إذا كان العقاد وطه حسين والزيات وفريد أبو حديد والمازني وهيكل وغيرهم ينسبون إلى الريادة، فإن جيل نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار وعلي أحمد باكثير ومحمود البدوي وعبد الحليم عبد الله وأمين يوسف غراب وذهني وعادل كامل وأحمد زكي مخلوف وسيد قطب وغيرهم، يطلق عليهم جيل الوسط.
فماذا عن الجيل الذي يتوسط الجيلين، وأنا أتحدث هنا عن المرحلة السنية جيل المدرسة الحديثة، ومن ينتمون سنياً كذلك إلى الفترة نفسها؟
لقد مارسوا الكثير من الألوان الأدبية، لكنهم أفادوا في محاولاتهم من الأدب الأوروبي، ومن التقنيات الحديثة ـ آنذاك وحاولوا الإضافة عموماً. إنهم على أي نحو جيل رائد، أفاد من التلمذة عليه جيل الأربعينيات. ولعله، من هنا، يأتي قول نجيب محفوظ إن مرحلة اليقظة أتت على أيدى طه حسين والعقاد وسلامة موسى والمازني، وبعد فترة، والقول له، أسهم فيها تيمور والحكيم وحقي.
يقول يحيى حقي: "هذا هو نبأ المدرسة الحديثة في القصة. كانت تضم أشتاتاً من الخلق، ما بين الموظف والصحفي والطبيب والمهندس. كان بينهم أيضاً من يعمل في محل سمعان يتحفنا بقص القصص، ثم ينصرف إلى عماله ليشرف على قص القماش. كانوا جميعاً من الهواة لا من المحترفين، مخلصين لفنهم، مؤرّقين به. لم يسعوا إلى الشهرة، ولا إلى الكسب المادي. ولا أحسب أن أحداً منهم قد دخل جيبه قرش من عرق قلمه. كانوا يعملون وليس بجانبهم نقاد، وإن مثابرتهم على الإنتاج في هذه العزلة الخانقة عن النقد، وعن المجاوبة بينهم وبين جمهور القراء لتعد إحدى العجائب". كانوا يلتقون في الشوارع، وعلى المقاهي، وفي إحدى غرف بيت إبراهيم المصري، يمضون الساعات الطويلة في القراءة والمناقشة. وكانت جريدة السفور الأسبوعية التي أصدرها عبد الحميد حمدي في 1917، هي المجال الذي نشر فيه أدباء المدرسة الحديثة إبداعاتهم. وربما جاء تاريخ إنشاء المدرسة الحديثة في 1917 لأنه تاريخ صدور العدد الأول من السفور، فصدور السفور للمرة الأولى، يعني بداية المدرسة الحديثة. وقد أحدث صدور "السفور" على حد تعبير مصطفي عبد الرازق رجة مذكورة في القطر المصري، وبخاصة لأن اسمها السفور قد صدم الذوق العام "وأثار حفيظة جمع كبير من دعاة الإصلاح الديني، الصادقين منهم والكاذبين، فحسبوا أن جماعة السفور يدعون إلى الإلحاد في دين الله، بل لقد زعموا أن من ورائهم يداً قوية للمبشرين المسيحيين تحرضهم وتؤيدهم".
أما تسمية ناظر المدرسة التي أطلقها يحيى حقي على أحمد خيري سعيد، فهي لم تكن تعبيراً عن مجرد إعجاب شخصي، لكن المدرسة كاتجاه فكري وفني تدين لأحمد خيري سعيد بالريادة والأستاذية [حسين فوزي يعتبر محمد تيمور هو المؤسس الحقيقي للمدرسة الحديثة وليس أحمد خيري سعيد، وإن وافق حقي على اعتبار خيري سعيد ناظراً للمدرسة]. يقول حقي: "كان حقاً يقوم بدور ناظر المدرسة الذي يحب تلاميذه محبته لأبنائه. كان واسطة عقدنا. هو الذي علمنا جمال حرية الرأي، وثقل الفقهنة، وسماجة التعصب، وسخف العداء بين الأشخاص لاختلافهم في المذهب. علّمنا أن أثقل داء هو الغرور، وكيف ينبغي أن نقر بجهلنا، ونحترم الأساتذة الكبار، هو الذي كان يردنا من التطرف إلى الاعتدال، ومن الغلو إلى القصد، ومن البهرج إلى المعدن الأصيل. يحب المناقشة وإثارتها ودفعها إلى درجة الاشتعال، ولكنه هو وحده القادر على أن يطفئ نارها بكلمة تستخرج الحق البسيط الواضح من كل هذا العجاج والضجيج".
