يبني القاص السوداني قصته على فكرة بسيطة تتخلق بها أسطورية شخصيتها المحورية العابرة للزمن والمكان معا، والتي تصر على فكرة مغايرة للمألوف، في بيئة مغلقة، يحكمها الخوف والاستبداد، كاشفاً طبيعة الذهنية السائدة وعلاقتها بالسلطة والدين والحرية، ومعريا منطق إلغاء الرأي الآخر وتصفيه في واقعنا العربي.

حكاية الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة

محـمد محمـود

وحُشِرَ لسليمانَ جنودُهُ من الجِنّ والإنس والطير فهم يُوزَعون * حتى إذا أتوا على وادِ النمل قالت نملةٌ يا أيها النملُ ادْخُلُوا مساكنكم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سليمانُ وجنودُهُ وهم لا يشعُرُونَ * فتبسّم ضاحكا من قولها وقال ربِّ أوْزِعْني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدَيَّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدْخِلْني برحمتك في عبادك الصالحين

(النمل 17:27-19).

 

عندما يتحدّث الناس في مدينتا عن حكاية الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة فإنهم يتحدثون همسا وهم يلتفتون حولهم وقد ارتعدت أطرافهم. وهم لا يذكرون اسمه البتة، وعندما يرد ذكر ما يشبه اسمه فإنه يرد مشفوعا بإشارات ظاهر الأيدي وهي تضغط الشفاه المتوتّرة ضغطا وكأنها تسدّ منافذ الهواء لكيلا ينسرب ما يشبه الاسم. وبمرور الزمن فإن ملامح الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة أحاطتها قتامة وغموض وتضارب، فالبعض قالوا إنه كان في مقتبل شبابه، فارع الطول، يتفجّر جسمه نشاطا وفتوة، والبعض أقسموا أنه كان في منتصف العمر، أشيب شعر الرأس والشارب، ربعة القامة يميل لقصر مع امتلاء، والبعض ذكروا أنه نحيل، ساهم النظرات لا ترسو عيناه على شيء، وآخرون أخبروا أنه كهل أصلع الرأس يمشي بتهالك وكأنه على وشك الانكفاء ويظهر عليه الإعياء وإن لم يشكُ من علة بعينها.

ومثلما يختلف الناس حول هيئة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة فإنهم يختلفون أيضا حول تفاصيل أحداث حكايته، وإن اتفقت كل الروايات أن المواجهة الشهيرة وقعت في المسجد (بعض الرواة يذكرون أن المواجهة كانت عقب صلاة الظهر في منتصف يوم صيف ملتهب القيظ وكأنه سوط عذاب وأن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة كان يلبس جلبابا قطنيا خفيفا داكن الزرقة، إلا أن رواة آخرين يذكرون أن المواجهة كانت عقب صلاة العشاء في يومٍ قارص البرد، يكاد الدم يتجمّد في العروق من وخز زمهريره، وأن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة كان يرتدي بلوفرا صوفيا ذا زرقة قاتمة). وتتفق الروايات أيضا على ثلاثة أماكن وهي المستشفى والمحكمة ثم ميدان العدالة، وفيما عدا ذلك فإنها تتضارب وتتعارض تعارضا ميئسا. مثلا، متى سمع الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة قصة النملة؟ وفي أي مقام سمع الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة قصةَ النملة؟

بعض الرواة يقولون إنه سمعها قبل يوم من المواجهة الشهيرة، وبعضهم يقولون إنه سمعها في نفس يوم المواجهة الشهيرة. وبعض الذين يميلون للشك (وما أكثرهم في مدينتنا) يزمّون شفاههم ويقولون بغمغمة هامسة: «إن الأمر يدعو للاندهاش والحيرة، لابد أن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة فد سمع قصة النملة قبل ذلك، في المدرسة أو عبر أجهزة الإعلام، أو قرأها وخاصة أنه كان قارئا نهما!» ولكن من المؤكد، وهذا ما تجمع كل الروايات عليه، أن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة قال لإمام المسجد، وعلى مرأى ومسمع من جمع حاشد من المصلين، إنه لا يصدّق قصة النملة، ومن المؤكد أنه قد وقع اعتداء عليه، وإن اختلفت الروايات حول كيفيته.

