في هذه النصوص يتأمل الكاتب المصري ساخرا الفخاخ المتعددة التي ينصبها المثقف لنفسه دون أن ينتبه إلى أنه فعل، ويقع فيها أو يكتشفها ويعيها بعد فوات الأوان، بعد أن يكون قد أهدر عمره وهو يتخبط فيها دون أن يعي أنه صانع أنشطوطتها.

الفخاخ (مدونة)

ياسر شعبان

 

«أنبل شعور أن تبكى أمام قبر لا تعرف من بداخله»

لا عليك يا صديقي، سنبدأ الآن مكاشفة أخيرة أجلناها طويلاً تحت سطوة كلمات كبيرة عن الصداقة والإخلاص ومحبة الآخر وأقنعة المثقفين وأوهام الخلود التي تجعل الذين يكتبون حزانى لأنهم يشعرون بآلام خروج الأجنحة من الظهر، فقط الآلام ـ لكن لا ريش ولا أجنحة لا عليك يا صديقي تلك آخر الآلام سنتحملها سوياً، سأتحملها عنك وعنى، وسنظهر جرأة ما اعتادها الناس منا، سنقذف بكل ما اخترناه داخلنا هكذا دفعة واحدة دون حرص علي شيء أو أحد... لا عليك يا صديقي.

فخ الحب
دون قصد أو تدبير والله ـ هكذا حلفت كعادتك، والآن أقولها لك صراحة: أصدقك ليس لأننا في وضع لا يسمح بالكذب ـ هكذا أتوهم ـ بل لأنني منذ البداية صدقتك. فلا أحد ـ خاصة مثلك ـ يتنازل هكذا ببساطة عن جسد كله حيوية دون أن ينال منه.

قد تكون لحظة غلبتك فيها الرغبة في تقمص دور طائر المحبة... ربما لتحقق رغبتك في الطيران أو لتكمل جزءاً في صورة أنت حريص علي تقديمها للناس. كانت لحظة عابرة لكنها غلبتك، هالة قديس كنت تتأملها في صورة علي الجدار فاجأتك وأحاطت برأسك فاستسلمت لها.. أو ربما لأصابع استقرت فوق خدك وأردت لي أن أشعر بها.

لا ـ لا تقل هذا الكلام.. لا أظن بك السوء، لكننا اتفقنا سنترك كل شيء يتدافع من داخلنا هكذا دون رغبة في إيذاء أو إرضاء.

"هذه البنت تحبك" كلمات قلتها بطريقتك التي تصر علي جعلها بسيطة وتلقائية، هكذا وأنت تشعل سيجارة أو تتابع بدهشة لا تناسبك جسداً أنثوياً يعبر أمامك ـ وكأنه أمامك أنت وحدك ـ ثم تُكمل ربما بعد أنفاس من السيجارة أو رشفات من كوب الشاي، تُكمل بجمل قصيرة: "لم تقل ذلك صراحة.. لكنها تسأل عنك دائماً.. وتعاملك بشكل خاص.. هي بنت جميلة لكنها مُتحررة كثيراً.. وربما تكون مُعقدة أو..." ثم تصمت قبل أن تشكو من ألم ما في جسدك.

آلامك كثيرة ولم تكن يوماً جادة، دع عنك الوهم فهو الوحيد الذي سيقتلك، والموت لا مُقدمات له، لن تراه أبداً وهو قادم.. مهما تألمت لن تراه، لابد سيباغتك وينالك ببساطة في لحظة اطمئنان لم تنلها قبل الآن أبداً.

تهز رأسك وتقول: نعم ـ فالموت مثل الحب. تصور رغم علاقاتي الكثيرة لم أحب سوى مَرّة واحدة.

