يصور نص الكاتبة العراقية أجواء الحفلات الخاصة التي يقيمها وكلاء الأمن زمن الدكتاتور السابق من النسوة اللواتي يقمن بدور مزدوج قوادة وتجسس من خلال عيني شابة جميلة حضرت مع زوجها فيقعان في الشرك.

عيون

محاسن عبدالقادر

تناقلت الأيادي الصغير الوحيد في الحجرة ابن صاحبة الحفل، داعبته، لعبت معه، مسدت شعره وأشبعته قبلات جعلته يهرب منهم ويقفز إلى حضنها الذي ألفه، حملته ودارت به وسط الصالة، وسط الحاضرين، وكأنها تلف حول نفسها تحتضن براءتها. داخ الطفل قبلت عينيه وطبطبت على ظهره حتى غفا ووضعته في سريره وعادت إليهم.

علت الموسيقى وتصاعدت الثرثرة، واختلى المحبين في الزوايا التي يضيئها مصباح الطاولة. موسيقى صاخبة هزت أركان المكان، طلب شاب طويل الشعر أن تراقصه، التفت إليه ونظرت في عينيه تستأذنه فأومئ برأسه موافقا. رقصا بكل عنفوان وفرح. شدها من يدها بقوة ودار بها، اتبعت خطواته ولحقت به في انسجام. وقف يراقبها، لمعت عيناه رغبة وغيرة ولم يفعل شيئا، كان بوده أن يسحبها بقوة من يد هذا الشاب ويضمها ويقول كفى إنها لي، لكنه لم يفعل.

 تدور في أجواء الصالة المكتظة بالمحتفلين برأس السنة بفستانها الأزرق المنقط، و شعرها الطويل يتطاير أمام الوجوه، جذلى والحياة صارت أنشودة فرح. فجأة اختفت التفاصيل والشخوص لم تعد ترى شيئا إلا عيونهم، التي محت قوة نظرتهما كل ما حولها.

هناك كانا يجلسان، في الأضواء الخافتة، وجهان أسمران لوحتهما الشمس القاسية، تلمع عيونهما مثل الذئاب الشرسة وسط الظلام، وشوارب كثيفة تغطي الشفة العليا، ترسم الوجه بتعبير واحد، القسوة لا غير. كانا مختلفين عن الحاضرين ببدلتيهما الرسميتين وأربطة العنق الأنيقة.

 وهناك في الركن البعيد، اتخذا زاوية لهما، يراقبان ويبحلقان ويرصدان كل حركة و كل ما يحدث.

توقفت الموسيقى الصاخبة، جلست قرب صديقتها الفلسطينية، صاحبة البيت والحفل، ابتسمت ابتسامة ضاقت فيها عينيها الصغيرتين، ضغطت على يدها وهمست بتآمر تعالي أعرفك على الأصحاب.  

ضغطت الأيادي الخشنة على كفها الصغير البارد، حاولا الابتسام وكانت ابتسامة بلا أسنان ظاهرة، اقشعر جسدها، سرى الخوف في خلايا بدنها، ودت لو تهرب، في اللحظة هذه فهمت الصديقة ما يدور ببالها فأجلستها قربهما بسرعة. جلست على حافة المقعد لتستعد للفرار في أية لحظة، دارت عيناها بحثا عنه بين الوجوه، وسط الزحمة، دلها عليه بعد حين كأس الخمر الذي يحمله في يده، توسلت إليه أن يلتفت إلا انه كان منشغلا بمجاملة الغرباء بابتسامة خجلة. انكمشت على نفسها، والتجأت لصديقتها بنظرة تحتمي فيها. وضعت رجلا فوق رجل، تنفث دخان السيجارة بعبثية منتصر وهي تنظر للأصحاب بنظرة متآمر. قدم الجالس قربها سيجارة وأشعلها لها. لم تعتد التدخين مع الغرباء لكنهالم ترفض.

لفت دوائر الدخان المكان، قطع الأثاث، الحضور، إلا أعين أصحابها التي ظلت تركز فيها، وتسأل أسئلة متلاحقة عن كل شيء، يسكت الواحد ليبدأ الآخر، والصديقة تنفث دخانها وتبتسم. كانت ترد بتلقائية وخوف وهي تبحث بعينيها عنه، لم يظهر منه غير يد تحمل كأسا.

تغيرت الموسيقى إلى أخرى هادئة، بحث عنها ومد يده التي كانت تحمل الكأس، فارتمت في حضنه وألصقت خوفها بجسده النحيل همست في أذنه، "أين كنت، مرعوبة منهم" لم ينتبه لما قالته، وضعت وجهها في عنقه وغابا عن الحضور لوهلة.

توقفت الموسيقى، ظلت يدها حول عنقه، حاول أن يبعدها خجلا من النظرات التي تركزت عليهما. لم يفلح، فقد تحولت الوجوه المحتفلة والضجة والموسيقى إلى طبول خطر مدوية في رأسها وإلى عيون تتربص لهما في الظلمة.

أخذت كأسا لم تجربه من قبل. عبته دفعة واحدة، وكلما فرغ ملأته حتى دار المكان بها، طوقتها دائرة من العيون المتربصة، وجه صديقة متآمر ينفث دخانا. أغمضت عينيها حاسةً بالغثيان. طلبت منه أن يسندها ويأخذها بعيداً عنهم إلى الحجرة العلوية.

صعدا إلى الطابق العلوي، همست وهو يضعها في السرير، لا تذهب، أبقى معي ثمة ما يجري تحت. تمسكت به، حضنته أبعد نفسه، كان يريد أن يذهب إليهم " قال؛ لا أصحابها أعجبوا بآرائي التقدمية، وقالوا لا تتأخر نريد أن نكمل الحوار".

غرزت أظافرها في ذراعيه وهي تشده ورأسها الثقيل يشدها إلى السرير، لا تذهب.. نامي حبيبتي، اطمئني، أغمضت عينيها، أدار ظهره وهو يترنح واختفى.

اختفى لشهور، بحثت عنه طويلا، في الطرقات وفي الدروب التي مشيا فيها معا، في دور السينمات والمسارح، في صالات العرض وبين اللوحات، وفي كورنيش أبو نؤاس المطل على دجلة. سألت الصديقة عنه، قالت سأسأل الأصحاب، هم يعرفون كل شيء.

في الدهاليز الحمراء في المبنى الكبير في ساحة الأندلس، كان بين يدي أصحابها ينزف دما وسوطهم يهوي بصوت هازئ أكمل حوارك أيها التقدمي.

 

 القاهرة- آذار 2012