-1-
كيف لسوريا أن تبقى حية وثمة من يريد لها الموت؟
لا يستسهلن حريصاً السؤال؛ فكل من طاقة الحياة المنشودة وطاقة التدمير الذاتي، قد تكون كامنة في حقوق الآخر، كل آخر كما يصورها له وعيه. وفروق الكمون بين كتل تلك السدم من شأنها أن تولد عواصف رعدية. وهي تفعل ذلك اليوم بعد أن أشبعت القوى السياسية والعقائدية كتلها بعناصر منشطة للحسي الإدراكي ومثبطة للمفاهيمي.
ويقول عاقل: استنبطت البشرية تقنيات مختبرة لتخميد شرر التناقضات. وفي جنيف2، يفترض أن يجتمع من يريدون لسوريا الحياة.
وترتفع يد معترضة (نقطة نظام)، يلي صوت: من سيوصف مريد الحياة ذاك؟ يرد الأول: نبحث عن نمط عيش يمكن أن يتفق عليه، ثم يبنى على ذلك دستور ومنظومة قوانين. ثمة نمط كان موجوداً، به عيوب، لكنه كان ناجعاً بمقدار، طحنته حكومة العطري الدردري حتى تأوه لبه واستغاث، وهتكته المعارضات، حتى ترحم على كل من سبق.
ويقول ثالث: الزوايا قد تدور إذا لم يتابع المثقف والسياسي، موالي معارض مستقل، نفخ فضائله كما نفخ شارلي شابلن عضلاته، وإخفاء كومة قذارته خلف كومة آخر.
ويستمر القتال!!
نستعير مقطعاً لكاتب المقالة من كتاب بعنوان "سفه"، ينتظر دار نشر: لو أجرينا سبر رأي لشريحتين: تتكون الأولى من أفراد علمانيين، والثانية من متدينين؛ حول صحة عبارة "لا حياة من دون الماء"، فعلى الأرجح سيصوت اللاهوتي والعلماني على صحتها. كما سيتفقان على أن النار ستلتهم حقل القمح إن شبت به، وعلى أنه من الأفضل لمن لا يعرف السباحة، أن لا يرمي نفسه في البحر. وربما سنجد لو تابعنا أن عدد المسائل التي تتفق الشريحتان عليها هو أكبر من عدد تلك التي تختلفان حولها وبكثير. ونحن لا نستغرب ذلك رغم التاريخ الزاخر بالخصومة بينهما لأن ما يجمع بين أسلافهما هو حقبة ذات امتداد تبدو حقبة التاريخ الحديثة هزيلة إذا ما قورنت بها. ولو سبرنا رأي مجموعة عشوائية حول "ماهو الفساد" من خلال أسئلة مختارة، فقد نحصل على خلاصة ذات صلة بالتاريخ تشبه التالي:
يراه البعض في إطلاق الحرية الفردية، ويراه آخر في انتهاكها.
يراه أحدهم في تحويل مفاتن المرأة إلى سلعة، وآخر في ختانها.
يراه البعض في ازدواجية أخلاقية، ويرى آخر أن الازدواجية من نافلة السلوك.
يراه البعض في تعذيب الأطفال في البيت والمدرسة، ويرى آخر أنه أمر لا غنى عنه لمن يريد أولاداً صالحين.
يراه البعض في قوامة الزوج على زوجته، وآخر في علاقة زوجية مرجعيتها قانون مدني. يراه البعض في البغاء، ويرى آخر أنه نعمة أنتجها الضرورة.
يراه أحدهم في شرب الخمر، وآخر في تحريمه.
يراه البعض في الفقر، ويرى آخر أنها شكوى الضعيف.
يراه البعض في البطالة، ويرى آخر أنها جائزة نقص الكفاءة.
يراه البعض في استنساخ البشر، ويرى أخر فيه مفخرة.
يراه البعض في الاستعمار، ويرى البعض أنه فرصة.
يرى البعض أن الاستبداد هو رأس الفساد، ويرى آخر أن للفساد أكثر من رأس.
يرى البعض في التسامح ضعفا يفسد، ويرى آخر فيه قوة تحصن.
الأمثلة لا تعد أو تحصى على ذلك التناقض الذي هو من سمات المجتمع البشري الذي تحكم وجوده وديمومته حاجات رئيسة ينمو الطلب عليها كنتيجة لتزايد السكان ونمو حاجاتهم. وبديهي أن ينتج عن ذلك مصالح متضاربة، وأن تنشأ تكتلات تنتج كل منها تصورات وأفكار تحمي مصالحها. ومع الزمن قد تصبح تلك الأفكار مسلمات وأعراف وربما هوية".
