يجد الفلسطيني صعوبة وحرجا أحيانا في توصيف هويته، من هو ومن أين جاء؟ فهو مطالب في بالدخول في محادثات شائكة مع نفسه، ليبرر ارتباطه بالأرض التي يعرفها واسمها "فلسطين"، وتتخذ عمليات التفاوض أشكالا متعددة تتراوح بين اسئلة عفوية لا تحمل اي معنى وأخرى مقصودة لتبرير مواقف سياسية وأخرى امنية تهدف لحرمان هذا الفلسطيني من انتمائه لهويته وأرضه.
ولكن اي ارض هي وتحت اي سماء تقع، اهي فلسطين التاريخية التي خرج منها الاباء الى المنافي ولم يبق منها سوى ذكريات تحولت الى صورة عن «الجنة الموعودة» حيث تتدلى فيها اغصان الزيتون المحملة بموسم حافل، وتنتشر فيها اشجار اللوز ونوارها المتشكل كفراش أبيض وحبوب الرمان التي تنتظر من يقطفها، لان الناس الخارجين على عجل نسوا في زحمة الخوف اخذ بعض حباتها. هذه صورة فلسطين التاريخية التي اورثها الاباء المشردون الى الابناء. وهل فلسطين الحاضرة اليوم بكل ماتبقى منها من مفاتيح او مآذن تشمخ وحيدة في فضاءات الخراب، الاذان فيها مكتوم لان من يعيشون حولها يتكلمون لغة غير اللغة التي كانت الارض تتكلم بها؟ ومن هنا فأسئلة الهوية التي يواجهها الفلسطيني تبدو معقدة وسهلة في المقام نفسه لأنها اسئلة وجودية، وتظل مرتبطة بلعبة النفي والشطب من التاريخ. ومن ان اجل تأكيد الهوية على الفلسطيني التسلح بكل ما يملكه من جدل وتدعمه الحقيقة ليثبت أنه "حقيقي" وليس «مزيفا» ،وانه الاول والأخير. في الماضي عندما اخرج الفلسطينيون من ارضهم لم يكن المشردون يواجهون اسئلة كهذه، لان الوطن او ما تبقى منه كان حاضرا بكل ذكرياته ومكوناته في الحياة والذاكرة. وبعد 65 من التشرد والتوزع والإدمان على الرحيل من منفى الى منفى تبدو الاسئلة الان اكثر تعقيدا ومثيرة للجدل. فقد اصبح النفي والتشرد قدر الفلسطيني، فكلما اصلح بيتا دمر ليبدأ من جديد عملية البناء في نفس المكان او في مكان اخر على هذه البسيطة. وإذا كانت صورة فلسطين التي حملها الاجداد معهم قد اختصرت الان بمفتاح وكوشان- صك ملكية، وذكريات عن الازهار النضرة والرياض اليانعة فكيف ينظر الفلسطيني اليها الان وبعد 65 عاما من الهجرة وما هي طبيعة العلاقة العاطفية والروحية التي تربطه بها؟ السؤال الان هل اصبحت «العودة» - الحلم المقدس، مستحيلة الى الوطن الذي كان وفي ظل ما يجري على الأرض ام ان الحلم قابل للتحقق. لا شك اننا وبفعل المنفى والتجربة امام هويات متشظية كلها تجمع على هويتها وانتمائها لفلسطين، فالفروق الجغرافية التي فرضت نفسها على تجربة الفلسطينيين في المنفى لم تلغ فكرة فلسطين «التاريخية» كحلم او فكرة ووطن جامع لهم ولم تلغ فكرة الظلم التاريخي الذي مارسته الدول الكبرى على الشعب الفلسطيني بمنح بلده لشعب أخر وتبدو بهذه المثابة فكرة فلسطين واحدة حيث تعود في ايام العودة ومناسبات احياء النكبة «فلسطين التاريخية» الى الواجهة، صور المفاتيح وزيارات للقرى المدمرة، والحديث عن الحياة قبل عام 1948 وكأنها لم تتغير،كل هذا على الرغم مما حصل من عمليات تشريد واقتلاع وتدمير وتهويد وبناء مستوطنات كل واحدة تفرخ أخرى وسياسات قمع تهدف لإجبار من تبقى من الفلسطينيين على الرحيل لتأكيد انتصار رؤية واحدة على هذه الارض التي يدعي الطرف الاخر على انها ملكه وتمت اليه وحده. وفي هذا السياق