يقدم الناقد والباحث الأكاديمي المرموق كتابا نقديا صدر لباحث مغربي يمثل أحد الوجوه الجديدة اليوم في الخطاب النقدي المغربي. وقد راكم بكتبه وأبحاثه المتمرسة قدرا مهما مكنه من الانخراط في معمعان إشكالات تأويلية النصوص وقراءة التأويل، هنا تقديم لأحدث كتبه والتي تصيغ من خلال إشكالاته ومنظوراته أهم الاستراتيجيات الممكنة لتأويل النص.

المعنى بين التشبّع والتشعّب: إشكاليات ومنظورات

قراءة في كتاب "استراتيجية التأويل من النصية إلى التفكيكية" لـ د. محمد بوعزة

محمد شوقي الزين

إنّ هذا الكتاب (استراتيجية التأويل من النصية إلى التفكيكية1)، هو مغامرة تأويلية في قراءة التأويل، يعرض فيه الدكتور بوعزة الأدوات اللغوية في مقاربة المعنى عند المدارس الألسنية الأولى (البنيوية منها) ثم إشكالية المعنى بين التناهي (أمبرتو إيكو) واللاتناهي (جاك دريدا).

لقد كانت هذه الإشكالية لدى المدارس الألسنية الأولى صورية محضة واعتباطية تنمّ عن علاقة اللغة بذاتها في مرآة وجودها كنسق من العلامات بينها علاقات جوّانية بمعزل عن عالم خارجي تحيل إليه أو علاقات برّانية تتمفصل بها. لكن هل يختفي العالم الخارجي داخل هذه الإعتباطية الألسنية؟ يجيب الكاتب بالنفي، لأنّه تمّ تحويل العالم نفسه إلى علامات صورية داخل لعبة لغوية.

وهذه الفكرة ليست جديدة وكان قد ضلع فيها الفكر السكولائي الذي كان يعتبر العالم ككتاب

مفتوح نقرأ فيه عجائب الحكمة السامية. ما قامت به البنيوية في عزّ تطوّرها، خصوصاً مع سوسور، هو نقل هذا التصوّر من منغلقه الميتافيزيقي إلى منفتحه العلمي. لم تعد المرجعية خارجية، في أشياء العالم وتعيّناته، لكن أصبحت مرجعية داخلية في العلاقات الصورية والمتينة بين العلامات. ولقد طال هذا التصوّر أيضاً الأشكال الأدبية والأنساق الثقافية (شلوفسكي، بارث) التي اتّخذت هي الأخرى صيغة لغوية بحتة، بوصفها منظومات رمزية أو دلالية.

لا شكّ أنّ هذا التصوّر البنيوي، الذي يضع العالم بين قوسين، قد برهن على حدوده وكان بورس في السيميوطيقا، وفريجه في المقاربة المنطقية قد بيّنا الأهمية الإبستمولوجية في ربط العلامات بالعالم أو بمحتوى خارجي لتتّخذ اللغة بذلك كامل دلالتها. وسيتأكّد ذلك مع أرباب اللغة العادية عند أوستن وستراوسن وفتغنشتاين الذين شدّدوا على التشكيل المنطقي للعالم أو الفحص التداولي للحياة اليومية. بتعبير آخر، لا يمكن اختزال العالم إلى مجرّد لعبة لغوية، بل له وزن أنطولوجي واجتماعي في تشكيل اللغة ذاتها وإضفاء المعقولية والواقعية عليها. كذلك تمّ الانتقال باللغة من هوس الانسجام والتلاحم بين العلامات إلى الوعي بالاختلافات والفروقات، وكان هذا شأن ما بعد البنيوية حيث كان همّها التعدّد وليس التطابق، وعملت على ربط اللغة بسياقها، وليس فقط بنسقها المغلق، وتبحث في الدلالية عوض الدلالة، وتهتم بالتناص كدينامية مفتوحة و»لادونية«، وليس فقط النص بانفراده الدلالي وفرديته المنعزلة.

