يحاور الشاعر الفلسطيني نصا شعريا فلسطينيا ينتشي ضمن ملامحه بالملح التموزي، فيتوقف ومن زاوية موضوعاتية عند أهم الدلالات التي تتحرك في النص مع استقراء لأهم أفكارها ومجازاتها، كما يربط شجون القصيدة براهنها بما يمور به من تحديات.

«في انتظار تأبط شرا» أغنية لأمل موعود

فرّاس حج محمد

كتب الشاعر حيدر محمود قصيدته "في انتظار تأبط شرا" عام 1986، كما جاء في تذيل القصيدة الموثقة في مجموعته الكاملة المنشورة في طبعتها الأولى عام 2001 والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، ويتحدث في القصيدة عن انتظار ذلك "المهدي المنتظر"- كما يصفه- هذا المهديّ الذي سيغير "وجه الصحراء" العربية بكل ما فيها من جفاف في الكرامة وما تعجّ به من أشواك الذل والهوان.

ويحيل العنوان إلى الموروث الأدبي، جاعلا من تأبط شرا ذلك الشاعر الصعلوك الجاهلي رمزا للعربي القادم الموعود الذي تتمثل فيه كل معاني الكرامة والعزة والأنفة العربية، رافضا للذل والهوان، متجاوزا الشاعر حيدر محمود الدلالة التاريخية لهذه الشخصية، ليحملها أوجاع كل عربي ومثقف يحلم وينادي بالتغيير.

يبدأ الشاعر قصيدته بتعبيره عن خوفه ليس على الأوطان التي قد ضاعت، بل على ما سيجرّ هذا الضياع من ضياع آخر لأوطان أخرى، وما سيحدث لشعوب تلك الأوطان التي سيتحول فيها الناس إلى الاهتمامات التافهة، ويصبحون مجرد باعة للعلكة والكولا والمجلات العربية للمصطافين الأجانب على شواطئنا، ويعبر عن لومه للمسئولين المعزولين عن اهتمامات شعوبهم، وللحزبيّين ومناقشاتهم غير المجدية في تحديد مصطلحات هزائمنا في فلسطين؛ من نكبة إلى نكسة أو كبوة:

"وإلى آخر ما في القاموس

العربي من الأسماء..." م. ك/ ص45

في ظل هذا الاستشراف الشعري الرائي للمستقبل تصبح الحاجة ماسة لـ "تأبط شرا" جديد لينهي كل تلك المصائب الفكرية والاقتصادية والسياسية، ولا يرغب الشاعر بطبيعة الحال أن تكون المواليد القادمة مجرد أرقام تزاد على عدد السكان ويظلون يعانون مما نعانيه من اعتماد على الغير، يريد جيلاً جديداً "يستعصي على الذبح"، يُسْقى ويطعم ويَلْبَس من خيرات أوطاننا بعيداً عن "لبن السريلانكيات، وخبز القمح الأمريكي"، جيلاً يتشرب الروح العربية الأصيلة من منابعها الأصلية من شعر تأبط شرا المفعم بالتمرد والعزة والكرامة والكبرياء:

"ونعلمهم شعر "تأبط شرا"

وننمي فيهم حسّ الصعلكةِ

المتمردة... على الأشياء

فعسى أن يتأبط ..

وَلَدٌ عربيٌّ .. ما

في بلدٍ عربيّ .. ما

في زمن عربي ما

"شرا ..."        

ويغير وجه الصحراء!!"/ ص47

وهنا تتخذ الصحراء معنى أشمل مما هي في المصطلح الجغرافي المحصور في مناخ ما أو بقعة ما، إن كل أرض لا يشعر بها الفرد العربي بالكرامة ويسيطر فيها الأجنبي المستعمر هي صحراء قاحلة، كما وأن الشر لم يبق يدل تلك الدلالة المعجمية المنفرة، بل إنها جاءت من باب التشاكل في الألفاظ، فإنهاء الشر بفعل ما يطلق عليه الشر تشاكلا، من باب "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"

