القادم بزوجتين بكرين .. وفى يوم واحد، ثم خرج من مجلسنا مغاضباً، وقد نسينا نحن هذه القصة .. وشغلتنا أحوالنا عن تذكرها، إلا أن عم "وهدان" فاجأنا في موسم الزواج بعقد قرانه – وفى يوم واحد – على زوجتين .. شابتين .. بكرين، ودخل عليهن في يوم واحد .. دخل على الأولى .. وبعد لحظات.. خرج بقطعة قماش بيضاء عليها دماء بكارة عروسه الأولى .. زغردت النساء، ودقت الطبول، وهَمَّ شباب القبيلة، وأولاد عم "وهدان" – من زوجاته السابقات – أن يحملوه .. ابتهاجاً به .. وبفحولته التي شرفتهم .. فزجرهم، ودخل مسرعاً .. وعاد بعد دقائق .. بقطعة قماش جديدة عليها دم بكارة عروسه الأخرى.

كان عم "وهدان"، يبدو كالأسد المنتفخ الأوداج.. زهواً بانتصاره .. فقد حقق العجوز، وبَرَّ بما وعد. وأخذ يحدق في المهنئين بعينين مملؤتين زهواً .. وإعجاباً.. ووقعت عيناه على ذلك الشاب الذى استفزه، وأنكر عليه فحولته، وقوته، فجرى إليه .. وأمسكه من كتفه .. حين حاول الهرب، وهو يهزه هزاً عنيفاً:

- هل تقدر أن تفعلها؟! .. هل تقدر؟!

أما عن الشاب فقد توردت وجنتاه، ثم طأطأ رأسه خجلاً، فما كان من عم "وهدان"، إلا أن دفعه .. وهو يضحك في هيستريا:

- أتحداك أن تفعل!

ثم تركه، واندفع يرقص رقص قبيلته المشهور، ممسكاً سيفاً، وكأنه استعاد شبابه المفقود، والناس من حوله يرقصون، وينشدون أناشيد القبيلة، بينما كانت هناك امرأة تبدو في الخمسين .. ترقص، وتغنى، ثم تصفق وتزغرد في حماس متصل.. وكانت سعيدة جداً، فقد أضاف عم "وهدان"، إلى بلاط جلالتها .. جاريتين جديدتين!!

 

لَيثُ العُرْبان
ربما لم يسعدك الحظ – مثلى – أن تعيش في هذا الفردوس، الذى – كثيراً – ما أغبط نفسى عليه. كانت – ومازالت – الطبيعة بمناظرها الخلابة تآسرنى – بل – تكاد تصيبنى باللوثة. فالواحة تبدو كقطعة مرج أخضر، انسكبت فوق بساط أصفر، يتخللها نهير لؤلؤى أبيض، فوقها خيمة زرقاء، فقد تبدو ساعة الشفق مشربة باحمرار، وقد بدت الشمس القاسية منكسرة الشعاع، موءودة الحيوية.. فكأنها تصالح الصحراء المحيطة بواحتنا .. بعناق أثير، وحميمية عجيبة ساعة الغروب. وربما أرادت الشمس أن تعوضها عن فظاظتها، وقسوتها القائظة وقت الظهيرة، بهذا العناق المحموم.

أما عن الرتوش الأخيرة التي وضعها ذلك الفنان القدير، كي تبدو اللوحة آية في الروعة، وتحفة في الإبداع .. فكان منظر الجبال الثلاثة، التي تقف، وكأنها في نوبة حراسة أبدية على واحتنا الآمنة. وكان الرعيان والفلاحون من أبناء واحتى يطلقون على تلك الجبال الكثير من القصص والأساطير. فكانوا في مجالس سمرهم – وحين يأخذهم الإعياء من أحاديث العمل والجنس – يعرجون على نسج الأساطير، والحكايات العجيبة عن هذه الرواسى، التي تقف تتحدى الزمن.

فقد حدثنا عم "شهاب"، كبير الرعيان في قبيلتنا – بل – وكل القبائل المجاورة .. قال:
- هذه الجبال بناها الجن، فالجبل الأحمر بناه سلطان الجن الأحمر، والجبل الفيروزى بناه سلطان الجن الأزرق .. أما الجبل الأسود فقد بناه إبليس اللعين، كي يسجن فيه المردة والشياطين، التي تخرج عن إمرته.

ثم ينتفض، وهو يبسمل ويحوقل:
- يجعل كلامنا خفيفاً .. هل تعرفون قصة "حمدان"، الراعي؟!

وبالقطع كلنا كان يسمع قصصاً من هذا القبيل، وإن كنا لم نعاصر "حمدان" هذا .. وأردف

عم "شهاب" قائلاً:

- كان "حمدان"، راعياً، للغنم، وقد توغل يوماً في الصحراء تجاه الجبل الأسود، وقد أغراه فضوله أن يقترب أكثر.. ثم سكت، ونظر إلينا مستمتعاً بلهفتنا في تتبع القصة:- هل تعرفون ما حدث؟!

أجاب شاب في مقتبل العمر:

- أخبرني أبى أن الذئاب أكلته..

فنظر إليه عم "شهاب"، ثم عقب ساخراً:

- وهل تأكله الذئاب، وتترك غنمه؟! لقد عادت غنمة سليمة .. ولكنه لم يعد..

ثم أردف عم "شهاب"، بلغة العليم ببواطن الأمور، وهو يميل برأسه نحونا هامساً:

- لقد خطفته الجن!!

ثم بسمل وحوقل .. وكذلك فعل الحاضرون.

***

لم يكن ينغص علىَّ في هذا الفردوس اليانع غير والدى، كان أبى هو مختار قبيلتنا: "الشدايدة".. وكانت قبيلة: آل شديد؛ والتى أنتمى إليها .. تمتاز عن سائر القبائل المجاورة بالفروسية، والبأس الشديد.. بل إن من طقوسنا القديمة – لكى يصبح الفتى فارساً – عليه أن يمكث وحده في الصحراء لمدة أسبوعين .. بدون ماء أو شراب .. ليس معه سوى فرسه وسلاحه .. ثم عليه

– أيضاً – أن يعود بذئب مذبوح .. ينتزع كبده ليأكلها نيئة في مجلس التنصيب، ليصبح – بعدها – فارساً من فرسان الشدايدة، إلا أن جدى الثالث "ليث آل شديد"، قد نسخ هذا الشرط، فيجوز اصطياد أي حيوان آخر، حتى ولو كان أرنباً برياً.

وليس هذا تخاذلاً منه أو خنوعاً .. فكل أبناء القبائل يعلمون من هو جدى "ليث آل شديد" فقد عاد يوم تنصيبه فارساً – في حياة أبيه – بذئب حي، وربما كان الوحيد الذى استطاع أن يقتنص ذئباً حياً، وذبحه في مجلس التنصيب.. ثم بقر بطنه وأخرج كبده ولاكها بأسنانه.. وما زالت القبائل تتحدث عن هذه القصة حتى الآن،

وما زال والدى يحتفظ بفراء ذلك الذئب التعس، الذى ساقته الأقدار .. لمواجهة جدى: "ليث العربان".

ولكن جدى "ليث" فقد أكبر أبنائه وأحبهم

– جميعاً – إلى قلبه، كان يسمى "مظفراً".. أراد أن يقلد أباه، ويعود بذئب حي، كي تصبح سنة في القبيلة .. ولكن الذئب غدر به، واستطاع جدي "مظفر" أن يقتل الذئب، ثم مات بعدما أثخنته الجراح.. وأصر جدى "ليث" على إقامة مجلس التنصيب، ونصبوه فارساً، وهو مسجى في كفنه، ولذا فقد نسخ جدى "ليث" هذه السنة السيئة من ناموس قبيلتنا.

ولقد ورث أبى " تمام آل شديد" هذه العادات وتلك التقاليد، وعَلَّمها لأولاده .. وبالقطع .. كنت

– أنا - صاحب نصيب الأسد من تلك التعاليم، حيث كنت ابنه الأكبر – من زوجته الأولى – وخليفته المنتظر، وإن كنت لا أخفى تبرمي أمامه من سخافات بعض عاداتنا التي توارثناها .. وكان يعجبني جداً جدى

 "ليث العربان" – رحمه الله – ربما لأنه أول من تجرأ على ناموس قبيلتنا، فبدَّل وغيرَّ فيه.

ولم يكن والدى – رغم فروسيته وشجاعته – يمتلك هذه الجرأة، والقدرة على التغيير في ناموس الأجداد، فهو أضعف ما يكون أمام عرف القبيلة .. حتى لو كان يدرى أن تلك الأعراف مجحفة أحياناً.

كان أبى يعدنى لأخلفه، وعملية الإعداد تلك ليست هينة أو سهلة، فكان على أن أتصرف - وأنا في الرابعة عشرة - كمختار للقبيلة، أتكلم بحساب، وأتصرف بحساب، بل إنني كثيراً ما كنت أغبط أقرانى حين أراهم يتصرفون بحرية، فكم كنت أود أن أعدو مثلهم حافياً، أو أتسلق - كقرد- إحدى النخلات كي آتى بالرطب، أو أذهب وقت القيلولة، وأغوص في قلب النهير، كل تلك الأشياء كانت محرمة على، بل إننى كثيراً ما وددت لو أخذوا منى اللقب والخلافة .. وأعطوني حريتي!

بدأ أبى مسلسل التنغيص اليومي على، فقد لمح لأمي أكثر من مرة:

ينبغي على هذا الولد أن يصبح رجلاً..

ثم أعقب ذلك بسلسلة من التلميحات غير المباشرة، وربما اقتنع أكثر بغبائي .. فلجأ للتصريح والحوار المباشر معي:

- أريدك أن تخرج إلى الصحراء في الشتاء القادم.

كان هذا معناه أنه يريد أن ينصبني فارساً.. حيث عادة الشبان من أبناء قبيلتنا، أن يخرجوا في زمهرير الشتاء .. ليعودوا بعد أسبوعين بالصيد والقنص .. ليتم تنصيبهم في مجلس التنصيب .. فرساناً أشاوس .. وربما أعقب ذلك زواجهم في موسم الربيع:

- ولماذا أخرج؟!

جاء ردى غير متوقع لوالدي .. فقد صدمه سؤالي لأنه كان يعدني ظله .. وامتداداً لمجده وسؤدده .. فأنا الذى يعقد عليه آماله في المحافظة على مجد القبيلة، ومكانتها السامقة بين القبائل..

زمجر أبى، وأجابني في فزع:

- يا عاري .. ألا تريد أن تصبح رجلاً؟! ألا تريد أن تكون فارساً .. شجاعاً .. كأبيك وجدك؟!

ورددت عليه في هدوء:

- وهل الشجاعة والفروسية .. تحتاج اختبار؟!

ضحك والدى، ثم عقب ساخراً:

- نريد أفعالاً .. لا أقوالاً..

كان أخي "حسان"، يجلس مصغياً وهو أخ لى غير شقيق - من زوجة والدى الثانية - وربما كان يطمع في إرث خلافة والدى على القبيلة إذ أنه سرعان ما اهتبل الفرصة، وألح على والدى كي يخرج بدلاً منى فما كان من والدى إلا أن زجره فسكت بعدما تنبه أنه أخطأ ثم عقب:

- هل تعرف ماذا يقولون عن أخي "نوار"؟!

والتفت إليه أبى، وحدجه بنظرة قاسية:

- ماذا؟

أردف "حسان":

- إنهم يقولون إنه ...

ثم سكت .. إلا أن نظرة والدى الصارمة، جعلته يستطرد .. فأكمل وهو يزدرد لعابه:

- إنه عنين .. ولا يصلح أن يكون مختاراً لقبيلتنا.. لم أتمالك نفسى من هول ما سمعت .. فتهاويت على أقرب أريكة، وأنا أكاد أنفجر.. أما والدى .. فقد أمسك بتلابيب "حسان"، وعنفه ووبخه .. ثم أمره بالخروج ..

والتفت إلىَّ .. ثم جلس بجواري .. وقد أحس بموقفي . وربت بحنان أبوي على كتفي .. وضمني بقوة .. وهو يقول:

- أعلم أنك رجل .. وأنك لن تخذلني .. وستكون مختاراً على القبيلة .. رغم أنوفهم..

خرج والدي .. وتركني وحدي .. أجترع المهانة والألم .. ذبحتني كلمات "حسان"، .. وهزتني جداً تلك الأكاذيب التي يطلقونها على.

***

كنت أعلم أن الشائعات من أبرز سمات قبائلنا .. فيكفى أن تقول الشائعة في أقصى أطراف الواحة.. حتى تنطلق كالفرس الجامح .. لتصل للطرف الآخر من الواحة .. ربما قبل أن تنتهى منها.

ولقد سألني – ذات مرة – شيخنا "محيى":

- لماذا لا تتزوج؟!

والحقيقة .. أنني لم يدر بخلدي هذا السؤال، فكيف بالإجابة عليه؟!

كان الجنس – كما سبق – أن وضحت – هو أساس تفكير رجال قبائلنا .. وربما كانت أبشع تهمة للرجل .. أنه لم يعد يقوى على المواقعة، لذا .. فقد انزعج عم "وهدان"، من اتهامات الشاب الخرقاء لفحولته ومقدرته على الإيلاج .. فبادر كي ينفى – عن نفسه – الشائعة .. بأن تزوج من شابتين بكرين في يوم واحد!!

فهل أحذو حذوه؟!! .. كلا .. لست أنا الذى تهزه مثل تلك الأراجيف .. فأنا أؤمن بالحب وسأبحث عنه في كل القبائل، ولن يضنيي البحث حتى أجده .. فأتزوج من اختارها فؤادي .. لا من اختارها والدي.

لا أريد أن أمارس همجية الحب مثلهم ..

الحب عندهم .. جسد .. وفحولة .. وغناج حريم من شدة وطء الفارس .. وأنا أبحث عن روح .. عن امرأة لها إرادة .. ولها عقل وحرية اختيار .. لا عن شاة داجنة .. تنتظر في الحظيرة كبش الغنم، حين يأتي ليواقعها في موسم التكاثر.

كنت أريد امرأة مثل الواحة .. خضراء وسط صفرة الرمال، ثائرة – مثلى – ضد ناموس القبيلة.

***

كان من العسير على مثلى أن يعثر عليها في مجتمع كمجتمعنا القبلي المغلق، وإذا لم أجد – وغالباً لا أجد – مثل تلك المرأة .. ماذا سأفعل؟! .. هل أتزوج أي نعجة في الحظيرة؟!

أم أفعل كما قال لي أبى ذات يوم:

- سأزوجك في الربيع القادم .. أربع فتيات بكر في يوم واحد .. أنت شديد يا ابن شديد.

ربما أراد والدى أن يرفع من روحي، أو ربما أراد أن يثبت للمتخرصين أنني لست عنيناً ولا خصياً .. كما يدعون!!، كانت طريقة تفكيري – بالإضافة لكوني ولياً للعهد – تجعلني أبتعد عن أقراني .. كان لا يعجبني تفكيرهم، وعصبيتهم – بل – وغباؤهم أيضاً.

كانوا مسوخاً شائهة، ونسخاً باهتة من آبائهم! ربما كانت بى لوثة، أو أن الكتب والمخطوطات القديمة، التي ورثها الشيخ "محيى" عن آبائه وأجداده .. قد "لحست مخى"، كما كان – أبى وأمى – يرددان دائماً.

لكنني .. كنت أحس أنني نبت مختلف، في أرض مختلفة، وسط زروع مختلفة!

وتمر الأيام متشابهة، ومملة .. وفى كل يوم لا ينسى والدى أن يتلو على مسامعي الأوامر والنواهي، وجدول أعمال القبيلة، كما أنه لا ينسى – مطلقاً – أن يذكرني كي أختار عروساً في غضون أيام، حتى يذهب ليخطبها لي، لأنني – حتماً – ولا بد أن أتزوج في الربيع القادم.

ثم تذكر أبى شيئاً مهماً:

- واستعد جيداً، فسوف تخرج في الأسبوع القادم .. كي تثبت لنفسك، ولى، وللقبائل .. أنك فارس، وابن فارس، وأنك من آل شديد!!

 

البربر
وضعني أبى – سامحه الله – في موقف لا أحسد عليه، حيث كان لزاماً علىَّ أن أحدد فتاة بعينها .. كي يخطبها لي قبيل خروجي للصحراء وعلى عكس الأيام؛ التي كانت – كالمعتاد – تمر رتيبة ومملة، إلا أنها – قد – تواطأت مع والدى علي، فكانت الأيام تمضى سراعاً.. وكأنها في عجلة من أمرها أو ربما فاتها موعد ما .. تريد اللحاق به.

كان كل يوم يمر .. يقرّب موعد خروجي للصحراء كي أثبت أنى فارس، وأنى ابن شديد .. كما يردد أبى – فلا يمل والدى من الإلحاح على أن أخطب أيّة بنت .. سواء من عشيرتنا أو من العشائر المجاورة.

وكنت أتملص منه برفق وأرد على إلحاحه في لين.. فقد كنت أحبه .. لكنني وصلت لمرحلة اتقاء ملاقاته، وتحاشى مواجهته.. التي صارت عبئاً ثقيلاً على قلبي. فأخرج بعد ظهيرة كل يوم لأقضي معظم الوقت بمسجد سيدى: "خليل"، حيث أجلس وحدى أتأمل حالنا، وربما شاركني مجلسي الشيخ "محيى"، الذى كنت أعده صديقي الوحيد رغم فارق السن بيننا.

كان الشيخ "محيى"، عالماً .. ورعاً .. وكثيراً – ما كان – يشاركني الرأي حول أوضاعنا، وفساد بعض عاداتنا وتقاليدنا، ولكنه مثل – معظم الناس- لا يملك القدرة على المواجهة أو التغيير. ربما يتدخل – فقط – حين تمس العادات والتقاليد أصلاً من أصول الدين، أو تتعرض تلك النواميس القبلية للشريعة السمحاء.. هنا فقط يتحول الشيخ "الوديع" الرقيق الحاشية إلى وحش كاسر، لا يخش في الحق لومة لائم. ولا يستطيع أى فرد من أفراد عشائرنا أن يرد له طلباً، حتى ولو كان مختاراً على قبيلته.

ولعلني  - كنت – صبياً في التاسعة، حين وقف الشيخ الشاب على المنبر .. ذات يوم يحذِّر الناس من صنع ما يسمى بـ "عرق البلح"، وأنه حرام – تماماً – كالخمر، ولم تهدأ ثائرة الشيخ إلا حين حرمته كل العشائر؛ رغم ولعهم به، اتقاء لغضبة الشيخ، الذى كانت غضبته مرتبطة في أذهانهم بغضبة الرب!

***

كان الشيخ "محيى"، يحضر لي الكثير من الكتب القديمة، والمخطوطات التي كتبها والده، وجده، وبقية أجداده؛ عن تاريخ عشائرنا، وقصص قبائلنا، وأهم الشخصيات التي أثرت في حياتنا عبر مئات السنين.

ولعل الشيخ "محيى"، يسجل هـو الآخر تاريخنا،

ويضيف لتلك المخطوطات .. صفحات جديدة، من أحداث تقع في واحتنا الهادئة.