التاريخي والتمدد الزمني فسؤال المثقف الفلسطيني لماضيه وبحثه عن «فلسطين وكيف يتخيل المنفى والتجربة، وكيف يعيد بناء ذاكرته الاولى يقدم تنوعات ثرية عن معنى الهوية. فهل فلسطين اليوم هي السلطة الوطنية، ام انها ذاكرة المخيم، أم هي الفصام النكد بين غزة والضفة أم هي تنوعات الفلسطيني في المنفى، سوري ولبناني وأردني ومصري ومقيم في الغرب وقد يبدو السؤال غريبا عندما يطرح، لماذا يطالب الفلسطيني بالتفكير في فلسطينيته ويعيد تعريفها من جديد، اليس من حق كل شخص ولد على ارض الادعاء انها ملكه وانه ينتمي إليها ام ان فلسطين حالة خاصة. ومن هنا أليس الوطن هو ما يحمله الطفل من ذكريات وما يتشكل من حكايات الاب والأم عنه من صور وقصص بطولية وملاحم. فالذاكرة في النهاية هي التي تجمع وتحدد انتماء الفلسطيني لأرضه ايا كان مكانه في بقعة بعيدة في استراليا، في باريس ولندن، بيروت او الخليج، رام الله ونابلس أم غزة. ففكرة فلسطين هي في النهاية مجموع هذه الذاكرة الجمعية بما فيها من الم وحزن وفرح ومسرة، وبما فيها من فقد وهزيمة وانتصار، وبما تحمله من اقتلاع وصمود. وهنا ففكرة فلسطين بما هي مجموع ومتخيل وما يتذكره الراحلون في الارض والباقون عليها اقوى تعبيرا عما آلت اليه فلسطين التاريخية التي انحصرت الان في مشروع اوسلو الذي يحكم ولا يحكم على فسيفساء تقتلها كتل ومستوطنات تكبر يوميا وتلاحق حلمه في اقامة الدولة، واكتفى هذا المشروع بان يعمد فلسطين، كدولة في احتفال اممي لكن الدولة هذه بدون حدود أو سيادة إلا سيادة الذاكرة، وكأن مهندسي اوسلو وجدوا في الذاكرة ملجأ لتحقيق الحلم الذي لم يتسن لهم تحقيقه في الواقع.
تنوع وتمثلات
تحمل تجربة الفلسطينيين في علاقتها مع فكرة فلسطين تنوعا، كما ان تمثلات الهوية والحمولات الثقافية حولها تتعدد. فالشعراء والأدباء الفلسطينيون لم يتوقفوا عن لعبة التخيل وبناء الهوية، سواء لتعزيز المقاومة او لتعزيز هوية الفلسطيني الانسان والمواطن في هذا الوطن العالم او هوية الفلسطيني ضد الاخر الذي يحاول وحاول بكل ما اوتي من جدل محوه ولكن هذا الشبح الفلسطيني ظل يلاحقه. ومن الصعب الحديث هنا عن الطريقة التي تمثل فيها المثقف الفلسطيني فكرة الوطن والمنفى بالضرورة، ولعل ادوارد سعيد ومحمود درويش يظلان من اكثر من حاولوا فهم فكرة المنفى او السفر في حياة الفلسطيني، ومن اكثر من فككوا نقديا وشعريا تمثلات الهوية وأبعادها خاصة في علاقتها مع الأخر ففي شعر درويش كانت المحاورة تتخذ احيانا بعد التحدي، وفي اخرى التمثل التاريخي، والجدل على من يملك او لا يملك، ومرات كثيرة المحاورة الانسانية. وفي هذا السياق فتمثلات الفلسطيني لفكرة وطنه دائما ما تعود الى النقطة التي انكسر فيها الحلم وتحطم فيها كيان المجتمع، حيث تهشمت الصورة، وعليه اصبحت مهمة الكاتب او المثقف الفلسطيني اعادة تركيب الصورة والاحتفاظ بها كما كانت. وبهذه الطريقة تحولت فلسطين الى سلسلة من الصور، اللوحات، الكتب عن القرى المدمرة، أشعار اعادة احياء الطبخ والحياة الريفية. ومع ذلك ففكرة الفلسطيني عن الارض المقدسة في رعويتها ورومانسيتها تماهت في مراحل النفي بتجارب الفلسطيني المتعددة، حيث ادى به المنفى لطرح اسئلة عن علاقته بفكرة فلسطين، التي لم يعرفها، ولم يولد بها.
