1- في ماهية العنوان.
لا يمكن لقارئ رواية سهير المصادفة الأخيرة، الموسومة ب"رحلة الضباع" أن يمر مرورا سريعا على عتبتها الأولى، عنوانها، المكون من مضاف ومضاف إليه. يحيل الأول على معنيين اثنين: أولهما هو أدب الرحلة كفن من فنون الأدب العربي(والعجمي) القديم والحديث على حد سواء.
وثانيهما هو فعل التنقل والترحال كسلوك بشري طبع حياة الناس منذ وجودهم الأول على سطح الأرض، واستمر معهم إلى هذا العصر. فإذا كان الإنسان القديم مجبرا على الترحال بحثا عن الماء والكلأ والأمن، فإن الإنسان المعاصر واظب على الترحال لأسباب أخرى جعلته يبدو وكأنه "مصنوع من عجينة التيه فوق ما نتصوره" 1. يغرق في دوامة لا تنتهي من التنقلات اليومية، تشكل ما يسمى "الحركية المجالية" مابين البيت والعمل ومحلات الاستهلاك... أسطورة سندباد الرحالة الذي جاب مشارق الأرض ومغاربها، ما زالت حاضرة بيننا، لأن غريزة السفر والبحث عن الشمس والاستجمام والراحة، ليست أمرا هامشيا، بل هي بحث مستمر ودائم عن معدن نفيس.2
وأما المضاف إليه: الضباع، فيحيل على الافتراس والشراسة والهمجية. وهي صفات رسختها النصوص التي استهلت بها أغلب فصول الرواية. وهي مقاطع تحمل كما من المعلومات والحقائق تبين "وحشية" هذا الحيوان وفتكه بفريسته وولعه بالدم والعظام ولو كانت تحت الأرض.
وبهذا المعنى فإن رحلة الضباع هي رحلة الافتراس والشراسة والفتك والدماء المراقة. فهل يتحقق هذا المعنى في فصول الرواية؟
2- الأصوات السردية:
- محكي جمال إبراهيم.
تتعدد الأصوات السردية في الرواية بتعدد الحكايات. والحكايات، في هذا النص، تولد وتتناسل من بعضها، ولا تكاد حكاية تخلو من حكاية أخرى متضمنَة. ولا تنتهي حكاية إلا لتسلمك لحكاية أخرى تبعثر الزمن السردي المتعاقب وتكسر رتابته وترتيبه التصاعدي المألوف.
تُستهل الرواية بمحكي الزوج جمال إبراهيم، العامل بجريدة "أندلسية". تحضر الزوجة\المرأة في هذا المحكي حضورا مهينا يحط بكرامتها كإنسان. فهي حشرة وحيوان، لا شيء يغري فيها سوى جمالها الجسدي. يحرمها الزوج\الرجل من متابعة الدراسة ومن السيارة والنقود، ولا يتوانى عن ضربها وإهانتها من غير سبب. بل يقتلها قتلا مجازيا، إذ يخنقها في مخيلته ويتسلى بوجهها المشنوق ولسانها المتدلي. ثم يطلقها بسبب عقمها، ويتزوج امرأة أخرى أقل مستوى تعليمي منها هي "سمية".
علاقة جمال بنرمين تعيد نفسها من خلال علاقة حسن عبد الصبور بعايدة رمزي. هذا الرجل يغير عشيقاته مثلما يغير ملابسه. يستغل عايدة ثم يهجرها وقد تعلقت به وربطت مستقبلها بمستقبله.
يبدو جمال نموذجا للرجل العربي\الشرقي المزهو بذكوريته، المحتقر للمرأة، المفترس لها. ويبدو الشاب الذي كاد جمال أن يدهسه بالسيارة نموذجا للجيل الجديد الذي يختصر اللغة في بضع إشارات ورموز لا يفهمها أحد سواه. يرتدي سراويل ساقطة الخصر ويعبر عن سخطه وغضبه من أوضاع بلاده "هي دي بلد أصلا؟"3 لكنه متفائل بالمستقبل "لكن هتبقى أحلى بلد بعد أيام إن شاء الله"4 في إشارة إلى ثورة يناير التي هي، حسب توقيت الرواية، على الأبواب.