بعض الرواة يقولون إن الإمام بُهت عندما صرخ الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة في وجهه وبأعلى صوته وبكامل وعيه بأنه لا يصدّق قصة النملة. وبأن ثلة من المصلين أخذها حماس مفاجئ وهجمت على الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة، وأوسعته ضربا ولكما بالأيدي والأقدام، وبأن الإمام ما لبث أن استردّ تماسكه واستنقذ الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة من براثن المصلين. وبعض الروايات تذهب إلى أن الإمام وجماهير المصلين صعقتهم الدهشة وألجمت أطرافهم وأن الذي انبرى للرجل الذي لم يصدّق قصة النملة شخص واحد (وإن اختلفت الروايات حول اسمه وصفته). إلا أن بعض الرواة يصرّون أن الإمام هو الذي هجم على الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة، وأنه عندما سمع ما سمع اتّقدت في جسده ثورة عارمة وانقضّ على الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وتابعه باقي المصلين الذين أعدتهم سَوْرة الإمام (والذين يتمسكون بهذه الرواية يشيرون لموجات الغضب التي تجتاح الإمام أحيانا وهو يخطب على المنبر وكيف تتشنّج أطرافه وتجحظ عيناه). وانفرد أحد الرواة برواية مفادها أن الإمام وجمع المصلين تسمّروا في أماكنهم عندما قال الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة إنه لا يصدّق قصة النملة، وأن الأفق الغربي، المجلّل بقتامة غروب الشمس، انفتح فجأة عن مردة من الجن هجموا على الرجل وتركوه مغشيا عليه، معلقا بين الموت والحياة بخيط رفيع يشبه خيطا واهيا من خيوط ضوء الشمس المحتضرة.

وتتضارب الروايات حول كيفية نقل الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة من المسجد إلى المستشفى وإن أجمعت على أن المصلين لم يلمسوا الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة خوف أن يُحبط أجر صلاتهم. فبعض الروايات تقول إن أحد المارة سمع الضجة ودخل المسجد، وعندما رأى الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة مغشيا عليه حمله على ظهره إلى الشارع المحاذي للمسجد وأوقف سيارة أجرة وأوصل الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة إلى المستشفى. والبعض يقولون إن ذلك الرجل لم يحمل الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وإنما خفّ في الحال للاتصال بسلطات المستشفى. والبعض ذكروا أنه تصادف أن سيارة من سيارات شرطة النجدة كانت تمرّ بقرب المسجد عندما وقع الحادث وأنها هي التي حملت الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة للمستشفى.

وتتضارب الروايات أيضا بصدد ما حدث في المستشفى. فبعض الرواة يقولون إن الطبيب المناوب (وهو طبيب بعينه يذكرون اسمه وأصله وفصله) رفض أن يلمس الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة عندما سمع بحكايته، وهي رواية يرجّحها الكثيرون لأن هذا الطبيب بالذات مشهور في مدينتنا بالورع الشديد وبأنه على طهارة دائمة ومعروف بحرصه الدائم على الإشراف على تطبيق الحدود من قطع للأيدي ومن قطع من خلاف للأيدي والأقدام ومن رجم (وإن لم تقع إلا حالات رجم معدودة في تاريخ مدينتنا حتى الآن، وهي حقيقة يذكرها الناس في مدينتنا بسخرية يخالطها تيه خفي إذ أن الجنس الحرّ يفشو في مدينتنا فشوا يبزّ ما هو معروف في المدن الأخرى المحيطة بنا). والبعض يقولون إن الطبيب المناوب كان طبيبا آخر وأنه قام بإسعاف الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وأنه أُخضع لمساءلة تأديبية فيما بعد. والبعض يصرّون أن الطبيب المناوب كان غائبا تلك الأمسية وأن الذي أسعف الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ممرض معروف في مدينتنا بسلاطة اللسان ومتهم في أخلاقه.