نعم ـ تلك البنت التي كتبت عنها إحدى القصص.. كانت بنتاً فريدة في كل شيء ـ والله في كل شيء ـ أحببتها لحد التدله ـ كما يقول "كونديرا" ـ كانت خفيفة مثل زهرة جافة وطاغية مثل رائحة عطرها، فعلنا كل شيء معاً ـ والله كل شيء، تقاسمنا الحياة ـ كل الحياة ـ ولم يكن ينقصنا شيء لنصبح زوجين سوى تلك الورقة التافهة.. معاً كانت الحياة جميلة وكل مشكلاتها تافهة، وفجأة قررنا الانفصال، فجأة ربما، وربما لأنه لم يعد هناك المزيد لنفعله سوياً. هكذا فعلنا كل شيء ووقفنا للحظات نتلفت حولنا وعندما لم نجد شيئاً افترقنا هكذا ببساطة دون اشتباك أو كلمات عتاب أو دموع.. لا تنظر لي هكذا ـ كانت كل هذه الأشياء لكن بشكل مختلف لأننا لم نأس على فرصة أُتيحت لنا ولم نقتنصها لأننا لن نتنهد عندما يُفاجئنا عُشاق آخرون بأفعالهم المجنونة. لكنني بدأت أشعر منذ افترقنا بأن الحياة لم تعد تناسبني، فأحياناً أشعر بها تنكمش وتضيق حتى أكاد أختنق، وأحياناً أجدها أكثر اتساعاً مما تبدو عليه، وأنني ضائع فيها.. آهه لو نعرف مَنْ ينصب لنا فخاخ الحُب، تلك الفخاخ التي لا نستطيع الإفلات منها حتى تتحول إلى جزء مّنا، جزء يحيط بالقلب والروح ولا يترك لنا سوى عيون زجاجية نتابع العالم من وراءها.. فقط لم يّعُدْ لي سوى مُتابعة العالم.

أقول أظن أننا نظل طوال حياتنا مُتقمصين دور الصياد، نطارد فرائسنا طوال الوقت. ولا نحشى إلا ذلك الحفيف وتلك الرائحة الثقيلة التي تصاحبه، نظنه الموت، وقد يكون هو الموت، ونظل هكذا نطارد الفرائس وتسري بين الحين والأخر رجفة في أجسادنا، ودون حتى أن نشعر بوخزة أو رجفة نجد أنفسنا عالقين في فخ ـ رقيق لكنه مُحكم ـ لا تراه، لا تستطيع أن تراه، لكنه يملك عليك نفسك وحياتك.

قال وهو شارد: تماماً مثل الموت..

وكأنني لم أسمعه، وقبل أن تلتقي عيوننا على مؤخرة تعلن عن استدارتها وتماسكها وتفاصيلها دون خجل، وقبل أن أطلق تعليقي المُعتاد "قمر كونديرا"، وقبل أن يشحب وجهك دون سبب واضح لي، أقول: وتجد نفسك لا ترى سوى شخص واحد، تجعله مرآتك حتى تصدق ذلك فترى ملامحه تقترب من ملامحك، حينها لا تفكر حتى في الالتفات خلفك، فالحياة لم تعد خلفك الحياة أصبحت "هنا والآن" ـ هكذا تتوهم ـ وآخر له حق أن يُشاركك حتى آلامك، وتشعر أنك أصبحت فريسة أو كنت طوال الوقت فريسة تتخفى في هيئة صياد، وتنتظر من يستطيع أن ينفذ عبر جلد الحيوان البري الذي تُخفى داخله رغبة عارمة في أن يصل إليك مَنْ يُطلق فراشاتك الحبيسة.

قال بطريقته اللا مبالية "الفراشات تعشق الضوء، وتجاهد للوصول إلى مصدره، وهناك تحترق وتموت، قُلتُ: ليس الضوء بل الدفء".

وهو يتابع نهدين لبنت دون العشرين ويحرك أصابعه بطريقة ـ تبدو تلقائية فوق قلبه وبلا مبالاة أيضاً ـ تتجه الفراشات نحو مصدر الضوء وهناك لا تجد سوى الموت. أظن الملابس الداخلية لهذه البنت عليها فراشات. 

