في العام الماضي قدم المخرج كريستوفر كينلي فيلما عنوانه ‘سايد باي سايد’ (جنبا الى جنب) (2012) لاحق فيه رحلة السينما مع مئة عام من التجريب في الصورة والضوء واختراع الادوات اما لتسجيل الواقع كما هو او اعادة خلقه بمؤثرات ضوئية خاصة. وقدمت جملة من صناع الفن السينمائي البريطانيين والامريكيين من تيد سودبيرغ الى جيمس كاميرون وديفيد فينتشر، وديفيد لوتش، وجورج لوكاش وروبرت رودريغوز، وداني دويل، ومارتن سكورسيزي وعدد اخر من فنيي وخبراء الاضاءة ردودا على اسئلة الممثل المعروف كيانو ريف، عن رحلة الفن السينمائي ومحاولة الامساك بالضوء وعرضه داخل صندوق اسود وهو في النهاية صندوق سحري. كما تساءل بعضهم بحس نوستالجي عن مستقبل الفيلم او علبه ‘سيليلويد’ وما سيحدث للذاكرة الانسانية التي سجلت على الشريط السينمائي الذي لم يعد قادرا على المنافسة مع الكاميرا الرقمية، ولم يعد موجودة اصلا، حيث تتسيد الكاميرا الرقمية صناعة التصوير السينمائي وكأن مقولة جورج لوكاش في السبعينات وهو يصنع سلسلة افلامه حرب النجوم عن موت الفيلم- اي المعالج كيميائيا اصبحت حقيقة. ويصدر فيلم ‘سايد باي سايد’ عن رؤية تحاول ملاحقة الفكر الانساني والاختراعات التي وان بدأت في معامل الخبراء والعلماء الا ان المخرجين اسهموا في تطويرها، حيث تم التحول من الكاميرا الثابتة الى الكاميرا المحمولة باليد وكيف قدمت هذه الكاميرا و ‘فيديو كام’ احتمالات جديدة وابعادا فنية للفيلم وتطوره. وهناك من يرى مثل سودبيرغ وجيمس كاميرون اننا في عصر الفيلم الرقمي والسينما ذات الابعاد الثلاثة وهو تطور طبيعي يجب علينا التعامل معه بايجابية. وقال كاميرون، مخرج فيلم ‘افاتار’ انه قام بمعالجة كل لقطة من لقطاته ‘رقميا’ ولم يزر لا هو ولا فريقه ايا من الغابات الاستوائية التي تدور فيها احداث الفيلم. ويظل امر السينما ونقل الواقع او اعادة خلقه برؤية جديدة مرتبط برؤية الفنان- اي المخرج والطريقة التي يرغب فيها بمعالجة الموضوع او الفكرة، ولا يجادل هؤلاء المخرجون ان دخول الكاميرا الرقمية على الساحة ادت الى دمقرطة في صناعة الفيلم، فالمخرج لم يعد وحده الذي يقدم تفسيراته عن الواقع ولا بحثه عن معانيه بل هناك كم كبير من الناس ممن يجربون ويتدربون على استخدام الادوات الموجودة بين ايديهم ويسهمون سلبا او ايجابا في بناء صور عن الحياة ومن فيها.