في الأخير يصرخ جمال ويعيد نفسه إلى أصله الحيواني، يقول: "أنا طائر الحبارى"5. ولكن سياق الرواية ومنطق الأحداث يعيده إلى أصله الحقيقي: الضبع، ذلك المفترس الذي لا تعرف الرحمة سبيلا إلى قلبه.
- محكي الزوجة، نرمين.
تستهله بالتعريف بنفسها: امرأة من سلالة جارية عربية. تنتمي إليها نساء دَون التاريخ أسماءهن، نساء ورد ذكرهن وذاع صيتهن في حكايات متخيلة، وأخريات حقيقيات: زرقاء اليمامة، العباسة، شهرزاد، سجاح بنت الحارث، سلامة القس، أم سلمة زوجة السفاح، آمنة الرملية... تلقت من جدتها لأمها حكاية نُقلت من جيل إلى جيل طوال ألف وأربع مائة سنة (تاريخ ظهور الإسلام؟) وفق شروط مضبوطة، إلى أن وصلت إليها فقامت بتدوينها. وأصلها رحلة قامت بها السوداء بنت الرومي كادت تستغرق كامل عمرها. نقلت بين الأجيال عن طريق الحفيدات لجهة الأم(المرأة) عبر جدات يتربص بهن الموت على مسافة ثلاثة أيام فقط. فالموت هنا هو شرط الحكاية. والحكاية في هذه الرواية لعنة تطارد حاملها(راويها) لا سبيل للفكاك منها إلا بحكيها والتخلص منها. فيصبح الحكي خلاصا من "شؤم" مثلما كان خلاصا من موت مؤكد عند شهرزاد في ألف ليلة وليلة. وبالمناسبة فكتاب ألف ليلة وليلة يحضر في الرواية حضورا لافتا. فهو يزين مكتبة جمال وفيه ستدس زوجته مخطوطها "السري"، وورد ذكره أكثر من مرة.
المرأة تتوزع على كل السلالات عبر المصاهرة، وبهذه الكيفية أُريد لتلك الحكاية ألا تظل حبيسة سلالة واحدة. تلقتها خلال ليلتين ونصف محترمة قواعد الحكي الشفهي الشعبي الذي يتخذ الليل، والليل وحده، زمنا له.
نٌقلت الحكاية إلى نرمين منذ خمس وعشرين سنة. أهملتها كل تلك السنوات قبل أن تلح عليها وتستحوذ على فكرها وتقوم بتدوينها، وقد أرقها هاجس العقم الذي تعاني منه. إذ ليس بمقدورها أن تروي الحكاية لحفيدتها لأنها لم تلد ولدا ولا بنتا. فكانت الزوجة هي أول حفيدة عاقر من سلالة تلك الجدة.وستكون آخر من يحكي الحكاية.
تختم نرمين محكيها في فصل آخر من فصول الرواية، هو الفصل ما قبل الأخير، يحمل عنوانا دالا يلخص ما آلت إليه علاقتها مع جمال:" في انسحاب المحبة" كإشارة إلى فتور تلك العلاقة واحتضارها وانهزام الحب والعواطف الصادقة أمام النت والعلاقات الافتراضية أو الواقعية، عبر الفايس بوك والبريد الإلكتروني والهاتف المحمول، أي انهزام الحب أمام التقنية، خصوصا إذا شاخت المرأة وفقدت نضارتها وبريقها. فتتذكر وصية جدتها:"إياك وأن تستسلمي لحب الرجال"ص:223
- محكي الجدة: السوداء بنت الرومي.
حكاية الجدة هي حكاية الحروب والفتن والسيوف، والرؤوس المقطوعة، تلخص تاريخا عربيا كتب بالدماء والجثث، وتنذر بزمن"أغبر لا يدري المرء فيه متى ستطير رأسه من عنقه."7 وبعد رحلة طويلة مملوءة بالحروب والاقتتال، ستهتدي إلى الحل الذي يخلص من كل هذا الموت المتفشي. وهو حل روحي يعيد للوجدان مكانته في حياة الناس وعلاقاتهم." اتبع قلبك يا فتى. واترك ما أنت فيه من غي وضلال. واذهب إلى كرم فازرعه وعمر الأرض بفلذات أكبادك من هذه الصبية المليحة، علهم إذا أتوا يعم السلام."8 وهي تعرف ما يفعل الحب بقلوب الرجال، فإذا أحبوا تصبح أرض الله جنات تجري من تحتها الأنهار.