فخ الصداقة
أحد أيام الثلاثاء من عام 1993، في أحد مقاهي وسط البلد، والمكان يضج بالحركة وأنا مستوحش برفقة أحد الأصدقاء أنتظرك ولا أعرفك: بعد فترة دخل شاب طويل وأقرب للنحافة، عرفت أنه أنت، ورأيت حينها أنك تدعي البساطة والتواضع، خاصة وأنت تتحرك بين الكراسي تجمع أوراقاً متنوعة لمجلة تشارك في إصدارها.

لا تغضب ـ فبيننا اتفاق على الصراحة، لم أشعر بارتياح تجاهك حينها، ربما لأنه استقر بعقلي أن من سلطتك الموافقة على نشر قصيدتي أو رفضها، وربما لأنني ظننتك طليقاً تفعل ما تُحب بينما كنت مقيداً إلى الطب والمستقبل والأسرة وفشل حبي الأول وبداية اشمئزازي من العالم، ولا أعرف إلى أين تقودني خطواتي.

هكذا كان الانطباع الأول، لم أكرهك ـ والله ـ فقط شعرت بالقلق، لكنها عاداتي فأنا دائماً أشعر بالقلق عندما أري الناس لأول مرة، ويتملكني هاجس مشوش تجاههم وكأنهم يتآمرون علىَّ، لا ليس هكذا ـ فهذه مبالغة، أظن يتهامسون علىَّ مناسبة أكثر.

لكن يبدو أن التجاور في المقاهي ينشر بين الناس شعوراً مبهماً بالاعتياد وربما بعض الراحة.

هكذا ثلاثاء بعد آخر، ونقاش تلو آخر، ضحكة من القلب مرة وابتسامة فاترة مرات أخرى.. أكواب شاي تدور وفصول تتغير ووجوه لا يفارقها القلق حتى في ذروة الاستعراض أو النشوة بكتاب تكلفته مقتطعة من اللحم الحي.

ونقول أصبحنا أصدقاء، فهل تنشأ بين الأحجار المتراصة صداقة؟

تصور ـ لم تقل لي، ولن أعرف أبداً، ماذا كان شعورك عندما رأيتني لأول مرة؟

تلك الأسئلة الغريبة التي لا إجابة لها ورغم ذلك نطرحها، هكذا ببلاهة الأطفال عندما ينظرون إلى وجوه آبائهم ويسألون: كيف جئنا إلى الدنيا؟

ولما لا يجد الآباء إجابة مناسبة، يستعيرون بعض البلاهة من وجوه أطفالهم ثم يقولون مثلاً: الله أرسلكم إلينا لأننا نطيعه في كل شيء، أنتم مكافأة الله لنا.

.. ومن يستطيع أن يتوقع حينها ما ستنطق به الأفواه الصغيرة..؟

وما الذي يستطيعه "الآباء / الكبار" المساكين عندما تتدافع إليهم تلك الكلمات:

ـ عمنا رجل شرير يا أبي.
ـ عيب يا أولاد، عمكم رجل طيب
ـ لا شرير، لأن الله لم يرسل له أطفالاً مثلناً..!!

فهل تظن يا صديقي أن الله أرسلنا للمقاهي كي نتقابل؟

تصور ـ الآن أرى المقاهي مثل شباك صيد ونحن مجرد أسماك خدعها البريق، أو كما قال أحد المجانين "أفضل وصف ـ غير المدجنين" الذي قابلتهم "إذا كان الإنسان ينتحر بالقفز في الماء، فالأسماك تنتحر بالقفز في الشباك، أهو كله انتحار".

فما الذي يجعل للحياة قيمة؟

وما الذي يجعلنا نوزع أيامنا على الشوارع والمقاهي ومكاتب المجلات ودور النشر؟

ما الذي يجعلنا نفكر في الحياة أكثر حتى من محاولة أن نحياها؟

نحن المخلوقات شاحبة الوجوه غالباً، والتي تخاف كل شئ.. تخاف الحياة كما تخاف الموت، وتخاف الكلام كما تخاف الصمت، تخاف الوحدة كما تخاف الآخرين والزحام، تخاف من اللصوص والشرطة وبنات الليل والعشيقات والزوجات، تخاف من الأحلام.