وتقول بعض الروايات إن المرضى الذين شاركهم الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة عنبرهم تلك الليلة تعرّضوا كلهم لكوابيس مريعة وظلوا يصرخون ويتلوون بتشنج لاإرادي وهم على حافة ما يشبه الهاوية المظلمة. ويقول أحد جيراننا (بنغمة تشي زهوا مستترا) إنه كان أحد أولئك المرضى في تلك الليلة الحافلة بالرعب وإنه رأى نفسه يقع في جبّ مظلم، وعندما اصطدم بقاع الجبّ أبصر ضوءا خافتا في نهاية ما يشبه النفق وظل يزحف وهو يتنفس بصعوبة، وبعد زمن بدا وكأنه أبد وصل إلى وادٍ مقفر تعلوه كثبان رملية وتنتثر فيه أشجار عجفاء خالية من أي ورقة خضراء وهبط بدرب بدا له مطروقا وسار زمنا بدا وكأنه أبد وإذ به يصل واديا آخر تتناثر فيه جماجم بشرية وبقايا هياكل على مدّ البصر وأُوحي إليه فيما يُوحى إلى النائم أنه في وادي النمل، وعندها حانت منه التفاتة لقدميه المحترقتين العاريتين فرأى صفا من النمل يزحف وئيدا لأعلى جسده، وعندها بدأ يصرخ ويصرخ ويصرخ ولم يحس بشيء بعدها، وإن أخبره ممرض العنبر فيما بعد أنه هجم عليه بحقنة مهدئه. ويقول جارنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة كان قد اختفى صباح اليوم التالي من عنبرهم. 

وتختلف الروايات حول المدة التي قضاها الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة في المستشفى، فالبعض يقولون إنه أُخرج نفس الليلة وحُمل لرئاسة حراسة الشرطة المركزية، وآخرون يقولون إنه أُخرج صباح اليوم التالي ونُقل لرئاسة جهاز الأمن، إلا أن آخرين يؤكدون أنه أُخرج بعد ثلاثة أيام ووضع تحت إشراف قوات أمن الطوارئ. وقال البعض إنه ترك ليتماثل للشفاء ولم يخرج إلا بعد أسبوع ليُتحفظ عليه في مبنى الأمن العام، وأن خلافا نشِب بين رئيس جهاز الأمن العام ورئيس جهاز أمن العقيدة حول أحقية كل منهما في استجواب الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة، إذ اعتبر رئيس جهاز الأمن العام التشكيك في صِحة قصة النملة أمرا يمسّ الأمن العام ويتهدد كيان الدولة بينما أصرّ رئيس جهاز أمن العقيدة أن قصة النملة مما يدخل في دائرة حمايته المباشرة. وعندما تصاعد الخلاف واستعرّ قررت السلطات في نهاية الأمر أن يخضع استجواب الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة لدائرة الأمن الخاص، وهي دائرة رفيعة المستوى ومحاطة بحجب كثيفة من السرية التي يستحيل اختراقها.

وبما أن محاكمة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة لم تكن مفتوحة ولم تشر لها أجهزة الإعلام البتة فإن الروايات عنها متضاربة أيضا. إلا أن أكثر الروايات تواترا (وهي الرواية التي تميل لها جارتنا، والتي تلوك الألسن علاقتها بعقيد يعمل في أمن الطوارئ) أن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة رددّ أثناء استجوابه أنه لا يصدّق قصة النملة.

ولا يعلم أحد لماذا قرّرت دائرة الأمن الخاص إحالة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة لمحكمة بدلا من أن ينتهي استجوابه النهاية المعهودة لاستجواب كل من يقع في يد دائرة الأمن الخاص إذ أنهم لا يفتأون يدخلون في عداد المفقودين، وتختفي سجلاتهم اختفاء تاما، وأحيانا تختفي أسرهم ويختفي أقرباؤهم وأصدقاؤهم. والواقع أن النجاح كان دائما حليف دائرة الأمن الخاص في محو وجود أولئك الأفراد محوا تاما؛ وكأنهم لم يوجدوا أو وكأن وجودهم كان خطأً عابرا ما لبث أن صُحِّح باختفائهم. وحسب رواية جارتنا فإن المحكمة عقدت جلستين فقط ، استمعت في الجلسة الأولى لأقوال الشهود وفي مقدمتهم الإمام. وتقول جارتنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة أصرّ أمام المحكمة مرة أخرى على أنه لا يصدّق قصة النملة، وانفضت المحكمة بعد أن وَجّه القاضي بتكوين لجنة عليا من العلماء لمحاورة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة. وتقول جارتنا إن لجنة العلماء ظلت مجتمعة بالرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ثلاثة أيام وأن العلماء تبسّطوا وحكوا له تفاصيل مدهشة عن قصة النملة ووصفوا له وادي النمل وسردوا له أطرافا من تاريخه، وألمحوا له أن السلطات ستبذل له العطايا السنية إن أعلن في المسجد وعلى رؤوس الأشهاد أنه يصدّق قصة النملة. وتقول جارتنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ظل صامتا طيلة الأيام الثلاثة ولم ينبِس بكلمة وأن العلماء استبشروا خيرا. وتقول جارتنا إنه حين أزِف الميعاد أطرق الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة طويلا؛ ومرّت ساعة من الزمان خالها العلماء دهرا وبدأوا يتململون في جلستهم وإن لم يفصحوا عن ضيقهم، وإذ بالرجل الذي لم يصدّق قصة النملة يرفع عينيه ويقول لهم بصوت مرهق وخافت إنه لا يستطيع أن يصدّق قصة النملة.