قطار الاخوين لوميير
وتظل قصة ولادة الفيلم، وخروج القطار من محطة مترو باريس بطريقة اخافت المشاهدين وجعلتهم يقفزون من كراسيهم، خروجا سحريا في اعتقاد ان المادة والعقلانية انتصرت على العاطفة الدينية، فالفيلم الذي صوره الاخوان لوميير عام 1895 وعرض في نفس العام هو اول فيلم يعرض للعامة ويمثل تتويجا للتجربة والدراسات التي قام بها مخترعون في انكلترا وامريكا في عالم الصور المتحركة والتي تعود الى السبعينات من القرن التاسع عشر، ولا يزال علماء السينما الباحثون في بداياتها يتساءلون ويجادلون طويلا حول الشخصية التي يعود اليها سبق اكتشاف الفيلم المتحرك، فتوماس اديسون المخترع الامريكي الذي صور عددا من الافلام في معمله في ‘ماريا بلاك’ في نيوجرسي ومنها ‘القطتان المتلاكمتان’ (1894) يعد من التجارب الاولى وقد سبقه اخرون جربوا منهم جورج ميليه الفرنسي (1861 -1938) ، وويليام فريز غرين (1855-1921) ولوي لو برينس (1841- 1890) الذي نجح بتصوير اول فيلم متحرك عام 1888، ولا بد من العودة الى محاولات ودراسات ادوارد مايبريدج (1830 -1904) المصور الفوتوغرافي البريطاني الذي اغرم بتصوير البشر والحيوانات ورصد حركتهم من خلال وضع عدد من الكاميرات جنبا الى جنبا حيث يدير الكاميرات في وقت واحد. وهناك اسماء كثيرة ومنها روبرت دبليو بول (1869 -1943) مما يجعل الحديث عن اب حقيقي للسينما في غاية الصعوبة، ولكن المتفق عليه ان هذه الجملة من الاسماء حاول كل واحد منها بطريقته محاكاة الواقع والتوصل الى تفسير للحياة الانسانية، وكلهم على اختلاف مشاربهم والطرق التي مشوا فيها كانوا يبحثون عن معنى الضوء والحركة واسهموا في بناء ما اصبح متعارفا عليه لغة الفيلم او السينما. كما ان المتعارف عليه هو ان فيلم الاخوين لوميير كان الاول من الناحية الفنية الذي اظهر وعيا بأهمية الضوء وحركة الكاميرا وموقعها من الممثل او الشخصية في الرواية.
دهشة الطفل
ويتساءل مارتن سكورسيزي الذي حاول استعادة نفس المشهد في فيلمه ‘هيوغو’ (2012) عن رد فعل الناس لو وضعت الكاميرا في زاوية مختلفة عن تلك التي صور من خلالها الاخوان لوميير فيلمها،هل كانوا فعلا سيجرون خوفا من ان يصطدم بهم القطار. ويظل الفيلم جزءا من تاريخ الصندوق السحري، سواء دار السينما التي ظلت تلعب دور معبد الحداثة في القرن العشرين، وداخل جدرانها وفي علب الافلام تم تجسيد حيوات واستعادة، بناء وتركيب حيوات. وتم كل هذا في الظلام الذي انبعث منه نور الفيلم، لان الاساطير عادة ما تحاك في الظلام ثم يظهر النور الذي ينور ويبعث على الامل ويخلق الصور في عقل- عين المشاهد الذي يقوم ويفسر. وعندما يكتب سكورسيزي عن الفيلم وتاريخه فهو في العادة يكتب عن سطوته وتسيده حياته، فهو قد انجذب الى السينما منذ الصغر، لا لداع الا لانه كان مريضا ‘بالربو’ مما يعني عدم قدرته على ممارسة الرياضات التي يمارسها نظراؤه في هذا العمر ومن هنا ولان القراءة لم تكن معروفة في بيت والديه، فقد وجدا ان احسن طريقة للتواصل بينهما هي اخذ مارتن لدار السينما ومتابعة الافلام ومن هنا اصبحت السينما بالنسبة الي هوسا وسطوة وخيارا لا بديل عنه.
