عندما تجنح الشمس إلى المغيب يهبط على البحيرة هدوء جميل وترق ملامح المبانى، وتتحول الريح إلى نسيم مرح، وتنزل على النفس سكينة تنسيها لهب الشمس وتهيؤها لاستقبال الليل بنجومه. وفى تلك اللحظة الحاسمة فيما بين النهار والليل كان حسن يجلس فى مواجهة البحيرة.
كان عندئذ قد غفر للحياة متاعب الأيام الأولى من إقامته في الجونة وأصبح يذكر مبتسما كيف كان عليه أن يستدعي عمال الصيانة ( ما بين تنظيف ونجارة وسباكة وكهرباء وتكييف للهواء) حتى يجعلوا الفيللا المهجورة صالحة للسكنى من جديد. وكان قد ألف الطريق إلى الماء بداية من الرمل فالأرض الثابتة فالطين الذى تغوص فيه الأقدام قبل أن تفلت إلى المياه العميقة. وقد ظلت البحيرة لبضعة أيام تجتذبه كل صباح حتى عزف عن السباحة فيها بسبب الطين المتراكم فى قاعها. وخيل إليه أنها لا بد أن تكون ملوثة. كما أقلع عن التفكير فى التصوير. ليس هناك ما يصوره فى هذا المشهد المحيط بالبحيرة ولا فى البحر. أما النجوم الرائعة التى تغطى السماء فى الليل فيكفيه أن ينظر إليها. عليه أن ينسى: ينسى التصوير، وينسى القاهرة، وينسى دراسة الأشكال. وعليه أن يستسلم للجو سواء أكان حرا لافحا أو نسيما رقيقا ويجلس أمام النجوم.
قال له عصام وهو يعطيه مفتاح الفيللا:
ـ تستطيع أن تمكث كما تشاء. وإذا شعرت بالوحدة فبإمكانك أن تتجه إلى الشاطئ عبر الفندق الكبير، وهناك ستجد كثيرا من الإيطاليات والألمانيات: بعضهن عاريات الصدور، ومنهن فتيات يبحثن عن مغامرة ولا مانع عندهن من تذوق المواهب المصرية.
ولكن حسن لم يكن يجد فى نفسه رغبة فى الأخذ بنصيحة عصام. كان يتجول بين مقاهى المدينة فى النهار ويغفو ساعة فى أواخر العصر. ثم ينهض قبل مغيب الشمس ليجلس أمام البحيرة. ولكنه فى ذلك اليوم كان يشعر بالوحشة. أم هو الملل بعد عدة أيام من البطالة والهدوء؟ وكان يرجو مع ذلك أن يكون الملل أو الوحشة رهنا بساعة الانتقال فيما بين النهار والليل. فإذا حسمت المعركة لصالح الليل لم يعد ثمة حاجة إلى أى إنسان، وتبدأ من ثم جلسة النجوم.
وتصدع السكون فجأة. ورأى فتاة تعدو حافية في الماء الضحل فيتطاير الرذاذ حولها، وكان ثمة كلب أسود يطاردها. ولكن كان من الواضح أنها مستمتعة بالمطاردة. كانت تصيح وتضحك. وكانت تتوقف أحيانا وتستدير لتواجه الكلب فينهض هذا الأخير على قدميه الخلفيتين ويلقى بقدميه الأماميتين على صدرها. ثم تستأنف العدو لتستمر المطاردة والمصارعة. فلما صارت على مقربة من حسن توقفت تماما وهى تلهث وتوقف الكلب، وأخذ يبصبص بذنبه متحفزا واللعاب يسيل من فمه. وبدت من خلف نظارتها وكأنها تريد أن تحييه. وشعر بالحرج. غير أنها كانت تبتسم، وخيل إليه أن عليه أن يقول شيئا من قبيل الأدب. واستجمع أطراف شجاعته لكى يسألها:
ـ وما اسم هذا الغلام؟
قالها بالانجليزية لأن الفتاة كانت إنجليزية فيما يبدو، وكان يعلم أن الانجليز يحبون أن يشيروا إلى الذكور من كلابهم بلفظ "الغلام". وكانت مكشوفة الذراعين ترتدى قميصا أسود بحمالتين وجونلة قصيرة زيتية اللون عليها زخارف برتقالية على شكل قواقع وأسماك. وكانت الجونلة المصنوعة من قماش خفيف مشدودة إلى خصرها بزنار يتدلى طرفاه من حيث انعقد. وكان كل شيء هنالك ـ القماش الخفيف الذى يهفهفه النسيم والزنار الملفوف على الخصر ورباطاه المتدليان ـ يبرز محاسن خصرها وبطنها وفخذيها. وأجابت:
ـ اسمه سوكس.