كتابات فلسطينية
هذه الهموم عن الهوية والأسئلة الحرجة او المعقدة تحاول عدة اصوات فلسطينية طرحها، ويقدمها كتاب «البحث عن فلسطين: كتابات فلسطينية جديدة عن المنفى والوطن» وقامت بتحريرها بيني جونسون ورجا شحادة، حيث تساءل فيها عدد من الكتاب عن معنى علاقتهم بفكرة فلسطين وما تمثله لهم. ويظهر الكتاب ان فكرة الهوية لدى هؤلاء الكتاب في الشتات والوطن غالبا ما تتلون بالتجربة، سواء في رحلة مريد البرغوثي مع السائق محمود الذي صمم على ايصال ركاب سيارته الصفراء الى الجسر، متحايلا على الحواجز مستخدما طرقا ترابية وصخرية حتى اوصلهم الى الجسر قبل إغلاقه وفي هذه الرحلة يتخذ البرغوثي دور الشاعر الذي استمع ولم يرد التأثير على الجو بتعليقاته تاركا رفاقه في السيارة للتعليق على مسارات الرحلة، ومن خلال هذه الرحلة القصيرة – الطويلة يقرأ البرغوثي رحلة الفلسطيني ومعاناته اليومية، ويعكس الكاتب هذه الرحلة على رحلته هو في المنفى العربي والأجنبي. وفي بعد اخر تظهر الرحلة هذه داخل الوطن الاصرار- من جانب السائق والمخاوف من جانب الركاب، اي امكانية الفشل في الوصول للجسر في الموعد المحدد، العودة مما يعني خسارة مادية ومعنوية من خلال عدم وصول الراكب الى عمان في الموعد والطيران لمتابعة مصالحه،اي الدراسة. وهنا وفي البعد الوجودي يبدو الجسر قدر الفلسطيني وساعته الزمنية التي يتحكم بعقاربها الاسرائيلي. وتعكس الرحلة الظرف الفلسطيني بشكل عام، والحياة غير العادية التي على الفلسطيني مواجهتها كل يوم بالإصرار والبحث عن اشكال ابداعية لتحدي المحتل. وهذا يقودنا الى عدنية شلبي التي قدمت ثلاث اقاصيص عن الوطن والمخيم، مخيم جنين الذي ذهبت اليه ليس كلاجئة ولكن في سيارة دبلوماسية لإلقاء وقراءة بعض نصوصها، وتواجه في هذه الرحلة اطفالا يريدون حضور المناسبة في الوقت الذي يصر فيه منظمو الحفل على منعهم لأسباب تتعلق بعمرهم وطبيعة المناسبة، لكن عدنية تعدهم بأنها ستحضر مرة اخرى من اجلهم كي تقرأ لهم خصيصا، يهز الاطفال رؤوسهم غير واثقين بما تقول لأنهم وآباءهم وأجدادهم تلقوا الوعد بعد الوعد ولم ينفذ. وتقدم شبلي مقاربة بين قصة سميرة عزام «الساعة والإنسان» وساعتها، حيث تكشف قصة الكاتبة الفلسطينية المعروفة عن حياة انسان كان يحضر نفسه ليوم عمله الاول ولهذا يقوم بضبط الساعة حتى يصحو مبكرا، لكن طارقا يطرق بابه قبل الموعد ويصحو حيث يتكرر الامر معه ومع آخرين ليكتشف سر الطارق وهو رجل فقد ابنه لأنه «تعلق» بباب قطار بعد ان تأخر عن عمله، ولكي لا يحصل ما حصل لابنه يقوم الاب بإيقاظ كل عمال الشركة يوميا، والقصة