عناصر الصورة
وفي مقال مطول نشرته مجلة ‘نيويورك ريفيو اوف بوكس′ عن السينما ولغتها في عدد شهر آب (اغسطس) الاخير، استعاد فيه قصة السينما واهم ملامحها التي تقوم على الضوء- النور، الحركة، والزمن والتداخل والقطع (كت) الذي يراه اساس فهم المخرج للغة الفيلم. وتنبع اهمية المقالة من كونها دعوة للاعتراف باننا نعيش في عصر الصور وان هناك حاجة لمعرفة قرءاتها وبالتالي حفظها كجزء من الذاكرة الانسانية. ويستعيد سكورسيزي القصة بطريقة عاطفية، مثلما استعاد تاريخ الفيلم عام 1995 في ‘رحلة شخصية مع مارتن سكورسيزي من خلال الافلام الامريكية’ والتي جاءت في اربع ساعات. وفي مقاله الاخير يبدأ رحلة فهمه لسحر السينما من فيلم ‘الصندوق السحري’ (1950) الذي لعب فيه الممثل البريطاني روبرت دونات دور ويليام فريز غرين الذي يقول سكورسيزي انه واحد من الشخصيات التي ضحت بكل شيء من اجل السينما. وقد انتح الفيلم لعرضه في مناسبة اطلق عليها في حينه ‘ مهرجان السينما’ وشاركت فيه الى جانب دونات نخبة من الممثلين الانكليز ويقول سكورسيزي’ لقد شاهدت هذا الفيلم عندما كنت في الثامنة من عمري، ولم اتخلص من اثره علي ابدا، واعتقد ان هذا ما اشعل في داخلي البحث عن عجائب السينما والهوس لصناعة الافلام، ومشاهدتها واختراعها’. وهنا يشير الى اثر والديه ايضا ومرضه كسبب من الاسباب التي جعلته يعيش السينما ويظل فيها مخرجا وكاتبا ومؤرخا وعاشقا. ويقول سكورسيزي انه وعائلته جربا معا رؤية ‘الحقيقة العاطفية’ والتي عادة ما ما ظهرت من خلال اشكال مشفرة، ومتشابهة خاصة ان الافلام التي شاهدها وعائلته كانت تعود الى الخمسينات والاربعينات ففيها نفس التعبير عن نفس الاشياء، من ‘لفتات، نظرات، ردود افعال بين الشخصيات، ضوء وظل ، وهي نفس الاشياء التي لم نكن نعترف انها موجودة في حياتنا او كنا نناقشها’. وهذا هو جوهر الدهشة التي يخلقها الفيلم فينا فكلما يقول سكورسيزي ‘سمعت الناس يرفضون الافلام على انها ‘فانتازيا’ ويحاولون وضع فروق كبيرة بين الفيلم والحياة الحقيقية، قلت لنفسي انهم يحاولون بطريقة ما تجنب ‘سطوة السينما”.
مرض السينما
ومع اننا نتفق ان السينما ليست هي الحياة الحقيقية الا انها تظل استعادة لها او حوارا مستمرا معها ولهذا تتطور لتصبح على حد تعبير فرانك كابرا مرضا فـ’الفيلم هو مرض’ وهو ما اصيب به كاتبنا ومخرجنا بالتأكيد. ولعل من اعراض هذا المرض هو التعلق بطقوس الحياة في داخل السينما التي تبدأ كما يقول بالذهاب مع والده او والدته او شقيقه الى شباك التذاكر ثم الولوج عبر عدد من الابواب، والمشي على سجاد غليظ، حيث تمر من جانب كشك بيع الفشار الذي تنبعث منه الرائحة الجميلة، ومنه الى الرجل الذي يفحص التذكرة، وبعدها تمر عبر ابواب اخرى لها نوافذ صغيرة ومن خلالها تحصل على نظرة على شيء سحري ينبعث من الشاشة، وهو امر خاص وعندها قد تكون دخلت العالم السحري،’فكانما دخلت فضاء مقدسا، مثل الحرم حيث بدا العالم من حولي وكأنما اعيد خلقه وتمثيله’.
