"كيف يفكر الفلاسفة؟" سؤال بأبعاد ابستيمولوجية يحاول الكاتب السعودي لملمة رؤاها في كتاب الباحث البحريني والذي يحاول تحليل الخطاب الفلسفي والصوفي ضمن نسق عام يفكر في الجسد، مع أن مركزية استشكاله يقوم على الاحتفاء بالخطاب الصوفي وهو ما أعطى للكتاب زخما معرفيا مضافا..

الفلسفة.. حين تفكر بالجسد!

نذير الماجد

في موازاة التثمين المعاصر للغة، تأتي محاولة الناقد البحريني الدكتور علي الديري، في كتابه "كيف يفكر الفلاسفة؟" الصادر مؤخرا عن دار مدارك، ليجعل من اللغة بوابة عبور لتحليل الخطاب الفلسفي والصوفي، معيدا الاعتبار لاتجاهات فكرية أثارت ولا تزال جدلا واسعا في أوساط المثقفين المعنيين بالتراث، خاصة مناطقه المعتمة والأكثر إشكالية وصخبا وتهميشا في الآن نفسه. يندرج كتاب الديري ضمن استعادة رائجة للخطاب الصوفي تحديدا. هذه الاستعادة التي شملت في المشهد الفكري العربي أسماء درجت على الاحتفاء بالخطاب الصوفي الذي يحوز أواصر شبه عديدة مع الفلسفة المعاصرة بمختلف اتجاهاتها، هي التي ستمنح محاولة الدكتور الديري قيمتها وأهميتها الراهنة.

خصص الديري كتابه الذي جاء في ثلاثة فصول ومقدمة لتحليل الخطاب الفلسفي ممثلا برسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء، وهي الرسائل الشهيرة التي تعتبر بمثابة تدشين نسقي لفلسفة عربية/ إسلامية تتسم بفرادتها وأصالتها، إضافة إلى الخطاب الصوفي ممثلا بالفتوحات المكية وفصوص الحكم للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي.

التصوف مثار جدل لا يقل عن الفلسفة، كلاهما يستمد بنيته مما أسماه الديري وكرس له أطروحته: الجسد المجتاز. إنه كوجيتو الجسد، المكون من سلسلة من الإسقاطات أو الإحالات أو الإنزياحات الدلالية التي تتيحها اللغة من خلال نافذة المجاز. الفكر الفلسفي فكر إشكالي لأنه اشتغال على المجاز أو الاستعارة أو الصورة والتي هي كلها تراوح منطقة الجسد وتتخذ منه دون وعي لوغوسا حاضرا بكثافة، اللوغوس هنا هو الجسد المجتاز، هو جسر عبور بين ضفتي الأشياء والكلمات، وكل ذلك ضمن نص شاغر دائما، نص منفرج ومنفتح على إمكانيات لا نهائية للتأويل والأشكلة والتساؤل، الباحث هنا يتجاسر ليقيم مقاربته فوق منطقة رملية منزلقة، لبناء خطاب استعاري ينسف كل ثنائية متخشبة بين الحقيقي والمجازي، بين التقريري والأدبي، بين العبارة والإشارة.

الديري منذ البداية يفصح عن مهمته، فهو محلل خطابات، والفكر الصوفي أو الفلسفي هو خطاب يتعين على الباحث تحديده كخطاب. ما يهم الديري ليس ما يعنيه هذا الخطاب بل كيف هو. وكيفية الخطاب هي كيفية الفكر. الفكر عبور من ضفة إلى أخرى، كل علامة تحيل إلى أخرى. يقول دريدا: "منذ اللحظة التي يوجد فيها المعنى، لا يوجد سوى علامات".. الفكر إذن مجاز مستمد من صور أو علامات يجتازها ويتجاوزها باستمرار. يقرأ الفيلسوف المجاز على أنه حرية العبور بين الصور. صور كثيرة يتكئ عليها الفكر الذي ينتجها في الآن نفسه. المعرفة مجاز فهي إذن خطاب مفتوح، أو بناء لنص موعود بتشظيات لا نهائية للمعنى.