ليست في الساعة والرجل ولكن بما تكشفه عن حياة عادية كانت لفلسطين والفلسطينيين. وتقارن الكاتبة هنا بين ساعتها وساعة سميرة عزام حيث تقول ان الوقت بالنسبة للفلسطيني يتوقف يوميا، وعقارب ساعته تتجمد امام نقاط التفتيش، وفي المطارات، خاصة عندما يتم فحصها في الاكس ري. فساعة الكاتبة خارج فلسطين من النادر ان تتوقف او تخذل صاحبتها، لانها هي من يملك الوقت ويتحكم به خلافا لفلسطين المحتلة حيث الانسان الفلسطيني تحت رحمة المحتل مالك الوقت.
المنفى سلسلة من الصور
في الساعة وأمام المفتشين وأثناء التحقيق يجد الفلسطيني مساحة كي يسائل نفسه وهويته ويبحث عن تاريخه، فرنا بركات، الباحثة والمؤرخة تتخذ من التاريخ ملجأ لقراءات تاريخ شعبها في الملجأ الذي تعيش فيه مع عائلتها في شيكاغو، حيث تعيدها لحظة منعها من دخول فلسطين في 7 اذار (مارس) 2010 الى درويش وادوارد سعيد لقراءة معنى المنفى، فسعيد في تعليقه على صور جين مور «حتى السماء الاخيرة» يقول ان المنفى هو «سلسلة من الصور بلا اسم ولا سياق» ، وهي في قراءتها لمعنى المنفى الفلسطيني تقول انها ولدت في المنفى بدون ان تطلبه او تسعى اليه، لانها وجيلها هم نتاج النكبة. وتتحدث بركات في بحثها عن فلسطين عن هويتها التي كانت محل تساؤل من رجال الامن الاسرائيليين الذين قالوا لها انا محرومة من دخول فلسطين، فقط لكونها فلسطينية. وتقول ان لحظة حرمانها من دخول وطنها، جعلتها تعود وتبحث عن الوطن. وتحاول في مقاربتها لمعنى المنفى فهم معنى ان تكون منفيا في بلد اخر ومنفيا في داخلك. وتقول انها عثرت في اثناء تدريسها للادب والفن الفلسطيني على المنفى في الوطن والوطن في المنفى. وتكتب في النهاية عن علاقة المنفى بالانتظار. وفي الوقت نفسه البحث عن فلسطين التي هي اكثر من واحدة والتي لا هي اسطورة ولا حلم. بركات في شهادتها تكشف مثل بقية المشاركين عن معنى ان تكون فلسطينيا ومنفيا في الخارج وتحاول موضعة تجريتها من خلال تجربة الاخرين من كتاب فلسطين، وتقول انها من اجل احياء فلسطين التي كانت، كانت تضيع وقتا ثمينا وهي تقرأ اعلانات تجارية في صحف فلسطين الانتدابية، لان هذه الاعلانات والصور كانت تؤشر الى حياة، فأين ذهبت وماذا حدث لصناعها. وتقول ان الرحلة الى فلسطين، ظلت تعني الحرمان من الدخول ومن الهوية، ومع ذلك فانها اصرت على الدخول الى فلسطين ولكن عبر الجسر- اللنبي حيث ظلت 9 ساعات تنتظر الدخول وبعد سلسلة من المضايقات والأسئلة الكثيرة دخلت الوطن. اذا كان هذا حال بركات فالشاعر شريف الموسى، الشاعر والأكاديمي المقيم في أمريكا يقدم تنويعة مختلفة