ينسج الشاعر في هذه القصيدة العنقودية التي تتفاعل فيها الجزئيات وتتكامل، وتتابع فيها الصور وتتحاور ملامح عالم متقشف ولكنه مترع بالإنسانية والحس التهكمي الشفيف.

ناسون ومنسيون

هاني صلاح العكل

. بـيــــت

البيت يحيا فقط بالناس مثل القبر
غير أن البيت يتغذى بحياة الإنسان
والقبر بموته .
- قيصر باييخو

بعيداً
حيث تدحرج الريح المصفرة آخر طوبة
فوق جسم الشارع المكنوس
الذى فقد المارّة
     وأعمدة الإنارة
     والنباح
يشخص فى الأصفر المتهالك
بيت بلا بيوت جيران
فوق بابه الخشبى العتيق
قبضة حديدية تتدلى فوق رأس الداخلين
الذين لا يأتون أبداً.

* *

2. المشــوه

رغم ملامحه الغضة وشعره الطويل النازل
على القورة البيضاء العريضة،
لم يركض بين حقول البرسيم تحت الشمس
حتى يقع على ظهره مغمورا بالضحك.
ولا كانت له عجوز بزيارات خاصة
تملأ حصالته بالنقود والأغنيات،
كما أن أحدهم لم ينهره
ليرجع فى آخر صفوف المسجد مع العيال .
ـ يباعد بين قدميه لحد الألم
حتى يملأ مكان رجل ـ
وأبوه الذى شقى وتعب كثيراً
كان ينتظر منه أشياء خارقة
دون أن يبادله الكلام .
فقام فى صباح بعيد
وقد تحول:
ـ كرة من اللحم نبتت أعلى ظهره ناحية اليسار .
ـ اختفت إحدى عينيه من محجرها
الذى يبدو الآن غائرا وسحيقاً .
ـ طمست أنفه فى لوحة الوجه
تاركة فتحتين غبيتين أعلى الشفة المشقوقة .
ـ صار يتقافز فى مشيه
إذ قصرت إحدى قدميه عن الأخرى .
فكلما حاول السير إلى الأمام
دار حول نفسه .
متخذا جسده المرتعش أبداً
شكل القوس.

فاستنشق فى هدوء
رائحة الشيخوخة
التى راحت تدب فى جسده كله.

* *

3. العمّــات

جميعهن يفترشن البلاط العارى
فى قمصانهن الملونة
يتضاحكن ، ويتغامزن
حين يقارنّ أعضاءهن النافرة
تحت القماش الشفاف
وحين يمد الولد الشبق يده المرتعشة
يتقاذفنه ـ واحدة فواحدة ـ
فى السر
متظاهرات بالنوم.
بينما تقبع أصغرهن ضئيلة
فى مكانها فوق الخزانة العتيدة
يبدو جانب الدار هادئاً
أمام عينها الوحيدة القلقة
تسند رجلها من تحت البطانية الصوف السوداء
ببطن كفها حتى تعتدل
تُخرج الكيس القماش
تعيد طلاء (الغويشتين والخاتم الكبير والماشأللـه)
بالسائل الأصفر اللامع
ثم تريحهم جميعاً فوق كومة النقود داخل الكيس
وتزفُر بارتياح
وهى تشد خيط الدوبارة
وتضع بطن يدها على الفوهة المكشكشة
ثم تعيد كل شيء بين ثدييها النابتين
وتستلقى .
فيداعب نشيج منخارها ذى اللحمية
وشيش ورق الشجر فى الخارج .

4. الجـــدة

على الناس الذين يحبهم المرء حين يرحلون
أن يأخذوا جميع أشياءهم معهم .
- ماركيز

هناك
محلقة هناك
فى كل مكان بالدار
بمشيتها المحنية رغم قصرها
بارتعاشة وجنتيها المتهدلتين
بترهل ثدييها وردفيها
وخطوها الثقيل
هى هناك
هنا
أمام عتبة هذه الدار
تطعم ثديها الجاف لعيال البيت كلٍ بدوره
حتى تفرغ الأمهات من أعمالهن
وتموت بالجلطة
مخلفة رائحة ما كالتى للعجين الطازج
لتحلق هناك
هنا
وفى كل مكان بالدار .

* *

5. الأب

- يعرف المرء أنه بدأ يشيخ
حين يبدأ بالتشابه مع أبيه
- ماركيز

فكيف يشعر
حين يبدأ أبوه بالتشابه معه ؟
- أنا -

لم يكن هناك .

* *

6. نظــرة عابــرة

من آخر الشارع المنتصب فى شموخ الموتى
يملأ نافذة الطابق الثانى المطلية بالأخضر المقشر .
يسند كوعه اليمين على الحافة
فتتدلى يده المعروقة فى فضاء الشارع
عينه الغائرة تحت مظلة كثيفة من الشعر الأبيض
تنظر للبعيد
البعيد .. الذى لا يرى أبدا .
يخلع عمامته
فتلسع رأسه ذات الشعيرات المتناثرة
نسمة الفجر الرقيقة
وحين يشتد الصهد
يلف شاله الأبيض حول الطاقية الموبرة متسخة الحواف
ويدير لك ظهره
يرمى نظرة عابرة - وهو نازل -
على الولد المقرفص فى الركن المظلم
ثم يهبط الدرج
سانداً بيده على الدرابزين الخشبى
ملفوفاً بالصمت .