* * *
كان أفراد المدرسة الحديثة يقرءون بلزاك وديكنز وتولستوي وفلوبير، والملحق الأدبي لجريدة "التايمز"، ومجلة "جو" أو لندن و"الأثينيوم" والـ"نيشن". واعتبر أفراد المدرسة أنفسهم أبناء لجي دي موباسان وبلزاك وديستويفسكي وتورجنيف وتشيخوف وتولستوي. وكما يقول حسين فوزي، فإن أفراد الجماعة لم يخرجوا من ثوب زينب، ولا من حديث عيسى بن هشام، وإنما من ترجمات محمد السباعى والمنفلوطي وأحمد حسن الزيات وأنطون الجميل والمازني، ومن الأصول التي ترجم عنها أولئك، وغيرها. لم يكن للمدرسة، أو الجماعة، مقر. كانوا يجتمعون في كهف يرقى إليه المرء بدرجات خمس أو ست، على ناصية شارعى قنطرة الدكة وعماد الدين، وفي أماكن أخرى، منها مندرة محمود طاهر لاشين بحارة حسني. قد يذهبون إلى كازينو "دي باري" بقنطرة الدكة، يناصرون محمد تيمور وسيد درويش في "العشرة الطيبة"، أو إلى تياترو "برنتانيا" يصفقون لسيد درويش في شهرزاد، أو يستمعون للحفلات السيمفونية، ولعزف كبار العازفين، من أعلى التياترو بالأوبرا.
ويشير حسين فوزي إلى أن الجماعة لم تطلق على نفسها اسم "المدرسة الحديثة" تزعماً ولا تحدياً وادعاء، بل تندراً وسخرية بأنفسهم، وبتعاليمهم الثائرة.
كان ناظر المدرسة "الأول والأخير" على حد تعبير حسين فوزي أحمد خيري سعيد. عاد من فلسطين، بعد أن انتهت مهمته كطبيب عسكري لفرق العمال المصريين المصاحبين للجيش الإنجليزي. كان قد عايش أحوال العمال القاسية في الطريق إلى بير السبع وبيت المقدس. هجر دراسة الطب، وانشغل بالكتابة في صحف الحزب الوطني. أما أغزر أفراد المدرسة إبداعاً، وأوفرهم موهبة، فهو محمود طاهر لاشين، المهندس بمصلحة التنظيم.
وعلى الرغم من الإبداعات المتميزة لأدباء المدرسة الحديثة، فقد أعلن محمود تيمور استغرابه من "الكثيرين من أذكياء العلماء والأدباء المصريين أصحاب المدرسة القديمة ينظرون إلى القصة أو الأقصوصة بعين الاحتقار، زاعمين أنه ليست ثمة فائدة منها، اللهم إلا فائدة الفكاهة، والقليل من اللذة الفكرية في أوقات الفراغ، وهذا خطأ، فالقصة الراقية لم توضع لغرض الفكاهة واللذة الفكرية فحسب، وإن كانت تضمها عناصرها. ولا يخفي ما في الفكاهة واللذة الفكرية من الأثر الفعال في تنشيط الذهن، وإكساب النفس بهجة وانشراحاً".
* * *
وفي تقدير يحيى حقي أن أعضاء المدرسة الحديثة مروا في مرحلتين: الأولى مرحلة اتصالهم بالأدبين الفرنسي والإنجليزي. قرأوا لشكسبير وثاكري وموريسون وكارليل وسكوت وستيفنسون وديكنز وكورني وراسين وموليير ولافونتين وبلزاك وهوجو ودوماس الأب والابن وفلوبير وموباسان. ثم قرءوا لأسماء أخرى: جوته وأوسكار وايلد وإدجار ألان بو وبول فيرلين ورامبو وبودلير وبيرانديللو ودانتي ومارك توين. وكان من النادر على حد تعبير يحيى حقي أن تسمع باسم الجاحظ أو المتنبي. ثم انتقل أعضاء المدرسة الحديثة إلى المرحلة الثانية يسميها حقي مرحلة الغذاء الروحي، قرءوا الأدب الروسي، وبهرهم جوجول وبوشكين وتولستوي وديستويفسكي وتورجنيف وأرتوباتشيف وجوركي "فهذا الأدب يتحدث بحرارة وانفعال شديد عن الاعتراف والنزعة إلى التطهر والفداء، والبكاء على مآسى الحياة، والإيمان بالقدر والثورة عليه في وقت واحد". وقد حركت تلك المرحلة نفوس أعضاء المدرسة، وألهبت عواطفهم، ودفعتهم للكتابة بحرارة الشباب. لذلك ـ والكلام لحقي "لا أكون بعيداً عن الحق، إذا أرجعت إلى الأدب الروسي الفضل الأكبر في إنتاج أعضاء المدرسة الحديثة، وتكون القصة بذلك قد مرت من التأثر بالأدب الفرنسي على يد هيكل، إلى التأثر بالأدب الروسي على يد هذه المدرسة الحديثة". يقول حسين فوزي: "كنا أبناء جى دى موباسان وبلزاك وديستويفسكي وتورجنيف وتشيكوف وتولستوي. ربما حقت علينا كلمات واحد من الروس العظماء، وأظنه ديستويفسكي، حينما قال: كلنا خرجنا من معطف جوجول. هذه حقيقة أحب أن أذكرها. لم نخرج من ثوب زينب، ولا من حديث عيسى بن هشام، إنما من ترجمات محمد السباعى والمنفلوطي وأحمد حسن الزيات وأنطون الجميل والمازني، من الأصول التي ترجم عنها أولئك وغيرها".