على معنى الوطن والهوية، حيث يعود مع ولديه وزوجته الامريكية الى مخيم النعيمة في اريحا، ومن خلال فكرة العودة يستعيد الموسى رحلته في الكتابة والمنفى في أمريكا منذ عام 1971 فهو كشاعر يقول ان الشعر هو نوع من المنفى فكيف بالفلسطيني الذي يغادر الوطن واللغة، وهو أن «أفرغ فلسطينيته في اللغة الانكليزية» كما فعل كفافي «أفرغ روحك المصرية في الاغريقية» عزز كما يقول علاقته بالثقافة الامريكية وأكد في الوقت نفسه على حس المنفى. والموسى في حالته التي يتمسك بها بالحلم ويعرف تفاصيل ما مضى وحكايات بلدته المدمرة في العباسية، يعرف كل الامكنة التي زارها من زاوية المخيم، فهذا المكان الذي بنته الامم المتحدة، ببيوته المصطفة وعيادته ومدرسته والحياة فيه هو مرآة لحياته في نيويورك. فالفلسطيني القادم من المخيم من الصعب ان يتخلى عن ذكرياته الاولى، ولكن تجربة الموسى الكوزموبوليتية تنعكس على رحلة العودة للموسى الى المخيم مع عائلته حيث يعيد تركيب الماضي ويحاول ان لا يكون غرييا عن المكان الذي غادره منذ 1971، وما يهم في التجربة انه ورث التجربة لولديه. في مقالته «الغياب المتحرك» يوقع الموسى على فكرة الرحيل وما يراه حقيبة من التناقضات من الاب الى الشاعر والأستاذ والسياسي الناشط وما الى ذلك. وكل واحد من هذه حمل نوعا من المصيدة التي كاد ان يقع فيها بحسن نية او بقصد، فهو مهاجر الى الغرب طوعا، وكان بامكانه بعد تخرجه من جامعة القاهرة التوجه نحو الخليج، والعمل كمهندس لكنه قرر السفر الى أمريكا، ومن هنا فحبه لأمريكا وثقافتها وعائلته فيها التي تمثل امتدادا لعائلته الفلسطينية لم تدفعه كي يكون اسير حب فج وولاء مخادع، فهو لم يكن مستعدا لان يكون «الاخر» فالوطن كما يقول «كان فلسطين» وهذا الوطن ظل مشروطا بالإخبار والتقارير والحروب التي خسرها الفلسطينيون. تمنح مقاربة الموسى صورة عن لاجئ فلسطيني شكلته تجربة الرحلة في العالم ولهذا فلديه مشكلة في التعريف بنفسه وتقديم رؤيته عن الوطن والولاء، فهو يجد احيانا نوعا من التآلف مع تجارب الهنود الحمر الذين رموا في «المحتشدات» . الوطن هو محل الولادة وهو محل الموت، ومن هنا يرى الموسى ان معضلة الفلسطيني هي مكان دفنه، ويشير الى ما قالته الشاعر الهنغارية «الوطن هو المكان الذي يقرأ فيه الناس اسمك على شاهدة قبرك بشكل صحيح» ، ومن هنا فمن جاء الى فلسطين من الخارج لن يقرأ الاسم بشكل صحيح وكذا من يعيش في أمريكا. وفي هذا السياق يشير الى ما يقوم به فلسطينيون من طقوس للتأكيد على استمرار الانتماء للوطن بالوفاة، اما بالزيارة او العودة والموت فيه.