إنّ المغامرة التي آثر الدكتور بوعزة القيام بها والمباحث التي وقف عندها تخصّ التشكيل اللغوي والتاريخي والاجتماعي للنص، بمعالجة بنيته ووظيفته وعلاقته بمحيطه النصي والواقعي، في العناوين الفكرية التي اهتمت بتاريخيته وفلسفته، ومن بينها التأويل والتفكيك. ويطرح ابتداءً من المقدمة الأسئلة الفلسفية والنقدية الكبرى حول تعددية المعنى بتعددية القراءات وسياقات القراءة ذاتها، وإشكالية التأويل كقراءة تصطدم بمعضلة الوقوف عند حدّ تعتبره المعنى الحقيقي وتؤسس على قاعدته الأبنية والتشكيلات والدلالات، أو لا حدّ له وينتقل من قراءة إلى أخرى في سفر لغوي ومعرفي لا ينضب. كثيرة هي المدارس التي عكفت على سبر أغوار الدلالة، ومقاربتها من زوايا مختلفة وأحيانا متناقضة، ومن منطلقات متعددة حسب التوجّه التقني والنقدي: ألسني، بنيوي، ثقافي، سيميولوجي، رمزي، تفكيكي، تداولي، إلخ. الملفت للانتباه أنّ هذه التوجّهات أو المقاربات لم تكن تشتغل بشكل »ذرّي« أو منعزل، بل كانت بينها علاقات أو امتدادات تمنح للدلالة ليس فقط معقوليتها ولكن أيضا نمط إنتاجها وتمفصلها بالكائنات اللغوية الأخرى. يتعلّق الأمر بالعلاقة الجدلية، »اللادونية« بتعبيرنا، بين القارئ والنص، حيث لا يمكن الوقوف على إنتاجية النص سوى بوجود قارئ يمنحه الوجود، ويضفي على شيئيته النصية (بتعبير بول ريكور) الدلالات التي ترتبط بالسياقات والإرادات؛ كذلك لا يمكن الوقوف على استراتيجيات القارئ سوى بوجود نص يناديه، يحفّزه، يؤشكله، هو له بمثابة المرآة يرى عبره شرطه البشري ووضعه الوجودي.

كذلك يقف الكاتب عند بنية النص ليس فقط كظاهرة لغوية (كلمات، علامات، دلالات ) ولكن أيضا كمعطى أنطولوجي، كشيء يتّصل بالعالم، يعبّر عنه، يؤثّر فيه، يتأثّر به، يشتغل في ثناياه، ولا يعكسه فقط. كذلك يتّخذ النص معناه من الإستراتيجيات التأويلية والديناميات في القراءة التي تشكّل ما يسميه فانسون ديكومب »مؤسسات المعنى «، كإرادات فردية أو جماعية، تأسيسية أو رمزية في إنتاج الدلالات وتركيب المقولات وترتيب المنظومات. مثلا أمام نص واحد، تراثي أو معاصر، ثمة قراءات في شكل تفسيرات إذا قصدنا بها الوقوف على العلامات والروابط بينها، أو تأويلات إذا عنينا بها المقاصد والغايات في الإقرار بالمعنى والمعرفة والحقيقة، فإنّ هذه القراءات لا تستهدف فقط النص كمادّة لغوية وثقافية تشتغل عليها بالأدوات المتاحة، ولكن تكشف أيضا عن قيمتها كمؤسسات في إنتاج المعنى وتداول الدلالة، بقدر ما تحجب تأسيساتها بوصفها إرادات وعلاقات في القوّة. فهي تزاوج بين »الإقتصاد النصي« و»النزوع الإرادي«، أو بين التشكيل المعرفي والتأسيس السلطوي.