حملت الجدة "نبوءة سوداء" إلى "أصحاب الأمر"، وتقاطعت حكايتها مع حكايات أشخاص آخرين أوردت أسماءهم وقصصهم: حكاية الأميرة الجميلة التي خرجت للبحث عن حبيبها المسحور، وحكاية القعقاع، والحبابة بنت أبيها صاحبة الصوت الساحر الذي ينفد للروح مباشرة، وعمر بن عدي... الوصية التي استنبطتها الجدة من هذه الرحلة الشاقة هي: لا تتبعي الرجال يا بنتي لأنهم دائمو "السير نحو الله أو الموت" 9
قامت الجدة برحلتها بحثا عمر بن عدي الذي تركها وراح للجهاد، فتشابهت قصتها مع قصة الأميرة التي خرجت تبحث عن حبيبها المسحور. وعندما وجدته، ماتت تحت قدميه بعدما فقدت جمالها وصوتها وشبابها. فالرجل كان هو هاجس الرحلة لدى الجدة، شيعت جبل أحد وودعت شعاب مكة وهامت على وجهها كي تقترب من فهم الرجال. وبعد طول عناء ستكتشف أن الرجال يلتهمون بعضهم البعض، عند الجوع، مثل الضباع، في إحالة صريحة إلى مدلول الضبع في الرواية الذي يساوي الرجل المفترس والمضطهد والطاغية. وهناك إشارات كثيرة في الرواية تجعل الضبع مرادفا للرجل، كأن تقول الجدة لحفيدتها:" لا أحد سواك يستطيع إعادة هؤلاء الرجال من جلود الضباع التي يرتدونها"10. أو قولها:" تحولوا على إثر احتسائه إلى ضباع"11
3- حيوانات تمشي على قدمين.
يتماهى الرجل مع الضباع ويتصف بصفاتها حيا وميتا "أخشى يا امرأة أن ينفق كل الرجال على وجه البسيطة"12 فقد آثرت سهير المصادفة استعمال الفعل "نفق" الذي يستعمل لموت الحيوان، لأن الرجال هنا ينفقون مثل الضباع "أنتم يا سيدي الضباع" 13. "ستعزلون سباعكم وتولون ضباعكم"14
يصبح الإنسان في هذه الرواية رديفا للحيوان، فيصعب التمييز بينهما، إذ يقتسمان نفس الأوصاف والنعوت ويقومان بنفس الأفعال كما في هذا المقطع الذي يصف إنسانا:" وهو أجهل من عقرب. وله صوت كزفاح القرد لكنه في الوقت نفسه أخبث وأروغ وأكثر دناءة ونذالة من ثعلب"15
لم تعمد سهير المصادفة في هذه الرواية إلى أنسنة الحيوان، بل عمدت، بدءا بعنوان الرواية، إلى إبراز الخاصيات الحيوانية لدى الإنسان. وقد طغت في الرواية مثل هذه العبارات: "يثب حولي كعصفور"16." أسود النواجذ مثل كلب"17. "وهو لئيم كالغراب"18. "قال كأنه ذبابة"19. "يومئ برأسه كعنزة"20. "إنك يا امرأة أخرق من حمامة"21. "انتفضت على الفور كأنها نمرة مدربة على الفتك بفرائسها"22
4- الرحلة داخل الرحلة.
رحلة الضباع، عنوان الرواية، هو أيضا عنوان حكاية متضمنة داخل الحكاية الأصل\الأم، كتبتها نرمين في غياب زوجها جمال الذي اكتشف بالصدفة "آثار" كتابة زوجته في سلة المهملات بالمطبخ، فثارت شكوكه و عذبه فضوله، ونصب لها كاميرات خفية تراقبها في غيابه. وستصبح الكاميرا هي عين السارد، تنقل الأحداث وتتجسس على "طقوس الكتابة" (السرية) عند الزوجة. أراد جمال أن يتجسس على عواطف زوجته ومكبوتاتها " رأيها في كزوج (...) عن مشاعرها(...) عن دموعها" 23. فإذا به يٌفاجأ برواية قصيرة وبتيه طويل في الصحراء على رمال حارقة.