وتقول جارتنا إن العلماء غضبوا غضبا ضاريا وارتجفت أياديهم ولحاهم وعمائمهم وهم يصرخون في وجه الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة، والذي ركّز عينيه على بلاط الغرفة وغاب فيما يشبه الذهول، ويعدونه بالويل والثبور، فالسلطات ستثخن به الأرض وربّ العالمين سيلقي به في أسفل سافلين يتلظّى في نار جهنم وليس له طعام إلا من غِسْلِين. وتقول جارتنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ظل على حاله ساهما لا حراك به، وعندما يئس العلماء منه ووصل حبل صبرهم ذاك الطويل إلى نهايته نظروا إلى بعضهم وأطالوا النظر وألقوا نظرة طويلة على الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وأعطوه فرصة أخيرة. وتقول جارتنا إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة ظلّ مستمسكا بصمته الكثيف، وعندها خرج العلماء واتجهوا في الحال للقاضي الذي كان في انتظارهم. وفي صباح اليوم التالي عقدت المحكمة جلستها الثانية ونطقت بحكم الإعدام.

وتقول جارتنا إن القاضي سرد في حيثياته خطورة جريمة المتهم وكيف أن رفضه للتصديق بقصة النملة جريمة تهزّ الأسس التي يقوم عليها كيان مجتمعنا. واستطرد القاضي ليؤكّد أن أي تهاون في مواجهة مثل هذه الجريمة سيؤدي لعواقب وخيمة وأن مجتمعنا يقف بالمرصاد لكيد الشيطان. وأفرد القاضي، كما تروي جارتنا، حديثا مطوّلا عن كيد الشيطان ومحاولاته الدائبة التي لا تفتر للتسلل عبر منافذ النفوس الواهنة والمريضة لإضعاف مجتمعنا وحرفه عن خطته المقدسة. وأسهب القاضي في سرد تفاصيل بعض مظاهر هذا التسلل الشيطاني. وتضيف جارتنا باعتداد أن مصادرها أكّدت لها أن حديث القاضي بهذا الصدد كان حافلا بالأمثلة الملموسة إذ أنه اعتمد على التقارير التي أمدّته بها أجهزة الأمن ورصد المعلومات. ثم تحدّث القاضي بعد ذلك بتفصيل عن قصة النملة وأورد عددا كبيرا من المقتطفات المستقاة من كتب التفسير وتحدّث عن مغزى قصة النملة وما تعنيه بالنسبة لمجتمعنا والحكمة الكبيرة والثابتة لقصة النملة عبر مختلف الحقب والعصور. وتقول جارتنا إن تلاوة القاضي لحيثيات الحكم استغرقت زهاء الثلاث ساعات، وأن هذا الزمن يمثّل رقما قياسيا في تاريخ القضاء في بلادنا، ويؤكّد الفداحة الاستثنائية لجريمة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة.