يتبدّى هذا الأمر في المعضلة التي طرحها الدكتور بوعزة بشأن الإستراتيجية التأويلية التي تتأرجح بين الإقرار بنهاية ينبغي الوقوف عندها والبناء عليها والتي تتّخذ الطابع الموضوعي، لكنها لا تخلو من مزاعم القبض على المعنى، وبين التسليم بلانهائية التأويل والتي تتّخذ الطابع الذاتي، لكنها لا تنفكّ عن قيم الإنتاج والإبداع. في القراءة اللانهائية نصطدم بالسياقات المركّبة والإرادات المتداخلة والمتفاوتة والدلالات المبعثرة، فلا يمكن إذن الوقوف عند حدّ نعلن فيه »هكذا نقرأ النص«. ففي ذلك مقتله بالذات بحكم أنّ النص يتلوّن بالتلوينات الوجودية والسياقية، ولابدّ أن تكون قراءته »حرباوية« ترى في أنسجته (واشتقاقاً النص هو »نسيج« بتعبير رولان بارث) ألوان القراءات التي لا تنفد، ألوان متسارعة أو »كاليدوسكوبية« (إذا استعرنا مفردة سينمائية) لا تقف عند حدّ، بل تتحوّل إلى مواقف أي انطلاقات جديدة واندفاعات متجدّدة. وتكمن المشكلة في اللانهائية الدلالية في كون العلاقة بين النص والقارئ هي رباعية وليست ثنائية، وتشكّل ما يسمّيه ميرلوبونتي في الفينومينولوجيا بالتقاطع أو »الكياسم« (chiasme). تكمن هذه العلاقة الرباعية بعلاقة النص بذاته وبسياقه (الكاتب ومحيطه الاجتماعي أو السياسي)، وبعلاقة القارئ بذاته وبظروفه (القارئ ووزن الراهن). فمن هذه العلاقة الرباعية ينشأ تقاطع بين النص وسياق القارئ ثم بين القارئ وسياق النص. هل يكتفي النص بالحديث عن عالمه وتاريخه وواقعه أم ما يقوله يمكن أن يتعدّد حسب السياقات التاريخية مثلما تتعدّد الشمس الواحدة في شظايا المرآة المنكسرة؟ هل ما يقرؤه المؤوّل في النص هو فقط قراءة سياقية، داخلية، بنيوية تخص فقط النظام اللغوي والتاريخي للنص المقروء أم يرى المؤوّل في النص قضايا عصره وإرهاصات واقعه وتداعيات أحداثه ووقائعه؟

هذه العلاقة المركّبة والتقاطعية هي التي تسوّغ لانهائية التأويلات، لأنّها علاقة »لادونية«، كياسمية، متداخلة، متشابكة، تجعل من النص في كل مرّة »معاصرًا« للقراءات حتى وإن كان قديماً أو تراثياً، وتجعل من القراءات متعدّدة المشارب والمذاهب تقرأ فيه ماضيها ومستقبلها حتى وإن كانت راهنية وترتبط بلحظتها. فالسؤال الذي يطرحه التأويل هو: ما مغزى هذا النص بالنسبة لسياقي؟ لا شكّ أن هذا هو حصر للتأويل في سياق معيّن ولا يشكّل لانهائية. لكن السؤال الذي يطرحه التأويل (أ) هو السؤال نفسه الذي يطرحه التأويل (ب) و(ج) و(د)، إلخ. حتى وإن كانت هناك قوانين في التأويل، فهي بلا شكّ قوانين تأويلية، ولها شروط إبستمولوجية وتاريخية، فلا يمكن اعتبارها المعيار النهائي والحاسم. فهي تشكلّ »واحداً« من المعايير الممكنة وليس حتماً المعيار »الوحيد«، وبين الواحد والوحيد هناك اختلاف طفيف لكنه هامّ لأنّه يفرّق بين أن يكون هناك معياراً بين المعايير الممكنة، وأن يكون المعيار الوحيد الذي لا نقاش فيه. ثمّ ما معنى قانون التأويل؟ هل يتعلّق الأمر بالترجيح؟ وهل ينبني هذا الترجيح على الاحتمال أم اليقين؟ هل هو قناعة فردية أم يجب عرض هذه القناعة على امتحان جماعي لوزن مصداقيتها بميزان الحكم والتقدير؟

يمكن الخروج من هذه التساؤلات بأنّ لانهائية التأويل لا تعني بالضرورة فوضويته أو امتداده نحو التفاصيل المؤرقة، والغارقة في العبثية أو العدمية (النهلستية). كما عبّر باسكال، يقع اللانهائي في حدود النهائي ذاته في شكل إمكانات تتفتّق، أو آفاق تتّسع وتضيق، بين البسط والقبض، في ذهاب وإياب، بشكل إستراتيجي ثم تكتيكي، في كرّ ثم فرّ، بين الانطواء والانفتاح، حسب راهن التأويلات ورهان الإرادات. خلافاً للاسترسال اللانهائي، يسلّم إيكو بضرورة وجود معايير في التأويل تضبط نظام اشتغاله، وحسب نظره لا تنفي هذه المعايير تعدديته حتى وإن جعلت حدّاً لطابعه اللانهائي، بل تقوم بغربلة التأويلات، والتمييز فيها بين القراءة الدلالية التي تكتفي بالإسقاط، والقراءة السيميوزية التي تضع النص في سياقه الخطابي والاقتصادي، والتمييز بين التأويل الخاضع لمعايير موضوعية، والاستعمال الخاضع لاعتبارات ذاتية أو نفعية أو ذرائعية لا تفي بحقوق النص، بقدر ما تسوّغ الاستخدام الآني والعابر لغايات إيديولوجية أو مصلحية.