يقيم الديري مختبرا لفحص الصور، لذلك فإنه يقسم الكتاب إلى إطار نظري يشرح فيه الإمكانات المعرفية للمجاز وآخر يجمع فيه أبرز الصور والمجازات التي تتخذ من الجسد مهمازا لها. الفلسفة تتخذ من الجسد جسرا للعبور، ولذلك فهي تعج بالصور والاستعارات والكنايات المستمدة من خارطة الجسد، الأطروحة الأساسية هي منح المجاز قيمة معرفية، ليس المجاز حيلة بلاغية، كما يريد أن يقول، بل هو "بنية مفهومية حية نرى من خلالها الأشياء والعالم وعلاقاته". ثم يقدم الديري أمثلة لهذه البنى ضمن معالجة تسعى في نهاية المطاف إلى أن تقارن بين الخطابين الفلسفي والصوفي، فمجاز العدد والموسيقى والطاقة والقبول والفيض والدائرة هي الصور الأبرز في خطاب أخوان الصفا، أما ابن عربي، فنجد مجاز النكاح الذي يمثل المجاز المركزي إلى جانب مجازات التجلي والتشجر (الخيال) والنور.

يكاد التحليل أن يكون، رغم غرضه الأكاديمي، خطابا موازيا. يأخذنا الديري إلى سحر اللغة وفتنة الصور وكون من المتعة والدهشة الفكرية. يتقصى الظلال الدلالية لحشد الكلمات التي تؤثث المضمون بمراوغات وانزياحات لا تنتهي. إنه يبدأ عند تناوله لكل كلمة مفتاحية أو مجاز بدراسة معجمية لينتهي بنا إلى متاهات تجريد الفلسفة المراوغ. لا تتجرد الفلسفة إلا حين تتجسد، تتمرغ في أوحال الشهوة وأرضية الجسد. لوغوس الجسد هو تعال بالجسد ومن خلاله للإقامة في الماوراء، إنها المعرفة التي تبدأ أولا من حيث تنتهي: أي من الذات. اعرف نفسك، النصيحة المكرسة على واجهة معبد دلفى، هي العناية بالذات التي تتخذ من المحسوس ميدان اشتغالها في الحقيقة كما في المجاز. أجد نفسي مرغما هنا على الربط بين هذه الأطروحة حول "الجسد المجتاز" وبين العناية بالذات كما صاغها الفيلسوف الفرنسي فوكو، ذلك أن نصيحة دلفى تتخذ زخما تأويليا منحازا لشكل روحاني للمعرفة، بحسب ما قدمه ميشيل فوكو في الكوليج دوفرانس.

وهنا أيضا عامل إضافي لراهنية العمل، فالأسبقية ليست للمعرفة المجردة، للمثل الأفلاطونية المتعالية، بل للذات المؤولة جسديا، هذه الذات هي الأرغانون الجديد، هي اللوغوس السابح في بحر الصيرورة والتغير، هي العقل وقد صار متصالحا مع ما كان يشكل النقيض، أي المعرفة التي هي ليست سوى حشد من الاستعارات، إن الأبتستمولوجيا التيوصوفية هي منطق السيولة التي يمكن إجمالها في: "هو ليس هو".. ليس فقط لصيرورة العالم وحسب وإنما أيضا لطبيعة التفكير البشري، كان على الديري أن يفتح العنوان على مدى تجريدي يستبطن كونية التفكير، حيث "إننا لا نفكر إلا على نحو مجازي" التفكير الأصولي نفسه وهو المتمسك بصنمية الحرف، ليس نقيا من لوثة المجاز ومرض الاستعارة، فالفكر هو قدر ناجم عن "بلبلة مقدسة" إنه نتيجة حتمية لانهيار برج بابل.

يعيد الديري بأطروحته الاعتبار للتصوف لأنه القادر على احتضان معرفة ريبية متعددة لا تعرف الوثوق ولا الطمأنينة البليدة ولا اليقين الحرفي، إنها المعرفة التي تدني الاحتمال وتسيح بالعقل في رحلة الانتقال الدائم بين الصور/ الحقائق، وتفتح النص على عدم تناهيه، إما لانعدام المركز أو الأصل أو لانسحابه أو لقصد أزلي: "لا يتجلى الله في صورة مرتين".

وهنا سلطة للغة، كما في كل مكان يحتفي بالنطق ذاته دون مجاوزته للمنطوق، السلطة هنا للغة تتخذ شكلا نبويا "إن كلمات ابن عربي نفسها تكتب العالم" بيد أن الشيخ الأكبر هو نفسه مكتوب، الجسد فاعل ومنفعل، إنه الجسد الراقص الذي يحيل المعرفة إلى مرح، والخطاب إلى رقص، والجنة إلى سماع أزلي، وهنا في أقصى تجليات الدرويش، بعد أن يصبح مكتوبا، بفعل الوجد، كما يقول السهروردي، يصير الجسد كله لسانا.

 

كاتب من السعودية