النور والحركة
لم يكن الطفل سكورسيزي قادرا على فهم اسرار السينما سوى انها عالم من الدهشة، صندوق من العجائب والصور المتحركة على شاشة لكن الرحلة علمته وادت به لاكتشاف اسرارها وتحديد عناصرها التي تبدأ بالضوء المنبعث من الشاشة، فالسينما اولا واخيرا هي ‘نور’ والضوء كما يقول هو بداية السينما وهو جزء اساسي فيها، لان الافلام تصنع من الضوء ويفضل ان تبث وتعرض داخل الغرف المظلمة، و ‘لكن النور هو اصل كل شيء، فمعظم الاساطير تبدأ بالظلام وبعدها ينبعث النور الحقيقي، مما يعني ولادة وخلق الاشكال، وهو ما يؤدي الى التفريق بين شكل واخر، والتفريق بيننا وبين بقية العالم. اي التعرف على الاشكال واوجه التشابه والاختلاف وتسمية الاشياء، وتفسير العالم، مجاز يعني رؤية شيء في ضوء شيء اخر. تصبح ‘متنورا’، فالنور هو جوهر من نحن وكيف نفهم انفسنا. ثم يأتي بعد ذلك العنصر الثاني في الفيلم وهو الحركة. وهنا يستعيد قصة رؤية فيلم متحرك على جهاز حيث سمح له بالنظر لداخل الصندوق الذي يبث الصور، فقد شاهد صورا صغيرة ثابتة تمر بشكل اوتوماتيكي عبر نافذة صغيرة وبسرعة منتظمة، وقبل ان تصل الصور الى الشاشة تكون في وضع مقلوب، وبسبب الحركة تعود امام المشاهد الى وضعها الصحيح مما يجعل الفيلم عبارة عن ‘قطع الزمن’ على حد تعبير جيمس ستيوارت. ويعتقد سكورسيزي ان رغبة الانسان في تحريك الجامد ورؤية الاشياء تتحرك رافقته منذ نشوء الانسانية مشيرا الى الرسوم التي وجدت على جدران مغارة شوفيه في جنوب فرنسا والتي تعود حسب علماء الاثار الى 30 الف عام وكانت المغارة موضوعا لفيلم شهير ‘مغارة الاحلام المنسية’ (2010) من اخراج ويرنر هيرزتسوغ. ولفت سكورسيزي انتباهنا ان من بين الرسوم صورة ثور له اكثر من قرن مما يعني محاولة من الفنان ان يرينا معنى الحركة في الصورة الثابتة. وحول مفهوم الحركة ومحاولة الانسان استعادتها او اعادة اختراعها يدخل سكورسيزي في نقاش حول من اكتشف الحركة في الفيلم- الصورة اولا . وهنا يتساءل قائلا هل بدأت السينما بمويبريدج ام يجب علينا ان نعود الى رسومات المغارة الفرنسية؟ ويقتبس ما قاله توماس مان في روايته ‘جوزيف واخوته’ والذي قال ان عملية البحث الدائم والعميقة تأخذ الانسان في رحلة بحث للعالم السفلي حيث تتكشف له الاسس الاولى للانسانية، تاريخها وثقافتها بطريقة لا يمكن فهمها. ومن هنا يقول سكورسيزي ان ‘كل البدايات غير مفهومة وبداية التاريخ الانساني هي بداية السينما’.
الزمن
هذا الكلام ينقلنا الى البعد الثالث في السينما وهو الزمن والذي يراه حاضرا وبطريقة واعية في فيلم الاخوين لوميير، الذي يختلف عن تجارب اديسون في معمله، فالفيلم التقط وشوهد في نفس العام مما يعني انه عن ‘الان وثم’ مما يجعل من الفيلم ‘قطع من الزمن’. ويضاف الى هذا ففيلم الاخوين لوميير لم يكن يقصد فقط التسجيل كما هو حال اديسون، بل هناك قدر من التأليف والتفكير المسبق في كيفية تسجيل ونقل الواقع، اي المخرجين فكرا مليا في كيفية نصب الكاميرا والمسافة بينها وبين القطار، وحددا طول وارتفاع المشهد وزاوية اللقطة. ولهذا فالجهد في نقل الواقع من زاوية معينة بدلا من ترك الكاميرا تنقل الصورة بشكل عفوي كان وراء الاثر الذي شعر به وجربه العامة الذين شاهدوا الفيلم. وهذا الجهد من الاخوين يختلف عن صانع الخدع و ‘الساحر’ جورج ميليه الذي حاول ادخال الفيلم في صناعته وقام بمحاكاة الواقع بطريقته وصنع بنفسه ويدويا الكثير من المؤثرات الضوئية مما يجعل من افلامه كما يقول سكورسيزي ‘خزانة من الاعاجيب’. وعلى الرغم من ان نقاد السينما ومؤرخيها عادة ما يتعاملون مع الاخوين لوميير وجورج ميليه باعتبار كل واحد منهم يمثل تيارا مختلفا ومتناقضا الا ان سكورسيزي يرى ان الامر لا يعدو كونه اختيارات فالطرفان كانا يعملان على تشكيل الواقع، من اجل تفسير وتفتيق معانيه واسراره ولكنهم مشوا في طريقين مختلفين.