ويضيف حقي أن أعضاء المدرسة الحديثة كانوا في أغلبهم "يعتنقون حرية الفكر. المقدسات لا ترهبهم، وأحياناً لا تقنعهم. وكانوا أيضاً من المؤمنين بالأدب الروسي، وهو يعج بالمشكلات الروحية. مع ذلك، فقد اقتصر اهتمامهم على الهموم المعيشية الأرضية، وتصوير العلاقات الاجتماعية بين الناس، أو وصف أنماط شاذة مضحكة من البشر، فلا تجد في إنتاجهم آثار القلق إزاء لغز الوجود، وقدر الإنسان، والصراع بين الخير والشر، وحاجة النفس إلى الوصول للطهر في محراب الجمال". وقد وجدت المدرسة الحديثة مجالاً في صحيفة "السفور" التي أصدرها عبد الحميد حمدي في 1917، وكانت تدعو بسفور على حد تعبير حقي إلى اعتناق المذاهب الأوروبية في الأدب والتاريخ، وإلى التحرر من التقليد، ومحاولة البحث عن أدب مصري صميم، وتطوير الأسلوب إلى ما يوافق مقتضيات العصر، وتوجيه الأنظار إلى دراسة أدباء مصر وشعرائها، مثل البهاء زهير. كانت رسالتها استيراد الفكر الأوروبي إلى مصر، كما فعلته ـ فيما بعد مجلة "الكاتب المصري" تحت قيادة طه حسين. ثم تفرقت الجماعة بمشاغل الحياة".
* * *
كانت القصة هي أبرز معطيات المدرسة الحديثة، وإن صدرت لأبنائها أعمال روائية مثل الدسائس والدماء لأحمد خيري سعيد التي أهداها إلى أصدقائه أدباء المدرسة الحديثة لأنهم أضافوا إلى الأدب العربى فن القصة، ومثل حواء بلا آدم لمحمود طاهر لاشين، والأطلال لمحمود تيمور وغيرها.
وقد أفلحت المدرسة الحديثة في تخليص فن القصة والرواية والنثر بعامة من لغة المقامة كما في حديث عيسى بن هشام للمويلحي، ومن الاتجاهات الوعظية كما في النظرات والعبرات للمنفلوطي، ومن التمصير الذي يختلف في لغته وأحداثه وشخصياته عن الأعمال التي نقل عنها كما في ماجدولين والشاعر وغيرها. حرصت إبداعات أبناء المدرسة الحديثة على اللغة البسيطة، السهلة، المطعمة أحياناً ببعض المفردات أو التعبيرات العامية، أو بالحوار العامي. وقد أجمع النقاد على أن محمد تيمور هو "منشئ الأقصوصة المصرية، ومبتكر التصوير الواقعي للحياة الاجتماعية الحديثة"، بل إن البعض يعتبر قصة في القطار هي البداية للقصة القصيرة المصرية. ويذكر المستشرق الألماني ا. شادة أن السنوات الثلاث التي أمضاها محمد تيمور في باريس [من 11 إلى 14 حرضته على "إيجاد أدب مصري حديث، تنعكس فيه صورة الشعب المصري بجميع مظاهره". ويقول حسن محمود في تقديمه لرواية حواء بلا آدم: "لعل أكبر نعم الأدباء المجددين على الأدب في عصرنا هذا، هو الأسلوب الذي بدأ ينمو على قواعد جديدة، ويقوم على أسس صحيحة، فقد ذهب الزمن الذي كان الكتاب فيه لا يطمحون إلى غير بلوغ مرتبة كاتب من الكتاب الأقدمين، ويحاولون عبثاً محاكاته بالتقليد، فإذا ما بلغوا شيئاً من ذلك اعتبروا أنفسهم في مرتبة الأدباء، أو اعتبرهم الناس. أما اليوم فنحن نفهم غير هذا، أو أن أكثرنا يفهم غير هذا، على الأقل كتاب الشباب، فالغرض الذي يقصدونه هو الابتكار لا التقليد، وهم يقرأون الكتب القديمة لا على أن يتخذوها مثالاً، بل على أن يقفوا منها متفرجين، لأنها تمثل عصراً ذهب وانقضى، وتمثل زمناً كانت وسائله محدودة، وحضارته مهما قيل فيها، فهي لم تبلغ قط مبلغ الحضارة التي نعيش في كنفها، أعني الحضارة الأوروبية" وقدمت إبداعات المدرسة الحديثة شخصيات منتزعة من قلب البيئة الشعبية المصرية، تأثراً بالأدب الروسي الذي لم يخف أبناء المدرسة الحديثة إعجابهم به، وتتلمذهم عليه. ثمة صغار الموظفين ورواد المقاهي والحانات والخاطبات والدلالات والبلانات والبغايا وماسحو الأحذية وباعة الصحف وباعة اليانصيب وأجراء الفلاحين والبوابون والكمسارية والمجاذيب والسعاة وغيرهم. واللافت أنه حين استجاب محمد لطفي جمعة لطلب محرر "البلاغ" بأن ينسب ما يكتبه من قصص إلى أدباء أوروبيين "لكى تروج وتنجح"، فقد فضل أن ينسب قصصه إلى أدباء روس، مثل تولستوي وتورجنيف وديستويفسكي وجوركي وغيرهم. كان يدرك موقع الأدب الروسي في وجدان القارئ المصري.
