لم أكن صليت الفجر بعد, لا أدري لماذا ولكنه اليوم الخامس الذي أستيقظ فيه بعد صراع مع النوم, صراع مع الحياة لنيل لحظة نوم هادئة, حين وقفت أرقب المشهد أمامي, حيث سحابة رماد تغادر المكان بتثاقل, مازجةً الهواء أتربةً تأبى الأنف تمييزها من رائحة البارود, ولترفع ستائرها عن حجارة متناثرة أكواماً في كل بقعة تتجه عيني إليها, لم يكن للرمال وزناٌ هنا عندما يتراءى الحطام كتلاً ضخمة تعتلي الأجساد فتسحقها. يغيب السمع مرغماً عني ويحل محله الطنين, تقدمت خطوات قليلة لاستيضاح الأمر بمزيد من النظر إلى الواقع أو الخيال, لأرى شخصاً لم تبدو لي ملامحه من بعيد, يعلو جسده التراب متنكراً في هيئة حمال الطحين, تخشى البراءة النظر إليه والأسى يبدو واضحاً في صورة ذلك الزمان, يحاول الخروج ببطء من ثنايا الموت فيسرع الخطى فيقع من جديد, يحمل بين ذراعيه ثِقلاً خفيفاً وزنه تنوء عن حمله البشرية جمعاء, يا الله ..! طفل ..! صرخت بأعلى صوتي بينما الطنين لا يزال يتردد في أذنيَّ, كان يضع رأسه على كتف شاب تشتت نظراته في أرجاء المكان بينما أحكمت يدا الطفل العنق وغاب جسده في أحضان ذلك الشاب الذي بدا وكأنه ليس من هذا الحي وهو يلتمس النجاة من بين الحطام دافعا جسده نحو طريقٍ تآكل جلهُ إلا من بعض قطع الإسفلت المتماسكة بصعوبة. لم يكن النظر يكفي ليكتمل المشهد حين عاد الصوت إليَّ على هدوءٍ كسر حدتهُ صوت صراخ الطفل وهو يشير إلى لعبةٍ تعتلي الأنقاض: دبدوب ..؟ دبدوب..؟ نظر الشاب إلى الدمية البعيدة عن فكره وقلبه, القريبة منه, عندها أمسك الشاب الطفل بيد ليأخذ اللعبة باليد الأخرى وليضع بين يدي الطفل لعبةً أسكتته قليلاً في طريقهما إلى سيارات الإسعاف التي بدأت أصواتها تقترب, تستطلع المكان, تبحث عن الضحايا, تمنحهم الأمل, قبل أن يجدد الطفل الصراخ مرة أخرى مشيراً إلى أنقاض بيته: بابا ..؟ بابا ..؟ هنا أذن الشاب لنفسه أن يبكي وهو يغيب بين المنقذين, بعدها سمعت في المذياع أن صاروخ تحذير ضُرب من طائرة استطلاع أجهز على منزل أحد المواطنين.
فلسطين، غزة