فقد العالم العربي، وبالخصوص الوسط الأكاديمي والنقدي، الخميس الماضي 22 أغسطس/آب الجاري أحد رموز الثقافة العربية الحديثة وأحد رواد الدراسات الكلاسيكية والمقارنية والترجمة الأستاذ الكبير أحمد عتمان على إثر حادث مرور أليم بالقاهرة أودى بحياته.
كان أحمد عتمان تخصص في اللغة اليونانية وأعد فيها رسالته للماجستر وأطروحته للدكتوراه. وقادته هذه المعرفة باليونانية وكذلك اللاتينية إلى التخصص في الكلاسكيات تأليفا وترجمة، فإذا هو من أساتذة قسم الدراسات اليونانية واللاتينية بكلية آداب القاهرة ثم رئيس للقسم لسنوات طويلة ومؤسس للجمعية المصرية للدراسات اليونانية والرومانية ورئيسها.
وكان من أعماله الرائدة في هذا الاطار كتابه المركزي "الادب اللاتيني ودوره الحضاري" و"مختارات من الادب اليوناني"، وترجمته من اللاتينية رأسا إلى العربية لملحمة "الانيادة" للشاعر اللاتيني فرجيل مما مكنه من جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة سنة 1998، وترجمته من الانجليزية إلى العربية لكتاب المؤرخ البريطاني مارتين برنال "أثينا السوداء" وهو دراسة في الجذور الافريقية والاسيوية لحضارة الاغريق القديمة وبه نال جائزة أفضل كتاب مترجم لسنة 1998، وكذلك ترجمته "الالياذة" لهوميروس رأسا من اليونانية بمشاركة فريق من المترجمين مما مكَّنه سنة 2004 من درع المجلس الاعلى للثقافة، فضلا عن ترجمته إلى العربية لروائع أدبية من تاليف سوفوكليس ويوربيدوس وأرسطوفان.
كما ظفر بجائزة كفافيس الدولية سنة 1991 عن ترجمته إلى اليونانية الحديثة رواية نجيب محفوظ "بداية ونهاية". وقد نال من دولة اليونان لأجل هذا الجهد المتنوع لقب "سفير الحضارة الهللينية اليونانية" (إلى جانب ستة علماء ومفكرين آخرين من أميركا وأنجلترا وإسبانيا والصين وبارجواي) كما نال في فبراير/شباط من هذا العام 2013 صفة "رائد الدراسات الكلاسيكية في العالم العربي" في تكريم المجلة الاكاديمية "أوراق كلاسيكية" له.
وفضلا عن الترجمات السابقة ضمن اهتمامه بالكلاسيكيات أسهم أحمد عتمان في أثينا في مشروع ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اليونانية الحديثة. وقد جعلته عنايته بالترجمة مقررا للجنة الترجمة بالمجلس الاعلى للثقافة، كما كان أحد مؤسسي رابطة المترجمين بالقاهرة السنة الماضية. وقد توفي الفقيد وهو يعدّ لمؤتمر دولي عن "الترجمة وثقافة الآخر".
ومن باب الكلاسكيات والترجمة ولج أحمد عتمان باب الأدب المقارن، فكان أستاذ الادب المقارن بكلية آداب القاهرة. ووضع في الاثناء كتابه الشهير عن "كليوباترا من خلال فن بلوتارخوس وشكسبير واحمد شوقي" وكتابه عن"المصادر الكلاسيكية لتوفيق الحكيم" الذي نال به تقدير المقارني الكبير إيتيامبل.
وأسس أحمد عتمان في القاهرة الجمعية المصرية للأدب المقارن سنة 1986، وهي أول جمعية متخصصة في الأدب المقارن في العالم العربي بعد الجمعية المغربية للأدب المقارن التي تأسست في الثمانينيات ولكن للأسف لم تعمر طويلا. وقد أنجزت الجمعية المصرية عددا من الندوات والمؤتمرات العربية والدولية، وأصدرت أشغال هذه الندوات والمؤتمرات في مجلدات ضخمة هي اليوم كنوز من المعرفة المقارنية لاغنى للمقارني العربي عنها.
كما أصدرت الجمعية المصرية أول مجلة متخصصة في الادب المقارن باللغة العربية (كانت صدرت بالجزائر في 1965 مجلة "الدفاتر الجزائرية للأدب المقارن" ولكن باللغة الفرنسية، ولم تعمر هي أيضا) ونقصد مجلة "مقارنات".
وما انفك الفقيد منذ أكثر من عقدين يرعى الحراك المقارني في العالم العربي بالمتابعة التأسيسية وبلم شتات المقارنين العرب كلما أمكن ذلك، وكان من المشاريع التي يعمل على تأسيسها ويخطط لها وقد تبادلنا في شأنها الحديث في مناسبات مختلفة إحياء الرابطة العربية للأدب المقارن التي أسست سابقا في الجزائر بمساهة الاستاذين الكبيرين حسام الخطيب وعبدالمجيد حنون، ثم اختفت أو تأسيس فيدرالية أو شبكة عربية للمقارنين العرب على غرار الجمعية الدولية للادب المقارن أو الشبكة الأوروبية للدراسات الأدبية المقارنة.
وقد نالت الجمعية التونسية للأدب المقارن الحديثة النشأة (2011) كثيرا من اهتمامه وعنايته الشخصية منذ أن كانت خاطرا في البال حتى صارت كيانا في الوجود. كما نالت الجمعية التونسية الفتية شرف استضافة الجمعية المصرية لها في مؤتمر اليوم العربي للادب المقارن وحوار الثقافات دورة القاهرة 2012 بعنوان "الجمعية التونسية للأدب المقارن ضيف شرف". وفي هذه الدورة وقع تكريم شيخ المقارنين التونسيين ورئيس الجمعية التونسية للأدب المقارن الاستاذ منجي الشملي. وكانت تلك المبادرة النبيلة واللفتة السامية من أحمد عتمان والأشقاء المصريين في الجمعية المصرية للأدب لمقارن سببَ أول ظهور رسمي للجمعية التونسية على النطاق الدولي.
وكانت جامعة القاهرة منحت الفقيد العزيز سنة 2010 جائزة التميز في الانسانيات.
والفقيد من محافظة بني سويف وقد توفي عن سن تناهز السبعين. وكان مثالا في التواضع والخلق الرفيع وسماحة الصدر. وكان خاصة مثالا للانقطاع للعلم والبحث.
رحم الله الفقيد أحمد عتمان رحمة واسعة ورزق أهله وذويه وزملاءه وأحبابه وكل الاكاديميين والمقارنين العرب الصبر عنه والسلوان. وعسى أن يواصل المقارنون العرب الرسالة التي نذر لها أحمد عتمان حياته: الادب المقارن وحوار الثقافات.
عمر مقداد الجمني ـ أستاذ الادب العربي الحديث والمقارن والترجمة بجامعة تونس، وأمين عام الجمعية التونسية للأدب المقارن