* * *
وثمة ملمح مهم يجدر بنا أن نتوقف أمامه، فإذا كان البعض من أدباء المدرسة الحديثة قد أسرف في نقد التراث العربي، والتأكيد على غثاثته، حتى لقد دعا إبراهيم المصري الأدباء الجدد لأن "بذوا ظهرياً ثقتهم العمياء بصلاحية الأدب العربي البالي، وأن يقبلوا على ينابيع المعرفة الحقة، فلا يكتبوا إلا بعد ثقافة أوروبية طويلة.. إذا كان هو رأى البعض من أدباء المدرسة الحديثة، فإن العديد من الآراء، بل والأعمال التي صدرت لخيري سعيد وطاهر لاشين ومحمد تيمور ومحمود تيمور وغيرهم من أدباء الجماعة تشي بأن النظرة إلى التراث العربي ـ في تقدير ناظر المدرسة وأعمدة رئيسة فيها لم تكن رفضاً مطلقاً، وإن بدت حداثة الآداب الغربية بما يختلف عن المعنى الذي نتداوله هذه الأيام هي الأقرب إلى الذوق والمعايشة والتأثر، ثم التعبير عن الإبداعات المصرية الخالصة. ثمة ترجمات للأدب الروسي لأننا كما قيل "بالروس أشبه الأمم". ثم نشرت ترجمات للأدبين الفرنسي والإنجليزي.
رفض التقليد والمحاكاة الذي حرصت عليه المدرسة الحديثة، لم يقتصر على رفض التراث العربي مقابلاً للحفاوة بالإبداعات الغربية، وإنما كان الهدف " خلق أدب مصري محلى صادق في تعبيره، لا يقتبس أخيلته من الصحراء، ولا من الغرب". يقول أحمد خيري سعيد: "كانت نظراتنا الأولى موجهة إلى ذاتنا، إلى عالمنا الداخلي، إلى استكناه الفطرية النفسية. فالجامعة التي كانت بيننا جامعة إصلاح وحركة تطور وانقلاب، مدفوعين باختلاجات قوية، وثورات باطنية، للخروج على القديم، وها هى عملية الهدم تطرد، والثغرة في أسوار القديم تتسع وتنفرج، وسندخل المدينة ظافرين".
أما الهدف فهو "أن يكون لمصر أدب مصري، وفن مصري، وتفكير مصري. ننكر التفكير بعقول الغير. وسواء عندنا الذين يفكرون بعقول الغربيين، والذين يفكرون بعقول الجاهليين أو العابثين، فكلهم مقلّد، وكلهم بوق لا يحس الحياة. يضيف أحمد خيري سعيد: "غير منصف هذا الذي يرفض القديم كله، وغير منصف ذلك من يرفض الجديد كله. ولا نكران في أن القديم به الكثير مما يجب رفضه، لكن أكثره صالح، والجديد خاضع للناموس الذي خضع له القديم". وقد شددت المدرسة الحديثة على ضرورة استيحاء التراث أعمالاً قصصية عصرية، بداية من قصص القرآن، مروراً بحكايات الأغاني التي تضم "ثروة خصبة يمكن استخدامها في تأليف الروايات بأنواعها، من مسرحية وغير مسرحية". ونحن نجد مثلاً لتوظيف التاريخ في رواية أحمد خيري سعيد الدسائس والدماء عن على بك الكبير. بل إن حسين فوزي أشد أعضاء الجماعة رفضاً لكل ما شرقي، وإقبالاً على كل ما هو غربي كما أكد ذلك في كتابه سندباد عصري أضاف إلى ثقافتنا العربية حديث السندباد القديم، الذي يعتمد على كتب التراث العربي بصورة أساسية.
لم يكن خيري سعيد إذن، ولا المدرسة الحديثة، ضد الأدب العربي، لكنه كان ضد ما لا يلائم العصر منه، ضد النقلية واعتبار كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف "مثلنا الأعلى ألا نكون عالة على أحد، لا على القدماء، ولا على المحدثين. مثلنا الأعلى أن نطرح التقليد إلى الأبد".
* * *
كان تعبير المدرسة الحديثة، والرأى لعباس خضر، "يطلق إطلاقاً عاماً، وإطلاقاً خاصاً، فالعام هو كل الداعين إلى التجديد"، أما الخاص، فقد اقتصر على مجموعة الأصدقاء الذين شكلوا جماعة أدبية، هدفها "إيجاد فن قصصي قومي"، وهو هدف يشحب في ضوء الاهتمامات الفعلية لأدباء المدرسة، وما عبر عنه أحمد خيري سعيد في العدد الأول من مجلة المدرسة "الفجر: صحيفة الهدم والبناء"، لتعنى بفكر المدرسة وإبداعاتها، في 1925، أى بعد تكوين المدرسة بثمانية أعوام، يكتب أحمد خيري سعيد 20/3/1925: "فللآداب أنصار جدد، انشطروا بحكم نزعات تفكيرهم، وظروف تهذيبهم، وتأثيرات الوسط، إلى مدارس متحدة الغاية، مختلفة الوسائل. فهناك مدرسة لطفي السيد ومنصور فهمي وهيكل وطه حسين وعزمي وأحمد ضيف ومصطفي عبد الرازق. وهناك مدرسة المازني وعبد الرحمن شكري وعباس حافظ ومحمد السباعي وعباس العقاد وعلي أدهم وعبد الرحمن صدقي. وهناك مدرستنا الحديثة التي اتخذت هذه الجريدة الفجر لسان حالها، وأعضاؤها كثيرون، وتمتاز هذه المدرسة بالعناية بالعلوم الحديثة والفنون الجميلة اهتمامها بالآداب. وجميع هذه المدارس متحدة ضد القديم، وضد الجديد الفاسد". ودعا أحمد خيري سعيد إلى " أدب مصري، وفن مصري، وتفكير مصري. ننكر التفكير بعقول الغير، وسواء عندنا الذين يفكرون بعقول الغربيين، والذين يفكرون بعقول الجاهليين، فكلهم مقلد، وكلهم بوق لا يحس الحياة".