هكذا يا صديقي التقينا بأحد المقاهي، ووزعنا أيامنا ببساطة بين نظرة عين ـ ارتجافة نهد أو اهتزازة مؤخرة.

سنتغاضى عن نقائصنا الكثيرة وعن الخيبات التي تركت آثارها على كل شئ فينا.

ونقول: نحتاج بعض، ولا يوجد شخص كله عيوب تلك أحزاننا ولن نستطيع الحياة دون الهمس ببعضها إلى الآخرين.

أصدقاء على الخيبات والأحزان، نتبادل طعم المرارة في حكمة وحبور، ونعيد ترتيب المواقف والأحداث، ونتعمق في التحليل، ونبدو فوق كراسي المقاهي كما لو كان فلاسفة اليونان قد خرجوا من الكتب أو كأننا لا نحمل في جيوبنا بضعة جنيهات ونكذب حتى على أجسادنا ونحن نرتدي جوارب وملابس داخلية بالية. هكذا نتبادل الأكاذيب ببساطة حتى ونحن في لحظات البوح بما يثقل الصدور، أي شيء يثقل الصدر.. أي شيء لا يثقل الصدر.

تعال نتابع ذلك لمرة، تعال نتابع المشهد عن بعد.. ياااه ـ ألهذا الحد نبدو في جلستنا ليس فقط مصدراً لإثارة السخرية بل والأسى.. فمن بعيد تتكشف تلك التفاصيل التي يحجبها القرب، ومن زمان ومقاهي المثقفين تبدو مثل سيرك يضم بعض الحيوانات العجوز التي لا تتقن شيئاً سوى الإيماءات الغريبة وحركات الأيدي المرتبكة. 

فخ الإخلاص
«الإخلاص يعني الثبات، والثبات يؤدي إلى الجمود، والجمود أحد علامات الموت».

"أبداً لن نستطيع أن نتوقع الخيانة".. هل تذكر متى قلت لك هذا الكلام؟ ولماذا؟

أظن كنا جالسين بأحد مقاهي وسط البلد بعد جولة عبثية بين هيئة قصور الثقافة وأخبار الأدب وأحد المكاتب العربية.. الحياة ـ ربما.

كنا قد طلبنا بعض الساندوتشات من المحل المقابل وجلسنا صامتين لدقائق نتصفح جريد أو مجلة أو كتاباً.. لا أذكر. كنا نجلس متقاربين لأن صوتنا كان منخفضاً لدرجة أنه يصبح مثل الهمس أحياناً، ولأن أذنك اليمنى كانت ضعيفة السمع وعيني اليسرى تكاد لا ترى، (ثمة إشارة في ذلك إلى فقدان الاتصال المباشر، فالأقرب من جسدينا لا يؤدي عمله بكفاءة..).

.. كنا رومانسيين أبلهين ضيعنا السنين في حب الأدب والترجمة والبنات.

لم تكن هناك موضوعات محددة تحظى باهتمامنا ونتحدث عنها دائماً، بل كنا ونحن نشرب الشاي ونقضم الساندوتشات التي لا نعرف طبيعية المواد التي تحتويها (رغم أنه من المفترض أنني طبيب وأنك تعاني من خوف شديد من الإصابة بالأمراض خاصة السرطان) كنا نبدأ بأي كلمات تخطر على بالنا، ورغم ذلك نصل إلى نفس الموضوع في كل جلسة تجمعنا وهو "الغياب" وكيف تستطيع أن تضمن عدم خيانة الآخرين لك وأنت غائب. لم يكن غياب الموت هو ما يشغلك، بل كان غياب الجسد، هذا الغياب المؤقت الذي يترك الرأس مباحاً للهواجس والخيالات عن العشيق الذي قد يتسلل إلى شقتك بعد نزولك، تماماً مثلما كنت تتسلل إلى شقق مساكين مثلنا.