***

كان الوقت صباحا عندما خرجنا إلى ميدان العدالة. كانت الشمس تتسلق قبة السماء ببطء وحذر وظلّ الهواء ساكنا والأشجار ساكنة والمنازل ساكنة والشوارع ساكنة. اكتظّ ميدان العدالة بعدد لا يحصى، وانتصبت في وسطه المِنَصّة الجديدة أو "المِنَصّة الشاشية" كما يسميها الناس في مدينتنا، وهي من الإنجازات الحديثة التي تفخر بها سلطات مدينتنا. والمِنَصّة الجديدة حديدية ومستطيلة. وتذكر نشرة المعلومات الأسبوعية أن طولها مائة ذراع وأن عرضها خمسين ذراعا وأن ارتفاعها عن الأرض عشرة أذرع. ومن وراء المنصة وعلى جانبيها تصعد أدراج حديدية ذات مظهر صلب وفي أركانها الأربعة شُرعت مكبرات صوت ضخمة. وأبرز ما يستوقف النظر على المنصة قائمة خشبية سامقة الطول يتدلّى منها سيف، وهو السيف الذي يُستعمل في قطع الأيدي والأقدام. وعلى بعد نحو العشرين ذراعا تقف قائمة خشبية أخرى أقلّ طولا تتدلى منها السياط والعُصي التي تُستعمل في الجلد (بما أن ميدان العدالة في الطرف الشمالي لمدينتنا وبعيد بعض الشيء عن قلب المدينة ودائرة المحاكم فقد قررت السلطات منذ سنوات أن يتم نشر عقوبات الجلد وتنفيذها في منطقة السوق وأمام دائرة المحاكم وفي بعض الأحياء وأن يتم تنفيذ عقوبات القطع في ميدان العدالة، إلا أن ميدان العدالة لا يزال يشهد بين آونة وأخرى تنفيذ عقوبات الجلد عندما تتوافق مع عقوبات القطع). ويقف بين القائمتين مسطّح خشبي يعلو عن سطح الأرض بنحو الذراعين ويلتصق به مسطّح خشبي آخر ارتفاعه نحو نصف ارتفاع المسطّح الأول. والمسطّح الأول يُستخدم لقطع الأيدي، أما الثاني فهو لقطع الأقدام. وعلى بعد أذرع من المسطّحين يقف عمود عليه ميكرفون. وتقف خلف المنصة شاشة ضخمة يبلغ طولها حسبما أوردته نشرة المعلومات الأسبوعية أربعين ذراعا بينما يبلغ عرضها خمسة وعشرين ذراعا. ونستطيع أن نرى على هذه الشاشة تفاصيل قطع الأيدي والأقدام مكبّرة عشرات المرات، وهو إجراء يختلف عن السابق عندما كانت السلطات توزّع على جمهور المشاهدين المناظير المقرّبة إلا أن السلطات لاحظت الاختفاء التدريجي لهذه المناظير (تنسب الروايات فكرة الشاشة لأحد كبار رجال المصارف في مدينتنا وتقول الروايات إن خلافا حادا نشب بين العلماء بشأنها إذ رأى بعضهم أنها بدعة، بينما رأى آخرون أنها وبالتهويل الذي تحدثه أداة مؤثرة من أدوات النهي عن المنكر، وتقول الروايات إن ضغط المصرفي والعلماء المؤيدين أقنع السلطات في نهاية الأمر بإقامة الشاشة، وهو إنجاز وضع منصة مدينتنا في طليعة منصات البلد وجعلها معلما من المعالم التي يزورها السيّاح).

عندما برز السجّانون الأربعة من البوابة الخلفية المطلة على ميدان العدالة كانوا يحملون على نقّالة كومة بشرية مغطاة بغطاء رمادي. اقتربوا من المنصة ببطء وبدأوا يصعدون أدراجها وئيدا. كانت الشمس قد اقتربت من كبد السماء وبدأنا نحس لسع لهيبها. وقف السجانون وقد اتجهوا لحشدنا. وبعد دقائق خرج من نفس البوابة رجلان ملتحيان يلبس أحدهما جلبابا أبيض والآخر جلبابا أزرق، وصعدا الأدراج ببطء. سكن الناس وخمدت أصواتهم. وعندما وقف الرجل ذو الجلباب الأبيض أمام عمود الميكرفون رأينا صورته على الشاشة بوضوح وتفصيل مذهل. بدا وجهه متعبا وكان صوته أجشا بعض الشيء. قال إنه ممثل لجنة العلماء التي حاولت هداية الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة. تحدّث عن جريمة الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة وعن خطورتها على مجتمعنا ومصيرنا. قال إن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة هالك في الدنيا والآخرة وأن مصيره في الدنيا الموت الزؤام، ومصيره في الآخرة العذاب الأبدي. تحوّل وجهه المتعب لوجه متّقد بالحماس وكان يتحدّث بتدفق وهو يشير بكلتا يديه بحيوية متفجّرة. تحدّث طويلا ولم يعبأ بقيظ النهار. كان يتوقف أحيانا للحيظات، وكأنه يستجمع أنفاسه، أو يعطي المستمعين فرصة لتدبّر ما قاله. طمأننا بأن مجتمعنا ما زال بخير، وأن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة مجرد ظاهرة شاذة وشوهاء، لا يعدمها أي مجتمع مهما بلغ من السلامة والصلاح. وأن كل الأمر مجرد ابتلاء وامتحان تجاوزناه بعون الله.

