يصطدم القارئ{1}- قارئ القصة القصيرة- لأول وهلة بصياغة العنوان التي توحي بانتمائها إلى المسكوكات السائدة في المحكي التراثي من أمثال وحكم وأقوال مأثورة.ومن ثم يطرح السؤال التالي: ما الدافع إلى هذه العنونة لنص – نص القصة القصيرة- يمتح، عادة، من الكلام اليومي، قبل أن يمتح من المكتوب. فالقصة القصيرة ابن شرعي للمحكي المسموع، أو المتداول، قبل أن تنتسب إلى الكتابة من حيث كونها مؤسسة خاضعة للثابت قبل المتغير، وهو- المتغير-فضاء القصة القصيرة بامتياز. والسؤال قد يتحول إلى أسئلة متلاحقة عند ارتباطه بالقصة القصيرة جدا التي تراهن على اختراق (الموضوع) واختراق القارئ أيضا، بواسطة لغة (لغات) وأجناس وصيغ تطوق القارئ بالدهشة والإنفعال ورد الفعل.
والإجابة عن هذا السؤال تكمن في كون هذه النصوص لاتحاور النص التراثي، بطريقة أو بأخرى2، بل إنها، في جوهرها، نصوص مؤطرة بهاجس أخلاقي تجسد في الدفاع عن قيم محددة، سنعود إليها في وقت لاحق، تحكمت في مسار الكتابة، من جهة، ومسار التلقي من جهة ثانية.
من هنا، استندت صياغة العنوان إلى بنية لسانية تأرجحت بين الوعد والوعيد، واقتربت، من ناحية أخرى، من التحذير المبطّن بنفس تهديدي ينبه الغافل واللا مبالي، وأمامه يحدث ما يزلزل الكيان، وتقشعر له الأبدان!
في مستوى آخر، تسمح هذه الصياغة بنوع من التماهي بين السارد والمسرود له، بعد أن تحول العنوان إلى عتبة أشبه بجراب الحاكي الشعبي الي يزخر بالأسرار،محاطا بالقيل والقال، والأبصار شاخصة، بفضول، إلى أصابع الحاكي، وهي تدغدغ، حينا، الجراب المثير، أوتنقض عليه، حينا آخر، بعنف، إلى أن ينكشف المستور.وليس من الضروري أن يكون هذا الأخير حية تسعى، أو حماما زاجلا يتدافع من جوف الجراب نحو السماء، وقد يكون مجرد منديل، بألوان براقة، تتلوه مناديل أخرى لا عد لها ولا حصر، او قد يكون مجرد حبة تمر، يلقم بها الحاكي فمه المزبد، ويقدم الأخرى إلى طفل جلس القرفصاء مبهورا بما يراه من أفانين اللعب والمراوغة. قد لا يكون هذا، أو ذاك، بل إن الجراب قد يزخر بمحكيات تجاوزت الخمسين قليلا، من خلال ثيمات مركزية متحت – كما سبقت الإشارة- من سلم القيم المنتهكة كل وقت وحين.ويمكن إجمال هذه الثيمات على الشكل التالي:
1 –الحرية: وهذه الثيمة تستنبت حقلا مرجعيا انسحب على الاستبداد وغياب الديمقراطية والمقاومة وتعرية الفساد الذي ارتبط بالحاكم والمحكوم(عرس- الليلة الأخيرة- خبر عاجل) بل إن الفساد تسرب إلى الأحلام والكوابيس(عفاريت المصباح مثلا)
2 –العدل: وترتبط هذه الثيمة بوشائج عديدة بالثيمة الأولى، غير أن ورودها، بشكل مباشر أو غير مباشر، في نصوص متعددة، جعل منها ثيمة دالة، خاصة أن تحقيق العدل استرجاع لوضع طبيعي، سواء تم ذلك عن طريق السماء، أو عن طريق الأرض(مملكة السماء- انسحاق...).
3 –الانتهازية المستشرية في المسلكيات والمواقف والتواطؤات الزائفة والميولات المريضة (أخبار الدراويش..)
4- إشكالية الكتابة: وهو قاسم مشترك بين نصوص القصة القصيرة جدا المتداولة في الساحة الثقافية. ومن ثم لم تتردد الساردة/الكاتبة في طرح ما يعترض الكتابة من عثرات ذاتية، أو غيرية. واعترافها بعجزها عن تنفيذ وصية هرمان هسه(وصية.ص.52) الطامحة إلى تغيير العالم الذى أجهز على كل القيم بما فيها قيم السارد.وعوض-على حد تعبير عبد اللطيف اللعبي- أن نغير العالم غيّرنا العالم.