اسرار ‘الكت’
والسؤال هو كيف يمكن للمخرج تشكيل الواقع وبناء تفسير عنه يرى سكورسيزي ان السر يكمن في ‘الكت’ او عملية القطع التي يقوم بها المخرج حيث يصل بين لقطتين وفي الحقيقة يقوم باختراع لقطة ثالثة، وهذه قد تكون عرضة للتأثر والتقولب حالة استخدم المخرج زاوية معينة، او قام بتغيير زمن القطع، ويشير الى الكيفية التي يخلق فيها المخرج الحس بالواقع وبرؤية جديدة ممثلا بعدد من الافلام منها فيلم ‘غريت ترين روبري’(حادث السطو الكبير على القطار) (1903) من اخراج ادوين اس بورتر والذي يمسك بتواصل الحركة من خلال القطع بين داخل وخارج عربة القطار في نفس الوقت، ونفس الامر يلاحظه في فيلم ‘ذا مساكتيرز اوف بيغ آلي’ (فرسان زقاق الخنزير) (1912) الذي يعتبر بداية افلام عصابات الاجرام، حيث يرى مشي رجال العصابة في مشهد تجاه الكاميرا ثم ‘كلوز اب’ هو تعبير عن الطريقة التي يقوم بها المخرج بتشكيل لغة السينما، فالصورة توحي بان رجال العصابة يجتازون شيئا لكن المشاهد لا يراه وانما يراه بعين عقله، ويسمي هذا عملية ‘التدخل’. ويعتقد سكورسيزي انها بداية الهوس والاثارة لان عملية القطع والمزج بين لقطتين تقود كما قلنا الى لقطة ثالثة تراها في عين عقلك ولكنها ليست موجودة. وهذا الملمح قائم وواضح في تجربة المخرج السوفييتي المعروف سيرغي ايزنشتاين، وهو ما جربه في افلامه، مع انه قد يؤدي الى حالة من الاحباط خاصة عندما يتم تغير وقت القطع ، فلو غيرت زمن القطع قليلا، ببضع لقطات او حتى اطار واحد فالصورة الثالثة تتغير حيث اطلق ايزنشتاين على عملية القطع هذه بانها ‘مونتاج عقلي’ حيث يقوم المخرج بالتنقل من لقطة الى اخرى ومن زمن لاخر، كما فعل دي دبليو غريفيث عام 1911 في فيلم ‘لا تسامح’ الذي جاء من اجل التكفير عن العنصرية التي ظهرت في فيلمه ‘ميلاد امة’، وفي هذا الفيلم ينتقل غريفيث بين اربع قصص وفي اكثر من حقبة زمنية مثل مذبحة الهوجونو في فرنسا عام 1572 وصلب المسيح وسقوط بابل والتاريخ الحديث وهو الصراع بين الاغنياء والفقراء في أمريكا عام 1916 وكأن غريفيث يريد ان يقول للمشاهد ان التعصب جزء من التاريخ الانساني ويترك دائما اثارا مدمرة على البشرية.