بين تحويل تربة التناقضات إلى بارود وبين تبريدها، مسافة تتسع للحرب وللسلم.
ثمة نافذة لإيقاف القتال والموت على المجتمع أن يقتحمها.
سوريا قابلة للموت. وإن ماتت لن يتمكن أحد على وجه البسيطة من إحيائها.
كم قنبلة وكم رصاصة وكم ساطور تتحمل بعد؟
من يفترض أخر بدون فضائل، يستحسن أن لا يذهب لجنيف2.
في جنيف2، سوريا ليست بحاجة لآباء وأجداد وفقهاء وأئمة ثورة ومنظرين وقادة يحملون ألقابا ويقيمون في السفارات والفنادق الفخمة. ولا لباشوات سلطة نبت الريش فوق جلدهم. بل لمن قادر أن يعيش حياة المواطن البسيط، وأن يهزم شهوة المال والسلطة وجاذبية الضوء.
سوريا بحاجة لمن فيه نفحة من طهر عمر بن عبد العزيز، ومن في يمينه قبسا من شفافية الكواكبي، ومن في قلبه بعضا من عشق عبد الناصر لكبرياء المواطن البسيط.
وليس إلى ذلك الحشد من المتسولين.
ربما امرأة من مخيم وافدين عدرا تعمل في تنظيف البيوت، وتمتشق شجاعتها إلى دمشق مروراً بمناطق حامية كل صباح، في حدقة عينها طفل وزوج مقعد ينتظران اللقمة، ويخفق قلبها وهي تفكر بطريق العودة.
ربما هي من يجب أن يذهب لجنيف لتلعن كثيرين ممن أضرموا النار. كثيرين ممن حرضوا على القتل والدمار وأفتوا بصوابهما، لقد تعلمت يوما وقرأت أن خليفة حرم نفسه الدسم في سنة مجاعة. هي واثقة أن أحدا من علماء المسلمين أو من قادة المعارضة لن يفعل أمراً مشابها، ولطالما كانت السلطة من يأكل الدسم.
-2-
يدور صراع قديم داخل معسكر النظام الرأسمالي، بين من يرغبون السيطرة على العالم(1). وبين من يفضلون لزعيمته الولايات المتحدة الأمريكية الاكتفاء بقيادة العالم(2). بين من يتبنون تحرير مقولة "النمو أو الموت" من أية ضوابط (لينمو القوي ويستهلك الأقل قوة منه حتى الاحتضار)، وبين من يرون أن النمو المفرط بدون ضوابط ليس سوى وصفة لانهيار شامل. بين من يرون أن العقد الاجتماعي التاريخي في الديمقراطيات الغربية قد أسس لمسؤولية السلطة والدولة عن حق المواطن بعيش أمن وكريم، ولواجباته تجاه الدولة والسلطة ومجتمعه ونفسه. وبين من باتوا يرون تلك الأسس معيقة للنمو، وبالتالي جالبة للموت، ويطالبون بتحرير الدولة من كل مسؤولية تجاه المواطن والمجتمع.
سبق للرئيس الأمريكي الراحل الجنرال أيزنهاور أن كشف بعض ذلك الصراع محذرا الشعب الأمريكي من احتمال خسارة ديمقراطيته.
في نهاية ولاية بوش-تشيني كان بالإمكان تلمس تلك الخسارة، إضافة لملامح تنذر بتسونامي اقتصادي لاحقا؛ قالت ربة منزل لمحطة إخبارية أن عليها أن تختار بين تقديم الطعام لأسرتها وبين تدفئة البيت.
بات تصدعات "الحلم الأمريكي" سافرة، فكان أن دفع المجتمع الأمريكي بأوباما وبنائبه لسدة الحكم على أمل أن يرمما. وألمح أوباما بأن ظل تشيني مازال مخيماً.
صفحة من صفحات الصراع الداخلي للنظام الرأسمالي، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في بريطانيا وفرنسا؛ تكتب اليوم في سوريا. سوريا التي وقدت تلك الدول على أرضها نيران عنف مفرط لتصبح سهلة المضغ والهضم. فالخلاف بين فريقي السيطرة والقيادة ليس حول افتراسها بل حول كيف. وسيحدد الصراع في وعلى سوريا من سيحكم بلدان الشرق الأوسط مستقبلاً: التكفيرية الإسلامية والحريدية اليهودية والتيارات القومية المتطرفة والعصابات بأنواعها وأشكالها، أم دولاً مدنية تقوم على المواطنة وتحترم القانون وتدفع بناها التحتية نحو الديمقراطية.