كانت قراءاتي لتلك المخطوطات .. هي متعتي وسلوتي في أيامى الرتيبة التي تتكرر أحداثها بكل حذافيرها. وحظى جدى (ليث آل شديد) أو " ليث العربان" – كما يحلو لكتاب المخطوطات – أن يطلقوا عليه – بنصيب الأسد من تلك المخطوطات. فهو أول من وحَّد قبائلنا .. وكانت شيعاً تتقاتل وتختلف على مواطن الزرع والماء، والكلأ. كما أنه هو الذى غير في بعض عاداتنا كما سبق أن أشرت – بل – الأهم من ذلك .. كان لـ "ليث" الفضل في هزيمة البربر، وقطع دابرهم وشتاتهم في البوادي، وتفرقهم في المفازات، فقد كانت تتاخم واحتنا – منذ أمد بعيد – تلك القبائل البربرية؛ التي طالما هاجمت قبائلنا، وسرقت خيرات واحتنا.

فأضحت تلك القبائل البربرية هي الأرق؛ الذى صاحب عيون أهل واحتنا، والنصب الذى جثم على صدورهم سنين طويلة .. وللبربر قصة: يقولون والعهدة على عجائز واحتنا:

إن أصل البربر كان عبداً اسمه: "سامو"، اصطحبه سيدي "خليل"، معه للواحة .. فأواه، وأكرمه، وزوَّجه:

"زنيرة"؛ عبدة مثله .. كانت تخدم زوجته "مسرورة".

وعاش سيدى: "خليل"، يخدمه "سامو" بعينيه كما ينبغي أن يكون الخادم الأمين مع سيده الكريم.

ولأن النفس أمارة بالسوء؛ فإن إبليس اللعين، قد توسم في "سامو" ميلاً ووهناً .. فأتى "سامو"، على هيئة هاجس، ووسوس إليه:

- ما الذى يجبرك أن تعاشر "زنيرة"، تلك القميئة؛ كل هذه السنوات؟!

رائحتها تشبه رائحة الغنم.. شعرها الخشن الجاف – تماماً – مثل نباتات اللوف البرية .. عرقوبها – آهٍ من عرقوبها – يذكرك دائماً بسيقان العصافير .. صدرها الضامر البخيل – كالصحراء – قاحل ومجدب..

أما عن وجهها – قبح الله وجهها – أينما توجهه لا يأتي بخير، ولا يثير فيك سوى الاشمئزاز!!

آهٍ .. يا سيدتي "مسرورة"، يا وردة ندية في قلب الصحراء .. آه لو شاهدتها – مثلى – عارية .. تستحم في قلب النهير .. كنت وقتها .. أمتطى إحدى النخلات؛ كي آتى بالرطب .. وكان الوقت أصيلاً .. خلعت كل ثيابها .. بعدما أمنت غوائل كل العيون .. لم تكن هناك غير عين الله التي لا تنم، وعينىّ كأنما قُدَّ جسدها من قشدة .. تفنن الله في خلقها .. بينما – خلقنى – وخلق "زنيرة" على مضض...

- لماذا أعطى الله "خليل"، امرأة مثل "مسرورة"، وأعطاني مسخاً اسمه "زنيرة"؟!

- لماذا – أنا – أسود كالكلب الموبوء .. بينما "خليل"، وسيمُ كالقمر؟!

كلانا يعبد الله في وجد وتبتل .. فلماذا يفرق الله بيننا؟! ساعتها .. كدت أسقط من فوق النخلة لولا الحبل المربوط حول خاصرتي..

سحرني هذا الجسد .. صار إلهى .. سوف أعبده .. أعلم أن سيدتي "مسرورة" ورعة كزوجها .. هي أنثى على كل حال .. حتى ولو كانت قديسة .. ربما تغلبها شهوتها .. ثم إنها لم تجربني بعد .. حتما ستغير رأيها بعدما تذوق نكهتي!!

هذا المخبول "خليل" ملهى عنها بالعبادة والصوم .. يا إلهى .. كيف ترضى عن هذا العبد، الذى يهمل بديع خلقتك؟!

هذا الجسد وصله عبادة، وتركه إثم..

سوف أضاجعها .. ولو كلفني ذلك حياتي..

متى؟!

في أقرب فرصة.

غداً..

نعم ..غداً.

سيأتيني سيدى: "خليل"، كي أخرج معه

– كعادتنا – فجراً للصيد والقنص، سوف أتعلل بالمرض:

إني سقيم!

سوف أحدثه بصوت واهن .. وربما تعتريني

– ساعتها – رعدة ورجفة  حتماً سيصدقني .. فهو طيب لدرجة السذاجة .. وما اعتاد منى – أبداً – الكذب!!

وفى وقت الأصيل و "زنيرة " الملعونة مشغولة بشئون الدار .. سوف أذهب إلى شاطئ النهير حيث اعتادت سيدتي "مسرورة" أن تستحم سأغافلها فلا تراني إلا جاثماً فوق صدرها البض.. وسوف تأخذها المباغتة .. ولن أنسى – أبداً – أن أطبق بشفتيّ الغليظتين على فمها المنمنم .. فلا تقوى على الصراخ .. ثم أواقعها..

تقول عجائز واحتنا:

فلما هَمّ بها .. وزين له إبليس سوء عمله فرآه حسنا .. أصابه الله بنوع من الشلل .. فتجمد مكانه.. كتمثال صخري ..

وأتمت "مسرورة" حمـامها .. فلما رأته متيبساً

قُدّامها .. عرفت حاله .. وما آل إليه الخسيس.

هنا .. عاد سيدي "خليل" وقد كشف الله له ما حدث. فطرد "سامو"، و"زنيرة" ودعا عليهما:

- اخرجا من هذه الواحة .. فإنها محرمة عليكما إلى يوم الدين .. اللهم إنهما خانا الأمانة فشتتهما في المفازات .. واجعل التيه والصحراء منزلاً لهما، ولذريتهما واجعلهما وقود النار!!

ومن نسل "سامو" و "زنيرة" جاء البربر .. كما جئنا – نحن – من نسل سيدي "خليل "، والسيدة البتول "مسرورة". ولم ينس "سامو" ولا "زنيرة" زوجته ما فعله بهما سيدي "خليل"، فكانت ذريتهما – مثلهما – ترضع من ثدى الأم، كراهية الواحة.. وكل ما هو "خليل"!! ولطالما .. هاجموا واحتنا ليلاً .. وقطعوا على الرعيان الطريق .. وعاثوا في الأرض فساداً حتى جاء "ليث العربان" وَحَّد قبائلنا، وعشائرنا المشتتة تحت لواء واحد، وباغتهم بالهجوم .. كانت – تلك – أول مرة نبادرهم بالقتال وكانوا لا يتوقعون – منا – ذلك .. ربما لأنه – قد – استقر في عقولهم المريضة أنهم لا يقهرون.

فعلها "ليث العربان"، وطاردهم في الصحارى، وقطع دابرهم دون رحمة أو هوادة .. حتى ولوا الأدبار، وهم يستصرخون.

 كنت أحفظ هذه المخطوطات ولا أملّ قراءتها، وكان بودى لو قرأها أهل واحتنا .. أعلم – تماماً – أنهم يعرفونها .. ربما تناسوها .. أو ربما شغلهم الجنس .. والتباهي بالفحولة .. عن قراءة تلك المخطوطات. كانت تنتابني ثورة جامحة .. فأود لو أقرع عليهم بيوتهم، وأقرأ لهم تاريخهم.. حتى ولو جعلوا أصابعهم في آذانهم .. واستغشوا ثيابهم.. وأصروا – على حالهم – واستكبروا .. استكباراً، وفى هذه الظهيرة – بالذات – لم أدر لماذا استبد بي الشوق، واللهفة لتلك المخطوطات .. رغم أنى قرأتها مراراً .. ولكنها رغبة جامحة .. عربدت بي .. فالقراءة نوع من الاشتهاء، تماماً كالطعام والجنس.

لم يكد الشيخ "محيى" يدخل المسجد، حتى هرعت إليه، أطلب منه تلك المخطوطات .. فتنفس الرجل .. وهو يبتسم، ثم اصطحبني إلى منزله، كي أقرأها في بيته.. فقد كان حريصاً – جداً – عليها، ولم أطلب منه أن أستعيرها لأقرأها في بيتنا حتى أجنبه مشقة الحياء.. كنت أعلم أنه لن يرفض لي طلباً، ولو تحت سيف الحياء.

وكاد الشيخ "محيى"، أن يجن، وهو يصرخ:

- أين المخطوطات؟!

ثم نادى على زوجته الأولى، وكان اسمها "حسنة"

وهى ابنة عم لي، وسألها بحدة عن تلك المخطوطات.. وتلجلجت المرأة، وتغيرت سحنتها، وارتجفت أمام غضبة الشيخ..

أما أنا .. فقد سقط قلبي في جوفي، وجف ريقي، وشعرت بأن شيئاً عزيزاً .. قد فقد ..

واستمر الشيخ في تقريرها .. حتى بكت .. وهى تطلب منه العفو والسماح.

 

الخِطْبَة
اعترفت "حسنة"، أنها أعطت المخطوطات، لفتاة من "المراونة"، على سبيل الاستعارة .. وأنها ستعيدها بعد أن تقرأها الليلة.

تخضب وجه الشيخ بحمرة الغضب، وهو يسألها:

ولماذا لم تخبريني؟!

أجابت "حسنة وصوتها يكاد يفر منها:

خشيت أن ترفض.

تدخلت كي ألطف الجو بعدما كادت الأمور أن تتأزم.. فخففت عن الشيخ ببعض العبارات، ووبخت ابنة عمى على فعلتها، فما كان لها أن تتصرف في أشياء زوجها دون علمه وإذنه. سألها الشيخ بعدما تحسن جو الحوار، وانقشعت السحب المخيفة:

ومن تلك الفتاة؟!‍‍

أجابت:

"الطيبة"، .. ابنة خالنا "حاتم آل مروان".

***

كانت قبيلة "آل مروان" إحدى قبائلنا التي تشاركنا المعيشة في الواحة، واشتهرت تلك القبيلة بالكرم الزائد، فهم يعرفون كيف يقرون الضيوف، ولو مكثوا معهم سنيناً.

وتميزت تلك القبيلة – أيضاً – عن سائر قبائلنا: بالعلم، وحفظ القرآن .. وكانت الشيخة "عز" – وهى جدة الشيخ "محيى" - تقوم بتلك المهمة، ويرجع إليها الفضل في حفظي لبعض أجزاء كتاب الله.. وإلمامي بالقراءة والكتابة، وبعض العمليات الحسابية، التي لا غنى عنها في حياتنا، أما عن مختار تلك القبيلة "حاتم آل مروان"، فهو خالي الأكبر .. ويمتاز –كسائر قبيلته– بالكرم وحسن الضيافة. ويبدو أن "الطيبة"، هي إحدى بناته من إحدى زوجاته الأربع.. وبالرغم من أنها ابنة خالي؛ إلا أنني لا أعرفها، حيث لا تتكشف الفتاة قبل الزواج.. فهي ترفل في "الملس" الذى تجرجره خلفها على الأرض، وتضع على وجهها "اليشمك" وهو غطاء لا يبدى سوى العينين ..وقد تضع على أنفها " قصبة ذهبية" كنوع من الزينة.

الذى أدهشني – كما أدهش الشيخ "محيى" – هو اهتمام تلك الفتاة – بمثل تلك المخطوطات .. وبالتأكيد ستقرأها، إذاً.. هي تقرأ.. وتنتقى ما تقرأ.. يا لها من فتاة محظوظة.. فرجال واحتنا لا يشغلهم غير العمل والجنس.. فما بالك بالنساء؟‍‍

المرأة في عرف رجالنا ..  مخلوقة  للنكاح .. كي تروض ذلك الوحش الرابض بداخلهم، حين يقضون أوطارهم في لحظات محمومة، فيستعيدون بعدها آدميتهم "كما يعتقدون".

لم نستطع – أنا والشيخ "محيى"، - أن نخفى إعجابنا بتلك الفتاة .. وربما استغلت "حسنة"، لحظات اندهاشنا .. فانسحبت أثرة السلامة.

وأفقت على صوت الشيخ "محيى"، وهو يبتسم في وداعة الملائكة: ما رأيك؟

أجبت مراوغاً:

في ماذا؟!

عقب وهو يضغط على كلماته:

والله .. لو لم تخطبها .. لخطبتها أنا ..

فلما احمرت أوداجي .. استطرد قائلاً:

لك

وضحكنا سوياً .. ونادى الشيخ على زوجته "حسنة"، فجاءت مستبشرة .. فقد وصل إلى مسامعها أصوات ضحكاتنا..

سألها الشيخ:

ما رأيك في تلك الفتاة؟‍‍

ابتسمت  "حسنة" وانشرحت سريرتها .. فقد عرفت بحاسة الأنثى ما يدور بأذهاننا .. فانبرت كعصفور يسقسق في الصباح.. وتغنت في مدحها .. ووصفها.. بما أثلج صدورنا . – أقصد -. صدري أنا!

دخلت على والدى هذا المساء .. بقلب جسور، وأنا الذى كنت أتحاشاه، وأتهرب من مواجهته .. ألقيت عليه السلام .. ثم قبَّلت يديه .. وهو في عجب شديد .. لهذا التغير.. حكيت له ما حدث .. وطلبت منه أن يخطب لى "الطيبة"، ابنة خالي "حاتم آل مروان".

في بادئ  الأمر  .. لم يصدق والدى.. وطلب منى أن أكرر ما تفوهت به ثانية .. وحين تأكد أنني جاد، ولست بهازل .. قام واحتضني .. ثم قبلني بين عينيّ .. ونادى على أمي .. وأمرها أن تجهز هدايا تليق بنا كآل شديد .. وتليق بأخيها "حاتم آل مروان"، وفهمت أمي غرض الزيارة .. فهمت أن تزغرد .. فأمرها والدى أن تنتظر .. لحين موافقة أخيها .. فاعترضت أمى مغمغمة:

ابنى زين الشباب .. وخير الرجال، ولن يجد أخى "حاتم" أفضل منه كي يزوجه ابنته!!

أصر والدى أن نذهب في نفس الليلة .. كان سعيداً للغاية، وربما خشى أن أعود .. فأغير رأيي..

اشترطت – والشرط نور – أن يأتي معنا صديقي الشيخ "محيى" فقد كنت أستبشر به خيراً.

واستقبلنا خالي "حاتم" كأروع ما يكون الاستقبال .. فعانق والدى طويلاً .. ثم قبل كتفيه وأنفه، واستلمني خالي .. لأغرق في أحضانه وقبلاته.. بعد عبارات الترحاب، وتبادل كلمات الحفاوة العذبة .. دخل والدى في الموضوع مباشرة .. وكنا نتوقع أن مطلبنا .. سيبهج خالي "حاتم"، فمصاهرة "آل شديد"، شرف تحرص عليه القبائل .. كما أن صلة الدم بيننا، وبين "آل مروان"، قوية جداً .. فمختار القبيلة "خالي"، وهو شقيق أمي الأكبر .. وأم والدى وأمي - أيضاً – من "المراونة".

كل هذا كان يرجح كفتنا للقبول – على الأقل – في رأى والدى الشيخ "تمام آل شديد".

إلا أن وجه خالي "حاتم"، قد تغير، وتلعثمت كلماته .. فلم نفهم  منها كلمة واحدة ..وأسقط في يدى .. وانخلع فؤادي بين جوانحي فلم يعجبني هذا التلعثم من خالي، وحسبته رفضاً مهذباً لي.

كان أبى حاسماً كالسيف.. إذ نهض، وقد احمرت وجنتاه.. وهو يخاطب خالي غاضباً:

هل ترفض مصاهرتي يا "حاتم"؟‍!

أجاب خالي متهتهاً:

لا يرفض أي لبيب مصاهرتك يا"تمام"!! لكنى أعطيت

كلمة لـ "سعد العوامر".. فقد طلب مصاهرتي .. ورحبت بذلك .. وواعدته أن أنكحه إحدى بناتي .. وأنت تعلم – يا أخي – أن كلمتنا عهد وميثاق .. لا نخلعه، ولا نرجع فيه.

هنا أدركت – تماماً – أنني لست محظوظاً بالمرة؛ فالمرأة الوحيدة التي اخترتها .. لن تكون من نصيبي..

تدخل الشيخ "محيى"، فلطف بعباراته جو الحوار الذى تلبد.. فأجلس والدى الذى ينتفض غضباً .. ثم توجه بحديثه إلى خالي "حاتم":

- نحن لا نخطب على خطبة أخينا "سعد آل عامر"؛ ولا نريدك أن ترجع – معاذ الله – في وعدك، فما أنت بالذي يحنث بوعد.. لكنني أسألك: هل حدد "مختار العوامر" ابنتك "الطيبة"، بالاسم؟!

أجاب خالي "حاتم"، ومازال الاضطراب في صوته:

- كلا.. كان يريد مصاهرتي فحسب.. ثم استطرد، وكأنه تذكر:

- ولكن كان في نيتي .. أن أزوجه "الطيبة".

ويبدو أن تلك العبارة أغضبت والدى .. فانتفض واقفاً .. وهو  يصيح:

- كفى يا شيخ "محيى"..

ثم أخذ صوته نبرة المتهكم:

- يبدو أننا لا نرقى للعوامر .. وأن مختار "المراونة" .. يفضلهم علينا.

بعد أن قال والدى تلك العبارة .. أيقنت تماماً أن  آمالي في الزواج من تلك الفتاة – قد – تبخرت.

إلا أن الشيخ "محيى"، كان له رأى آخر فقد أجلس والدى الغضوب .. ثم توجه بحديثه إلى خالي "حاتم":

-الذى فهمته من حديثك أن "مختار العوامر"، يريد شرف مصاهرتك .. ولم يحدد بنتاً معينة من بناتك .. كل الذى يهمه هو شرف مصاهرتك.

وهمَّ خالي "حاتم" بالحديث.. فلم يدع الشيخ "محيى"، له الفرصة واستطرد قائلاً:

- " سعد العامر"، مختار العوامر – متزوج من ثلاثة نساء .. هن من خير بطون القبائل .. ويريد أن يتم الرابعة من "المراونة"،.. فيحظى بالشرف والسؤدد.. ولن تفرق معه "الطيبة"، من "سعاد"، ولكن تفرق معنا .. نحن!!

***

انفتح الباب، ودلفت فتاة تحمـل "صينية" عليها

 أقداح من الشراب .. وحين انحنت .. جاءت قبالتي

– تماماً – لتضعها أمامنا.

بدت عيناها غزلانية .. شديدة الحلكة .. كليل صحارينا الشتوي.. وغرقت في هاتين العينين اللتين سرقتا ذهني .. فلم أعد أعي .. إلى أين وصلت دفة الحديث؟!

أفقت من هذا الخدر اللذيذ على خالي "حاتم":

- إنما الأعمال بالنيات يا شيخ "محيى"، وكانت نيتي – يعلم الله- أن أزوجه "الطيبة".

وقبل أن تخرج الفتاة من الباب استدارت ثم نطقت:

ولكنى لا أريد الزواج من مختار "العوامر"، يا والدي..

استدار والدها، والتفت الجميع تجاهها.. فقد كانوا منهمكين في الحديث، لدرجة أنهم لم يعيروها انتباها وفغرت أفواه الجميع .. فلأول مرة في تاريخ قبائلنا تعترض امرأة وترفض!!

لم يصدق الحاضرون ما سمعته آذانهم .. وقام خالي "حاتم"، وفى عينيه شر مستطير.. يريد البطش بها.. إلا أن الشيخ "محيي"، اعترض طريقه .. فخرجت الفتاة مسرعة

كنت كأنني في حلم جميل. هذه الفتاة هي "الطيبة"، التي أبحث عنها منذ سنين! لن أترك حلمي أبدا لن تكون أميرتي جارية .. وأضحية لغباء القبيلة..