كنت سارقة
تجربة المنفى في الداخل والخارج هي ما يعلم هذه الأصوات فسوسن ابو الحلاوة التي تبدأ مقاربتها بالقول «كنت سارقة» تتحدث عن رحلة بين الحدود والعائلات والأوطان، بين القدس والكويت وعمان وأمريكا. وتصف تجربتها بأنها كانت تجربة «غير فلسطينية» ومن خلالها اكتشفت معنى ان تكون فلسطينيا « مشردا ومحروما ومنفيا وفي النهاية معنى المقاومة.. فأن تكون وحيدا، بدون اوراق او عائلة او عشيرة، ارض او بلد يعني ان تعيش تحت رحمة الاخرين» اي ان تكون مدعاة للشفقة او الاستغلال او الانتهاك. وتختم بالقول ان قصصها هي جزء من انتفاضاتها وكل الشخصيات التي قابلتها وارتبطت بها هي جزء من حكايتها، والقارئ لما تكتبه في النهاية هو جزء من انتصارها. سعاد العامري من جهة اخرى تقرأ عبر تجربتها كفلسطينية تحمل جوازا يظل مصدرا للتوقف والمشاكل والأسئلة المحرجة وامرأة لم تنجب اطفالا حكاية ومعنى ان تكون فلسطينيا، فبطريقتها الساخرة تكتب عن «الهوس′ بشعرية نثرية وتحاول ان تربط بين الفضولية والمصير في سؤال «من اين جئت؟» وهو سؤال عادي جوابه سهل لأي انسان له وطن، لكن بالنسبة للفلسطيني عليه ان يفكر طويلا قبل أن يجيب، لان الجواب يعتمد على السائل، عربي، أجنبي، محقق، أو مسؤول في الجوازات وكل موقف من هذه المواقف يقتضي اجابة خاصة وهو ما تقدمه العامري. فالمغادرة بالنسبة للفلسطيني تماما مثل القدوم ليست سهلة لأي فلسطيني، وكيف الان وقد اصبح لهذا الفلسطيني «جواز سفر لا يعرفه الكثيرون، وترفض الاعتراف به حتى قلب «العروبة النابض» قبل ان تنفجر فيها الانتفاضة ـ سورية ـ وتقول «أعي بألم اننا أمة فإتها القطار خلال الثلاثة والستين عاما، ومنذ أن اوجدوا أرضا بدون شعب لشعب بدون أرض فإنني كحاملة لوثيقة السفر العجيبة، أشعر ان موعد اقلاع طائرات سيفوتنا اكثر من مرة» .
ريما حمامي تقدم رحلة فلسطينية ويوميات من الشيخ جراح اثناء الانتفاضة الاولى مرورا باوسلو والانتفاضة الثانية والهجمة الاستيطانية الأخيرة وتقدم القصة عبر مجموعة من الشخصيات والأهالي والجيران والمعركة ضد النفي. رجا شحادة أيضا يقدم ذكرياته عن المقاطعة التي «بنايات تاغارت» والتي دخلها كمحام للدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين وتحولت الى مقر للسلطة الوطنية، والبناية جزء من المقرات الادارية التي بنتها ادارة الانتداب البريطاني في فلسطين وورثها الحكم الاردني ومن ثم إسرائيل، حيث كان يحلم يوما بان تدمر باعتبارها رمزا للطغيان، ثم جاءت السلطة واتخذت مقرها فيها على ما تبقى منها. ومن الشهادات شهادة ليلى ابو لغد عن والدها الاكاديمي ابراهيم ابو لغد ورحلته السياسية والثقافية وعودته الى فلسطين، وفيها تقدم المؤثرات والدوافع التي أسهمت في بناء ارثه الثقافي والفكري، والشهادة مؤثرة اكد فيها ابو لغد ان الحلم لم يتغير ولكن ما بقي هو "الكابوس" والباب نصف المفتوح للمقاومة والثورة. كل هذه اضافة لشهادة جين مقدسي سعيد وفادي جودة وميشا ميللر وكرمة نابلسي وبشارة دوماني وأغنيته عن حيفا، تقدم صورة عن رؤية المثقف الفلسطيني لهويته ولفلسطينه الثورية والحلم والأمل.
Seeking Palestine: New Palestinian Writing on Exile and Home Edited by: Penny Johnson and Raja Shehadeh Olive Branch Press- 2013.
ناقد من أسرة «القدس العربي»