واستغرب حسن أن يطلق على كلب اسم الجورب؛ فقال:
ـ سوكس؟ اسم غريب لكلب.
فقالت الفتاة:
ـ على الإطلاق. ألا ترى أنه أسود فيما عدا قدميه البيضاوين. لقد ولد هكذا: كأنه يرتدى جوربا أبيض.
قال حسن:
ـ وما سلالته؟
فأخبرته أنه هجين: الأب مصرى والأم أسبانية. وأضافت قائلة:
ـ ألا توافقنى على أنها خلطة بديعة؟
ووافقها حسن:
ـ إنه بالفعل كلب جميل.
وعندئذ تقدم منهما رجل قدمته الفتاة إلى حسن:
ـ وهذا رتشارد …زوجى.
و لم يكن فارق السن الشاسع بين الرجل وزوجته هو الفارق الوحيد اللافت للنظر؛ فقد كان رتشارد طويلا نحيلا شعره أشيب أشعث بينما كانت المرأة بضة ذات شعر أسود فاحم قصير ولكنه كث رخص يغطى جزءا من الأذنين. وتبين من الحديث أنهما يقيمان على الضفة المقابلة من البحيرة ـ أو فيما يسمى بالقرية الإيطالية ـ بصفة دائمة؛ وذلك أن رتشارد قرر أن يتقاعد في مصر فاشترى تلك الفيللا التى أشارا إليها وكانت مطلية بلون الطوب المحروق الدافىء. ولم يتركا حسن إلا وقد دعياه إلى العشاء. قال رتشارد:
ـ الطقس هنا رائع ولا أرضى عن هذا الجو الساخن بديلا.
وعقبت باتريشيا ـ فهكذا كانت تسمى ـ:
ـ لا يعيب هذا المكان إلا الوحدة. إننا نبحث هنا عن الأصدقاء بشق الأنفس، وخاصة عن الذين يلعبون البريدج. هل تلعب البريدج؟
قال حسن:
ـ كلا للأسف.
فقالت:
ـ ومع ذلك سيسعدنا أن تتناول العشاء معنا فى يوم من هذه الأيام. أو الليلة إذا أحببت. ما رأيك؟
قالت ذلك وهي تنظر إلى زوجها. فلما هزّ رتشارد رأسه موافقا تشجع حسن وقبل الدعوة "بكل سرور".
وبادر حسن بالاعتذار عندما استقبلته هى وسوكس عند الباب الخارجى:
ـ أتيت خاوى اليدين…لا باقة زهور ولا يحزنون. ليس في الجونة بائع زهور واحد. قالت:
ـ لا تشغل بالك بهذه الشكليات.
كانت قد غيرت ملابسها؛ فأصبحت ترتدى فستانا فضفاضا من الحرير البرتقالى يكشف عن ملتقى ثدييها وينسدل على الأرض. وكان رتشارد يرتدى بدوره ثيابا أنيقة: جاكتة صفراء من الكتان وقميصا كحليا وبنطلونا أبيض. وبدا وسيما بلون بشرته التى لوحتها الشمس وعينيه الزرقاوين. وقال حسن بعد أن دعى إلى الجلوس:
ـ أراهن أنك فنان. لعلك رسام؟
وابتسم رتشارد دون أن يقول شيئا سوى:
ـ ماذا تود أن تشرب؟
وتدخلت باتريشيا:
ـ لم تبتعد كثيرا عن الحقيقة؛ فهو كاتب. روائى.
قال حسن وقد غلبه شعور بالإعجاب:
ـ روائى؟ وهل تنشر رواياتك؟
قال رتشارد:
ـ لقد نشرت بعضها.
وتوقف فجأة ليعاتب باتريشيا لأنها غافلته وبدأت تعد المشروبات وبذلك "تعدت على اختصاصاته". أليست تذكره دائما بأن تجهيز المشروبات من مسؤولية الرجال؟
قالت:
ـ الليلة استثناء للقاعدة. ينبغى أن نحتفى بزائرنا المفاجئ. سأتولى هذه المهمة نيابة عنك.