ويوضح الشاعر مهام "تأبط شرا" الجديد وصفاته النفسية، فهو عنيد وحرّ وصلف ومجنون وحاقد على السفاحين وأعوانهم، وكل ما يمتّ لهم بصلة، فينهي كل تلك المهازل التي أصابتنا، وليكن "الطعنة في حلق العالم"، ومن حق هذا الموصوف في القصيدة بالمهدي المنتظر، "تأبط شراً"، أن يفعل كل ذلك استردادا لكرامةٍ إنسانية ضاعت في القتل والتشريد والذل والهوان، فقد عشنا أجيالا متتابعة ونحن في هذا المستنقع القذر، عشنا فيه قرونا طويلة، وقد سامنا فيه الغرباء أصنافا من العذاب الأليم، فاستغلوا طبيبتنا وتحدونا في عقر دارنا، علمناهم الشعر والسحر والفقه، فاستخدموها ضدنا، وعلمناهم الرمي فأصابونا في مقتل، وحولونا خرافا لا نقوى إلا على الشكوى:

"تحدانا في السحر..

فسوانا خرفاناً:

يذبحها الواحدَ، تلو الآخر،

وتحدنا في الفقه،

فلم نفقه شيئا ..

لكنّا .. واجهناه

بسيل شكاوى منه

إليه

فهل مرّ بكم مقتولٌ

يشكو قاتله .. للسكين؟!"/ ص 50-51

إن الشاعر في هذا النص يلوم الشعوب والقيادات كلها على ما أظهرته من طبية للأجنبيّ المستعمر الذي استباح كل شيء، فلا طبية بدون أن تحميها القوة، فما هي إلا ضعف واستسلام بلا شك، والعالم لا يعرف احتراما للضعفاء، فسينشب بلحمنا العاري أظفاره وأنيابه السوداء، وقد حق له ذلك، ما دامت الفريسة مستكينة خائرة مستسلمة، لا تتقن إلا النواح والشكوى، ولذلك يكون مطلب الشاعر شرعيا وسؤاله واستنكاره مبررين:

"قتلتنا طيبتُنا

فمتى نتخلص من هذا المرض

الملعون؟!

ومتى؟

"نتأبط شرا" ..

وتكون السنّ بألفِ فمِ

والعينُ .. بمرج عيون!!"/ص 52

إن الشاعر يطلب القصاص المضاعف، ألم يقولوا في الأمثال: "السن بالسن والبادئُ أظلم"، وما دام أن المعتدين قد بدؤوا بما بدؤوا به من جرائم، فالجزاء سيكون أضعافا وأضعافا.

إن وطنا لا يعرف إلا الجراح الممتدة من أقصاه إلى أقصاه، وطنا يضيع يوميا ويبتعد، لا بد من أن يلتفت الشاعر إلى تضميد تلك الجراح وعودة هذا الوطن كبقية أوطان الدنيا، ويعيش الناس فيه يستمتعون بالقمر وأحاديثه وبالربيع ونسائمه ووروده، ولذلك ترى الشاعر متوجها لهذا الوطن الكبير بالسؤال الاستعطافي الحزين:

"قل لي يا وطني:

هل يمكن يوما ما

أن يجمعنا شيءٌ ما

ويوحدنا رغما عنا

أحدٌ ما؟"/ ص 52-53

ما أحوجنا إلى الوحدة والتكاتف أيها الشاعر المسكون بالوطن وبأمل أن يعود جميلا يحدث أحاديث الجمال في بلد الجمال بعيدا عن الموت المجاني بالمئات كل يوم بأيد غريبة أجنبية حاقدة ومتمادية في غيّها!

ما أشد حلكة ليلنا يا شاعر الدفلى الحزينة الباكية على نهرها المسلوب!

فمتى يستجيبون لنداء النخوة التي أشعلتك شعرا ورؤيا، وتتبدل مصائبنا فرحا ليوم الدين، وينقطع دابر المحتلين في بلدك وبلد العروبة النابض بالوجع الكبير فلسطين العرب، وتعود البسمة للأطفال، ينشدون للفرح أغنياتهم في المدارس والحارات وملاعب الصبا الآمن، بعيدا عن الموت ذات صباح وذات مساء بالجملة، فقد ضاقت بهم القبور ذرعا وأتخمت أحشاؤها فأين المفر؟ ومتى يكون الخلاص؟