ويرجح أن تحدد نتائجه أيضا، عدد من يموتون جوعاً ومستقبل الغابات المطرية وجليد غرينلاند والعديد من الكائنات الحية والفلسفة.
هاهي الأيام تدور لتذكر بقول أحدهم:"أن الكون يتأثر بحركة جناحي فراشة". وهاهو رولان دوما يتابع مسيرة حملة راية "دانتون" من الفرنسيين (كما سارتر وآخرين) دفاعاً عن شرف الثورة الفرنسية ضد جرائم الساسة والسياسة ضد جريمة تدمير سوريا وشعبها، التي خططت لها الاستخبارات البريطانية بالاتفاق مع رئيس وزراء حكومة جلالة الملكة، خليفة ريتشارد الثالث. وخليفة من سهل للنازية الألمانية الصعود لكسر ذراع الاشتراكية الأوروبية، وسحق المطالبين بالحرية في وجه فرانكو وأمثاله. وضد ساسة فرنسيون شاركوا التآمر على سوريا.
سوريا التي أنجبت الكلمة تعود ثانية كمركز تتصارع فيه القوى الرئيسة المؤثرة في الإنسان وحضارته. فهل سترفرف فوقها راية سلام بيضاء كحمامة بيكاسو؟
أم سيستمر القتال، ويغلفها دخان أسود؟
ذلك أيضا سؤال.
-3-
كان المؤتمر الصحفي الذي عقد في الكرملين (7/5/2013) وجمع لافروف وكيري، أشبه بجولة بين ملاكمين من الوزن الثقيل اتفقا مسبقا على أن لا يوجه أحدهما للأخر ضربة قد تكون قاضية.
أشاد كيري بتضحيات الإتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، بطريقة تسمح بأن يستشف منها: أن الولايات المتحدة ليست منزعجة مما ذهبت إليه القمة الصينية الروسية الأخيرة في الكرملين من وجوب احترام نتائج الحرب العالمية الثانية. لكنه (كيري) سرعان ما سدد لكمة بقوله أن لا مكان للأسد في التصور الأمريكي للحل السياسي المنشود حسب اتفاق جنيف. رد عليها لافروف سريعا، بسلسلة من لكمات قصيرة رسمت خارطة لسوريا توضح توزع الكتلة الأكبر من سكانها والتي هي ليست مع المعارضة التي يدعمها كيري، موضحا وبجلاء أن قرار من يحكم سوريا، هو للسوريين أنفسهم. مؤكدا بذلك تمسكه بوجوب احترام نتائج الحرب العالمية الثانية التي أسست لتشاركيه تقوم على احترام الجميع لقانون دولي أسس بدوره على رفض كل فكر أو سياسة تهدف السيطرة على العالم.
-4-
أجهزة السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، هي أستاذة فن الاحتواء على مستوى الكرة الأرضية. سبق ونجحت بشراء قسم مهم من اليسار العالمي، وكلفت من يشتري لها المعروض للبيع في بازارات السياسة من "اليسار العربي" و"الإسلام السياسي العربي"، فضلا عن كونها تنتج في مخابرها ومنذ عقود فصائل من كل الملل والنحل، وتستضيف في سفاراتها منظرين من الماركسيين الجدد.
طبيعي وهي وبتلك الخبرة الهائلة، أن تسعى لاحتواء رد الفعل الصيني الروسي على الهجوم الجوي الإسرائيلي الأخير على دمشق(3). وإذ يدور الحديث اليوم عن سويات الارتياح والانزعاج العالمية من الاتفاق الروسي الأمريكي، على منع نشوب نزاع إقليمي مسلح في الشرق الأوسط (وربما كوني تنطلق شرارته من الأزمة السورية). فإن المرتاحين والمنزعجين من الاتفاق يعلمون أن الهجوم الإسرائيلي هدف اختبار قابلية القيادة السورية للرضوخ تحت الضغط، واختبار قابلية روسيا والصين للتراجع عند حافة الحرب. ويعلمون أيضا أن النار ستنتقل وسريعا لتخوم طهران وموسكو إن انهارت الدولة السورية. وتكمن المفارقة في كون من يرغب كثيرا بانتقال تلك النيران لا يملك طاقة ذلك لوحده. ومن يملك الطاقة لا يرغب كثيرا. ربما توريط إدارة أوباما هو ما يجري البحث عنه. مرة ثانية تستعير الأنظمة من فوضويي التاسع عشر بعض تكتيكها.