 وتناهى إلى سمعي .. صوت الشيخ "محيي"، وقد استبد به الغضب:

لم تخطئ ابنتك يا مختار "المراونة"، الشرع يقول إنها لم تخطيء، من حقها أن تختار.. وإذا كان الله – تعالى-

لم يكرهنا في اختيار دينه الحنيف .. حيث قال:

"لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي"..

فهل تجبرها أنت على قبول شريك حياتها؟!

ورد خالي "حاتم"، وهو في قمة الغضب:

لكنها عادتنا، وتقاليدنا، لم نسمع أن للمرأة رأيا...

لم يتركه الشيخ "محيى" يستطرد .. فقاطعه:

لابد أن نغير تلك العادات التي تغضب الله علينا.. وأنا سأعلنها على الملأ:

"لا يكرهن أحدكم ابنته على الزواج.."

ولتحمد الله أن لك بنتا مثل "الطيبة"، فلو تزوجت "مختار آل عامر"، وهي غير راضية أو مكرهة .. فلا يحل هذا الزواج .. وهو عند الله زنا .. وساء سبيلا .. وكنت – أنت – الذي يحيق بك الإثم.

هل ترضى على نفسك ذلك؟

سكت خالي "حاتم" ولم ينطق .. ربما لأنه علم أن الشيخ "محيي"، على حق .. ولم يرض أن يجلب على نفسه غضب الله .. بعدما بين له الشيخ "محيي"، حكم الدين في مثل تلك الزيجات، وهو لم يعهد – قط- على الشيخ "محيي"، الكذب.

تحدث خالي "حاتم"، وقد تغيرت نبرته إلى الأهدأ:

وما الحل وقد أعطيت لمختار "العوامر" كلمة؟!

عندما قال خالي تلك العبارة، شعرت أن حلمي المراوغ قد اقترب، وأنني على قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه.

اهتبل الشيخ "محيي"، الفرصة وأخبر خالي "حاتم"، أنه سيذهب لمقابلة "مختار العوامر".. وسيحضره .. وليقض الله أمرا كان مفعولا.

خرج الشيخ "محيي"، ليحضر غريمي المزواج، وجلست أنا وأبي في ضيافة خالي، الذي ما انقطع عن الترحيب بنا، وتقديم صنوف الطعام والشراب لنا، وخاصة والدي "تمام آل شديد"، الذي انعقد حاجباه، وهو يبتسم ابتسامة صفراء .. مجاملة لخالي "حاتم".

لم يكن خالي بأقل من والدي قلقا، ولم يستطع أن يخفي قلقه، واضطرابه .. رغم عبارات الحفاوة، ورسم الابتسامة على وجهه.

كان خالي "حاتم"، بين نارين .. فهو في حرج بالغ، حين يرفض شرف مصاهرة "الشدايدة"، وحرج أبلغ في أن يبدو - مختار المراونة- أمام سائر القبائل والأشياع .. لا عهد له، ولا خلاق.

تحدث الشيخ "محيي"، موجها حديثه لخالي مختار "العوامر"، جاء بنفسه ليبارك مصاهرة "الشدايدة"، و"المراونة".

وقام"مختار العوامر"، واحتضن والدي، وقبلني في أنفي وكتفي.. والتفت إلى خالي "حاتم"، ليغمره بأحضانه وقبلاته .. وهو يغمغم قائلا: على بركة الله.

ثم طلب مختار "العوامر"، شرف مصاهرة "المراونة"، في ابنة خالي "سعاد" فقام خالي وقبله وأعطاه يده وقرءا الفاتحة معا..

وقف والدي وطلب شرف مصاهرة "المراونة"، وخالي "حاتم"، في ابنته "الطيبة" فأعطاه خالي يده واحتضنه، وقرأ معه الفاتحة ثم همس في أذن والدي:

سامحني يا أخي .. كنت حريصا على شرف "المراونة"، وكلمتي، فاحتضنه والدي، وهو يقول:

وإني لأحرص منك على هذا الشرف.

انطلقت الزغاريد تتردد في جنبات واحتنا، وأتى الجميع يشاركوننا فرحتنا وانقلب ليل واحتنا الهادئ  إلى صخب وضجيج ما بين مغرد، ومزغرد ومهنئ، وسعيد.

كان والدي في غاية السعادة، وهو يوزع ابتسامته على المهنئين ولمحت في عينيه دمعة جذلانة كابد أن يئدها في الأحداق فخذلته، وفرت بجلدها على خده لكنه مسحها بسرعة، وكأنه عيب على "آل شديد"، البكاء ولو كانوا يبكون فرحا. أما أنا فلم أكد أصدق كل ما حدث لولا أن غمرني الشيخ "محيي"، بأحضانه وقبلاته فبادلته عناقا بعناق وأنا أهمس في أذنه:  شكرا لك..

فربت على كتفي، وفي عينيه سعادة طفولية  حقيقية:

لا شكر على واجب

 

الخروج
كانت سعادتي لا توصف.. فالكلمات –كثيرا- ما تعجز عن وصف أشياء نحسها بداخلنا، ولا نستطيع أن نتفوه بها في ألفاظ أو نرصها في حروف وعبارات.

أصبح حبي لـ"طيبة"، يفوق الوصف.. أحببتها كإنسان.. كروح.. لم أر منها سوى عينين تفوقان نهير واحتنا في صفائها.

ما ألذ أن تبحث عن شيء، ويضنيك التنقيب حتى تيأس، فما تلبث أن تجده أمامك بغتة ويالها من بغتة!!

كانت "الطيبة"، كالواحة في جمالها وصفائها، وشموخ نخيلها – بل- وفي تمردها

ما أجمل أن تملك إرادتك.. أن يكون لك حرية الاختيار ..ظلت كلمات "الطيبة"، وهي ترفض بكل إباء وشمم، أن يقدر لها الآخرون مصيرها..   تتردد في أذني عباراتها كأغنيات العندليب في أمسيات الربيع، ترفض القهر، وتندد بالاستبداد. كذلك غردت "الطيبة"، كأجمل ما يكون التغريد، حين رفضت وأطلقت من أعماقها، سراح الكلمة المكبوتة "لا".

في داخل كل منا"لا"، نسجنها في قرارنا، ونبلعها في حلقومنا وندرب ألسنتنا علي نسيانها ما أحوجنا

-جميعاً- كي نصرخ – ولو مرة- "لا"...

شجاعة "الطيبة"، في تقرير مصيرها.. برفضها الزواج من مختار "العوامر"، كان له فعل السحر بنفسي.

أعطتنا "الطيبة"، درسا لن ننساه.. في حرية الإرادة والاختيار، وأننا ينبغي ألا ندع أحداً يتدخل في تقرير مصائرنا مهما كان حتى ولو كان أقرب الناس إلينا.

لذا.. فليس من العجيب أن تزداد محبتي لها، فتهفوا إليها روحي وجوارحي.. فأكاد أدفع الأيام دفعا كي يأتى الربيع.. فيزفني إليها.

***

كنت أذهب كل يوم بعد صلاة العشاء كي أقضي جزءا من السمر في دار خالي "حاتم" وكان خالي يسعد جدا بزيارتي لدارهم فلا يكف عن احتضاني، وتقبيلي في كل يوم – بل- بلغ من كرمه، وحسن وفادته أنه كان يضع الطعام والشراب عنوة في فمي أو يُقسم عليّ بأيمان مغلّظة ألا أقوم من على مائدته، حتى ألتهم ما أمامي من طعام – قد – يكفي لسبعة مثلي.

كان ذلك يرهقني جداً فيبعث بداخلي الكثير من الحياء و الضجر معا. كنت أحتمل هذا الكرم الرذيل من أجل عينيَّ "الطيبة"، حيث كانت تدخل حاملة "صينية"، عليها أقداح الشراب، فتضعها أمامي كي تلتقي أعيننا للحظات فأغرق في صفائهما، ولا أحاول – أبدا – أن أعوم، فأحمق من يغرق في بحرين من الصفاء المطلق ويحاول النجاة. ربما كنت أعوّض بذلك رغبة قديمة مكبوتة بداخلي، حين كانت تمنعني العادات والتقاليد، أن أغوص كأقراني في نهير واحتنا الصافي.

وجاءت الليلة الحاسمة، إذ كان عليَّ أن أخرج في صبيحتها للصحراء .. فأمكث بها أسبوعين، وأعود بصيد وقنص كي أنصبَّ فارسا في قبيلتى كما تقتضي تقاليدنا. ولم أكن مقتنعا بهذه الأعراف، فالشجاعة – عندي – لا تحتاج لاختبار لكني ما كنت أجرؤ على التباطؤ في الخروج، وإلا اتهمني أهلي وعشيرتي بأنني جبان وخوّار.

ذهبت تلك الليلة إلى دار خالي "حاتم"، كي أودعه، والحقيقة أنني ذهبت لأغتسل في عينيَّ حبيبتي، وأستمد من شعاعهما الزاد والزواد لتلك الرحلة، وربما لا أعود، فقد يفترسني ذئب جبلي أو يلدغني ثعبان أرقط أو ربما اختطفني الجن كما – كان – يروِّج عم "شهاب"  كبير الرعيان.

استقبلني خالي "حاتم"، بما تعود أن يستقبلني به، فلم يفتر، ولم يمل من تكرار حفاوته الثقيلة، ولم يشفع لي عنده نظرة التبرم في عينيىَّ، ولا زفير التأفف من خياشيمي. وأصر خالي "حاتم"، - سامحه الله- أن يطعمني بيده، حتى أصابتني التخمة، لدرجة جعلتني أظن  -  ربما أعود من تلك الرحلة- إن قدر لي أن أعود - وأنا ما زلت متخما، من تلك المأدبة! دخلت "الطيبة"، وأنقذتنى مما أنا فيه - فكم أنا مدين لعينيها – فقد غرقت فيهما – تماما – كي استمد منهما زادي وعتادي، ما يكفيني حتي أرجع ..وما اكتفيت. كانت عيناها تختلف هذه المرة عن كل المرات، فقد بدا فيهما حزن عميق. وحين انحنت لتضع أقداح الشراب أمامي أمسكت  لأول مرة بالقدح، وناولتني إياه، وقد ذبت في عينيها تماما، ثم همست كأحلي ما يكون الهمس: ستعود لأجلى!!  وطفرت من عينيها دمعتان  ثم استدارت وخرجت مسرعة وكأنها خجلت أن تظهر الأنثى أمامي، أما أنا فقد كنت في عالم آخر من الأحلام الوردية، لم أعبأ بأي شيء لم أرفض – حتى – تلك الأقداح التي كان يسكبها خالي في جوفي وكأنني بئر سحيق.

استيقظت فجرا، وما كنت قد نمت، فليلي قضيته حالما بعيون " الطيبة"، وما همست به في أذنى. كنت قلقا جدا فربما لا أعود – مجرد احتمال وارد- وأحنث بيمين العينين الطاهرتين. اعترتني رعشة من الحماس، واستبدت بي نشوة غريبة.. سأعود.. سأقاتل كل وحوش البرية .. سأعود.. لا ليقال فارس وشجاع.. ابن شديد.. لن أعود لكى أكون مختارا جديدا للقبيلة .. بعد رحيل أبي.. لا .. سأعود – فقط – من أجل عينيَّ "الطيبة".

ودعتُ أهلي وعشيرتي، ولم أنس أن أُقبِّل يديّ أمي.. وسحبت جوادي.. وهممت بالرحيل.. وأصر والدي أن يصحبني إلى خارج الواحة.. وقبل أن أصل إلى أطرافها.. أوقفني أبي.. ثم أعطاني سيفا.. وهو يقول:

هذا سيف جدك "ليث العربان"..

فأخذته منتشيا.. وأردف:

ستمنحه لابنك ذات يوم ‍.

نظرت إلى والدي قبل أن أمتطي جوادي.. فإذا بدموع ترتعد في مآقيه.. ولم يعطني والدي الفرصة.. فاحتضنني بقوة.. وغمرني بقبلاته.. وكأنما هاجسه شك في أنى – قد – لا أعود... ثم دفعني بقوة:

الآن.. انطلق صاحبتك السلامة‍‍‍‍‍‍‍‍‍!

امتطيت صهوة جوادي.. نحو عالم لا يوجد فيه بقاء .. سوى للأقوى.. والأصلح!! 

***

كان عليَّ أن أضع خطة لأيامي في تلك الصحراء.. فأنا ليس معي طعام، ولا ماء. ولم أكن جائعا، ولا ظمأنا.. ووجدت أن أبدأ فأستكشف مكاني.. فقد كانت تنتشر حولي أشجار التين.. وبعض النباتات الصحراوية.. كذلك .. كانت هناك آثار على الرمال لذئاب، وضباع، وثعالب.. ولم يكن يفزعني ذلك.. لكن أشد ما أفزعنى آثار الحيات الملتوية علي الرمال. كنت – ومازلت- أخاف الثعابين.. ربما لبشاعة خلقتها أو لأنها ارتبطت في ذهني – دائما – بالموت .. كانت الحيات عند أهل واحتى هي أخطر ما يعترض الفارس في صحرائه، فكانوا يعدونها: بنات الجن..وقد حذرني والدي منها.. وخاصة: "الكوبرا"، و"ذات الأجراس". وأخبرني أبي أنها لا ترى ولكنها.. تتمتع بحاسة سمع قوية.. تحدد من خلالها عدوها .. فتهجم.. وتجهز عليه. انتصف النهار. واشتدت أشعة الشمس. ولا يعرف قسوة وعنفوان شمس الصحراء.. إلا من كابد ما كابدته وذاق وبال ما ذقته.. فقد بدت الشمس تلفحني بسياط من نار.. وكانت الرمال البيضاء تعكس أشعة الشمس، فترهق العين والإبصار. همهم جوادي محتجا.. فترجلت عنه وأنا أشفق عليه.. وسحبته كي نستظل من هذا الهجير بإحدي الشجرات التي بدت لي من بعيد.. كأنها ترحب بضيافتنا. تناولت بعض ثمار التين.. إلا أننى بدأت أحس بالظمأ، تركت جوادي يقتات من عشب تناثر هنا وهناك.. ثم تمددت تحت ظل الشجرة.. ولفحني هواء ساخن.. وداعبني النعاس.. فنمت وقبل أن أغمض عينيّ لمحت جوادي وقد انتهز الفرصة وفعل مثلما فعل صاحبه.

أيقظتنى أشعة الشمس.. التي راحت تضرب في وجهي.. ووجدتني مستظلا بها.. فقد تحرك الظل مع حركة الشمس.. وإن كانت شدة الحرارة قد انكسرت. وبدت الشمس في الربع الأخير من السماء. اشتد بي العطش، وأحسست أن جوادي يعاني مثلما أعاني.. فنظرت إلى السماء.. فوجدت علي امتداد البصر.. أسرابا من الطيور تحوم.. فعرفت أنها تحوم حول بئر أو جدول من الماء .. تجمع من بقايا الشتاء. وبعد مدة ليست باليسيرة.. وصلنا إليه.. كان جدولا من الماء القراح، وإن كان طعمه متغيراً  بعض الشيء عن نهير واحتنا.. فامتلأت منه، وكـذلك جوادي.. ثم غسلت وجهي ورأسي.. وخلعت السرج عن ظهره ونضحت جسده بالماء.. وبدت لي عيناه تغمغمان في جذل.. كان أحوج ما يكون لهذا. ملأت وعائي، وقررت ألا أبتعد عن هذا الجدول.. فالماء في الصحراء ..هو أس الحياة .. وأساسها.

لم يكن هذا الجدول يبعد عن الجبل الأسود أحد الثلاثة جبال التي تحيط واحتنا وكأنها مردة تحميها وترعاها. وتذكرت كلمات عم "شهاب"، كبير الرعيان عن هذا الجبل الملعون.. فقد بناه – على حد قوله – إبليس اللعين..كى يسجن فيه مردة الجن، ومن يعصاه من الشياطين في مملكته السفلية فاقشعّر بدني.. وبدا لي الجبل مهيبا.. بلونه الداكن الذى يضاد رمال الصحراء البيضاء في لوحة سبحان من أبدعها!! كان هذا الجمال الساحر .. مشوبا بالخوف .. تماما.. كما تحكي أساطيرنا.. عن "الجنّية"، التي تأتى فجرا لتنادي على أحد الرجال..فتسحره بجمالها .. وتأسره  بفتنتها .. ثم تستدرجه خارج الواحة .. فتقتله وتأكله. هذا ما كانت تحكيه لنا عجائز الواحة..

تذكرت كل تلك الحكايات المفزعة .. حين بدت الشمس تطبع على جبين الصحراء .. قبلة الوداع.

 

القنص
هل جربت أن تقضى ليل الشتاء في إحدى الصحراوات؟‍!

عن تجربة شخصية – وبمنتهى الأمانة- أنصحك ألا تفعل- فقد تغيرت سحنة اليوم – تماما- فانقلب القيظ الهجير إلى برد زمهرير ينخر في العظم، ويجمد الجلد.. حتى لا تكاد معه تشعر بأطرافك. كانت الريح تصفر كموسيقى مفزعة، وقد يخالطها الرعد بصوته الأجش، وربما صاحب كل هذا  زخات المطر المنهمر بشدة، فتتكوم المياه فوق الرمل المتشبع، وما إن تطلع الشمس حتى يتبدل الوضع إلى النقيض وكأن الأمس –كان- حلما لا واقعا، فتبتلع الأرض وغيض الماء. وأغتنم الفرصة، فأنشر كل ملابسي وأقمشتي، وسرج جوادي، فتجف تحت وطأة القيظ الشديد.  كان هذا التطرف في جو الصحراء شتاء، يضايقني جدا وتأثرت به صحتي، فارتفعت درجة حرارتي، وصاحبها رشح من أنفي، وسعال أبى - كصديق حميم-  أن يفارقني في عسرتي وشدتي!!

ومضت أيام ثقيلة ووئيدة، كضيف ثقيل، ولم يستجد جديد، فكنت أقضي يومي أبحث عن فروع الأشجار الجافة، وبعض العشب.. أشعله ليلاً ..  فيصد عنى غوائل وحوش البرية ..وكنت أقضى ليلى كله ساهراً .. فالليل في الصحراء – كالزمان –  ليس له أمان. فإذا عطشت .. كان ماء الجدول القراح يروينى، ويصد غائلة العطش عنى، وعن جوادى الأصيل. أما عن طعامى .. فكنت أعتمد على ثمار التين، حتى استمرأتها نفسى، إلى أن جاء يوم كنت أستكشف المكان حول الجبل الأسود وأنا أرتجف .. فلا أجرؤ على الاقتراب منه؛ حتى لا أصاب بأذى .. أو تتخطفنى الجن – كما – خطفت "حمدان" الراعى – على حد قول – عم "شهاب"، كبير الرعيان. ورأيت من بعيد ظبيين جبليين .. فتربصت بأحدهما، حتى اقترب من الجدول ليرتوى .. وتركته ليشرب، ثم شددت وتر القوس، وصوبت إليه سهمى .. فأصابه في مقتل.