ظل الناس ساكنين وكأن على رؤوسهم الطير. التفت المتحدث إلى الرجل الآخر ذي الجلباب الأزرق وأومأ له برأسه  اتجه الرجل ذو الجلباب الأزرق بخطى ثابتة نحو قائمة السيف وداس على ما يشبه الزِّر فإذا بالسيف يتدلّى ببطء بلمعان يخطف الأبصار تحت وهج الشمس. سرت وسط الناس وشوشة تشبه الحوقلة. أمسك الرجل ذو الجلباب الأزرق بمقبض السيف واتجه بخطى بطيئة نحو النقّالة ووقف على رأسها وقد استدار بظهره للناس. شاهدنا على الشاشة الكومة البشرية مرة أخرى ولاحظ البعض ما يشبه الحركة اليسيرة. كانت الكومة بلا ملامح وتَعْسُر معرفة الرأس من القدمين، إلا إذا افترضنا أن الرجل ذا الجلباب الأزرق كان يقف بإزاء الرأس. وقف الرجل ذو الجلباب الأبيض أمام الميكرفون بلا حراك، وانتصب الرجل ذو الجلباب الأزرق والسجانون الأربعة، وظلّوا جامدين في مواقعهم لا تبدو منهم أدنى حركة. وعلا الناس صمت مهيب وكثيف (وربما كان كئيبا أيضا، إلا أنه كان من المستحيل استبطان طبيعة ذلك الصمت). ظللنا على ذلك لزمن بدا وكأنه أبد. ثم رأينا (وكأن أبد الصمت هذا أسبغ على المشهد شيئا كالحلم) الرجل ذا الجلباب الأزرق يتّجه نحو المسطح الخشبي الأعلى، يسير ببطء شديد وكأنه يجرّ في كل خطوة  كرة حديدية. وقف خلف المسطح الخشبي وقد أصبح في مواجهتنا. رأينا على الشاشة، وبوضوح وتفصيل مذهل، وجها يصعب وصفه. أي مشاعر كانت تضطرم بداخله في تلك اللحظة؟ هل يَعَضُّ شفتيه دائما على تلك الهيئة؟ أم هل هو ثقل اللحظة وضغطها؟ هل تعكس العينان دائما ذلك الخَواء؟ أم هل هو رَوع الموقف ومشقته؟ حمل الرجال الأربعة الكومة البشرية ووضعوها على المسطّح الخشبي، كشف أحدهم عما يشبه الوجه (وإن بدا عديم الملامح) من أعلى الرأس إلى العنق.

ارتفعت ذراعا الرجل ذي الجلباب الأزرق بالسيف. المتع السيف لمعانا يخطف الأبصار، وهبط في لمح البصر ليفصل الرأس عن بقية الجسد. شَهَقَ الناس شهقة واحدة. وإذا بصوت الرجل ذي الجلباب الأبيض يرتفع هادرا: "الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!" وهدر الناس وراءه بصوت قوي صمُّ الآذان وهزّ ميدان العدالة كما لم يهتزّ من قبل: "الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!" وعندما سكن الناس فاض صوته بهدوء (رأينا وجهه على الشاشة، وبوضوح وتفصيل مذهل، وهو يعكس طمأنينة ما لبثت أن أعدتنا) وأخبرنا أن موت الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة يعني موته في ذاكرة مجتمعنا العامر بالسلامة والعابق بالصلاح. وأن الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة مجرد حدث عابر يجب ألا يستوقفنا ويجب أن يمحى محوا تاما ولا يسمع عنه أطفالنا وأطفال أطفالنا. بدا وجه الرجل ذي الجلباب الأبيض على الشاشة وقد غمره ما يشبه الانشراح. وفارقت جموع الناس ميدان العدالة وهم يحسون ما يشبه الانشراح، وقد غمرهم شعور بطمأنينة عميقة أن ثوابت مجتمعهم، ومنها قصة النملة، راسخة لا يطالها البِلى.

إلا أنه ومن يومها لم يستطع الناس في مدينتنا الانفكاك من أسر لحظة جديدة ملحّة ومكدّرة تهجم عليهم بين الحين والآخر. وعندما تهجم هذه اللحظة تنخفض أصواتهم فجأة. وعندها يجدون أنفسهم يتحدثون همسا، وهم يلتفتون حولهم، وقد ارتعدت أطرافهم، ويذكرون حكاية الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة. وكلما فعلوا ذلك فإنهم يجدون أنفسهم يضغطون على شفاههم المتوتّرة بحركة لاإرادية، وكأنهم يسدّون منافذ الهواء لكيلا ينسرب ما يشبه اسم الرجل الذي لم يصدّق قصة النملة.

 

فرانكفورت، أغسطس 1991