-5-
بالتزامن مع القصف الإسرائيلي، صعد محور الرياض الدوحة اسطنبول التحريض المذهبي إلى مستوى أكل لحم البشر، ونجحت قوى عولمة متوحشة أوربية تحن للسيطرة برفع الحظر عن تصدير السلاح لسوريا، وبوقاحة دبلوماسية بارك السيناتور "ماكين" ذلك من داخل سوريا، وكأنه يعلن خلافته لتشيني كقائد لجبهة السيطرة.. وربما النصرة أيضا.
واضح أن التربة السورية ترزح تحت ضغط هائل. فهل سيسفر عن تقديمها لاحقا لتنازلات على صعيد حرب ثقافية يخوضها مجتمعها منذ قرون؟
حرب خاضتها أجيال متعاقبة، وشارك فيها غيلان والمعري ومحي الدين بن عربي والكواكبي وجمال الاتاسي وجورج حبش وغسان كنفاني وسعد الله ونوس وبوعلي يسن ويسن الحافظ وعمر أبو ريشه ونزار قباني..الخ. ضد الفكر الجبري والوهابي والصهيوني والاستعماري؟
هل ستتراجع روسيا والصين بعد قصف أحد ضواحي دمشق بالنووي المنضب؟ أم ستدعمان اقتصاد سوريا وجيشها، توكيدا لرغبتهما المشتركة بأن تحترم نتائج الحرب العالمية الثانية التي أنهت حقبة استعمارية بغيضة وأنجبت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
-6-
ما تتمناه أنظمة إقليمية وأطراف من المعارضة السورية، هو أن تتدخل الولايات المتحدة عسكريا وتحتل سوريا وتنصبهم حكاما كما حصل في ليبيا، سيناريو آخر تتبناه أطراف معارضة بدعم من دول إقليمية، هو أن تستمر الإدارة الأمريكية باحتواء يحول دون السماح بحل سياسي للأزمة، وصولا إلى صوملة سوريا.
صاحب (أصحاب) الأول يرغب لسوريا بالنموذج اللبناني حيث العناوين مزيفة لكنها معتمدة وموثقة وشرعية بامتياز. وبالطبع هو من سيقتطع له ومن سيوهب الألقاب كما حصل بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية. وأصحاب الثاني سيحظى بعضهم ببيئة مطهرة من وسائل العيش المدنية المريحة، بيئة تصلح لإحياء دولة الخلافة.. ولهم ما ملكت أيمانهم. ومنطقة تناسب إسرائيل كدولة لليهود كل اليهود.
أما الديمقراطية..فحدث ولا حرج.
-7-
ميدانيا، يبدو أن السيناريو الثاني تمت تنحيته جانبا (ولو مؤقتا) بعد قمة الثمانية الكبار، وتبدو إدارة بوتين وأوباما راغبتان بمنع نشوب صراع مسلح إقليمي، بينما تصب قوى دولية وإقليمية زيتها على نار الصراع الدائر.
الهوامش:
(1) "نيتشه" "هتلر" "تاتشر" "ريغان" "تشيني"، شأنهم من شأن متطرفين يهود يصرون على ملكيتهم لكل المعمورة بتفويض إلهي، ومتطرفين إسلاميين يصرون على أستاذيتهم للعالمين بتفويض إلهي.
(2) روزفلت، كيندي، بيل كلينتون.
(3) كتب جيم ستون: بعـد مقارنة التســـجيلات مع الاختبـــــارات تبيـّنَ لنــا أن حجـم القنبـلة التـي تـمّ إلقاؤهــا علـى دمشــــق 17000 كـــغ، وهـي مـن نـوع Massive Ordnance Penetrator وتسمى MUTTER ALLER BOMBEN أم كل القنابل MOAB، وبالعـودة لشـريط الفيديــو وبعـد اسـتخدام التحليـل التصويري وأجهزة التحسس، نلاحـظ أنــه في ذروة الانفجــار تصـاب جميع أجهزة استشعار الصورة ويطغـى اللون الأبيض عليهـا، حتى في الظـــل وعلى الأرض يصبـح كـل شـيء أبيض، وتكـــون درجـة ســـــطوع الانفجـار ثلاثـة أضعـاف سـطوع الشمس في يـوم مشرق وحــار!. فإذا قارنـــا مـع قنبـلة هيروشيما، نـلاحظ تشـابه الصـورة، مـع الاختــلاف بحجم القنبـلة، وبكـون اليورانيــــوم الذي اسـتخدمته إسـرائيل منضب، أي يقتصــر ضـرره علـى محيـط 3,8 كلـم.