داخل "رحلة الضباع" الرهيبة، تمتد رحلة أخرى من نوع خاص. رحلة نرمين مع جمال في طريق طويل بدأ بزواجهما وما زال ممتدا. رحلة تقاس مسافاتها بأميال الغيرة والوجد والدموع والحنين، قطعتها نرمين بمشقة وعنت، لأنها مسافة وجدانية عصيبة. هذه الرحلة لم تنته بنهاية العلاقة بين نرمين وجمال، "ما زال عليك قطع أميال من الألم المرير."24
5- الثورة في مهب الحكاية:
من هي نرمين زوجة جمال إبراهيم؟ هذا هو السؤال الذي يقض مضجع قارئ "رحلة الضباع" فور الانتهاء من قراءتها.
فعلى طول صفحات الرواية يعتقد القارئ أن نرمين واحدة من النساء العربيات المنذورات للجنس والولادة، لكن الصفحات الأخيرة من الرواية تخيب أفق انتظار القارئ وتكسر هذه القناعة التي ترسخت لديه. فوجه نرمين يملأ الشاشة وقد تحرر شعرها من دبوسه الضخم(القيد؟ الطاغية؟ الحاكم الوحيد؟) "الذي سأخمن أنه ربما سقط على أرض ميدان التحرير كما سأخمن أنها باتت طوال لياليها الماضية في الميدان"25 صحبة رجل ستتزوجه بعد شهور.
أليست نرمين هي مصر التي عانت سنوات طويلة من القهر والظلم والاحتقار، ثم تزوجت في ميدان التحرير من رجل يكرهه زوجها السابق جمال؟ أليس هذا الزوج الجديد هو رئيس مصر الذي لم يحظ بالإجماع والذي صار اليوم معزولا؟ أ لم تتنبأ الرواية بهذا العزل قبل حدوثه؟
لا تخطئ نبوءات نرمين، فهي لا تشير إلى شيء إلا تحقق. تملك"وجها جميلا ومصريا بامتياز"26 ، وتملك تاريخا مدججا بالجثث والدماء كما في المخطوط الذي خطته يداها.
6- عود على بدء.
لعل تناسل الحكايات واختلاف أزمنتها وأبطالها ورواتها، هو ما أفضى إلى تعدد مستويات اللغة وطبقاتها في الرواية ما بين فصحى محدثة، وفصحى قديمة، وعامية مصرية. هذا التعدد أغنى اللغة الروائية ومنح للأزمنة والأمكنة السردية واقعيتها وصدقها وقوتها، وجعل القارئ يتنقل من عصر إلى عصر عبر معجم الكلمات والتراكيب الدالة على كل حقبة زمنية وحيز جغرافي. فكان السفر في اللغة سفرا في الفضاء الروائي، وغوصا في التاريخ العربي والإسلامي بصراعاته وتناقضاته وهزائمه.
رحلة الضباع هي رحلة المرأة في مجتمع ذكوري، مهووس بالجنس، منذ الأزمنة الغابرة(زرقاء اليمامة، العباسة، تحفة الزاهدة...) إلى اليوم (نرمين، عايدة... )
هي أيضا حكاية تاريخ مليء بالدماء وحاضر مليء بالمهانة ومستقبل تقرره الثورات.
الهوامش:
1- في الحل والترحال، مشيل مافيزولي، ترجمة عبد الله زارو، إفريقيا الشرق، 2010، ص26
2- نفسه،ص: 35
3- رحلة الضباع، سهير المصادفة، المجلس الأعلى للثقافة، 2013، ص:202
4- نفسه، ص: 22
5- نفسه، ص:211
6- نفسه، ص:223
7- نفسه، ص:151
8- نفسه، ص:146-147
9- نفسه، ص:102
10- نفسه، ص:137
11- نفسه، ص:137
12- نفسه، ص:140
13- نفسه، ص:140
14- نفسه، ص:163
15- نفسه، ص:173
16- نفسه، ص:174
17- نفسه، ص:174
18- نفسه، ص:174
19- نفسه، ص:176
20- نفسه، ص:177
21- نفسه، ص:179
22- نفسه، ص:198
23- نفسه، ص:195
24- نفسه، ص:232
25- نفسه، ص:248
26- نفسه، ص:247
(المغرب)