وبدأ حسن يشعر بالاضطراب. لقد استنفد كل ما لديه من الكلام، ولم يعد لديه ما يقول. الرجل روائى، ثم ماذا بعد؟ إنه لا يحب القراءة ولم يكن لديه فى أى وقت من الأوقات صبر على قراءة الروايات. ثلاثون صفحة على أكثر تقدير ثم يدب فى نفسه الملل ويلقى بالكتاب جانبا. وفى الماضى تخلى عن دراسة التاريخ، ولم يكن يعلم عندئذ أنه يكره الدراسة لأنها تعنى ببساطة قراءة الكتب. وتذكر ما قاله عصام عن الألمانيات والإيطاليات. أكانت تلك ملاحظة بريئة أم أنه كان يعلم أن صديقه يضطرب أمام الفتيات وينعقد لسانه؟ شاب فى الثلاثين من عمره، ولا يعرف كيف يتودد إلى الجنس الآخر. وها هى امرأة جريئة مفعمة بالحيوية: كيف ينبغى أن يتصرف أمامها؟ وماذا عساه يقول لزوجها الكاتب؟ ومن حسن الحظ أن سوكس جاء لينقذه. فقد قفز إلى جانبه على الكنبة والتصق به: كان يدعوه إلى مداعبته. وأخذ حسن يربت على ظهر الكلب فاستكان له وأغمض عينيه كأنه يطلب المزيد.
وقالت باتريشيا لحسن:
ـ وها هو سوكس يعاملك معاملة خاصة. إنه لا يألف الناس بسهولة.
وعلى مائدة العشاء أخذت تعتذر:
ـ الطهى ليس من جوانب قوتى. فأرجوك أن تتقبل عشاءنا المتواضع.
ولكن رتشارد أثنى على ما طهت، وتلاه حسن. وبدت على ملامحها السعادة، وكانت مشرقة الوجه ناعمة البشرة طويلة الرموش.
وقال رتشارد:
ـ كنت أريد أن أقول إننى نشرت بعض أعمالى.
وتدخلت باتريشيا:
ـ رتشارد متواضع أكثر مما ينبغى. لقد نشر كل ما أراد نشره. وقد شقت بعض رواياته طريقها إلى التلفزيون؛ وهناك رواية تعد الآن للسينما فى هوليوود.
وقال حسن لرتشارد:
ـ أود أن أعرف لماذا قررت أن تتقاعد في مصر دون أى بلد آخر. كان بإمكانك أن تجد البحر والشمس والهدوء فى بلاد أخرى عديدة. لماذا مصر بالذات؟
وارتشف رتشارد رشفة كبيرة من النبيذ ومصمص شفتيه قبل أن يقول:
ـ لقد أقمت في مصر في الماضى قبل مجيء ناصر. كنت جنديا في معسكر لنا بالقرب من الإسماعيلية. والإسماعيلية مدينة جميلة، وقد ارتبطت بها منذ ذلك الحين.
وقالت باتريشيا:
ـ إنه الحنين للشباب. ففى الإسماعيلية كان حبه الأول. أليس كذلك يا حبيبى؟
قالتها وهى تداعب وجنة زوجها. وتنحنح رتشارد:
ـ كثيرا ما يبدأ الروائى إنتاجه باستلهام قصة حياته؛ وبعض الروايات الأولى هى فى واقع الأمر ترجمة ذاتية لحياة مؤلفها. أما أنا فقد بدأت بتناول موضوعات هى أبعد ما تكون عن حياتى الشخصية. ثم أصبحت أقترب من نفسى شيئا فشيئا. والرواية التى أكتبها الآن هى عن جزء من قصة حياتى، عن الإسماعيلية.
وتنهد:
ـ هى عودة إلى الشباب كما تقول باتريشيا، ولكنها علامة من علامات الشيخوخة.
وتدخلت باتريشيا:
ـ لماذا تلف وتدور؟ لماذا لا تخبره بالحقيقة؟
وضحك رتشارد:
ـ لا بد أن توافقنى على أن النساء مخلوقات عجيبة. حسنا. كانت الإسماعيلية هى المكان الذى شهد أول حب حقيقى لى. وقد انقضى هذا الحب وانتهت الإسماعيلية، ولكن باتريشيا لا تريد أن تغفر لى خطاياى القديمة.