لم نكن نتحدث عن الشك والخطيئة، لكن ربما كان بداخلنا عبء أن الله يُمهل ولا يُهمل.. وربما نظرية الاحتمالات، فطالما الحياة مستمرة فكل شيء ممكن.

لا أنسى أبداً ملامح وجهك الشاحبة، ولا نبرة صوتك المرتعشة (ياه يا صديقي ـ الآن فقط انتبهت إلى خلو عينيك من البريق) وأنت تستعيد حكايات زميلات العمل ؛ المتزوجات وغير المتزوجات ؛ الصريحة والتي تفضح رغبة دفينة وجوعاً...

شأننا جميعاً نحن الذين نخشى البوح بما تجيش به الصدور، نخشى الإفصاح عن هواجسنا ومخاوفنا والأشباح التي تملأ الفضاء من حولنا، هكذا نراوغ دائماً ونبتدع القصة تلو القصة، ونخلق الأبطال الذين رغم التشابه ليسوا نحن، ونخلق الأبطال الذين نتمنى لو كنا نشبههم ونحكي عن الخيانات الجنسية، والرغبات المكبوتة، والشهوة غير المشبعة، حكايات ننسبها للأصدقاء والزملاء والجارات.

نجيد الحكي غالباً، لكن من ينتبه قليلاً سيلمح ارتجافة خاطفة في الأصابع أو نظرة زائغة كفيلة بفضح كل شيء. مرة تحدثنا عن الراهب الذي أغوته امرأة أقل ما يقال عنها أنها فاتنة، ومرة عن الشيخ الشاب الذي أنسته "لي لي" الأذان وهو واقف بأعلى المئذنة، وعن خروج آدم من الجنة، وعن "ماريا" التي تجلس عند قدمي المسيح في مشهد الصلب الذي نعشقه جميعاً حتى دون أن نعرف السبب.

ساعات من أعمارنا القصيرة فوق كراسي المقاهي، نشرب الشاي ونتابع توحش أجسادنا النساء في الشوارع، ونستدعي في فكاهة ما قاله "كزانتزاكيس" في رواية "زوربا" من أن "زيوس" لم يكن يطيق تأوه امرأة وحيدة وكان يهبط إليها ليطفئ رغبتها.

الجسد ـ الرغبة ـ الغياب ـ الإخلاص.. قيود لا نعرف من شدها حول أجسادنا وعقولنا لتفسد علينا بهجة الالتزام والانفلات، لنعيش مثل "توماس" بطل رواية "خفة الكائن" نبحث عن امرأة نستطيع النوم إلى جوارها وإغماض عيوننا.. ولا نستطيع أن نبوح بالسر الذي يجعلنا نلف وندور حتى حول أنفسنا، لتحكي مثلاً أن صديقاً لك تؤرقه فكرة أنه كان على علاقة جسدية بالبنت التي تزوجها، وقد تسخر من تفكيره العقيم الذي تسيطر عليه أفكار عن دنس الجسد وعن المرأة التي "تفرط في شرفها دون زواج".

وقد أحكي عن صديقي الذي عرف أن البنت التي يحبها كانت على علاقة بآخر وخرجت منها وقد فقدت عذريتها، وكيف أن هذا الصديق أخفى ألمه في صمت لأنه يعرف أن هذه هي الحياة وان الجسد تابع ذليل للشهوة وأن الشهوة مثل الوتر المشدود تحتاج فقط من يلمسه وأن لمسة واحدة تكفي لتخدير العقل ولا يصح حينها أن تسأل عن الآخر والدافع والكرامة، وأن من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.

تقول ليست الخطيئة بل القرار والاختيار ولحظة التواطؤ ـ وتضيف وهل تخلص صديقك هذا من حزنه أم دفع به إلى أعماق سحيقة ليظل قابعاً هناك إلى جوار مخاوف الطفولة والبلوغ وفشل الحب الأول وصعوبة تحقيق الأحلام.