لا شكّ أن حصافة إيكو في غربلة التأويلات والتمييز فيها بين النافع والنفعي من شأنها أن تجد توازناً بين النص والقارئ حتى لا يطغى أحدهما على الآخر، فلا يهيمن النص بحرفيته ورمزيته، ولا يطغى القارئ بذرائعيته واستحواذه على قيم النص ودلالاته. لكن الحلّ الذي يقترحه إيكو هو جميل على الصعيد النظري، لكن عزيز المنال على المستوى العملي، إذ لا يخلو نص من استخدام ذرائعي في العلم والثقافة والسياسة. حتى الدراسات التصنيفية التي تكتفي بعرض المعارف فإنّها تفعل ذلك على نحو يحجب طريقة تصنيفها والمقاصد الكامنة والتي يمكن الكشف عنها باللجوء إلى سياق التصنيف، وزمن العرض، وحاضر البحث. فهي، بشكل أو بآخر، تستخدم النص لغاية نفعية. ولا ضير في ذلك ما دام كل تأويل هو البحث عن الذات في مرآة الآخر حتى وإن تقيّد بالمعايير والأحكام والأعراف. كل تأويل هو من الذات لأجل الذات عبر وسيط الآخر. فالنص (texte) هو ذريعة (prétexte) قبل أن يكون وديعة يؤتمن على حقوقها. لكن ربما الخطأ الذي وقع فيه إيكو هو اعتبار التأويل المضبوط بمقاييس كهندسة منسجمة ومتكاملة، والتأويل اللانهائي كعتمة دلالية ومتاهة نظرية. ينطلق هذا التمييز المانوي بين الملتزم والمتمرّد من الأرضية نفسها التي تقصي من حاضرة الصرامة والكفاءة نحو حظيرة الفوضى والبلبلة كل قراءة واعية، ذكية، عابرة. فالتأويل، كما أقرّ بذلك غادامير، ليس مسألة منهج ولكن مسألة يقظة، هو قضية حصافة والقدرة الذهنية والفنية والأخلاقية على اللعب بأوتار النص دون أن يكون في ذلك إهدار لحقه أو تمييع لعقلانيته. فلا أظن أنّ التأويل التفكيكي هو مجرّد هرمسة وسفسطة وأسطرة. إنّه قبل كل شيء مهارة وحذاقة، كياسة وفطنة، حتى وإن لم يتّبع المعايير بالمعنى الذي أراده إيكو. وما معنى المعيار إذا كان في نهاية المطاف سلطة بل سطوة؟ التأويل كما يحمل ذلك في أسّه ولفظه هو البحث عن المبادئ والغايات، البدايات والنهايات، أوائل الأمور وخواتمها، أي الأسس أو التأسيسات واستعمالاتها النظرية والعملية. فهو مدعوّ لأن يحتال في صنعته دون أن يختال في علاقته أو يختلّ في أدائه.

إنّ هذا الكتاب للدكتور بوعزة إضافة نوعية للمكتبة العربية، دوّنه بلغة مفهومة ومنهجية، بالعرض والتبسيط، بالمساءلة والتساؤل، بالفطنة والأمانة. يشتمل على أفكار ومذاهب لا تزال تغذّي حاضرنا بالسجالات ومستقبلنا بالخيارات. مهما كانت النظريات متضاربة أو التوجّهات متعارضة، فإنّ هذه الحركة الفكرية والفلسفية تجعل من واقعنا في انتباه لما يعتمل في التجربة الإنسانية من دلالات ونظرات واستعمالات. أفلح الكاتب في الزجّ بنا إلى عوالم متعارضة ولكن مراياها متقابلة، تعكس حيوية الفكر المعاصر وتركيبته المعقّدة، وفعل ذلك بلياقة لغوية وفكرية جميلة وجليلة.

 

فرنسا

 

محمد بوعزة: استراتيجية التأويل من النصية إلى التفكيكية، منشورات الاختلاف، الجزائر، دار الأمان، الرباط،  2011 .