وإشكالية الكتابة لا تقتصر على مواجهة الصفحة/ الكفن البيضاء، بل تمتد إلى طبيعة الفضاء الاجتماعي، والثقافي، المحيط بالكاتب، وهو ينغل- الفضاء- بأنصاف الموهوبين، ومزيفي الكتابة، والنقدة الحقدة، والموتورين الذين لاهم لهم سوى إجهاض كل محاولة إبداعية تضع الأصبع على الجرح.(مولد الجريمة).
وتزداد إشكالية الكتابة تعقيدا، بل قد تتحول إلى لحظة مبكية مضحكة، في آن واحد، يمارس فيها السارد/ الكاتب دورا معكوسا لما قام به المسرحي (بيرانديلو) الذي طاردت فيه-في إحدى مسرحياته- الشخصيات المؤلف، رافضة لسلطة هذا الأخير، الذي ربطها بأدوار لم تكن مقنعة بالنسبة إليها،في حين مارس السارد/ الكاتب، فى المجموعة الحالية، مطاردة شرسة لقارئ لاهث وراء الوجبات النصّية السريعة (الفاست فود) التي تمنعه عن رؤية جماليات النص وأعماقه الدفينة.(قارئ عابر.ص.48.)
يغلب على هذه النصوص ضمير الغائب، بالقياس إلى نصوص ضمير المتكلم التي لم تتجاوز سبعة نصوص. وطغيان هذا الضمير يعود إلى رغبة السارد في تقديم (حالة نموذجية) تعكس الظاهرة الاجتماعية، أو الثقافية، في أبعادها المختلفة.وتم تمرير هذا الوضع النموذجي عبر قناة سارد لم يتردد في وضع مسافة ببن المسرود له، من جهة، والمسرود عنه من جهة ثانية. فالمسرود له يصبح هاجسا ملازما للسارد في الحل والترحال. والمسرود عنه، تتم مقاربته ، من جوانب عدة، تبعده عن القطع، أو اليقين، وتقربه من دائرة الممكن،أو المحتمل.(منتهى الألم.ص.56./الكلمة الأخيرة.ص.57).
المجموعة، إذن، رحلة بخطين متوازيين: خط الوطن بدلالاته القريبة والبعيدة. فالوطن القاسي، بقضاياه ومآسيه ووقائعه، يسمح، أيضا، بالبحث عن الإنسان الذي قد يتجاوز المساحة الجغرافية، أو الخصائص العامة للشعوب والأوطان، نحو قضايا الكائن في كينونته العميقة. من هنا حضر(بروميثيوس)(ص.20) الذي لن يتردد في حمل نار المعرفة إلى الراقدين فوق التراب، وحضرت هواجس (إدجار ألان بو) الذي لايتوقف (القط الأسود) – كناية عن منبع الشر- عن مطارته بأسلحة فتاكة من وحي العصر. وحضرأخيرا- وليس آخرا- هرمان هسه لينفخ في نار الثورة الموؤودة.
أما الخط الثاني، فيتجسد في عين لاتنام، مثلها سارد/ كاتبة أترع(ت) با لمأساة حتى النخاع. وتجاوز(ت) السرد، في هذا السياق، فضح الخلل، وتعرية المسكوت عنه، نحو ذات مكلومة لم تسلم من النظرات النارية لهذه العين التي لاتتردد في الجمع بين جلد الذات وجلد الآخر، الغضب والهدوء، النصر الهزيمة، النوستالجيا والمقاومة، التمرد والانسحاق، اليأس والأمل، الصراخ والاستبطان.
هوامش
1- 1-السعدية باحدة: ويك.. مد النظر: قصص قصيرة جدا. منشورات سليكي أخوين.طنجة.2013.
وتجدر الإشارة إلى العنوان أعلاه للمجموعة تنتهي به قصة(قارئ عابر) دون أن تضم المحموعة قصة بهذا العنوان.ص.48.ومن ثم تصبح هذه (الصياغة التهديدية) عصب المجموعة المستنهضة لهمة قارئ كسول أو متكاسل.
2- نص (زعموا أن) يكتفي بالعنوان التراثي، على سبيل الإيهام، في حين يؤسس كيانه على فضح علاقة الحاكم بالمحكوم عبر جدلية السخرية والسخرية المضادة.ص.13.