أقول المجد للجدران التي تحجب تفاصيل كثيرة، المجد للجسد الذي يخفى داخله الأفكار والمشاعر والأكاذيب، وبصوت يقطر مرارة ـ دون سبب واضح ـ أحدثك عن فكرة التابو، وعن الإنسان البدائي الذي كان يعتبر مجرد رؤية امرأة مات زوجها ـ وليس لمسها ـ إثماً يستحق من يقترفه أن تصيبه اللعنة، لكن الأهم من ذلك إلزام هذه المرأة بالاحتجاب عن عيون الناس.

مرة أخرى يفرض الجسد وجوده بقوة، وكأنه قادر على الفعل هكذا وحده. وكأن الإنسان عندما يحلم أو يفكر ويستحضر آخرين أبعد ما يكونون عن جسده المسكين المقيد إلى تعينه في المكان، لا يعتبر غير مخلص طالما جسده قد حجب ما يحدث بالداخل.

ويعني ذلك أن الجسد لا يكذب ـ؟! ـ فهو لا يدعى الألم أو النشوة، وعندما يجرح ينزف، وعندما تستبد به التعاسة ينكمش ويضمحل...

على كراسي المقاهي تقاسمنا أحزاننا وأكاذيبنا وهواجسنا عن الغياب وعدم الإخلاص والجسد والتواطؤ والإحساس بالمهانة.

ورغم ذلك كان هناك حاجز لا مرئي يمنعنا عن الاقتراب أكثر، يمنعنا عن تجاوز صورة جسدينا، وعن ابتداع الحكايات التي لو قال لنا أحد ـ حينها ـ أنها ستصبح حقائق واقعة ومؤلمة ما صدقناه أو لتظاهرنا بعدم تصديقه حتى لا نفكر في حدوثها ونحن غير موجودين لسبب أو آخر.

فهل تصدقني لو قلت لك أنني رأيت، وأنت تودعنا على سلالم المستشفى، رأيت في عينيك بريقاً لم يحل بها قبل الآن ـ نعم رأيت الموت في عينيك وقلت لنفسي: لن أراه ثانية..!!. 

فخ المعرفة
«ليس الجهل.. بل المعرفة أصل كل الشرور والآلام»

بدت الفكرة بسيطة عندما طرحها أحد الجالسين على المقهى، وذلك عندما قال بشكل مفاجئ "أخشى على أطفالي من المعرفة، وأتمنى لو أستطيع ألا أعلمهم"، اندهشنا لأن الكلام صادر عن رجل عمل بتدريس الفلسفة لسنوات طويلة قبل أن يتركها هكذا فجأة ودون سبب واضح "مفهوم" حتى لأقرب الناس إليه.

وبعد مغادرته لجلستنا لم نستطع أن نمنع أنفسنا عن التداعي والتجادل حول الجملة التي قالها أستاذ الفلسفة.

تحدثت عن الكفر بالمعرفة وقيمتها ودورها وأنها في مجتمع مثل مجتمعنا عبء أكثر منها ميزة، وكيف أنها تستهلك من عمر الإنسان وعقله وبصره وأمواله وعلاقاته بالعالم.. تأخذ الكثير ولا تعطي سوى القليل.

وكنا نهز رءوسنا ونتمتم، فكثير مما يحيط بنا يؤكد ذلك.

وتتابعت التعليقات عن قصة "أوديب" وعلاقتها الوطيدة بما قاله، وكيف أن المعرفة كانت الفخ الذي أوقع "بأوديب" المسكين وقضى عليه هكذا ببساطة عندما تطابقت ذروة انتصاره بانكساره ليبدو كل ما عرف خالياً من المعنى والقيمة.

في لحظة ـ وبعد طول بحث ـ عرف "أوديب" أنه قاتل أبيه، وأنه قد تزوج أمه وأنجب منها أطفالاً وهنا توقف "أوديب" ليتأمل الموقف: أبوه تخلص منه حتى لا تتحقق النبوءة ويقتل بيد ابنه، ولكن الطفل لم يمت ويربيه أحد الرعاة وبعد سنين يقتل شيخاً هو أبوه وينجب من أمة أطفالاً لا يعرف ما مصيرهم، وفي تلك اللحظة قرر أن يفقأ عينيه.