المدرسة الحديثة جزء من حركة إبداعية مصرية، رفضت التقليد والمحاكاة، وحرصت أن تكون وليدة البيئة، وتعبيراً عن المصرية الخالصة "خلق أدب مصري محلى صادق في تعبيره، لا يقتبس أخيلته من الصحراء، ولا من الغرب". تضافرت في تلك الحركة ـ مع المدرسة الحديثة موسيقا سيد درويش، وتشكيليات جيل الرواد، والمسرحيات التي ناقشت هموماً مصرية حقيقية، رغم اعترافنا بسذاجة معظم تلك المسرحيات، إن لم يكن تفاهتها. بالإضافة إلى ذلك، فقد تنوعت اهتمامات أعضاء المدرسة الحديثة. ثمة من كتب المسرحية، ومن كتب الرواية، والقصة القصيرة، ومن عنى بالباليه والفنون التشكيلية والموسيقا السيمفونية والأوبرا والرقص الشعبى والرقص الحديث والعمارة. ومن أخلص ـ مثل حسين فوزي لرحلات الزمان والمكان .. لكن الهدف الذي كان يجمع جماعة المدرسة الحديثة هو الهدم والبناء، هدم كل ما هو قديم ومتخلف، وبناء الجديد والمتقدم. كان الهدف شروعاً في نهضة، وأسس النهضة هي تلاقي الروافد، واكتمال الخطة. حتى الرقص كان له والتعبير لخيري سعيد من بين أعضاء المدرسة الحديثة أنصار جدد، يعملون على النهوض به من شهوانيته وفحشه. أما الصحيفة التي أصدروها، فقد جعلوا شعاراً لها: الهدم والبناء. شعار مرادف للشعار الذي رفعته المدرسة: لا للتقليد والمحاكاة ! نعم للأبقى والأرفع! وتحددت اهتمامات المدرسة في العناية بالعلوم الحديثة والفنون الجميلة والآداب، والنهوض بالفن القصصي. وكتب أحمد خيري سعيد: "فلتحيا الأصالة، فليحيا الإبداع، فليحيا التجديد والإصلاح". وكتب: "حي على الابتكار! حي على الخلق! حي على التجديد والإصلاح!" .. "مثلنا الأعلى ألا نكون عالة على أحد، لا على القدماء ولا على المحدثين. فسيّان أن تضيف نفسك إلى القدماء من أجدادك، أو تلصقها بالمعاصرين من الغرباء. مثلنا الأعلى أن نطرح التقليد إلى ألبد، فإن شعوراً بالكرامة والقوة، وطموحاً إلى التقدم السريع الثابت .. كل هذه تأبى علينا أن نهوى إلى درك القدرة، إلى درك أنصاف الأناس".
* * *
ولعله من الصعب الموافقة على أن المدرسة الحديثة أضافت فحسب إلى الأدب العربى فن القصة كما قال أحمد خيري سعيد في تقديمه لرواية الدسائس والدماء. وكما قال محمود تيمور الذي ينسب إلى المدرسة الحديثة ريادة القصة القصيرة في الأدب الحديث: "تلاقت ندوة من شباب العصر، في طليعتهم أحمد خيري سعيد، ومحمود طاهر لاشين، وحسين فوزي، وإبراهيم المصري، وزكي طليمات، وحسن محمود، ويحيى حقي، ومحمد تيمور، وكامل حجاج، زكريا مهران، سيد درويش، أحمد علام، محمد رشيد، فائق رياض، محمود عزى، ذلك الذي قصر معظم الكتابات التي تضيف حرف الميم إلى اسمه، فهو محمود عزمي، تصوراً ربما أنه هو الكاتب السياسي المصري محمود عزمى. وقد ترجم محمود عزمي مسرحية "غادة الكاميليا" التي مثلتها فرقة رمسيس، وقامت روز اليوسف ببطولتها. كان الشغل الشاغل لهذه الندوة أن توجد القصة المصرية في الأدب الحديث. ذلك هو ما كانت تلهج به، وتدعو إليه، وتعمل عليه. فأصدر أحمد خيري سعيد مجلة "الفجر"، لسان حال لتلك الدعوة الأدبية، التي كانت وقتئذ شعاعة تائهة في أفق يكسوه الضباب. وما هي إلا سنوات قصار، حتى صحا الأفق، وسطعت الفكرة، وتجلى طه حسين وتوفيق الحكيم والمازني والعقاد وشوقي، يدعمون الفن القصصىي، ويقيمون صرحه، بما أولوه من عناية وتقدير، فاتسقت للقصة