وحاول المسكين أن يعدو.. لكن جرحه لم يمكنه من ذلك، فرقد ينتظر مصيره المشئوم.. أجهزت عليه بسيفى – أقصد – سيف جدى: "ليث العربان" ذبحته، وأنا مشفق عليه؛ ولكنى نسيت تلك الشفقة – تماماً – حين أنضجته النار. عوضنى مذاقه الشهى، عن طعم ثمار التين، التي ملتها أمعائى ومعدتى. احتفظت بجزء من بقية الشواء .. فلففتها في قماش سميك .. كي أحفظها .. إلا أننى بعد يوم، اكتشفت غبائى وحمقى .. فقد فسد لحم الشواء في لفافته؛ حيث كان على أن أعرضه للهواء الدائم. واستفدت من تلك الخبرة في صيدى الثانى، حيث ساق لى الحظ أرنباً برياً .. لقى نفس مصير الظبى الجبلى .. إلا أننى عرضته للهواء .. فربطته جيداً، بشجرة قريبة من الجدول .. كنت أستظل بها ظهراً أو أحتمى بها من سيول المطر ليلاً.

***

لم يصادفنى في تلك الأيام، حيوان مفترس.. فلم يقابلنى ذئب واحد – رغم سماعى عواءها ليلاً – أو ضبع أو حتى ثعلب، ويبدو أن النار التي كنت أوقدها ليلاً .. كانت حائلاً دون اقترابهم منى. لم أتعجل الصيد الذى سأعود به لقبيلتى كي أكون فارساً في مجلس التنصيب لأننى جعلت ذلك لأواخر أيامى، حتى لا يفسد الصيد، ولا يكون عبئاً علىّ بقية أيامى.. كان الليل غريباً في تلك الصحراء القاحلة .. فحين تكون السماء صافية  تبدو النجوم كقطع من الماس التي ترصع ثوباً أسود، ويبدو أن القمر في كبد السماء .. ضاحكاً كعينىّ "الطيبة". أما إذا تلبّدت السماء.. فإن الليل أشبه بغمامة وضعت على عينيك .. فلا تكاد تشاهد يديك أمام وجهك من شدة الظلمة والحلكة. وكثيراً ما شعرت بالخوف.. وما كنت – أبداً – أخاف الليل في واحتنا.

الخوف – هنا – في الصحراء .. خوف من المجهول .. خوف من الوحدة .. حالة من الترقب المستمر وكأن كارثة – ما – ستقع  وعليك توقعها، وحماية نفسك، فلا هزل، ولا مزاح. حياتك في مقابل خطأ واحد. لم يكن خوفى من مواجهة وحوش الصحراء أو هوامها أو حتى جنها وعفاريتها .. بل كان خوفى منصباً في كونى وحيداً.. فالوحدة – في حد ذاتها – خوف ما

بعده خوف!! بقيت أيام قليلة، وأعود .. أعود لحبيبتى "الطيبة". وبدأت أفكر في قنصى وصيدى .. الذى سأعود به، كي أصبح – في عرف قبيلتى – فارساً. هل أعود بظبى جبلى؟! أم أرنب برى؟! أم أعود بذئب؟! ... يا إلهى.. هل أستطيع أن أعود بذئب حى؟! كما فعل جدى "ليث العربان"؟!! ولكنه نسخ ذلك الشرط بعد فجيعته في ولده "مظفر"!! سأحاول .. لأثبت لعشيرتى، أننى لست جباناً.. ولأقطعن شكوك أخى "حسان" في قدراتى، وحتماً .. ستسعد بذلك "الطيبة"، وتعلم بأن حبيبها فارس مغوار!!

أعلم جيداً .. أن الأنثى تميل إلى التباهى، وتركن للتفاخر بفارس أحلامها.. حتى لو نسجت عنه من خيالها قصصاً وهمية .. هي وحدها التي تصدقها! سحبت سيف جدى وأنا أنظر إليه.. وشعرت بنشوة عظيمة .. أحسست أن روحه قد تَلَبّستنى، فصممت على هدفى، ولو كان فيه نهايتى وحتفى!

***

استيقظت ظهراً على صوت صهيل جوادى .. وقد بدا عليه الفزع، وما إن استويت لأرى سبب ذلك .. حتى هالنى وأفزعنى ما أرى! كانت أمامى مباشرة إحدى الحيات من نوع "الكوبرا"، وقد انتصبت حتى تخيلتها واقفة أمامى .. كانت تصدر فحيحاً مرعباً .. وبدا لسانها يخرج ويدخل .. كأنها شيطان يوسوس بالهلاك. أما عن رأسها .. فقد كان منتفخاً كالتنين .. لحظات مرت علىّ وأحسست بالعرق البارد يتصبب فوق جبينى .. فلم أستطع أن أتحرك .. ولو تحركت لهلكت لا محالة. تذكرت نصيحة والدى .. أنها لا ترى .. ولكنها تحس بوجودى .. وتتحفز .. ربما صور لها عقلها القاصر أنى صيد ثمين.. أو .. أنى أريد اقتناصها.. كانت متحفزة جدا.. لدرجة أنى كتمت أنفاسى في صدرى، وأنا أحاول أن أستجمع شتات أفكارى وتركيزى. ألهمتنى قريحتى بفكرة ..لا تحتمل الخطأ لأنَّ الخطأ في تنفيذها يعنى هلاكى.

حركت يدى اليسرى ببطء شديد، وأنا أرفعها في موازاة لرأسها، فتحركت رأسها المنتفخة في اتجاه يدى اليسرى .. ربما حسبت يدى أفعى مثلها.. تماماً .. ثم أخذت أبعد يدى عن جسدى قدر الإمكان .. كانت تتجه برأسها صوب يدى متحينة الفرصة للهجوم .. والفتك بيدى. كان العرق البارد – رغم القيظ الشديد – يتصبب منساباً على جبينى ووجهى.. استجمعت كل تركيزى، ورباطة جأشى، واهتبلت فرصة استدارة رأسها تجاه يدى اليسرى .. فانقضت يدى اليمنى  بسرعة البرق لتطبق على رأسها من الخلف .. حتى إنها لم تستطع بكل عنفوانها ومرونتها  أن تستدير لتلدغنى. قبضت عليها بيد من حديد، حاولت التملص والتثنى .. دون جدوى.. هدأت ثائرتها.. وتخيلت أنها اختنقت .. ولكي أطمئن .. أمسكت بأحد فروع الشجرة .. وحطمت أنيابها.. سال على شدقيها سم زعاف .. كانت لزجة .. وباردة.. تبعث على القشعريرة وخطر لى أن أحملها معى .. وقد آمنت شرها، فوضعتها في جراب جلدى كان معى.. وأدهشنى طولها، وثقلها .. ولم أنس أن أحمل أنيابها معى. كان ذلك اليوم هو أصعب أيامى على الإطلاق، فقد كنت في مواجهة شخصية – وحقيقية – مع الموت.

***

تذكرت جدى "ليث"، وشجاعته؛ حين امتشقت سيفه، وعقدت العزم أن أعود بذئب.. وسيكون حيا‍‍‍!! وربما ألهمتنى روح جدى "ليث"، بحيلة بارعة  قد  تمكننى من بغيتى. كنت أعلم أن الذئب – قلما – يخرج نهاراً، ولا يصطاد إلا في جماعة.. لكن الجوع – قد – يخرجه عن عاداته وتقاليده الذئبية. لذا .. فإننى اصطدت ظبياً جبلياً وحملته .. ثم وضعته بالقرب من أحد الجحور، التي تقترب – جداً – من الجبل الأسود. ولم أدر .. لماذا لم أعد أخاف من ذلك الجبل، وما نسجه عم "شهاب"، عنه؟! تربصت في مكمنى .. وانتظرت حين مالت الشمس نحو المغيب.. وطال انتظارى .. حتى إنني كدت أسحب الظبى المذبوح، وأنصرف.. لكننى لمحت حركة تصدر من أمام أحد الجحور.. فامتشقت قوسى، وشددت وتره.. وخرج ذئب جبلى ضخم.. واقترب من الظبى.. وتركته يأكل حتى أخذه سعار الجوع .. فلم يعد يدرى ما حوله .. من شبق النهم.. فصوبت سهمى نحو ظهره – تماماً – وأصابه السهم .. حيث أردت .. فسقط مكانه، وحاول الزحف على أقدامه الأمامية. كي يهرب إلى جحره .. لكنى قطعت عليه الطريق .. فكشّر عن أنيابه .. وأصدر عواء شديداً، ومخيفاً .. فانقضضت عليه .. وضغطت بقدمى على رأسه.. وتمكنت منه  فربطته بحبل قوى .. ووضعته في جوال كان معى وحملته إلى حيث أقيم بجوار الجدول. بالقطع .. لم أنس أن أحمل معى الظبى المذبوح .. وقضيت الليلة الأخيرة في الصحراء وأنا لا أكاد أصدق؛ كنت أقترب من جوال الذئب .. وأتأكد أنه ما زال حياً .. وأتحسس جرابى الذى وضعت به الأفعى .. فأجدها تتملص بداخله غيظاً .. فأهمس لها:

نامى يا دودتى .. ولا تكونى مزعجة!! ومكثت طوال الليل  أستعجل الفجر كي يطلع  وأستحث الشمس أن تستيقظ، وأكاد أهمس في أذن جوادى الأصيل أن يطير بى إلى واحتى .. حيث كنت مشتاقاً  أن أشرب، وأرتوى .. بل أغوص  حتى أغرق  في عينىّ "الطيبة" .. حبيبتى!!

 

مجلس التنصيب
وصلت إلى الواحة قبل غروب شمس اليوم الخامس عشر لخروجى ووجدت قبيلتى في انتظارى، فما إنْ وصلت إلى مشارف واحتنا، حتى طار الخبر، واستشرى بين القبائل.. واستقبلتنى عشيرتى بالأحضان والقبلات وعيونهم الفضولية تمتد إلى جوادى، وما عليه من أجولة .. فتكاد من التشوق أن تمزقها لترى ما حمله الفارس الجديد! رأيت في تلك العيون تفاوتاً عجيباً .. ما بين نظرة حب حقيقية بعودتى كفارس من "آل شديد" وبين نظرة شك في ذلك الخصى العنين كما أطلقوا علىّ وأشاعوا. كانت نظرة الشيخ "محيى"، حين شق جموع المهنئين، والمحتفين بى لأغرق في بحر أحضانه، وقبلاته .. من النوع الأول، وجاء والدى ووراءه خالى "حاتم"، واحتضننى بقوة، وهو يقبلنى بين عينىّ، ثم تركنى لخالى "حاتم" لأغرق في كرم أحضانه، كما غرقت من قبل  في كرم ضيافته وحفاوته.

كنت سعيداً – جداً – فقد افتقدت الواحة، وكل شبر فيها.. افتقدت طعم مياه نهيرنا العذب.. وحديث الرعيان عن الجن والجنس.. ومشاكساتى مع والدى، ورائحة الإدام في ثياب أمى حين أقبّل يديها كل يوم.. حتى أخى "حسان"، افتقدت سخافته، وعدم تحكمه في زلاقة لسانه. افتقدت الشيخ "محيى"، ومخطوطاته التي أعشقها .. افتقدت خالى "حاتم"، وكرمه الثقيل .. وافتقدت – أكثر وأكثر – الارتواء من نهرىّ الصفاء المصّفى .. الساكنين في عينىّ: محبوبتى "الطيبة"!

كان بودى أن أذهب إليها .. فآخذها بين ذراعىّ .. وأشبع من عينيها .. لم يكن يهمنى أن أكون فارساً أم لا.. يكفينى – كونى – عاشقاً ومحباً.. ها قد  عدت – يا حبيبتى – إليك كما وعدتك..

***

كانت طقوس قبيلتى "الشدايدة"، تلزم الفارس حين يعود من الصحراء؛ أن يتوجه مباشرة لمجلس التنصيب؛ الذى يضم مختار القبيلة، وكبار رجالاتها من الحكماء، والأعيان، والفرسان. وكان هذا المجلس، يعقد في "ساحة الفرسان"؛ وهى عبارة عن فناء فسيح يتوسط واحتنا، تحيط به أشجار النخيل .. فيفترش أهل القبائل أرض الفناء.. في صفوف متراصة، وعيونهم تبحلق بشوق ولهفة .. للفارس الجديد.. الذى يقف في منتصف المسافة .. بين جموعهم وبين أعضاء التحكيم من المجلس المواجه لتلك الجموع.. ثم يبدأ مختار القبيلة في التغنى بأمجادها، وبطولاتها، ولا ينسى – أبدا – أن يعرج على فرسانها، ومغاويرها.. لينهى تلك الخطبة بسؤال تقليدى:

- ماذا أحضرت لنا في جرابك؟!

تقدمت بقلب واثق .. وأنا أسمع همهمات الناس  وأحس – تماماً – بأعينهم تلسع ظهرى. أخرجت الظبى الجبلى المذبوح من أحد الأجولة  وألقيته أرضاً.. وسمعت أصوات الناس تهمهم .. ما بين معجب بفروسيتى .. وبين ساخط .. كان الظبى في نظرهم . صيد سهل المنال. ثم أخرجت جرابى الجلدى، وأفرغته على الأرض.. فإذا بالحية تسعى .. وقد انتصبت في غضب محموم .. فانتفخت أوداجها .. وسال على شدقيها .. سم زعاف.. فانقطعت الهمسات .. وبدت العيون شاخصة لذلك الشيطان الذى يتلوى على الأرض.

اقتربت من أعضاء مجلس التنصيب .. وأخرجت من جيبى أنياب تلك الأفعى، ووضعتها أمامهم .. ثم استللت سيفى .. وشطرت رأسها عن جسمها، فظلت تتلوى، والدم ينساب منها على أرض الفناء. ورأيت في عينىّ والدى نظرة إعجاب وتفاخر .. فقد كنت أول من اصطاد في قبيلتى – بل – وسائر القبائل .. حية من نوع "الكوبرا" حيث كان الناس يعدونها إحدى بنات الجان.. وأنّ من يقترب منها .. فالموت مصيره. وتناهت إلى مسامعى بعض عبارات الإعجاب، فكانوا ينظرون إلى الحية، وهى تتلوى بخوف شديد .. ولمحت في عيونهم نظرة فزع ممزوجة بالتقدير، لهذا الذى تجرأ وأحضر هذا الشيطان معه. لم أترك لهم الفرصة، فألقيت عليهم آخر أوراق اعتمادي كفارس. خرج من الجوال ذئب جبلي ضخم، أصابه جرحه وحبسه بنوع من السعار.. فوثب كجني من قمقم .. يعدو على قدميه الأمامية، وهو يجرجر خلفه قدميه .. وعوى عواءً مخيفا..

أخذت المفاجأة الحضور .. فقام أعضاء مجلس التنصيب، وجري بعض الناس في فزع للوراء .. وأخذوا يحدّقون في رعب حقيقي، لذلك الذئب، الذى راح يدور محاولا الهروب إلا أن سيفي قد منعه من ذلك ففصلت رأسه عن جسده المكلوم .. فانتفض وكأنه يحاول التشبث بروحه التي انسلت منه. ثم سكن بعد قليل  فاقتربت منه وبقرت بطنه وأخرجت من حشاياه كبده  ووضعتها في فمي ومضغتها وشعرت برغبة في القيء، فقد عافتها نفسي .. فانتهزت فرصة انبهارهم واندهاشهم .. فبصقتها، وأنا أتفل متقززا في قرف وامتعاض شديدين.

التفت إلي جموع الناس الواقفين، وعيونهم قد خرجت من محاجرها، وشعرت بزهو شديد، كنت بحاجة ماسة كي أثبت – لهؤلاء – أنني لست ابن مختار القبيلة المدلل فحسب، بل .. الجدير – أيضا – بالخلافة. انشقت الجموع عن الشيخ "محيي"، الذي احتضنني، وقبّلنى، وهو يهتف بحماسة:

يا شديد ... يا شديد..

والقلب ..حديد.

فارس .. فارس..

وابن .. فوارس.

وأخذت جموع الناس تردد خلفه، وحملنى أخى "حسان"، على كتفيه.. وراح الناس يهتفون لى بحماس شديد.. ولمحت والدى، وأنا محمول على الأعناق. وقد طفرت في عينيه  دموع حقيقية؛ لم يشأ أن يمسحها.. وكان على وجهه ابتسامة فخر واعتزاز.

مضت على مراسم تنصيبى فارساً عدة أيام، ولن أنسى ما حييت أول زيارة لدار خالى "حاتم" بعد عودتى. كنت في أمس الحاجة كي أرى "الطيبة". ولم أسلم – ككل مرة – من كرم خالى المفرط، والزائد عن الحد. وربما أراد – سامحه الله – أن يحتفى بى بمناسبة رجوعى سالماً وتنصيبى فارساً  فزاد في الاحتفاء والكرم .. لدرجة كادت أن تقتلنى، ولولا نظرة الحب في عينيه  وإيمانى بصدقهما  لظننت – وبعض الظن إثم – أنه يريد هلاكي.

دخلت "الطيبة " وشعرت بأن قلبى توقف  تماماً وانعقد لسانى .. لكن عينى لم تتوقف عن الغوص في عينيها، فاحتضنت عينيها، ولثمتها في عذوبة وحنان. ورأيت في عينيها سعادة لا نهائية .. كانت عيناها تضحك .. وترقص.. وتغنى – بل – وتعدو  كطفلة شقية. كانت عيناها تقولان أشياء كثيرة وجميلة، همست بصوت عذب.. خرج صوتها كأغنية رقيقة، وهى تودعنى وداعاً مؤقتاً:

أحبك!!

مرت الأيام كحلم وردى جميل، وكنت أتعجل قدوم الربيع كي يجمعنى بحبيبتى "الطيبة". أما عن بقية الأيام فكنت أساعد والدي في مهام القبيلة، حيث أعطاني صلاحيات كثيرة، وكبيرة بعدما أصبحت فارسا. تغيرت نظرة الناس لي، فقد كنت أشعر أن احترامهم السابق لي .. كان نابعا من كوني ابن مختار القبيلة، وخليفته من بعده. أى أن احترامهم لى كان مستمدا من احترامهم لوالدي .. الآن .. تغيرت نظرتهم تماماً فأصبحت احتراما وتقديرا لشخصي كفارس يفتخرون به، ويعتزون بانتسابهم له .. وربما أعدت عليهم ذكري جدي "ليث"، الذى كان رمزا بطوليا عندهم.  اقتربت بشائر الربيع، حيث ثارت الأرض فأخرجت من باطنها، ما كانت تدخره من خضرة وجمال، وتزينت كأروع ما تكون العروس. وبدت رائحة الزهور تضوع في جنبات الواحة، حين تهب النسائم ليلاً، فتحمل لنا عبيرها ورحيقها، وكأنها عطر منثور. كان أهل واحتي يحبون الربيع.. ففيه يحصدون ويزوجون أولادهم، ويتزوجون .. فالربيع في واحتنا احتفالية، وعيد للبهجة، والسعادة.

كنت لا أكف عن الذهاب كل ليلة إلى دار خالى "حاتم"، - رغم ما أكابده من كرمه الثقيل- لأنهل من عينىّ "الطيبة"، ما أصطبر به على عناء أيامى .. حتى يحل الربيع ويأتى الزفاف. واستعد والدى لمراسم زفافى.. فتزينت دارنا، واكتسى حى "آل شديد"، بالبهجة والسعادة.. لقرب زفاف ابن مختارهم على ابنته "حاتم آل مروان" وأرسل والدى الهدايا التي تليق بنا وبصهرنا، وما كان خالى أقل استعداداً منا.. فتزينت داره، واكتمل حسنها لهذه المناسبة الهامة. فالنجوم تبدو وكأنها تبتهج في الليل الصافى والقمر الضحوك يرقص في كبد السماء، أما واحتنا فقد تزيّنت وارتدت أجمل أثوابها وتعطرت من أجلنا.. أنا، و"الطيبة".