ولا أعرف ماذا حدث لحظتها لتتوقف عن الكلام، ربما قاطعك أحد الأشخاص الحريصين على الإدلاء بآرائهم المهمة ـ ولا أعرف مهمة لماذا ولمن ـ فتحول الكلام إلى موضوعات أخرى لم انتبه لها فلقد انشغلت بسؤال واحد: لماذا فقأ "أوديب" عينيه؟ أو لماذا كان فقء "أوديب" لعينيه بمثابة رد فعل لوصوله إلى معرفة طالما بحث عنها؟

ولم أسأل.. ولم نلتق بعدها طوال أسابيع، ربما دون سبب أو لمعرفة منقوصة أو مغلوطة وصلت إليك ولم تجهد نفسك ـ كالعادة ـ في التأكد منها، وهكذا استقر داخلك أنني تآمرت عليك فقررت ألا تراني.

ألا تراني ـ هكذا جاء قرارك مثل فقء "أوديب" لعينيه. وبعدها تقابلنا، أعني رأيتني، أعني رأيتك، لكنك لم تكن كما السابق ـ هكذا رأيتك ـ وربما تكون رأيتني قد تغيرت عن السابق.

لكنني لحظة لامس إصبعي كتلة صغير جامدة أسفل جلد بطنك، شعرت أنك فقأت عيني.. ولم أرك بعدها لأنك فعلتها ببساطة مدهشة ومت بالسرطان الذي طاردته كثيراً

ـ ولا أعرف الآن هل لتنفي غيابه عن جسدك أم لتتأكد من وجود بجسدك النحيل ـ طاردته كثيراً، وفي اللحظة التي عرفت بوجوده قررت أن تفقأ عينيك وتستسلم للموت في أحد أركان مستشفى حكومي.

وهنا قد يتنهد أحد العارفين ببواطن الأمور والمهمين ـ بلا سبب واضح ـ وهو يهز رأسه ويقول "المعرفة القاتلة"، لكن تعرف ـ رغم الأداء المسرحي أشعر الآن أن في كلامه أثراً من حقيقة.. حتى ولو كانت حقيقة مبالغاً فيها أو مسرحية.

سأعود الآن إلى "أوديب" وسأجعله بمثابة الخلفية لحكاية أخرى تبدو أبسط بكثير، وهي الحكاية الأكثر شهرة في الحياة.. حكاية الزوج والزوجة والعشيق. تلك الحكاية التي تبدأ بالشك والتقصي والمراقبة، وانتهاء باكتشاف ما كان مختبئاً أو بادياً ولا نستطيع أن نراه، ولأنني انشغل دائماً بما يمكن أن يفكر أو يشعر به الناس، انشغلت بما يمكن أن يفكر ويشعر به هذا الزوج المخدوع طوال رحلة بحثه عن أدلة، وهل كان يبحث عن أدلة نفي أو إثبات لخيانة زوجته، وما الشعور الذي اجتاحه عندما تكشف أمامه كل شئ، ليرى زوجته عارية تتأوه من اللذة بين أحضان رجل ـ ولن أقول يعرفه.

الآن أفكر فيك أنت يا صديقي، في رد فعلك عندما تسمع مني هذه الحكاية ونحن جالسان بأحد المقاهي، وكيف سيزداد شحوب وجهك وتشعر بدقة أو أكثر زائدة في صدرك. وسيشغل خلفية كلامنا ما سبق وقلناه عن التفكير العقيم لزوج يشك في سلوك زوجته لأنه كان على علاقة جسدية بها قبل الزواج، أو ما قلناه عن الصديق المسكين الذي فاجأته البنت التي يحبها أنها خرجت من علاقة سابقة وقد فقدت عذريتها (فهل تحمينا معرفتنا أم تنصب لنا فخاخاً تليق بنا نحن الذين تعلقنا في الهواء ففقدنا كثيراً من غريزتنا الإنسانية ولم نصبح قديسين؟!!).