المصرية مكانة مرموقة، جذبت إليها ذلك السيل الدافق من الأدباء القصصيين، وأصبح القراء يتفقدونها في كل صحيفة، يقصد جريدة، ومجلة وكتاب، حتى لقد صارت كلمة "القصة" عنواناً جذاباً للكتب، وإن لم يكن لها صلة بالفن القصصي، فرأينا كتاب "قصة الأدب في العالم"، بل "قصة الفلسفة الحديثة"، بل "قصة الميكروب كيف اكتشفه رجاله". إن يحيى حقي يجد في معطيات المدرسة الحديثة تعبيراً عن ثورة 1919. في أحضان الثورة نشأت موسيقا سيد درويش، ونشأ أدب المدرسة الحديثة، وكلاهما منبعث عن حاجة ملحة لإيجاد فن شعبي صادق الإحساس، لأدب واقعي، متحرر من التقليد، واقتباس الأخيلة من الغير. صدرت "الفجر" للمناداة بالاستقلال في الأدب والفن والتفكير. وكان هدف المدرسة هو الشروع في نهضة، ليس في المجال الأدبي فحسب، وإنما في مجالات الفنون المختلفة، مثل الموسيقا والفن التشكيلي وفن الرقص الذي كان من بين أعضاء المدرسة من عنوا بدراسته. وكما يقول حسين فوزي، فقد كانت جماعة المدرسة الحديثة تتابع خطى سيد درويش خطوة خطوة في أدواره وطقاطيقه. حتى أحمد خيري سعيد ما يلبث أن يصف المدرسة الحديثة بأنها أكاديمية حديثة "أنشأها جماعة من الفنانين والأدباء على أساس ديمقراطي حر". وزاد فطالب بمدرسة عليا للفنون، ومعهد للموسيقا، ومجمع لغوي، ومعجم. فالمدرسة الحديثة إذن لم تكن مقصورة على الأدباء، وإنما ضمت إليها عدداً من الفنانين ومنهم ـ كما أشرنا زكي طليمات وسيد درويش وحسين فوزي الذي تفوق اهتماماته الفنية ما عداها من اهتمامات، وكان قد سبق محاولات أبناء المدرسة الحديثة إرهاصات ومحاولات تقترب من النضج، بحيث يبدو ما ذهب إليه كل من أحمد خيري سعيد ومحمود تيمور وليد حماسة وتأكيد للذات، فإن المدرسة الحديثة لم تقتصر على هذه الأسماء التي ذكرها تيمور.
ثمة مريدون تساقطت أوراقهم الإبداعية لأسباب شخصية وموضوعية مثل أحمد نظمي، فرج جبران، محمد عبد القدوس، محمود عطية يوسف، أحمد حلمي سلام، مصطفي فهمي، عبد العزيز الخانجي، نور الدين طراف، محمد أحمد غنيم، أمينة أحمد طه، حسن عارف وغيرهم. ويقول محمد أمين حسونة إن لواء المدرسة الحديثة خفق فوق "الفجر"، وتمكنت من أن "تؤدي الرسالة كاملة غير منقوصة، واستطاعت كما استطاع غيري من الشباب أن يظهر أول ابتكاراته القصصية على صفحاتها، ولو عاشت الفجر لكونت طبقة من صفوة الكتاب المستنيرين، والذين تقوم على جهودهم دعائم القصة المصرية".
* * *
لم يكن أدباء المدرسة الحديثة، كما يقول يحيى حقي، يكتبون ابتغاء لأجر، بل إرضاء لمنزع قوي في نفوسهم، وتحقيقاً لدراسة في الآداب العربية في سبيل الوصول إلى أدب مصري صميم، ولا تدخل الشهرة في حساب المؤلف المصري، لأن الشهرة عن طريق الأدب تعتبر شيئاً من الترف لا يقبلها الشعب المصري على مائدته. "بل إنهم كانوا يعانون مشكلة، ظلت حتى زمننا الحالي، بعض سمات حياتنا الإبداعية، وهي كما سماها أحمد خيري سعيد "كساد صناعة الأدب". وكان لتلك السمة السلبية أوثق علاقة بتأخر القصة المصرية، وعدم ظهور الرواية، وهي عدم وجود ناشرين للقصص والروايات والأعمال الفنية" "وأظن أنه لو وجد هذا الناشر على نحو ما هو قائم في البلاد الغربية، وثبت القصة والرواية إلى السماء فجأة، أو بعد مدة قصيرة". ودلل خيري سعيد على معاناته مع تجارب النشر برواية علي بك الكبير التي لم تجد من يطبعها.
