يبدو ميدان التحرير في قصة الكاتبة المصرية متاهة حضرية ومعنوية معا، تواجه فيها الراوية الكثير من الأسئلة التي بلا إجابة وتعايش فيها أزمنة عديدة تتصارع فيما بينها. ومن خلال السخرية التي تتخلل النص تكشف القصة عن المفارقات اليومية التي تعيشها الراوية.

فى حضرة الميدان

سهام بدوي

متجهة إلى عملي اليوم الموافق العاشر من شهر بعينه وسنة بحد ذاتها، رحت أتابع المحطات التي ستسقط فيها روحي هذا الصباح.

نسيت الخطة ـ خطة متابعة المحطات التي ستسقط فيها روحي، ودخلت ديوان "أثر الفراشة" لمحمود درويش، والذي صار يرافقني كثيرا هذه الأيام.

"وقلت له، مرة، غاضبا: كيف تحيا غدا؟
قال: لاشأن لي بغدي. إنه فكرة
لاتراودني. وأنا هكذا هكذا: لن
يغيرني شئ، كما لم أغير أنا
أي شئ... فلا تحجب الشمس عني!
فقلت له: لست اسكندر المتعالي
ولست ديوجين
فقال: ولكن في اللامبالاة فلسفة،
إنها صفة من صفات الأمل!"

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

تبدأ رحلتي عادة من ميدان التحرير وليس من أمام بيتي بعد استقلال تاكسي ما. فالميدان هو عنق الزجاجة التي يعني الخروج منها: "الخروج" بالمعنى الكامل للكلمة ـ البداية.

والتحرير ليس اسما بالصدفة!!

ميدان "السادات" ـ رحمة الله عليه ـ والمكتوب بالأبيض على لوحة زرقاء لتدشين الاسم الجديد،والذي تحول إلى شبكة عنكبوتية من الحواجز والموانع والعوائق مخططة ومهندسَة بذكاء نادر، شبكة تحار الأقدام والعقول كيف تخرج منها دون التحايل والالتفاف لكسب الوقت. الوقت.......... رحمة الله عليه هو أيضا.

ونحن الآن في الصينية الأولى في الميدان، بنهاية شارع القصر العيني، تلك الصينية التي تقابلك قبل دخولك إلى الصينية الثانية حيث يقف البطل الشهيد: عبد المنعم رياض ليجمّل الصينية بزيه العسكري منتصبا لامعا تحت الشمس بخامته الجديدة من البرونز.

ولكن أين لنا به هذا البطل. التاكسي الآن متوقف لأسباب أهمها أن الإشارة خضراء. بجواري ولكن أعلى قليلا تهاجمني أسراب من النظرات التي تقلق جلستي وتمنعني إلا أن أتململ، فأقرر أن أهاجمها واقتص لنفسي. ثم أملّ ذلك كله ـ تبادل إطلاق النظرات ـ فأتخطاه إلى من يقود هذا السرب المحمول من البشر ـ قائد الأتوبيس.

بينما تقع عيني عليه الآن، أراه وهو يهمّ بإلقاء شيء ما.......... من بعد، ومن خلال وضع اليد الأخرى الحاملة زجاجة مياه بلاستيكية مملوءة من الحنفية ـ ربما حنفية بيته أو أي حنفية عمومية ـ لايتضح إلا لون مياة باهت بفعل قدم الزجاجة واتساخ جلدها البلاستيكي من كثرة الاستخدام. في زمن ما كانت مياة معدنية لإحدى الشركات المتعددة الملكية الآن: نستلة ـ بركة ـ أكوا ـ حياة ـ صافي ـ مينرال.......... عافية..........

في زمن ما، أفرغها فم آخر في معدته وألقاها، لتلتقطها يد أخرى وتعيد ملأها واستخدامها.

وضع اليد التي ترفع الزجاجة جعلني أخمن ماتفعله الأخرى التي ستلقي شيئا ما في الحلق.

يد تلقي والأخرى تهم بإتباع ذلك بجرعة ماء تسهل عملية البلع.

أي قرص يتناوله قائد هذا الباص في زحمة الميدان وانسداده؟ أقرص أو أكثر؟ ولأي مرض؟ ومدة المفعول؟ والأعراض الجانبية؟ و..........؟؟؟؟؟؟؟

باغتني السائق وأنا في زحمة هذه الأسئلة بنظرة جانبية تقول لي إنه يعرف فيما أفكر، أو تريد ـ ربما ـ أن تنقلني إلى بعد آخر!!

من موقعه في العلالي ابتسمت له، لم يرد الابتسامة، وأخذ فوطة برتقالية باهتة مسح بها وجهه وأعاد مسح جبينه مرات.

يده ذكّرتني بجبيني فلمسته.

الساعة في الميدان تشير إلى السابعة والربع ـ بحسب الساعة التي تعلو فندق النيل هيلتون.

الباص ليس ممتلئا باللحم بل ـ بالعكس ـ الكل جلوس في حضرة الميدان وهناك كراس خالية.