نهاية الفيلم
ويرى سكورسيزي ان من يشكك في كون الفيلم عملا فنيا ما عليه الا ان ينظر الى تاريخ واشكال الفيلم، فقد بدأ كشكل من اشكال الفن على يد لوميير وميليه وبورتر ثم اخذتنا لغة الفيلم الى اتجاهات متعددة من التجريد الخالص الذي برز في اعمال جيمس ستانلي (ستان) براكاج (1933-2003) الطلائعية والتجريبية الى افلام المقاولات التي قدمها المخرج مايك ميلز التي استهدفت مشاهدين تعودوا على مثل هذه الافلام حيث تبدو فيها الصورة سريعة لدرجة انك تفهم الصلة لاحقا. وفي هذا السياق يقول ان السينما التي نتحدث عنها من اديسون والاخوين لوميير وبورتر الى غريفيث وستانلي كيوبيرك ذهبت لغير رجعة. وقد حلت محلها صور متحركة تأتي الينا وتغمرنا من كل مكان وبسرعة تتفوق على سرعة الصور التي يتلقاها رجل الفضاء في فيلم كيوبريك ‘ 2001: سبيس اوديسي’. وهنا يصل بنا سكورسيزي الى وصف حال الفيلم في ضوء التطورات التكنولوجية المتسارعة حيث يدعو الى تغليب ثقافة فهم الصورة، مشيرا الى ان المخاوف التي يطرحها البعض اليوم من اثر الانترنت على عالم الكتاب والمكتبة هي نفس ما طرحه سقراط قبل اكثر من الفية عندما كان يخشى من اثر الكتابة والقراءة على الحافظة الذهنية حيث سيفقد الطلاب حس الحكمة الحقيقي النابع من القول والخطابة والحفظ. ولان الكتابة والقراءة اصبحت من المسلمات فنفس الحديث يطرح عندما يتعلق الامر بالصور المتحركة، هل تمثل خطرا علينا وعلى حضارتنا؟ وهل تقوم بدفعنا لكي نتخلى عن لغتنا؟ ويرى سكورسيزي اننا نعيش في عصر الصورة حيث تحيط بنا الصور من كل جانب ومن هنا يدعو الى تدريس اسس فهم الصور للطلاب، كي يكونوا قادرين على التفريق بين الصور السريعة والجاهزة وبين تلك التي تلمس ملامح حياتهم ووجودهم الحضاري. ويرى انه لا فرق بين معرفة القراءة والكتابة ومعرفة قراءة الكتابة بالصور لان الاصوات والحروف في بعض اللغات هي في النهاية صور كما في اللغتين اليابانية والصينية.
الحفظ والصيانة
ومن اجل الحفاظ على ثقافة الصورة وقدرة الانسان على التعرف عليها واستعادتها، يجب ان تحفظ كما تحفظ الكتب والالواح التي حفظتها لنا الطبيعة لنعود لاكتشافها مرة اخرى كما حدث مع الالواح السومرية في بلاد الرافدين او تلك التي يقوم البشر بحفظها. ومشكلة حفظ الافلام انها نابعة من طبيعة المادة التي يصنع منها الفيلم والتي تجعله عرضة للخراب، مع ان فكرة حفظ الافلام كما يقول لم تناقش ابدا، وان تمت فقد حدثت بالصدفة، وقد اختفت بعض الافلام الشهيرة ضحية لشهرتها، ففي كل مرة يعاد عرضها يتم العرض اعتمادا على النسخة الاولى مما يعني محو واختفاء الصور الاصلية في كل عرض يتم. ويدعو مخرجنا الشهير الى الاحتفاظ بكل شيء وان لا نتأثر بالمعايير الثقافية المعاصرة التي تحكم على الفيلم من وجهة نظر الشهرة، وهي الثقافة التي تمجد جانبا ما وللحظة انية من صناعة الفيلم وتقوم بالاستهانة بالفيلم. لان ما نراه اليوم فيلما لا قيمة له قد يعتبر في لحظة زمنية معينة فيلما عظيما، وعلينا ان نتذكر ان رواية ‘موبي ديك’ لهرمان ميلفيل لم تبع الا عددا قليلا من النسخ عندما صدرت عام 1851 والنسخ الباقية اتى عليها الحريق في المخزن الذي حفظت به، ولم يتم استعادة او التعرف على اهمية الرواية الا في عشرينيات القرن الماضي. وفي النهاية يقول سكورسيزي ان الوقت قد حان للتعامل مع كل صورة بوقار واحترام كما نتعامل مع الكتب القديمة في مكتبة الكونغرس.
ناقد من أسرة القدس العربي