* * *
ومنذ أواخر الثلاثينيات، كانت رسالة المدرسة الحديثة قد اكتملت، ولم "يبق منها في أواخر الأربعينيات إلا ذيول". ولعلي أذكّر بكلمات يحيى حقي عن محمود طاهر لاشين: "نحن مدينون للمدرسة الحديثة بالشيء الكثير، هي التي جاهدت من أجل أن يكون لدينا أدب أصيل، نابع عن كياننا، وأسلوب متحرر من التكلف والميوعة، هي التي ثبتت لفن القصة قدمه، ووطدت سمعته، وبشرت بالمذهب الواقعي، فخلصتنا من نهنهة الرومانسية، وهي التي حاربت الظلم والفقر والجهل والتخلف والنفاق ـ أكبر أعدائها ورفعت مقام الفلاح ورجل الشارع، ونادت بالتكافل الاجتماعي، فمهّدت ولا ريب ـ لثورة 1952، ثم إقامتنا لاشتراكية عربية مستقلة، لا تتنكر لعقائدنا ومثلنا الأخلاقية".
وإذا كان ميلاد المدرسة الحديثة قد بدأ قبل نشوب الثورة بعامين، فإنها كانت إرهاصاً قوياً بعملية البحث في الذات المصرية، تلك التي يعد شعار "مصر للمصريين" مقدمتها الرئيسة، وتأكد ميلاد المدرسة الحديثة بظهور مجلة "السفور" الأدبية في عام 1917، بالإضافة إلى أن تلك المجلة نشرت أوائل إنتاج طه حسين وهيكل وأحمد ضيف ومنصور فهمي والشيخ مصطفي عبد الرازق. ويقول حسين فوزي: "تربيت مع جدتي تربية إسبرطية حازمة، ولكن تربيتي الحقيقية كانت في المدارس، مدرسة محمد علي الابتدائية والسعيدية الثانوية، وكان معظم زملائي في هاتين المدرستين من الطبقة الأرستقراطية أبناء الوزراء والحكام وكبار أثرياء مصر، وجعلني ذلك أميل إلى اتخاذ الموقف الأرستقراطى المتعالي، ولم ينقذني من ذلك سوى شىء واحد، فبمجرد أن تركت المدرسة الثانوية إلى المدارس العالية، أو الجامعة، تعرفت على أعضاء المدرسة الحديثة، ودعك من كل تفاصيل عن هذه المدرسة، فهي في نظري شخصان اثنان، أو في الأقل من ناحية تأثيرها علي، هذان الشخصان هما أحمد خيري سعيد ومحمود طاهر لاشين". وإذا كان أحمد خيري سعيد هو ناظر المدرسة الحديثة كما اصطلح أعضاؤها على تسميته، ففي تقديري أن محمود طاهر لاشين كان هو أنشط أعضاء المدرسة، وقد عبّر بأعماله عن الاتجاه الذي تدعو إليه، وتتبناه، وإن عني بهموم اجتماعية خالصة، ولم تشغله السياسة. إن أعمال محمود طاهر لاشين هي المعلم البارز في بدايات مسار القصة المصرية القصيرة. يقول أحمد زكي أبو شادي: "والمتأمل في قصصه الصغيرة، الجميلة، لا يفوته أن يدرك مبلغ تأثره الكبير بأمثال ديكنز وتورجنيف وديستويفسكي من أعلام القصصين في الغرب، أولئك الذين مزجوا الفن القصصي برسالة الإصلاح الاجتماعي، تلك رسالته يحن دائماً إلى بثّها متمذهباً بالمذهب الواقعي، ويلوح أنه يشعر بعبء مسئوليته الأدبية الإصلاحية، فهو يتريث في استجماع ملاحظاته من صور الحياة، حياة الطبقتين الوسطى والسفلى على الأخص بحسناتها وعيوبها، ثم يبذل مجهوده الفنى في حبك قصته مازجاً المزاح بالجد، متوخياً الدقة في التعبير الفكهي، وهي طريقة كاد يتفرد بها بين كتابنا القصصين، ولا يحاكيه فيها غير القصصي المجيد يحيى حقي الذي ابتدأ يؤلف بعده بقليل". واللافت أن أحمد خيري سعيد في تقديمه لمجموعة سخرية الناي [1926] أشار إلى أنه كان سيشعر بشىء من الوجل لو أن الأدب العربى كان في غير حالته الحاضرة "أما والفن القصصي الذي أصبح في بلاد الغرب هو الأدب بعينه، ما برح في آدابنا ضئيلاً إلى حد الانعدام، فهو إذن يتقدم بمجموعته في سرور من يترك في وضع أساس يشاد عليه هذا النوع الجديد من الأدب". والكلمات ـ كما ترى لا تخلو من دلالة عميقة. لقد تناول لاشين في قصصه هموم الطبقة الوسطى ـ تلك التي كانت أشد الطبقات اقتراباً من ثورة 1919، وإفادة من نتائجها، بالإضافة إلى أن الموظفين في تلك الفترة كانوا يشكلون الغالبية العظمى من قراء الأدب. ومع أن قصص لاشين حفلت بالعديد من الشخصيات الهامشية، فإن أحدها لم يصبح ـ بمفرده محوراً لقصة. ثمة بائع الصحف وماسح الأحذية وجرسون المقهى وخادم المنزل والخاطبة والبلانة والقوادة وبائع اليانصيب والبواب والكمسارى والدرويش والساعي والحلاق والبغي إلخ. ما الجديد إذن من الشخصيات التي أضافها كتاب القصة بعد طاهر لاشين؟! وبلغ حرص محمود طاهر لاشين على إضفاء الواقعية على قصصه أنه كان يتردد على الأماكن التي تدور فيها الأحداث مثلما فعل في قصة بيت الطاعة التي تردد بضع مرات على المحكمة الشرعية للتعرف على الحياة فيها، قبل أن يكتب قصته. القصة إدانة مباشرة لبيت الطاعة، فالزوج التركي تصور أنه قد نجح في إخضاع زوجه، وفي إذلالها، عندما حبسها في بيت الطاعة، لكن الزوجة تتصل بشاب من الجيران، وتنجب منه طفلاً يتصور الزوج أنه ابنه، فيقيم له ليلة ساهرة احتفالاً بقدومه!