 

عجل طلوقة
كان الناس يبتهجون، فكل يوم تقام الأفراح، ويمتد السمر – بما فيه من رقص وغناء – إلى ما بعد منتصف الليل وهكذا تمر الأيام حتى أصبح أمامى ثلاثة أيام، ويتم زفافنا، وكلما اقترب اليوم الموعود.. كلما أحسست بأن فؤادى يضطرب بداخلى فيكاد يتوقف عن النبض من فرط السعادة.

كانت جفونى لا تعرف الإلتقاء.. ولو التقت.. فلقاء من قبيل المهادنة فأخدع نفسى، وأدّعى النوم  وأنا اليقظ المنتبه، ولم تأخذنى يقظتى وانتباهى من الحلم فكنت أحلم وأنا يقظان – تماماً – كما لو كنت نائماً.

***

فى اليوم السابق لزفافى مباشرة، كنت في زيارة الشيخ "محيى"، ومكثت عنده بعض الوقت وأخذ الشيخ "محيى"، يوصينى بعدة وصايا حول الزواج، وحسن العشرة.. تخللتها دعابات ظريفة ومقبولة من شيخ جليل. تركته ومضيت إلى دارنا.. وقبل أن أصل للدار.. تناهى لسمعى صوت جلبه وضجة.. فذهبت لأرى.. وجدت الناس – قد – تجمعوا عند دار عم "وهدان" وتحلقوا حول عجلٍ ضخم نسميه في واحتنا: "عجل طلوقة"، وهذا العجل ليس له وظيفة، سوى: الأكل والنكاح في موسم التكاثر.. وهى وظيفة حسده عليها عم "وهدان". بدا الثور هائجاً.. وهو يخور مطالباً بحقه في أنثى تروض من وحشيته.. وتحرره من غريزته المستبدة.. أخرج أحدهم بقرة بكر نسميها: "شابة"، وما إن رآها حتى انقض عليها، وهو يخور خواراً مزعجاً،وسقطت المسكينة تحت وطأة ثقل الثور.. والناس يهللون.. ويمرحون.. ويعلقون تعليقات تحمل كثيراً من الإيماءات والمعانى. وما إن انتهى "عجل الطلوقة"، من مهمته.. حتى هلل الناس.. وجرى عم "وهدان"، إليه.. واحتضنه وقبله بينما سحب الرجل بقرته "الشابة"، وهو يمنى نفسه بسلالة نقية.. وخير وفير. وضحكت كثيراً.. كان المنظر يبعث على الضحك والحياء معاً.

***

جاء اليوم المرتقب.. اليوم الذى انتظرته طويلاً.. هل حقاً سأزف اليوم "للطيّبة"؟!

ارتديت أفخر ثيابى، وتعطرت بعطر فاخر.. وذهبت ومعى والدى، وكل قبيلتى، والشيخ "محيى"، لدار خالى "حاتم" واستقبلنا – كعادته – هو وقبيلته بكل كرم وحفاوة،وتم عقد القران، ودقت الطبول، وعزفت الدفوف.. وصدحت الدار بالأغانى. وأخذت جموع الحاضرين تغمرنى بالأحضان والقبلات.. وأنا أبادلهم، وأرد عليهم عبارات التهنئة. وجاء عم "نعمان"، وهو أحد الفلاحين، وإن كان يعمل بالعطارة بجانب فلاحة أرضه، ثم احتضننى وأعطانى قارورة صغيرة، وهو يبتسم ابتسامة ذات مغزى:

        - ستجعلك أسداً!!

وشعرت بغضب شديد.. احمرّت له أوداجى.. فحاولت  الإعتذار عن قبولها، ولكن عم "وهدان" وهو صديق عم "نعمان"،  تصدى للدفاع عن محتوى تلك القارورة، وأن له مفعول السحر وربما اعتقد عم "وهدان"، أن حمرة وجهى كانت خجلاً فأخذ يشجعنى وتدخل والدى مبتسماً.. وأمرنى أن آخذها.. فأخذتها . أخرج والدى بعضاً من القطع الذهبية، وأعطاها لعم "نعمان"، الذى التقطها، وهو يغمغم شاكراً. ودعانى القوم لأرقص رقص قبيلتنا، وهو جزء من طقوس الزواج، وما كنت أجيده بالقدر الكافى، تناولت سيفى، وأخذت أحاول قدر الإمكان، حتى شعرت أننى أترنح، وأننى سأسقط.. وانتابنى إحساس بنوع من البلاهة حين يفعل الإنسان أشياء لا يجيدها وهو يرى لها استحساناً عند الناس.

***

جاءت اللحظة الحاسمة.. فامتطيت جوادى.. مزفوفاً بجوقة من أبناء قبيلتى يتزعمها أخى "حسان" إلى دارنا.. حيث سبقتنى إلى هناك "الطيبة"، تتهادى في هودجها، وقد زفها أبناء قبيلتها وإخوتها. وقبل أن أدخل دارنا ذكّرنى عم "وهدان"، بالقارورة السحرية، وغمز لى بعينيه الضيقتين وهو يربت على كتفى. دخلت الدار، ثم أخرجت القارورة، وقذفت بمحتواها على الأرض، ورميتها جانباً.. ونظرت.. فإذا "بالطيبة" وقد جلست مرتديه ثوب الزفاف على طرف السرير في حياء، فاقتربت منها.. وأنا في قمة النشوة.. نظرت إلىّ بعينيها فغرقت – تماماً – في طهرهما.. نزعت "اليشمك"، عن وجهها.. فإذا بوجه كالقمر.كانت ملامحها رقيقة وعذبة، وكأنها مرسومة بدقة متناهية.. وزاد من جمالها حين تخضب وجهها بحمرة الخجل.. فكانت تنظر إلىّ.. ثم تنظر إلى الأرض.. ثم ترفع لى عينيها.. ثم تنظر إلى الأرض.. في تتابع ساحر. وامتدت يدى فأمسكت بوجهها.. ثم طبعت فوق جبينها اللؤلؤى قبلة حانية.. ونظرت في عينيها.. فشعرت بأننى أثمل، وانتابنى إحساس بخدر رائع. لم أفق منه إلا على صوت طرقات فوق الباب، واستعجال من والدى.. كي أخرج للناس..

تذكرت عاداتنا وتقاليدنا السخيفة.. كان يقتضى علىّ أن أخرج إليهم بقطعة قماش بيضاء وعليها بقع من دم بكارة زوجتى.. لأثبت لهم فحولتى، وبأنها بكر لم يطمثها إنسُ – قبلى – ولا جان. وشعرت بحياء شديد.. فكنت بين نارين.. كلتاهما لا ترحم فلو لم أخرج، فسيزداد اقتناعهم بأننى عنين، وسأجلب على والدى، وقبيلتى عاراً لا ينسى، ولن يشفع لى كونى ابن مختار القبيلة أو أن جدى – كان "ليث العربان"، - أو أننى أصبحت "فارساً" لا يشق لى غبار. أو ربما اعتقدوا أن "الطيبة"، ليست بكراً، فأكون قد جلبت عليها، وعلى خالى "حاتم" وقبيلتها عاراً لا يمحى. وقد يدفع والدى أو خالى "حاتم"، بالقابلة أم الشيخ "محيى"، كي تأخذ عرض "الطيبة" بيديها.. لتثبت لوالد العروس بأن ابنته على مايرام، وأن العيب – كل العيب – في زوجها العنين.

كانت الأفكار والهواجس تصطرع بداخلى.. لم أعرف ماذا أفعل؟! وأحست "الطيبة"، بما يدور في خلدى من خواطر.. فخلعت خمارها.. فانسكب شعرها على كتفيها، ثم خلعت ثوب الزفاف.. فظهر من تحته ثوب شفيف يبرز سحرها وفتنتها.. ثم استلقت على السرير وفى عينيها دمعة تنم على إحساس بالمهانة.. وصوتها يختنق: هيا.. لتخرج إليهم. شعرت بغصة في حلقى.. كأن خنجراً قد رشق في قلبى.. وازداد توترى حين ازدادت على الباب الطرقات.. بل .. كان صوت عم "وهدان"، يتناهى لمسامعى، وهو يصرخ:

        - هيا.. يا فارس.. ألا تقدر على النزع!!

ثم يضحك في هيستريا، ويضحك معه المنتظرون. وخرجت إليهم بقطعة القماش، وعليها شهادة موقعة بالدم، تثبت براءة "الطيبة" وفحولة من اتهموه يوماً بالعنين. زغردت النساء، وتعالت أصوات الدفوف، وقرع الطبول، وحملنى أخى "حسان"، ثم أنزلنى ليحملنى عم "وهدان"، بعدما احتضننى وقبلنى.. كنت أشعر بحياء شديد، وغثيان أشد.. فما إن أنزلنى عم "وهدان"، حتى أفرغت كل ما في جوفى.. لم ينزعج أحد.. فقد عدوا ذلك إفراطاً منى؛ على حد قول عم "وهدان"، أو نتيجة لتناولى "كل" محتوى القارورة؛ كما "شخّص" عم "نعمان". أما والدى.. فكان في قمة السعادة لدرجة أنه أمسك سيفه ثم أخذ يرقص بنفسه ومعه أخى"حسان". دخلت على حبيبتى.. وأنا أشعر بتأنيب الضمير؛ كانت منكمشة في الفراش.. كقطة وديعة.. وبدت في عينيها دموع محبوسة، ومقهورة.. فأخذتها بين ذراعىّ.. وقد أحست بى فانهمرت دموعها كاللؤلؤ على خديها فمسحتها.. ثم قَبّلتُ وجنتيها.. وأنا أعتذر..

 

الطيبة
كان الجنس – ولا زال – يمثل عند أبناء واحتى نوعاً من الإغارة والغزو.. ربما لم يستطع أولاد سيدي "خليل" أن ينسوا طبيعتهم البدوية، فكانت المرأة بالنسبة لهم أرضاً جديدة لابد أن يطئوها وينتهكوها.. والمرأة في معركة الجنس.. مهزومة – دائماً – فهى سبية، ولا يمكن لها أن ترفض أو تنتصر. والجنس عندهم يأخذ بعد آخر.. فبعد إثبات الفحولة والمباهاة بطهارة ذيل العروس.. ينبغى أن تأتى الثمار. فالمرأة عند أهل واحتنا كالأرض.. لا بد أن تثمر، ولا يمكن – أبداً – أن يحتفظ الإنسان بأرض قاحلة.

مرت الأسابيع سريعة، وكأنها طيف جميل يداعب أحلامى فأطارده، وألهث وراءه في سعادة ولا أتعب  أبداً من المطاردة. كنت أغترف السعادة اغترافا ً، وأنثرها حولى، واعترانى شعور عجيب بأننى أولد من جديد كأن ميلادى الحقيقى يوم لقائى بحبيبتى: "الطيبة"! لم يكن يعكر صفو سعادتنا إلا تلك الهمسات التي تلمّح بها أمى لزوجتى عن أخبار ولى العهد القادم.. فتتعلثم زوجتى أمام نظرات التأنيب في عينّى عمتها، وكأنها تحملها ذنب عدم الإخصاب.

مرت أسابيع أخرى.. تعالت فيها الهمسات.. لتصبح همهمات.. ولم ينس والدى أن يمنحنى نصيباً موفوراً منها. وفى أحد الأيام.. دخلت غرفتى.. فوجدت زوجتى، وقد حاولت أن تخفى عنى دموعها المتناثرة على خديها، وانزعجت بشدة.. سألتها عما أحزنها.. فابتسمت وحاولت أن تتهرب من الإجابة.. ولكنى.. أصررت.. فأخبرتنى وهى تخفض عينيها على الأرض.. وخنقتها الكلمات والدموع يجب أن تتزوج بأخرى.. كي تنجب لك!! جاء ردها مفاجأة لى.. فلم أكن أتخيل – أبداً – أن أتزوج بإمرأة أخرى غير "الطيبة"، حتى ولو لم تنجب. فأخذتها بين ذراعى، وعاتبتها على عبارتها.. أخبرتها أننى أحبها – كما هي – وأن مسألة الإنجاب لا أفكر فيها مطلقاً.. ولن تغير في حبى لها قيد أنملة. فابتسمت في جذل وقد انحنت على يدى.. وقبلتها.. فأخذت يديها ولثمتهما.. ثم طبعت على جبينها قبلة امتنان ورضا. بعد عدة أيام فاتحنى أبى في مسألة عدم إخصاب زوجتى، وأننى يجب أن أتزوج .. فلما رفضت .. تلون وجهه غضباً.. ثم أردف:

   - هل تريد أن ينقطع اسمك وذريتك من الدنيا  أم تريد أن يلوك الناس عنك بأنك خصىّ وعنين.. تكتفى بإمرأة واحدة؛ ولا تقدر – حتى – على إخصابها؟!!!

نزلت الكلمات خناجر على صدرى، فخرجت مسرعاً وأنا أنزف نزفاً حقيقيا وإن كان بدون دماء. ساقتنى قدماى إلى دار الشيخ "محيى".. فاستقبلنى مرحباً.. ودلّه منظرى عما يعتريه حالى. وحكيت له ما حدث فهدّأ من روعى.. ودعا لى بخير.. وأمرنى بالصبر على هذا البلاء.. لأن الله يهب لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يهبهم إناثاً وذكوراً، ويجعل من يشاء عقيماً. ثم أخذنى لمسجد سيدى: "خليل"، وأمرنى أن أصلى وأشكو إلى الله حالى. زرت مقام سيدى: "خليل"، قرأت له الفاتحة.. لم أكن معتاداً على زيارة قبره.. دعوت الله أن ينقذنى من هذا الشقاء. طمئننى الشيخ "محيى"، وأخبرنى: أن فرج الله قريب.

مرت عدة أيام.. كنت لا أنقطع – خلالها – عن زيارة الشيخ "محيى"، والتردد على المسجد، والإختلاء بمقام سيدي "خليل". وذات يوم .. كنت بالمسجد.. أتأمل حالنا، وأبث إلى الله ما بى في شجون، انتبهت من حالى على صوت أخى "حسان"، وهو يلهث.. واكتست سحنته بما لا ينبئ بخير.. فزعت.. واستعجلته الحديث.. أخبرنى أن إغماءةً أصابت "الطيبة"، وأنها ليست على ما يرام. خرجت.. أعدو.. وأنا أكاد أنكفئ على وجهى.. كالذى يتخبطه الشيطان من المس. وصلت الدار.. فوجدت والدى.. وخالى "حاتم"، وعم "نعمان" - عطار واحتنا – وما إن هممت بالدخول.. حتى منعنى والدى.. وأخبرنى.. أن والدتى بالداخل، ومعها القابلة "أم الشيخ محيى".. حاولت أن أعرف من والدى ما أصابها؟!.. وأنا أقاوم رغبة في الترنح والسقوط. فأخبرنى أنها كانت – كدأبها – تساعد عمتها.. وفجأة.. سقطت مغشياً عليها.. مضت دقائق كأنها سنوات طويلة.. وخرجت القابلة، ثم باركت وزغردت.. وتبعتها أمى مزغردة هي الأخرى.. لم أفهم شيئاً.. لكن والدتى أزالت غشاوة عدم استيعابى وهى تنظر إلىّ بعينين دامعتين من الفرح:

        - "الطيبة"،.. حامل..

احتضننى والدى.. وخالى.. وعم "نعمان".. وأخرج والدى من جيبه.. قطعا ذهبية، ومنحها للقابلة، ولعم "نعمان"، وكذلك فعل خالى حاتم ودخلت مهرولا فوجدت زوجتى مستلقية في سريرها، وقد طفرت من عينيها دموع غزيرة.. احتضنتها، قبّلت وجنتيها وأنا أتحسسها غير مصدق.. كانت سعادتى لا توصف.. ليس  لأن  الأرض الخصيبة  قد أثمرت، فما كان يشغلنى ذلك، بقدر ما كنت سعيدا لأن حبيبتى بخير.. وعلى ما يرام.

***

مرت الأسابيع، وقد انقشعت سحب الأحزان، فتغيرت السماء، وصارت صافية.. لا تشوبها شائبة، ولا يعكر صفوها كدر.كانت "الطيبة"، في قمة السعادة والحبور.. فالمرأة هي المرأة في كل وقت وحين.. ومهما بلغت من نضج وعقل لا يمكن أن يعوضها مال ولا حب أو جاه.. عن إحساسها الغريزى بالأمومة.كان سر سعادة "الطيبة"، إحساسها بأنها حققت حلمها في أن تنجب منى طفلاً.. وربما لأنها استعادت كرامتها وهامتها.. بعدما – قد – تذبذب كبرياؤها، وثقتها بنفسها.. كأنثى مكتملة الأنوثة.وكلما اقترب ميعاد الحصاد.. كلما ازدادت "الطيبة"، سعادة.. وتوهج وجهها بنور ساحر، وهى في حالة ترقب لقدوم الزائر الجديد.ومضت أيامنا في هناءة وسعادة لا نهائية.. تمتزج فيها الهمسات بالضحكات..كانت "الطيبة"، تداعبنى بأننى أغط في نومى.. وأن غطيطى يوقظ الطفل في بطنها، وإذا لم أكف عن ذلك.. ستترك لي الحجرة أو أتركها أنا.. وضحكنا.. وشربنا الحب.. وما شبعنا..وسألتنى "الطيبة"، .. ماذا أريد؟! ولداً أم بنتاً؟! فأجبتها بأن الأمر عندى سيان.. وأهم شئ أن تكون

– هى-بخير..

وتمنت أن تنجب لى ولداً.. يشبهنى.. ويكون مختاراً على قبيلتى.. سألتنى أن أختار له اسما!! أخبرتها أننى أفضل اسم "ليث".. تيمناً بجدنا: "ليث العربان"، الذى أحببناه سوياً.. وكان سبباً في حبنا.. فلولا المخطوطات التي تحمل سيرته.. وتاريخ عشائرنا.. ما كنا تعارفنا!! ابتسمت "الطيبة"، وتمنت أن تلد ولداً يحمل صفات جده "ليث"، وشمائل والده "نوّار"، ولكنها تفضل تسميته "نور".من يدرى.. ربما كان "نور"، هو الفجر القريب، الذى طالما انتظرناه، بعد ليل حالك!!

***

انتفضت ذات ليلة مفزوعاً على كابوس فظيع، وأحست بى "الطيبة"، فقامت، وقد أثقلها حملها.. حيث قاربت أيامها على الوضع.. سألتنى بحنان يفوق حنان أمى.. عما بى؟! لم أشأ أن أزعجها بحلمى المفزع.. أصرت أن تخفف عنى.. وقصصت عليها ما رأيت: (كان حلماً مفزعاً – حقاً- كأنَّ ناراً أتت إلينا من الصحراء.. يتبعها جحافل من ذئاب وأفاعى.. هجمت على واحتنا.. فحرقت النيران نخيلنا، ومحاصيل أراضينا.. ثم استدارت على بيوتنا.. فأتت عليها.. والناس في هلع وفزع.. يصرخون فما من مجير.. كنت أعدو.. وأنا أمسك بيد "الطيبة"، والنار من خلفى.. وخلفها الذئاب.. والأفاعى.. كنت أسمع صوت أزيزها.. وهى تلتهم بنهم كل ما تقابله.. وكان يصاحبه صوت عواء وفحيح مفزعين.. ونظرت في يدى.. فلم أجد شيئاً.. سوى جوهرة صغيرة.. كانت تلمع حين انعكس عليها ضوء النار.. فصرخت.. أبحث عن حبيبتى.. دون جدوى.. وأفقت وأنا أصرخ. لم تكترث "الطيبة"، أو ربما.. لم تظهر لى فزعها من الحلم.. احتضنتنى بشدة.. وهى تضحك:

        - تدثر جيداً!!