كل الاتجاهات ثابتة في أماكنها، مما يوحي بمرور ركب مهيب.لكن من ياترى من المسؤولين سيعبر في هذا الوقت؟ من منهم..........؟

ربما هناك حالة وفاة مثلا...؟؟

فجأة فتحت باب التاكسي، اعترض السائق بشدة ذاكرا لي خطورة الأمر خاصة لو كان المسؤول الذي سيمر كبيرا. أما إذا كان ـ والعياذ بالله ـ.......... فتبقى ياداهية دقُّي!!

حركة مفاجئة لي أنا أيضا. لمَ فتحت الباب؟

أغلقته وعدت بعيني ـ من جديد ـ إلى سائق الباص الذي كان يرمي رأسه إلى الخلف ناظرا إلى السقف ومديرا صوت عبد الباسط: " ربنا لاتؤاخذنا إن..........".

ينقطع الصوت بفعل عربات مطاردة/ أتاري من بعيد.يتنهد سائقي: الحمد لله...شكلها خلاص هانت..!!

أضحك:

ـ انت بتحلم. كده وبالسرعة دي؟؟

ـ .......... بقالنا نص ساعة ياهانم !! سرعة إيه؟ دلوقتي...

عبور...عبور خاطف كأن الركب لايمر بميدان التحرير. لكنك تلمح ـ برغم السرعة ـ لون الركب الأساسي: الأسود، والنوافذ سوداء تخبطها شمس واهنة لاتؤثر إلا من الخارج، فالداخل مبطن بزجاج عازل للصوت وضد الرصاص وأضف إلى ذلك الستائر. فماذا تفعل شمس عزلاء !!

شمس كانت ابنة السابعة والربع وأصبحت ابنة السابعة وخمس وأربعين دقيقة.

لا أدري، ربما هو السن، فالواحد بعد الاربعين يصاب بمرض غريب أعراضه عدّ أي شيء يراه. سمّوه "مرض العد "، أو أي اسم آخر المهم أن يرتبط بالإحصاء.

انشغلت بعدّ سيارات التشريفة، " التشريفة "؟ من العبقري الذي أطلق عليها هذا الاسم؟؟

كانت التشريفة سيارتين أماميتين وأخريين خلفيتين، واتنتين عن اليمين واثنتين عن الشمال. وفي المنتصف الهدف المطلوب حمايته يبدو قزما بسيارته، وسط أعداد سيارات الهامر المهيبة.

تنعطف التشريفة قاصدة ظهر الميدان ـ مؤكد مبنى السفارة الأمريكية.

ـ احنا المسؤولين بتوعنا مايصحوش بدري كده.

أضاف سائق التاكسي.

يعود الميدان إلى سابق فوضاه.

ـ نص ساعة ياكفرة، الله يخرب بيوتكم.

لم أعد أدري من الذي يصيح الآن.

تتلاقى الاتجاهات فيسألني السائق:

ـ قلتي لي على فين ياأستاذة؟

ـ خد اكتوبر، عايزين التجمع الخامس.

يشعل سيجارة.

يدير المحرك الذي كان قد أوقفه، لتوفير البنزين.

لم نتحرك بعد. كانت ـ فقط إرهاصات بالحركة: كلاكسات، عوادم متفجرة من الكبت، سب وشتم ولعن سنسفيل،استغفارات، أصوات إذاعة إف إم أغاني:

" ابنك يقول لك يابطل هات لي نهار.........."

ـ هو بكرة عيد وطني ياريس؟

ـ يجوز ياهانم، حد عارف لهم.......... عايزينه وطني يبقى وطني!

صوت قذائف الشتائم يعلو ويمور...

ـ المجنون دا راح فين؟؟؟

ـ حد يسيب قتيل كده ويهرب؟؟

ـ دا لازم يتحاكم؟؟

ـ يمكن كان عايز الحمام؟

ـ يعني حبكت دلوقتي؟

ـ اتفو على اللي..........

ـ طب كان يركنه على جنب ويغور في الداهية اللي عايزها. يسيبه كده في بحر الشارع؟

ـ إحنا المصريين كده مش هنتقدم ولا نتحضّر أبدا!!

ـ هي أصل الحكاية كانت ناقصاه.

لم أفهم لمن توجه كل هذه الجمل.

فتجميعها لم يكن يعني أن سائق الباص قد تركه وفرّ بجلده.لكن كانت تكفي نظرة على كرسي القائد لتعرف أن المكان خال، وأن الباص رابض في حضرة الميدان عائم في انتظار ما.

لا مسؤول ولا تشريفة الآن، إلا ان الميدان لم يعد ـ أيضا ـ قادرا على تجاوز شلله المفاجئ، وغليانه. لم يعد قادرا على احتمال باص مملوء عن آخره باللحم، ببشر انتهزوا فرصة وقوفه وصعدوا خوف التأخّر عن أعمالهم ومصالحهم. باص ـ دونما قائد ـ يقف الآن ـ بعرض شارع القصر العيني، في غفلة من الجميع.