وفي الحقيقة أن عمل محمود طاهر لاشين في مصلحة التنظيم أتاح له إمكانية الاختلاط بكل فئات الشعب وطبقاته، والاحتكاك بميادين ومجالات متباينة، والتعرف على أدق مكونات الحياة المصرية. كان مهندساً، تنقل حسب طبيعة عمله من حي إلى حي، جاس خلال الأحياء الشعبية، وخالط أولاد البلد وصغار التجار وأصحاب القهاوى، واطلع على أحوالهم ومشكلاتهم ونوازعهم ومآتمهم وأفراحهم، فانكشف له على حد تعبيره "المستور وراء الجدران ووراء الأبدان، وعرفت من الحقائق ما يزيف الظاهر، ويهتك الطلاء عن المرئي لنا نحن المبصرون العميان". وبلغ اهتمام محمود طاهر لاشين بالمشكلات الاجتماعية حد اتهام يحيى حقي له بأنه "وقع فريسة سهلة لإرهاب الفكرة القائلة بأن الأدب مرآة للمجتمع ورسالة، فكلف نفسه عمداً أن يفرد قصة لعلاج كل عيب من عيوبنا الاجتماعية، فهذه قصة عن بيت الطاعة، وقصة عن تعدد الزوجات، وقصة عن الزواج بالأجنبيات وجنايته على الأولاد، وقصة عن البخل، وأخرى عن أولياء الله الزائفين وخطرهم. لذلك لم تسلم هذه القصص من الخطب المنبرية واللهجات الخطابية ونغمة الوعظ والإرشاد، كما لم تسلم من الاستطراد والزيادات التي لا طائل تحتها، فأصابها هذا القصد إلى العظة بشىء من التكلف. ورغم هذا فإن حقي يشير إلى قصص طاهر لاشين بأنها ستكون "ككتب جوجول في الأدب الروسي من حيث أنها أصدق تمثيل للخطوات الأولى، وللأساس كيف بنى وعلا".
* * *
لم تقتصر إسهامات المدرسة الحديثة كما أشرنا على الناحية الأدبية، لكنها امتدت لتشمل جوانب ثقافية وفنية مختلفة. فثمة المهتمون بالموسيقا الحديثة، وبفن العمارة الحديثة، والفن التشكيلي، "حتى فن الرقص، كان له من بينهم أنصار جدد يعملون على النهوض به من شهوانيته وفحشه". ويعيب يحيى حقي على الجيل التالي لمحمود طاهر لاشين أنه لم يعن بها، حتى إذا ما نضج أدرك أنه كان يستطيع أن يبدأ من حيث انتهت هذه المدرسة.
لقد حدد ناظر المدرسة أحمد خيري سعيد أبعاد الدعوة إلى التجديد بالقول: "نريد أن يكون لمصر أدب مصري، وفن مصري، وتفكير مصري. ننكر التفكير بعقول الغير، وسواء عندنا الذين يفكرون بعقول الغربيين، والذين يفكرون بعقول الجاهلين أو العابثين، فكلهم مقلد، وكلهم بوق لا يحس الحياة ". وكانت عودة الروح كما يقول الفنان محاولة لتأكيد الشخصية المصرية، في الوقت الذي كانت فيه تلك الشخصية تحاول أن تجد ذاتها، وأن تؤكدها. يقول: "كانت القضية الفكرية الشاغلة للعقول بعد ثورة 1919، هي الشعور بالشخصية القومية، وبعث الروح المصرية، بعد تسلط أجنبي دام فترة طويلة من الزمن، استكانت فيها الأمة، حتى زعم الأجانب المتسلطون أنها جنس دون جنسهم، وليس من شأنها، ولا من طبيعتها، أن ترقى رقيهم، ففكرت في أن أدحض هذا الزعم، وأثبت أن الروح كامنة، وهي روح عظيمة، ولابد أن تعود، وأن الشعب الذي صنع الحضارة القديمة، والتفت العالم الغربي نفسه إلى ما كان لهذه الحضارة من شأن عظيم بعد كشف حجر رشيد، وفك رموزه ودلالاته، على ما كان من حضارة ليست أقل من حضارة الإغريق، وتحرت في وسيلة التعبير، ثم اهتديت إلى أن الأليق بي أن أعبر عن ذلك في رواية، برغم ميلي واتجاه نفسي إلى كتابة المسرحية، لأني وجدت أن المجال الروائي الرحب هو الملائم للموضوع، فكانت رواية عودة الروح.