ادعيت النوم، وأنا خائف أن أنام فيعادونى الحلم المفزع ثانية.. وما إن أذن الفجر.. حتى نهضت.. وذهبت للمسجد.. وأخبرت الشيخ "محيى"، عن الحلم.. فأوصانى بألا أقلق:

        - هذه أضغاث أحلام. توضأ قبل أن تنام!!

مضت أيام.. تناسيت هذا الحلم – تماماً – وأخذت أرشف مع زوجتى.. من رحيق السعادة كئوس المنى. وجاء اليوم المنتظر.. أحست "الطيبة"، بآلام المخاض.. وأقبلت القابلة؛ أم الشيخ "محيى".. وزوجة خالى "حاتم".. ووالدتى.. أما أنا.. فأحسست – تماماً – بكل ما تحس به "الطيبة"، من آلام المخاض.. وبدا على وجهى الاضطراب.. وحولى الشيخ "محيى"، الذى كان يهدئ من روعى.. أما والدى، وخالى "حاتم"،.. فقد جلسا.. يتحدثان فى: "الشئون القبلية".. وهما ينتظران الحادث السعيد.. بلهفة وترقب. كانت صرخات "الطيبة"، تمزقنى.. وكنت أشفق عليها من كل هذه الآلام.. ولأول مرة.. أشعر أن الولادة عسيرة، وأن آلام المخاض.. ليس لها مثيل.

ربما.. لأننى – كنت – أشاركها نفس الآلام!

***

مضى يوم كامل وجنينى يأبى المجيئ.. وتعسرت الحالة. كانت القابلة تخرج كل حين لتطلب منا بعض اللوازم.. ثم تدخل مسرعة.. وفى إحدى المرات.. استوقفتها.. وسألتها عن حالة زوجتى.. فأجابتنى – وهى تهم بالدخول – أن جنينى يرفض النزول مقلوباً.. فقدمه اليمنى خرجت للنور.. بينما قدمه اليسرى مازالت محشورة في بطن أمه. غمغم الشيخ "محيى"، بالدعاء.. فشعرت أن قلبى ذاب بين ضلوعى.. وأن فرائصى تنوء بحملى.. فسقطت على أقرب أريكة.. وأنا بين النائم واليقظان. مرت ساعات سلحفائية. وكأنها دهور وحشية.. تتلذذ بآلام البشر.. لم أعدها أو أحسبها.. كل ما أدركته.. أن الدنيا صارت ظلاماً موحشاً.. يبعث على القشعريرة.. يجعلك تحس.. أن هناك مؤامرات شريرة.. تحاك.. وتدبر في مكر وخبث.. شديدين. بينما – كان – صوت الشيخ "محيى"، يترنم بالقرآن.. فيخفف بعذوبة صوته؛ وحشة تلك الليلة. أفقت على صوت سكون عجيب.. وأصغت السمع؛ فلم أعد أسمع صوت صراخ "الطيبة"، لم يستمر هذا السكون.. سوى لحظات.. سرعان ما شقه.. صرخة مدوية.. تلتها صرخات..

انتفضت مفزوعاً.. وكذلك فعل كل المنتظرين.. في صحن الدار، ولم أستطع أن أتحرك أو أفعل شيئاً.. توقف عقلى تماماً.. بينما كان قلبى يلهث في ارتعاد بين ضلوعى.

 

الرحيل
شهر مر على وفاة "الطيبة"!!

لم يكد عقلى يستوعب – بعد – فكرة رحيلها.. كنت أعتقد أننا روح في جسدين.. لم أكن أتخيل – مجرد تخيل – أننى أستطيع الحياة بدونها. واعترانى إحساس غريب بأنها ذهبت في رحلة ما.. وستعود.. كان علىّ أن أنتظر.. ولو مضى عمرى كله في انتظار رجوعها.. ما ندمت على انقضاء العمر! حين علمت بوفاتها.. أصابتنى إغماءة طويلة، وكلما أفقت.. عاودتنى تلك الإغماءة ثانية. وكأننى أرفض وعيى المؤلم.. فأهرب إلى الغيبوبة.

كان موت "الطيبة"، بالنسبة لى.. حدثاً غير منطقى. ربما لأننى لم أتوقعه.. هكذا يأتى الموت.. كضيف ثقيل.. دون توقع. انتابنى إحساس ما بالخيانة والجحود.. ربما لأننى كنت أعتقد أن حياتى ستتوقف عند رحيل "الطيبة"، ولم تتوقف – بعد – حياتى! أو ربما لأننى لم أبك عليها حتى الآن. كانت عيناى.. وكأنهما بئران جف فيهما الماء. الآلام في صدرى لا توصف.. ولا تعبر عنها الكلمات.. شعرت أنى لو بكيت.. لأطفأت دموعى جهنم التي استعرت بقلبى.. شئ فظيع أن تشعر بالرغبة في البكاء.. ولا تملك أن تبكى!! كان من يرانى لا يكاد يعرفنى.. فقد بدّل الحزن وغيّر من ملامحى الكثير، فارتسم على وجهى. شحوب كشحوب الموتى.. انطفأ من عينى الألق.. وحلّ محلّه ذهول غامض، يشعرك ركوده.. كأن ريحاً جنونية ستهب فتعصف بالأشياء.

لم يتركنى – كدأبه دائماً – الشيخ "محيى"، في محنتى. فكان يلازمنى طوال اليوم، ولا يتركنى إلا ساعة الغسق.. لأنام.. ولم يدر الشيخ "محيى"، أن النوم – بعد شجار طويل – رفض مهادنة جفونى، فلملم حقائبه وارتحل

– بعيداً – عنى.

كاد عقلى يجن حين أتخيل أن مصير "الطيبة"؛ بكل رقتها وعفتها، وطهرها.. تتوسد التراب.. فيضم رفاتها بضراوة، ثم يملها.. فيلفظها للدود. مسكين ابن آدم.. هل ممكن أن يرتع في عينىّ "الطيبة"، مثل هذا الدود؟!

***

وأفقت من تأملاتى على صوت بكاء طفلى الصغير.

وتذكرته فجأة .. حين شق بكاؤه سكون الليل كنصل حاد.. كنت – قد – نسيته تماماً. أخبرنى الشيخ "محيى"، أن المرحومة زوجتى، ماتت ومازال جنينى بداخلها حياً. تدب الروح فيه.. ولأن الحى أبقى من الميت؛ قرر والدى، وخالى "حاتم"، - بعد فتوى من الشيخ "محيى" – أن يشقوا بطن "الطيبة".. ليخرج طفلى "نور"، إلى الحياة من ظلمة رحم ميت!!

اقتربت من غرفة والدتى، حيث أصرت على رعاية هذا اليتيم، والعناية به. فتحت الباب.. كان مستلقياً على ظهره.. لم أتبين ملامحه.. كان القنديل مسرجاً.. انتابتنى رعدة وقشعريرة.. حملته.. وخرجت به من الغرفة.. كانت أول مرة.. أرى فيها ابنى.. شغلتنى فجيعتى في أمه عنه.. لم أطلب رؤيته من أحد.. كانت مشاعرى نحوه حيادية.. فلا أنا أريده، ولا أنا أكرهه. وربما أحس أهلى بحالتى.. فعزلوه عنى.. حتى لا يذكرنى بأحزانى.. وربما أسعدهم تجاهلى له.. ولو عرضوه علىّ.. ربما.. ما رفضته!!

استكان الطفل في يدى.. وسكت عن البكاء.. ويجوز أنه – قد – أحس بنبضاتى.. حين ضممته إلى صدرى.. فذكرته بنبضات أمه.. حين كان يسبح في بحور الرحم.. فاستأنس لها.. وهدأ روعه.. فسكت!! تأملته.. وأنا ما أزال حيادياً تجاهه.. الرأس المستدير.. به زغب من الشعر الأسود الفاحم.. الوجه المستدير.. استدارة البدر في ليلة التمام.. البشرة البيضاء الممتزجة بسمار النخيل، وطمى الواحة على ضفتى النهير! أما عن أنفه..فقد كان يشبه أنفى تماماً مدبباً في استقامة مع تقوس طفيف عند الأرنبة.. كانت عيناه مغمضتين.. فلم أتبين لونهما.. بدا فمه مزموماً.. ممتلئاً في حمرة شهية.. كل ما فيه – كان جميلاً – لكن إحساسى تجاهه.. لم يزل – بعد – حيادياً. تذكرت "الطيبة"،.. مرت حياتى معها كصور متلاحقة.. تلهث في ذاكرتى. (عيناها الصافيتان.. التفاتتها بإباء وشمم حين استدارت لترفض "سعد العوامر"، همساتها لى مودعة.. حين خرجت للصحراء.. كي أثبت أنى فارس.. زواجنا.. وأنانيتى.. حين ذبحتها لأثبت فحولتى.. وطهارة ذيلها.. وخروجى للواقفين حول دارنا.. وكأننى "عجل طلوقة".. مفتخراً بقوته وفعلته.. تذكرت آلامها، وتحملها الكلمات العجاف، حين تأخر حملها.. وعنادها حين أصرت أن تمنحنى طفلاً.. ولو على حساب حياتها.. كانت جسداً منتهكاً.. حين أخذت بكارتها في همجية.. ومازالت صورتها منكمشة كقطة وديعة.. قابعة في ذهنى.. وانتهكوا جسدها ثانية.. حين بقروا بطنها.. كي ينتزعوا من أحشائها.. هذا الطفل البائس...)

استبد بى غضب جامح.. وتلبستنى شياطين سفلية، فرفعته إلى أعلى.. وأنا أكاد أقذفه إلى الحائط.. كي أحطم تلك الرأس المستديرة.. المستفزة.. التي رفضت أن تنزل مقلوبة.. فاستلت – عند مجيئها – روح حبيبتى. وقبل أن أقذف به.. وقد تحولت مشاعرى تجاهه إلى كره بغيض.. انتفض في يدى ثم ابتسم .. وهو يفتح عينيه في براءة ملائكية .. ربما اعتقد – وصور له عقله الغض – أنى أهدهده أو ألاعبه وأناغيه..

***

تصلبت ذراعى حين فتح عينيه، وارتعدت فرائصى.. وكدت أسقط من المباغتة.. كانت عيناه – سبحان الخالق – كعينىّ أمه تماماً.. نهرين من الصفاء المطلق غرقت فيهما وغصت.. اغتسلت.. واستعذت بالله من همزات الشياطين. احتقرت نفسى.. حين أسلمت أذنى لتلك الوساوس والهواجس..  كيف أرفض هدية "الطيبة"، لى؟! تلك الهدية التي كلفتها حياتها.. كيف أقذف بتلك الجوهرة الثمينة، وهذا التذكار الجميل؟!

وبّخت نفسى وأنا أحتضن الطفل.. في حنان شديد.. تفجرت في صدرى ينابيع الأبوة والأمومة.. معا.. فانسكبت بلا حدود. تحولت مشاعر البغض الشديد إلى حب أشد.. أخذت أقبله، وأضمّه لصدرى.. تحررت دموعى من أسر جفونى.. فانهمرت في حرية.. كما لو كانت نهير واحتنا حين يفيض.. فيغرق البيوت والزرع. وابتللنا.. فلم أدر.. هل غرقت في صفاء عينيه.. أم.. أغرقه فيض مدامعى؟!!

 

نور
لو سألتكم.. عن عمر الإنسان الحقيقى؟! لانبريتم تجيبون: أن عمر الإنسان، هو الفترة ما بين خروجه من رحم الأم باكياً، وحتى ولوجه في رحم الأرض.. وتشيعه مبكياً عليه. ولكن.. اسمحوا – لى يا سادة – أن أختلف عنكم.. فالعمر الحقيقى للإنسان، هو لحظات حياته السعيدة.. ما أقصر عمرنا وفقاً لهذا المفهوم!! ما زلت في السعادة طفلاً لم يفطم بعد.. عاماً ونصف كان زواجى "بالطيبة"،.. عاماً ونصف في سعادة لا نهائية.. حين رحلت عنى "الطيبة"، كانت تعلم كم الألم الذى سيخلفه رحيلها.. ربما أرادت أن تخفف عنى الأحزان.. وهبتنى "نورا"!

كان "نور".. قرة عينى وقلبى وروحى.. أحببته حبين.. كلاهما لا يوصف.. حباً لكونه ابنى، وآخر لكونه جزءاً من "الطيبة". تبخرت من ذهنى  - تماماً – كل هواجسى وظنونى.. تلبسنى إحساس أن "الطيبة"، لم تمت.. وأنها خلعت جسداً منهوكاً.. وانسلّت بروحها في عالم البرزخ السرمدى.. كل ما كان في الواحة يذكّرنى بها.. شموخ نخيل واحتنا.. في كبرياء وإرادة:

- (ولكنى لا أريد الزواج من "مختار العوامر"!)

صفاء نهير واحتنا يشبه عينيها.. الليل الشتوى الفاحم السواد.. كان – يوماً – ينسكب من رأسها على كتفيها.. رقة الأزهار وحزن البنفسج.

- (هيا.. لتخرج إليهم!)

- (يجب أن تتزوج بأخرى.. كي تنجب لك.)

- (تدثر جيداً)

كانت "الطيبة"، جميلة جسداً.. لكن روحها – كانت – أجمل .. أحببتها قبل أن أراها.. أحببت الروح قبل الجسد.. الآن.. حلّت روحها بالواحة.. صار جسدها جزءاً من أديم الأرض.. كنت أحس بها في كل ركن.. وشبر من واحتنا.. كانت هناك.. تتنفس عبير الأزهار في الربيع.. أو ترقص كالأسماك في قلب النهير.. أو تبتسم كشمس المصيف.. بل.. كنت ألمح حزنها حين يتلبد الجو شتاءً.. وتمطر!

***

شئ رائع.. حين تراقب ابنك – فلذة كبدك – ينمو أمامك.. كان "نور"، كالبرعم الغض، يشق الأرض في ثورة.. متجهاً بهامته نحو الشمس. أصبح شغلى وشاغلى وسلوتى وبهجتى الباقية في الحياة. تفرغت له – تماماً – جعلت له من ظهرى مطية، ومن حجرى وسادة. علمته كل القيم والمبادئ التي تعلمتها.. وحدى من الحياة. جعلته إنساناً بمعنى الكلمة؛ لا مجرد حيوان بهيمى، تطربه أهازيج غناج الأنثى؛ في لحظات الشبق المحموم. كانت أمى تخشى عليه من الحسد، ألبسته ثياب الأنثى، أحضرت له تميمة من عم "نعمان"، تحفظه من عين كل إنس وجان! كنت أحمله على كتفى، وأسير به في كل طرقات الواحة، وهو أمر غير مألوف عند رجال واحتنا.. لازمته كظله.. لم أتركه طرفة عين.. كنت أعلم أنهم يحبونه، ويعطفون عليه.. ولكن.. ارتعبت – كثيراً – حين كنت أتخيل أن يصبح "نور"، همجياً مثل "وهدان".. عقله بين فخذيه.. لم أكن أفارقه، حتى في الأحلام.. كنت أحلم به، وقد كبر.. وأصبح فارساً.. يحمل قلبه ضوء النهار الذى يبدد بشعاعه دجى التقاليد والعادات المتوارثة.

***

لن أنسى ما حييت فضل "سعاد"، خالة ولدى "نور" وزوجة مختار "العوامر"، والذى تزوجته في نفس أسبوع زواجى "بالطيبة". وأنجبت "سعاد"، قبل شقيقتها ولداً أسموه "صبيحا"! كانت "سعاد"، لا تتململ أو تتأفف هي أو زوجها من إرضاع وحيدى.. وشاءت إرادة الله أن يصبح "نور"، أخاً في الرضاعة لابن خالته، وابن من أراد – يوماً – أن يتزوج أمه!

جاء اليوم الذى أتم فيه "نور"، عامين.. وفطمناه وقرر والدى أن يختنه في يوم فطامه.. كما جرت العادات.وحضر عم "نعمان" حكيم واحتنا، ومعه عدة الختان. ولأول مرة – منذ وقت طويل – يدخل الفرح دارنا.. دقت الدفوف.. وعلت الزغاريد.. بينما.. انزويت جانباً.. أغالب دمعى المنهمر.. لا أدرى هل لذكرى "الطيبة"، أم لبرعمى الذى يكبر أمامى؟!! استدعانى أبى بعد عدة أيام من ختان ولدى "نور"، أخبرنى أنه يريدنى لأمر هام.. دلفت إلى حجرته، وقفلت الباب ورائى كما أمر..

- فاجأنى أبى بما لم أتوقعه على الإطلاق:

ألم يحن الوقت – بعد – كي تفكر في نفسك.. وتتزوج؟!

صدمتنى عبارته تماماً.. لم أكن أتوقع من أحد

– حتى لو كان والدى نفسه – أن يفكر في هذا الأمر.

ولعلنى استبعدت ذلك منه، واستنكرت عليه القول.. فهو واحد من قلائل علم مدى حبى وإخلاصى.. واستبسالى.. كي أتزوج من حبيبتى الراحلة..

لم أكن أفكر في امرأة "أرنبة" تنجب لى أولاداً يملئون علىّ الدار – على حد قول أبى – أو تتباهى بفحولة الفارس الذى أعاد ذكرى جده: "ليث العربان".. كلا.. لا أريد امرأة عادية.. وكيف لى أن أفكر في امرأة أخرى.. ومازلت أعشق "الطيبة".. هل توجد امرأة – في واحتنا – مثل "الطيبة"؟! روحها كانت تعانقنى كل مساء.. كنت أراها كل يوم في واحتنا.. أحسها.. استنشق عبق أريجها.. أغوص في عينىّ "نور"، وأبتهج لابتسامته الطفولية.. أراه يكبر أمامى.. يوماً بعد يوم.. أضمه.. فأنسى أحزانى.. فكأن شيئاً من روح أمه قد تَلَبّسَ جسده!!

        - لا يا والدى.. لن أتزوج!

وربما كان والدى يتوقع ردى.. لم ينزعج أو يغضب كسالف الأيام.. لكنه تنهد قائلاً:

- أعلم مقدار وفائك لذكرى زوجتك.. لكن كلام الناس في واحتنا.. لا يرحم!

كان أبى على حق.. فقد كانت عيون الناس متخمة بكلام مفزع.. صحيح أنهم كانوا يحترموننى.. بل.. يترجلون من فوق مطاياهم حين أمر حاملاً ولدى.. أو يقفون في إجلال واحترام حين أعبر سامرهم ليلاً.

كنت أعلم أنهم يتغامزون من خلف ظهرى، ويتخرصون علىّ بكلام مُقعذع.. وما كنت أعيرهم إهتماماً..انشغلت عنهم بولدى "نور"، الذى يكبر أمامى.. كان يفزعنى – جداً – أن يصبح "نور"، مثلهم.. لا يشغله غير بطنه وفرجه.

***

واستبد بى الفضول يوماً، فوددت أن أعرف:

- ماذا يقول الناس عنى؟!