وأحكي لك عن تصنع الزوج للنوم "حالة مؤقتة للغياب"، وكيف أنه فكر كثيراً في طلب مراقبة تليفونه لكنه خشي من افتضاح أمره وحاول أن يوقظ غرائزه، وبدأ يتشمم ملابس زوجته بحثاً عن رائحة ذكورية لا تخصه وبدأ ينصت إليها أثناء نومها أو وهما يمارسان الجنس، منتظراً هفوة يستطيع بواسطتها الوصول إلى شخصية ذلك العشيق، هذا الشخص الذي لا يعرف له هيئة بل لا يعرف هل هو موجود فعلاً أم مجرد شبح يطارده في نومه واليقظة.

تقول: مسكين. وأقول لك: كلنا مساكين.

فهل تستطيع أن تتخيل حياة هذا الرجل، وكيف حولها إلى جحيم.. جحيم حقيقي تحرق نيرانه كل شيء وتجعله بلا معنى، حتى الأدلة التي أصبحت كل ما يشغل هذا الرجل الواقف على حافة الجنون يرتعش مثل مقبل على الانتحار.

يسمع الآن صوتها وهي تقول: أنت من أحب، أنت الرجل الوحيد في حياتي، أنت حياتي...

ويذكر الآن تلك الدعابة التي كانا يتبادلانها بين الحين والأخر عن ذلك الفيلم الذي قامت بتمثيله "يسرا" مع "محمود ياسين" وكيف أن "يسرا" كانت تسأله كثيراً: هل تحبني؟ هل ستظل مخلصاً لي؟ وتطلب منه أن يقسم على ذلك، وكيف أنه فجأة وبالمصادفة تبين أنها خانته ـ ولو مرة واحدة ولأي سبب ـ ولمزيد من الحبك الدرامي خانته مع أقرب أصدقائه إليه، ونتج عن هذه الخيانة طفل وهو بالضرورة ليس للزوج "محمود ياسين" لأنه ببساطة زوج عقيم.

وبينما كان الزوج يضحك مثلما كان يفعل كلما تذكرا هذا المشهد، برق في دماغه خاطر وتساءل: لماذا لا أكون أنا الآخر عقيماً وطفلي الصغير هذا ليس بطفلي، وعندئذ همهم: سأذهب إلى الطبيب بعد أن أتأكد من خيانتها لي (ولا أعرف لماذا لم يقرر الذهاب قبل التأكد من خيانتها؟).

هل كان يستمتع بتقمص شخصية جامع الأدلة والباحث عن الحقيقة، هل كان يخشى اكتشاف أنه عقيم، هل كان يسعى لإطالة علاقتهما والاستمتاع بوجودها إلى جواره بريئة وجميلة كما أحبها ورآها منذ قابلها..؟!

أذكر الآن آخر لقاء لنا بأحد مقاهي وسط البلد، حينها حدثتك عن الصعوبة التي أواجهها عند كتابة نهاية هذه القصة، فوفقاً لقصة "أوديب" يجب أن تكون النهاية مفرطة المأساوية، كأن يضبط الزوج زوجته في أحضان عشيقها فيطلق عليها النار ثم ينتحر أو يصاب بالجنون.

ولو شئت مجاراة الحوادث التي تنشرها الصحف يومياً، فستأتي النهاية بمؤامرة بين الزوجة وعشيقها للتخلص من الزوج المسكين، وهنا من الممكن استخدام الطفل للإيحاء: فلو قتلاه فإن ذلك يوحي بأنه ابن للزوج القتيل، ولو تركاه فسيوحي ذلك بأنه ابن للعشيق القاتل..! وأذكر يومها أنك هززت رأسك وكان وجهك شاحباً كالعادة وقلت: ما رأيك في موت الزوج فجأة في حادث سيارة مثلاً أو أزمة قلبية أو بالسرطان..!!.