لم يكن أمامى غيره.. "حسان" أخى.. بلسانه الفالت؛ الذى لا يعرف – أبداً – أن يكبح جماحه؛ حين يترك له العنان، فتصبح كلماته كالصفعات – أحيانا – أو كالركلات – أحياناً – أخرى! كنت أعلم أن "حسان" يحبنى ويحترمنى، لكنه كان – كثيراً – ما يغار منى.. كان يشعر أن والدى يؤثرنى عليه.. لذا فقد أعطيته فرصة سانحة كي يفضفض، ما عقده لسانه أو كنّته نفسه تجاهى.. قالوا عنى.. أنى "عنين".. وقال آخرون: إن الجن مسنى بضر.. حين خرجت للصحراء، كي أثبت أنى فارس.. وشطح الخيال ببعضهم حين قالوا: إن الحية التي أحضرتها.. وقتلتها أمام مجلس التنصيب.. كانت إحدى بنات ملك الجان الأحمر، وأنه انتقم منى.. فقتل زوجتى أثناء الولادة.. وحرمنى من رجولتى. أما عم "وهدان"، فقد أقسم أيماناً مغلّظة.. بأن زوجاته الأربع "عليه حرام".. إن لم يكن "نوّار ال شديد  متزوج من جنية.. أحبته واشترطت عليه ألا يتزوج إنسية بعد وفاة زوجته بنت "المراونة". ولم يخجل عم "وهدان"  أبداً حين أقسم – ثانية – أنه كان يتنصت ليلاً على حجرتى، فيأتيه صوت غناج الجنية تحت وطأة فارسنا "نوّار"، تجعل من الخصى "عجل طلوقة" فتنبعث الهمة فيه، ويعود لداره.. فيوقظ أصغر زوجاته.. كي يطفئ ظمأ الوحش الذى يعوى داخله! ولا أدرى من أين اختلق عم "وهدان"، تلك القصة؟! ربما غلبته النعرة.. فأراد أن ينفى عن قبيلته وعن ابن مختارها، وفارسها، ومختارها القادم.. تلك التهمة الشنعاء! ربما.. كان عم "وهدان" يحبنى.. ولكن بطريقته الخاصة.. ولقد خدمنى عم "وهدان"، من حيث لا يدرى، فقد أصبحت في نظرهم.. متزوجاً من جنية.. وصهراً للجن.. وأغلب الظن.. أن عم "وهدان" أفاض في الحديث عن طبائع الجن.. والجنيات.. وأن الذى يقدر على إشباع جنية.. لا بد أن يكون متمتعاً بفحولة غير عادية..الغريب أن أخى "حسان" صدق هذه الرواية حتى أنى كنت أحس به في ليال كثيرة.. يمشى على أطراف أنامله.. يتعسس في الظلام.. ويلصق أذنيه على باب حجرتى..فاجأته مرة.. فانتفض مذعوراً.. وكاد أن يغشى عليه من المباغتة والخوف معاً.. أشفقت عليه.. حين لملم الكلمات بتلعثم شديد:

- حسبتك نائماً.. والطفل يبكى!

ثم هرول إلى حجرته.. لا يلتفت وراءه.. لم يكررها "حسان"، ثانية.. ربما اعتقد أن الجنية "زوجتى" أخبرتنى بأمره... فاستحى! تغيرت نظرة الناس – تماماً – لى.. فأصبح احترامهم لى كاملاً غير منقوص.. وبخاصة.. حين علمت أن عم "وهدان" – بارك الله فيه – صرح واعترف في إحدى أمسيات السمر أنه – بجلالة قدره – وفحولته التي هي مضرب المثل.. لا يستطيع أن ينكح جنية!!

 

التمائم
نسى الناس أمر زواجى .. لم يعد أحد يلوك في سيرتى.. وأمر فحولتى.. بعدما وقع عم "وهدان" شهبندر الجنس في واحتنا على شهادة تميزى! لم يفاتحنى أبى أو أمى في أمر زواجى ثانية.. تفرغت بكامل ذهنى لولدى "نور".. الذى كبر وترعرع وسرعان ما مرت السنوات كالسحاب .. وأبدى "نور" ذكاءً حاداً .. ولماحية شديدة.. أما عن خفة ظله .. فكانت حديث قبيلتنا كلها .. علمته أن يسخر من تقاليدنا البالية، وأن يهزأ من عقولنا المتحجرة.. أسلمته حين بلغ الخامسة الشيخ "محيى". علّمه القراءة، والكتابة، وحفظه ما تيسر من القرآن .. قرأت عليه كل مخطوطاتنا .. حدثته عن جدنا: "ليث العربان".. عن أمه "الطيبة".. وعن حبنا .. دهشت – كثيراً – حين راقبته في أحد الأعياد. عندما انسل من وسط أقرانه.. وفى يده إكليل من الزهور.. ثم دار حول الضريح .. حيث مقابرنا خلفه.. واقترب في خشوع من قبرها.. ووضع عليه إكليل الزهور، وهو يتمتم بفاتحة الكتاب .. احتضنته.. وسألته:

- منذ متى تأتى هنا؟!

أجابنى:

- منذ أن حكيت لى عنها!

بكيت وأنا أحضنه .. بينما كانت زهور النرجس، والبنفسج .. تتراقص فوق الرفات!

***

على باب كل بيت في واحتنا تجد إحدى بنات آوى.. محنطة ومعلقة.. أو هدهداً .. ساقه حظه العثر.. كي يلقط حباً .. فالتقطه الفخ، وسقط في شرك صاحب الدار .. فقتله وحنطه.. وعلقه على عتبة داره.. كي يبعد عنه "عكوسات" الشر.. ويجلب له الحظ. كل رقبة بعير في واحتنا تحمل حرزاً .. كي يحميها من شر كل هامة.. وعين لامة! ولأن الماشية عند أهل واحتنا .. عزيزة عليهم.. كأبنائهم تماماً.. لذا .. ليس غريباً.. أن يحمل كل طفل وصبى تميمة وحرزاً .. يحميه. بل .. إن كباراً – من رجال قبائلنا – مازالوا يحتفظون بهذه التميمة، وإن كانوا يخفونها في طيات ثيابهم .. وعم "وهدان" – نفسه – يحمل في طيات ثيابه .. ثلاث تمائم .. صنعها له صديقة عم "نعمان"، حكيم واحتنا وطبيبها الهمام. بل إن إحدى هذه التمائم.. كان أحد أنياب الأفعى التي اقتنصتها أثناء رحلة إثبات الفروسية.. حيث يعتقد عم "وهدان" أن هذه الأنياب .. تعطى من يحملها .. قدرة فائقة على الإيلاج!! انزعجت أمى بشدة .. حين وجدت "نور" قد فقد تميمته.. وأصرت أن يصنع له عم "نعمان" حرزاً آخر. ورفض الصبى التميمة.. رغم إلحاح جدته .. تبرم عم "نعمان" من مشاكسة الصبى .. وإن كان قد بلع تبرمه في جوفه .. ففضحته عيناه.. تشاءمت أمى .. وتوقعت شراً.. لم أعبء وقتها .. وإن كنت لا أخفى إعجابى بابنى. وقد كان.. مرض "نور" .. ارتفعت حرارته، واشتدت عليه الحمى .. وشعرت بأننى محموم.. كنت كلما لمست جسده .. أحسست بالنار تستعر في قلبى وتمنيت – بكل الرضا – لو كنت مكانه. وبدأت أفقد ثقتى بنفسى وبأفكارى، وما خرجت به من حياتى .. وعرفت أن عاطفة الأبوة – قد – تدفع الإنسان بجهل وحمق .. لارتكاب أشياء لا يرضى عنها، ولا يؤمن بها. لذا .. لم أمانع حين دخل عم "نعمان" ومعه تميمة أخرى .. دسّها في طيات ثياب الصبى.. من يدرى؟! ربما .. كان بها الشفاء .. ربما .. كان هؤلاء الناس على حق .. ربما يملكون شفافية لا أعرفها أو .. ربما كان سر الشفاء يكمن في سذاجتهم واعتقادهم في مثل تلك الأشياء. وصلت إلى درجة من اليأس .. كنت فيها على استعداد أن أؤمن بكل خزعبلاتهم، وتخاريفهم .. بشرط: أن يتعافى ولدى "نور"!

لكن ولدى "نور" أعطانى درساً آخر، ترسخ في أعماقى .. كما سبق وأعطتنى أمه درساً في حرية إرادة الاختيار.. عندما رفضت بكل إباء أن تتزوج من يفرضونه عليها .. حتى لو كان مختاراً من المخاتير! أمسك الصبى بالتميمة .. وقذف بها..

غمغم عم "نعمان":

أستغفر الله!

وخرج مغاضباً .. صرخت أمى .. وانتهرت الصبى .. لكنه استدار بجسده، وهو يغمز لى بعينه مبتسماً.

ترى .. ماذا – كان – سيقول عنى الغلام لو عرف أننى شككت في كل ما علمته إياه؟!! وابتسمت .. وأنا أحمد الله أنه – سبحانه – وحده الذى يعلم خائنة الأعين، وما تخفى الصدور. دخلت الخالة أم الشيخ "محيى" تحمل في يديها مبخرة .. تنفخ دخان البخور المحترق .. أخذت خيوط الدخان تغزو خياشيمنا.. سعل الولد.. لكن الخالة كانت تدور بها حوله في حلقات متتالية .. وكانت تقول:

("محمد " ضيف

والطبيخ عدس

المره بشوش

والرجل عكس

اطلعى يا نفس)

ثم وضعت الخالة المبخرة جانباً .. وأمسكت بيدها اليمنى ورقة، وأخذت تحركها على رأس الصبى .. جيئة وذهاباً .. وهى تقول:

(رقيتك كما رقى "محمد" ناقته

حط لها العليق .. لم داقته

رقاها .. واسترقاها ..

كلت عليقها .. وشربت ماها

كانت كسير

صبحت تسير

بقدرة – ربنا – الكبير)

ثم تثاءبت عدة مرات، وتفلت عن يسارها ثلاثاً، وهى تقول:

(إطلع يا شر وروح.

الباب مفتوح.

شوف لك مكان

غير دا المكان.

ببركة سيدى: "خليل".)

وأحرقت العجوز الورقة.. ثم انصرفت..

كان الشيخ "محيى" قد حضر جانباً من رقية أمه .. لم يقدر أن يمنعها .. كان يكتفى بتبادل الابتسام معى.. بينما كان "نور" يحتج على ذلك بالسعال. نصحنى الشيخ "محيى" أن أصنع كمادات ماء بارد، وأمسح بها جسمه. ثم أخلص لى النصح، وهو يقول:

- عليك بالعسل.. فيه شفاء للناس!

انتصف الليل.. وما زالت النار تتقد في جسد ولدى الغض.. لم يطفئها العسل، ولا الماء القراح.. تكورت أمى على الأريكة.. وقد غلبها النعاس وكبر السن.. فراحت في سابع نومة.غطيط أبى امتزج مع نقيق الضفادع في عزف ناشز يؤلم الأذن .. ويوخز في الظهر .. كان "نور" نائماً .. كقط أليف .. هل أترك حلمى يتسرب منى؟! كان كامناً .. وكأن روحه الكسولة .. تنسل ببطئ منه.. رويداً.. رويداً.. كنت بحاجة إلى أن أصدم تلك الروح.. أن أوقظها.. أجعلها تنشط في جسده الواهن.. كل من في الدار نائم.. كل من في الواحة نائم.. حملته.. فاستيقظ.. لم يسألنى.. إلى أين؟! سرت به تجاه الشرق.. حيث المسجد يطل على النهير.. وعلى شاطئه..خلعت عنه كل ثيابه.. واندهشت.. كنت أمام شاب يافع.. الجسد الغض.. وقد تجسمت عضلاته.. العشب الوبرى النامى على صدره.. وفى أجزاء متفرقه من جسده..

فاجأنى "نور".. فاجأنى كونه أصبح رجلاً!! كنت أغسله بيدى، وهو طفل صغير.. منذ عامين أخبرنى أنه يستطيع أن يستحم وحده.. لم أعترض.. تركت له المبادرة.. في أن يعتمد على نفسه.. كنت أتأمله، وأحملق فيه.. وأنا غير مصدق.. أصبح لى رجل.. واستحى الولد – أقصد الرجل – فوضع يديه على سوءته.. وقد تخضب وجهه بحمرة الخجل.. فحملته.. وقذفت به في النهير.. هذا مغتسل بارد.. وشراب!! تماثل "نور" من وعكته.. وأصبح أحسن حالاً من ذى قبل.. سعادتى بولدى.. لا تعادلها سعادة.. عندما كان صغيراً.. كنت كل يوم أقيسه براحة يدى.. شبراً.. بشبر.. وتكاد تقتلنى السعادة.. للزيادة الضئيلة في جسده اليانع. كل جزء منه نما أمامى.. وتحت عينى.. ما أروع أن ينمو غرسك أمامك!! كنت حين أسير معه في الواحة.. أشعر بفخرٍ شديد.. أصبح "نور"، رجلاً.. كانت قامته تقترب من قامتى..لكننى كنت.. أتعمد أن أنكمش.. وأنحنى قليلاً.. كي تبدو هامته أعلى، وقامته أطول..

أحسست -بجواره- وأنا أمشى معه، باتزان شديد ... أبداً..

لن أسقط بعد اليوم.

 

الفارس
كانت أخبار ابن الفارس تأتينى، فيطرب لها فؤادى، وتقر بها عينى.. قال عمه "حسان":

- (ابنك رجل غير عادى!)

أما جده "تمام آل شديد"، كان يعانقنى، وفى عينيه دموع جذلة:

- (سيوحد كل قبائلنا!)

كانت أخباره تأتينى.. قال عم "وهدان":

- (لن أنسى حين انفك عقال "عجل الطلوقة"، وأخذ يرمح في الطرقات كالجنى الثائر.. كاد أن يقتل كل الناس.. لم يقدر أحد أن يكبح هذا المارد، ويعيده أدراجه.. إلا "نور".)

كل الناس في الواحة.. تتحدث عن "نور":

- (شهم.. أصيل.. قوى.. شجاع.. ذكى.. نبيل)

حتى الخالة أم الشيخ "محيى"، كانت تلهج له بالدعاء.. حين يتسلق لها النخيل، ويهز العرجون.. فيتساقط عليها تمراً جنياً..

قال والدى:

- (ستزوجه!!)

انقبضت نفسى.. هل يمكن أن يتزوج ولدى على طريقتهم؟!!

هل يمكن أن يختلقوا عليه الأكاذيب، كما فعلوا

- من قبل- مع والده؟!

***

فاجأنى "نور"، ذات صباح أنه ينوى الخروج للصحراء بعد أيام قلائل.. فالشتاء بدت كتائبه تهجم على الواحة..أحسست بشعور غريب.. مزيج من الخوف والفرحة معاً.. أما خوفى.. فكان نابعاً من عاطفة الأبوة.. وما يمكن أن يصادفه في رحلته من مخاطر وأهوال. وأما عن السعادة.. فكانت امتناناً.. ورضاءً عن ولدى.. سيعود.. ليتوج "فارساً" على قبيلتنا، وسائر القبائل. لم أمانع.. كنت أعلم أن ابنى لا يحتاج إلى اختبار  كي يثبت شجاعته وفروسيته.. الواحة كلها تشهد.. لكننى آليت على نفسى ألا أتدخل فيما يريد... عودته من صغره على الحرية في كل شئ.. تركت له كامل إرادته في أن يختار ويجرب، ويستفيد من أخطائه.. كنت أعلم – تماماً – أن القيم والمبادئ التي زرعتها فيه، ستحول دون وقوعه في الأخطاء حتى لو سقط هنيهة.. ستكون قيمه، ومبادئه: حرزه، وتمائمه التي تنجيه.. لم أمانع.. نصحته.. أعطيته خلاصة تجربتى السابقة.. ودعته معانقاً.. لم أستح أن أترك دمعتى تسح على خدى.. أهديته أعز ما أملك.. سيف جدنا: "ليث".

- ستعود لأجلى!

حين استدار ليعانقنى.. كانت عيناه الصافيتان تذكرنى.. بعينّى أمه.. حين وّدعتنى قبل خروجى للصحراء منذ خمسة عشر عاماً..

- (لا تخش شيئاً يا أبت سأعود، لو غبت طويلاً.. لا تقلق سأعود!) ظللت أرقبه فوق جواده.. حتى صار نقطة صغيرة في الأفق ابتلعتها زرقة السماء.. وشعاع الشمس.

***

الغزلان تموت في شباكها – ألف مرة – قبل أن يذبحها الصياد.. ما أصعب ساعات الإنتظار! مضى أسبوع على خروج ولدى "نور"، للصحراء.. وكأنه أعوام.. الوقت يمر وئيداً.. كسولاً.. كشيخ فترت همته.. بعدما هدّه المرض العضال.. فجلس ينتظر ساعة الخلاص ولا تأتى تلك الساعة أبداً.. ما أطولها.. ليالى الشتاء!!..

(ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى)

كان أهون علىّ أن أخرج – بدلاً منه – ألف مرة ولا أتعذب بانتظار رجوعه ساعة واحدة.

أحسست – تماماً – بإحساس الموحدين يوم القيامة حين يستغيثون بالله من ملل انتظارهم في المحشر:

- (اللهم اصرفنا.. ولو لجهنم!)

كان لديهم من الفطرة والبداهة، ما جعلهم يعرفون أن عذاب جهنم أهون – ألف مرة – من سعير الإنتظار! وهكذا.. كنت.. أرتقب الساعات السمجة.. الثقيلة.. منزوعة النخوة! عاندتنى الأيام والساعات.. كأنها سلحفاة حيزبون.. تمشى الهوينى.. كلما تقدمت خطوة.. عادت للوراء خطوتين.. فكأنما تستكثر عليك أن تمنع عنك رشاقتها المميتة. عاد سلطان النوم يجافينى.. أهدر – مولانا – راحتى، وطردنى من سلطنة نعاسة؛ فأصبحت في ليلى.. وحيداً.. شريداً.. سجيناً لأفكارى.. وهواجسى السوداوية.. هل يمكن أن يأكله الذئب؟! أو تلدغه الأفعى؟!  أو تتخطفه الجن.. كما خطفت "حمدان"، الراعى  الذى أخبرنا عنه – ذات مساء – عم "شهاب"..

كبير الرعيان؟! كل شئ في الصحراء جائز!!.. ياويح ظنونى!! وتذكرت كل ما مر بى في رحلة خروجى.. وكلما زاد الليل حلكة.. وزعق الرعد، وهطل المطر.. إزدادت ظنونى سواداً ونمواً.. وبكيت.. بكاء الأب المكلوم.. الذى يوشك أن يفقد ولده.. ولا يملك غير دمعه الهتون.

أفقت على يد والدى.. لم أشعر أو أعرف.. كيف دخل حجرتى؟! كلانا أب.. ربما أخبرته غريزته الأبوية بحالى.. لم أحاول أن أمسح دموعى.. أمسكنى من كتفى، وفى عينيه حنان لم أعهده من قبل.

- هل تعرف – الآن – مقدار حبى لك؟!

لم أجب.. وإن كانت عيناى تبصان في عينيه.. وقد بدأ يكابد دموعه.. (أحبك – مثلما تحبه – وأكثر)! تعانقنا.. وانسكبت من عيوننا دموع غزيرة.. لم يحاول والدى هذه المرة أن يمسحها أو يمنعها.. ولأول مرة.. أرى مقدار حبه لى.. كانت على عينى غشاوة وغمامة.. كثور يدور في ساقية.. دائرتها الجهنمية.. لا تنتهى أبداً.. كنت لا أرى "الإنسان"، في والدى.. كونه مختاراً لقبيلته "الشدايدة"، جعلنى أحسم أنه لا يعرف مثل الذى ينبض به فؤادى.. إن حبى لولدى "نور"، لا يمكن أن تحده حدود، أو تجسمه التشبيهات.. يا لى من أحمق.. كيف لم يدر في بالى أن والدى يحبنى – تماماً – مثلما أحب ولدى "نور"!

كانت دموعه ساخنة، ومفعمة بمشاعر دافئة.. مختلفة هذه المرة عن دموعه – التي وأدها – يوم موافقة خالى "حاتم"، على زواجى من "الطيبة"، أو تلك التي سالت، ولم يكبحها يوم تتويجى "فارساً" على القبيلة. ربما.. لأننى كنت أحسبها دموع فخر قبلية.. من قبيل التباهى والاعتزاز بسؤدد القبيلة.. أو.. ربما.. حسبتها كذلك.. لأننى.. لم أكن – قد – أنجبت ولدى "نور" بعد.. في الصباح.. قالت والدتى..

- عندما يعود "نور"، سأزوجه "زلفى"، بنت الشيخ "محيى"! ابتسمت.. كانت "زلفى"، إحدى بنات الشيخ "محيى"، من زوجته – وابنة عمى – "حسنة".. الفتاة رقيقة كنسمة صيفية.. جميلة كفراشات حقولنا.. تقرأ.. وتكتب.. كما علمها والدها.. تصغر ولدى بعامين.. ولكن:

- لن أفرض عليه اختيارى.

ضحكت أمى وكشفت عن فم كانت له – قديماً – علاقة وطيدة بالأسنان:

- يبدو أنك نائم في العسل.. الولد يحب البنت!

فوجئت بما قالته أمى.. كانت مفاجأة سارة.. ولكن.. هذه أول – وربما الأخيرة – التي أخفى فيها "نور" عنى شيئاً من أسراره.

كنت أعده – مع الشيخ "محيى" - صديقاً يحكى لى كل شئ.. ربما منعه حياؤه.. آه.. أيها اللئيم.. حين تعود.. سأضربك على مؤخرتك.. عشر مرات.. وأقبّلك بين عينيك عشر مرات.. يالى من مغفل كبير!! كنت حين أصطحبه معى لأداء بعض واجبات القبيلة.. كان – كثيراً – ما يتململ.. ويبدى تأففاً من زيف بعض عاداتنا وتقاليدنا.. ولكن – اللئيم – حين يعلم أننى ذاهب لزيارة صديقى الشيخ "محيى".. يصطحبنى كالرهوان – بل – في أحيان كثيرة.. يذهب لوحده لزيارة الشيخ؛ بحجة قراءة مخطوطاتنا.. آه من الحب.. كم يخلق لنا آلاف المبررات.

لاحظته عدة مرات.. حين كانت تدخل "زلفى".. علينا.. وفى يدها أقداح الشراب.. فيهب في "شهامة" منقطعة النظير.. ليحمل عنها ذلك العبء.. لم تكن "شهامة" إذاً.. ياللئم الشباب!! وكأن القصة تكرر نفسها.. حين كنت أذهب إلى دار خالى "حاتم"، كي أنهل من عينى محبوبتى الراحلة: "الطيبة"، متحملاً في سبيل ذلك رذالة كرم خالى، وحسن وفادته المؤلمة..كانت أمى تعده ولدها.. وكثيراً ما كانت تخطئ وتقول:

- (أخاك..!)

وازددت سعادة – ولم أغضب – حين صرحت لى:

- (أحبه أكثر منك.. أعز الولد ولد الولد!)

كان لا ينام إلا حين تقص عليه القصص، ويعبث في ضفائرها.. لذا.. صدقت أمى حين أخبرتنى عن قصة حبه لابنة الشيخ "محيى" لأنه لو لم يبح بهذا السر لى، ولم يجد سوى أمي فأفضى به لها. وتذكرت عبارات الشيخ "محيى"، بين التلميح والتصريح.. حول هذا الأمر.. عملاً بالمأثور القبلى:

- (اخطب لبنتك زوجها!)

ولم أكن اكترث بالأمر.. كان "نور"، في نظرى.. مجرد طفل.. حتى حين اكتشفت على شاطئ النهير أنه أصبح رجلاً.. وفاجأتنى رجولته التامة.. انتشيت.. أحسست أنى طائر في الهواء دون جناحين.. وأن رأسى تكاد تصطدم بالنجوم في الأفلاك.. ابتسمت.. ما أروع أن يكبر غرسك أمامك.. فيصبح مستوياً على سوقه.. يعجب كل الزراع! وتهادى إلى سمعى.. قبل أن أدخل حجرتى.. صوت أمى العذب، وهى تغرد بموال قبلى قديم:

-  ( يا نازل الكرم نقى

م الفروع العال.

واسأل على مبتدى السجره،

وع السلسال.

واوعى تناسب عويل،

ليبقى حالك.. حال.

لاجلن يقولوا الفتى:

خلف لولده..خال!)

فى تلك الليلة.. هادنت سلطان النوم؛ أعطانى تأشيرة "مؤقتة"، كي أدخل فردوس نعاسه مزفوفاً بأحلام وردية. انتهزت عيناى المكدودتان الفرصة.. فتعانقت الأجفان.. ورحت أغط في سبات حميم. لم أدر كم نمت.. لكنى أفقت على أصوات صراخ مفزع. كانت بالخارج جلبة وضجيج.. كنت بين النائم واليقظان حين تعالت صرخات الناس الهيسترية بالخارج:

- (البربر.. البربر..)

لم يكن حلماً.. بل كان حقيقة؛ ولكنها حقيقة كابوسية.. ماذا تفعل حين يغزوك عدوك في عقر دارك؟!

(كل السيوف قواطع إن جرّدت!)

لكن السيف النائم في غمده، أصابه الصدأ.. لم نأخذ فرصتنا كي نحارب.. تجمع كل البربر من شتات المفازات والبيادى.. جاءونا بكلابهم، وخنازيرهم، ونجاستهم.. أخذونا على غرة.. لم يمنحنا أحد الفرصة لندافع عن أنفسنا. لنموت - إن شئنا كفرسان - ميتة مجيدة.. والسيوف في أيدينا.

كان الليل حالكاً.. والنفوس حالكة.. صفوف طويلة من رجال قبائلنا.. ترسف في ذل القيود .. مساقون نحن لأعداءنا.. جاء البربر كالموت..  لا يتوقعه أحد.. ولا يرحب به أحد. احتل البربر واحتنا..عقروا النخيل.. هدموا المسجد.. نبشوا ضريح جدنا: سيدي "خليل".. أحرقوا البيوت.. نهبوا كل مخازن خيرات الواحة.. حتى نهير واحتنا.. شربوا ماءه.. ثم دنسوه.. حين أنزلوا كل خنازيرهم.. تشرب، وتسبح، وتمرح فيه.. ساقونا كالماشية.. تحت ضرب السياط.. إلى ساحة الفرسان.. تلك الساحة التي تتوسط واحتنا، وشهدت مراسم تتويج فوارسنا.

لم نكن ندرى من أمرنا شيئاً.. كان الناس سكارى.. وما هم بسكارى.. لكن المباغتة جعلتهم يترنحون.. كل امرئ منا كان له شأن يغنيه.. لم أشاهد والدى في الصفوف.. كانت آخر مرة رأيته فيها.. ممتشقاً سيفه.. لكنهم تكاثروا عليه.. وأثخنوه جراحاً.. ربما قتلوه وألقوا بلحمه لكلابهم!

أجلسونا على الأرض.. وكانوا يوسعوننا ضرباً.. لأتفه الأسباب..جلسنا ننتظر مصيرنا:

- هل سيقتلوننا؟!

سألنى زميلى في القيد، وفى عينيه بلاهة وفزع.. لم أجبه.. كان في ذهنى يتردد قول حكيم من حكماء قبائلنا:

- ( الأمة الحية يحيا فيها أمواتها..

والأمة الميتة يموت فيها أحياؤها)

غمغمت وأنا أمسح بعينى جموع الأسرى، وقد ارتسمت على وجوههم أمارات الخنوع، واكتست ملامحهم بصفرة الموت:

- (هذه الأمة ماتت... والسلام)

لا أدرى كم مكثنا ننتظر.. لكن الفجر الكاذب.. قد بزغ.. ولمحتهم يفسحون طريقاً لناقة عليها هودج.. ثم أناخوا الناقة، ونزلت منه امرأة.. لم أتبين ملامحها جيداً.. اقتربت المرأة من صفوف الأسرى.. وأخذت تنتقل بينهم.. كانت شبه عارية.. لا يسترها غير إزار حول سوءتها.. وآخر على صدرها.. بينما ظهرها.. وبطنها.. وساقاها.. مكشوفة.. في العقد الخامس.. ملامحها حادة.. عيناها ضيقتان.. شبقتان.. تنفرج شفتاها في شهوة.. وكأنها أنثى متعطشة لذروة الإرتواء، ولم تشبع بعد.. الثديان ضامران.. والردفان لا يكادان يظهران.. اليدان والساقان.. تنتشر فيهم العروق و الشعر بغزارة.. الأنف كأنه مقضوم.. الشعر قصير، وأسود مجعد في خشونة. لا تختلف كثيراً عن سائر رجال البربر.. ولولا بقايا الصدر الضامر لما استطعت أن تفرق بينها وبين أى رجل بربرى. كانت عيناها تضيقان حين تنتشى..وتضرب على جرح أسير.. فيصرخ متوجعاً.. وتضحك في هيستريا.. ويجاوبها قومها الضحك.. حين مرت بنا.. أزكمت أنوفنا برائحة بغيضة؛ مثل رائحة الزناة..وقفت قبالتنا، في نفس الموضع الذى كان يجلس فيه أعضاء مجلس التنصيب. حملقت فينا.. ثم ضاقت عيناها. وهى تضحك في هيستريا صاخبة.. ثم تجهمت فجأة.. وأشارت بيدها نحونا.. بينما كانت تنظر لجنودها.. بدأ البربر ينفذون أوامر مليكتهم..

***

كان عم "وهدان" – حين هجم البربر- يواقع أصغر زوجاته.. حملوه من فوقها.. وخلصوها من براثنه الشبقة. كان يخور مزمجراً كثور "الطلوقة" الذى يقتنيه.. سحبوه إلى منتصف الساحة.. أظهر عم "وهدان"، شجاعة ورباطة جأش.. حسدناه عليها.. ووقف الرجل منتفخ الأوداج.. في شموخ خليلى أصيل.. كانت الريح تعبث بأطراف قميصه القصير.. فتتكشف عورته.. مما جعل المرأة تقفز، وتأتى بحركات بذيئة، ثارت لها كرامته.. لكن سياط البربر أسقطه أرضاً.. فتكالبوا عليه.. وفتحوا فخذيه.. كنا نتوقع بين الفنية، والفنية.. أن تسقط رأس عم "وهدان"..لكن البربر. ما أرادوا قتله "كى يستريح".. كان بغيتهم أن "يذبحوا" رجولته.. وفطن الرجل المسن، لمأربهم الخبيث.. لم يستسلم لهم بسهولة.. أسقط أرضاً.. أربعة منهم.. صرخ.. وتوسل.. جثا على ركبتيه أمام مليكتهم.. وبكى الرجل..

- ( خذوا عينى.. خذوا قدمى، ويدى.. اقطعوا رقبتى لو أبهجكم ذلك لكن – أرجوكم – لا تقطعوا..)

ذهبت صرخات عم "وهدان"، وبكاؤه أدراج الرياح.. كان مشهداً يشيب له الولدان.. حين هجموا عليه.. وذبحوا خصيته.. ثم ألقوها في صندوق خشبى. صرخ عم "وهدان"، صرخة أفزعتنا – جميعاً – بما فينا البربر، وتمرمغ في الرمال، والدماء تنزف منه.. ثم سكن جسده نهائياً.. حين اقترب البربر منه في توجس.. ضربه أحدهم بقدمه عدة مرات.. لم يتأوه.. ولم يتحرك.. نظر الرجل لمليكته.. وأشار لها.. بما فهمنا منه أن عم "وهدان".. مات!

ضاقت عيناها وهى تضحك في هيستريا.. وترقص في همجية مجنونة، وكانت تأتى بيديها حركات فاحشة وبذيئة.. وكذلك فعل جنودها.. بينما كنا ننظر إليهم، وفى عيوننا دموع الذل والمهانة.. وفى حلوقنا غصة ممرورة.. لم يستطع "حسان"، أخى، أن يكبح لسانه الفالت.. أخذ يسبهم سباباً مقذعاً.. سحبوه.. وفعلوا معه – مثلما – فعلوا مع عم "وهدان"، ولم ينس البربر أن "يكرموه".. فزادوه عن  عم "وهدان"، بأن قطعوا له لسانه!

***

كذلك كان مصير عم "نعمان".. لم تنفع أحرازه، ولا تمائمه السحرية.

***

الشيخ "محيى" أخذوه من فوق سجادة الصلاة و

***

حتى أطفالنا الصغار.. كانوا يكشفونهم:

(إذا بلغ الرضيع منا فطاماً)، يا ويل أمه.. لو كان الطفل ذكراً كل رجال الواحة صاروا خصياناً.

- (هل يضير الثور ذبحه بعد خصيه؟!!)

لم تكن عملية الإخصاء مؤلمة جسدياً.. بقدر ما كانت مؤلمة وقاتلة معنوياً.. مات من مات أثناءها .. ونجا من نجا.. بعاره ولعنته.. بعد الغزو صرنا أمواتاً.. مقبورين في أجسادنا.. تمنينا  جميعاً  أن يذبحونا ويمثلوا بأجسادنا.. لكنهم قتلوا روحنا.. وحبسوها داخل أجساد منتهكة... كنا ننزف من روحنا نزفاً حقيقياً.. لا من جرح الخصى! ما أبشع أن يقهرك إنسان، ويستلب منك روحك! كانت مذاكيرنا تذكرنا ببقية الرجولة فينا..لم يتركوها لنا.. وكأننا مقدورون أن نحمل لعنة أجدادنا.. وينصحك شاعر واحتنا القديم، في وقت فراغك:

(إذا حللت بوادٍ لستَ تألفه

فاجلد "عميرة"، لا داء ولا حرج!)

و"عميرة"، ذبحوه البربر، من نجلد – لله درك – يا شاعر؟!

جمعوا خصينا في صناديق خشبية.. ربما ألقوا بها لكلابهم وخنازيرهم.. أو.. ربما.. حنطوها وعلقوها على أبواب خيامهم كتذكار دائم.. يتندرون به.. ويتذكرون أنهم أبادوا شعباً كان يسكن قبلهم تلك الواحة، وقطعوا دابره.. للأبد! خيرنا البربر أن نبقى خدماً وقيانا.. في مقابل لقمة خبز من فائض فتات كلابهم وخنازيرهم؛ وجرعة ماء من نهير الواحة، بعدما يشربون ويستحمون؛ هم وسائر حيواناتهم .. ورفض بعضنا.. ووافق البعض.. وكنت والشيخ "محيى"، وأخى "حسان"، وخالى "حاتم"، وحريمنا، ونفر غير قليل.. من الرافضين.. أمرونا أن نهاجر ونغادر تلك الواحة.. طردونا من جنتنا.. بعدما أحالوها إلى خراب.. لم يمنحونا مطايا أو ملابس أو حتى طعاماً وشراباً.. للنساء والأطفال.. وأخذنا نهيم على وجوهنا في الصحراء.. نقتات العشب كالبهائم .. ونشرب من مياه المطر الراكد.. هلك منا خلق كثير.. لكننا كنا نواصل السير.. بلا توقف..كنا نعلم أننا سننقرض من الوجود. لم يعد – في كل رجال واحتنا – رجل واحد قادر على الإخصاب. نساؤنا معنا.. لم يعد لهن أهمية، ولم يعد لنا أهمية.. بعدما تحولت مشاعرنا تجاههن إلى مشاعر "أخوية".. أصبحنا كالصحراء التي نهيم فيها.. قاحلون.. مجدبون.. بليدون. - (ولا يقدر على منح الوليد.. نوع من البشر البليد!)

***

(آه يا ليل الأحزان.. كم أنت طويل وثقيل.. يا قلب "البربر".. يا عقل رجال قبائلنا، نحتاج الفجر.. نحتاج لنور يبزغ من رحم الحلكة.. فيبدد كل جحافل ظلمات الليل.. نحتاج لـ "نور".. يا إلهى..) وكأننى تذكرت ولدى "نور"، وما كنت قد نسيته.. لكننى كنت – كسائر رفاقى – ذاهلاً..

وبدأت أفيق.. من سكرة أحزانى.. الأمل ضئيل.. بل يبدو – أحياناً – مستحيلا!

- (لا يوجد شئ اسمه المستحيل!)

هل كانت عودة البربر.. وتوحدهم.. أمراً منطقيا؟! كم توجد في حياتنا.. أشياء كثيرة لا منطقية.. نغلفها في إطار براق، ونسميها: مستحيلات.. "المستحيل": هو اختراع العجزة كي يبرروا فشلهم.. هو أكذوبة.. صدقها الناس من كثرة تكرارها!

***

(يا "نور".. يا روح أبيك المسلوبة.. عد إلينا.. البربر سرقوا واحتنا.. هدموا مسجدنا. نبشوا مقام جدنا: "خليل".. وقتلوا جدك "تمام".. دنسوا نهيرنا الطاهر بنجاستهم.. بالت كلابهم فوق شاهد قبر أمك؛ ماتت على الرفات النراجس.. سلبونا أعز ما نملك والأمل معقود فيك.. يا ذخر أبيك.. يا روح الأرض..نحتاج إليك يا فارس.. هل تتخلى عن أهلك وذويك؟! عد يا "نور"، كي تنكح كل نساء الواحة.. ولتنجب نسلاً جديداً لنا.. يختلف عن كل الأجداد.. يختلف عن جدك "تمام"، وعمك "حسان"، يختلف  – حتى – عن والدك "نوار"! عد لنا.. قبل أن ننقرض كحيوانات أولية.. لا يوجد لها – مكان – تحت الشمس!! والغابة لا ترحم.. ستعود.. لن تهزمك كل ذئاب الصحراء.. ولا ثعالبها.. ولا أفاعيها.. لن يهزمك – حتى – الجن.. ستعود كي تنبض فينا الروح.. نتوحد.. ونحرر واحتنا من دنس البربر.. يا "نور" أقبل.. فالليل طال.. والفجر المراوغ.. لا يأتى أبداً – كالحقيقة – والمحال! لا نريد فجراً كاذباً.. أرجوك.. يا فلذة كبد أبيك.. تعالى.. وأحضر معك الشمس) كفكفت دموعى الملتاعة.. حين تذكرت عينيه الصافيتين – كنهير واحتنا "سابقاً" – وهو يعانقنى مودعاً:

- (لا تخش شيئاً يا أبتى.. سأعود، لو غبت طويلاً.. لا تقلق.. سأعود!)

أخرج الشيخ "محيى" من طيات ثيابه .. كل مخطوطاتنا القديمة، وراح يدون بريشته ومحبرته .. صفحات .. وصفحات .. بينما كانت نقطة مضيئة تبزغ في الأفق البعيد .. معلنة عن ميلاد نهار جديد..

 

(الرواية لم تتم فصولها بعد)

29 سبتمبر 1996

 

صدر للمؤلف
1 – سكتم .. بكتم: ديوان شعر بالعامية المصرية، مطبوعات أدب الجماهير، طبعة أولى عام 1996م.

2 – تحول الكائنات: رواية في جزأين، الهيئة المصرية للكتاب، مشروع القراءة للجميع "مكتبة الأسرة" طبعة أولى عام 2002م.

3 – خيال ظل المهرج: رواية للأطفال، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتاب: قطر الندى، طبعة أولى عام 2003م.

4 – حكاية طائر النوم: مجموعة قصصية للأطفال، دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، طبعة أولى عام 2004م.