وأردف قائلا:
ـ لماذا لا تغفرين لى يا حبيبتى؟ إن الجرائم الكبرى تسقط بالتقادم.
قال حسن:
ـ ولكن الإسماعيلية ما زالت موجودة.
ـ الإسماعيلية التى عرفتها فى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات لم تعد موجودة. وما زلت أزور المكان ولكننى عندما أذهب إلى هناك إنما أقف على أطلال الماضى. وأنا أفضل أن أراقب المدينة من بعيد وأعيد تأليف ماضي فيها من الذاكرة والوثائق. فإذا واجهت مشكلة زرتها وطرحت على ما بقى منها أسئلتى المحددة، وفى بعض الأحيان أفوز بجواب.
وقالت باتريشيا:
- كيف تتهمنى بأننى لم أغفر لك حبك الأول؟ أنا لم أكن ولدت بعد عندما التقيت بتلك الفتاة.
ووضع رتشارد يده على يد باتريشيا:
ـ أنت يا حبيبتى تفهمين ما أعنى. وأعتقد أن حسن يفهم.
قال حسن:
ـ على الإطلاق. لا أفهم ما تعنيه.
وهزت باتريشيا رأسها:
ـ برافو يا حسن.
وانتقلوا إلى غرفة الجلوس. ورأى حسن أن خير ما يفعله هو أن يستدرج رتشارد إلى الحديث ويكتفى بدور المستمع. قال:
ـ حدثنا إذن عن الإسماعيلية.
قال رتشارد وهو يلتفت نحو باتريشيا:
ـ بكل سرور، ولكننى لا أريد أن أحتكر الحديث.
وهنا تدخلت باتريشيا لتفسد على حسن خططه:
ـ نريد أن تحدثنا أنت عن نفسك. ماذا تعمل؟ ولماذا تأتى إلى هذا المكان وحدك؟ أعنى: هل أنت متزوج؟
قال حسن بعد شئ من التفكير:
ـ أنا أكره القراءة.
ونظر المضيفان أحدهما إلى الآخر بدهشة ثم قهقها. وهتفت باتريشيا:
ـ جميل. نسألك عما إذا كنت متزوجا فتخبرنا أنك لا تحب القراءة. رائع. أنت إذن تريد أن تغيظ رتشارد.
قال حسن:
ـ على الإطلاق. إنما أردت أن أقول إن رتشارد يستطيع احتكار الحديث، فكلى آذان صاغية. وأنا لا أستطيع أن أناقشه فى الكتابة، ويحسن إذن أن أكون فى موقف المستمع.
قال رتشارد:
ـ ولكنك لم تجب باتريشيا عن السؤال المهم.
فأجاب حسن:
ـ كلا لست متزوجا. وقد أتيت إلى الجونة وحدى. جئت وفى نفسى رغبة فى تصوير المشاهد الطبيعية هنا، ولكنى الآن أكتفى بالنظر.
قالت باتريشيا:
ـ أنت مصور إذن.
وهز حسن رأسه علامة الإيجاب.
فقالت:
ـ أنت تمضى وقتك إذن فى الحملقة فى الأشياء.
وهز حسن رأسه من جديد. ثم عاد فاستدرك:
ـ لدى ستوديو صغير لتصوير الناس. عمل تجارى صغير لا يستهلك الكثير من طاقتى. وبعد ذلك أنا حر... أنا...
ـ وبعد ذلك تمضى بقية الوقت فى الحملقة.
وتدخل رتشارد:
ـ لا تحرجى الرجل. إنه فنان. وهذا من حقه.
قالت باتريشيا:
ـ أنا سيئة الحظ حقا. لماذا أجد نفسى محاطة بالكتاب والفنانين؟ وأين هم الناس العاديون؟ الذين يقبلون على الحياة ويعيشونها من يوم إلى يوم ويلعبون البريدج مثلا. أنا مظلومة.
قالتها فى دلال وهى تتصنع الأسى. واستأنف حسن الحديث:
ـ رأيك لا يخلو من وجاهة. يخيل إلى فى بعض الأحيان أن آلة التصوير تعطل الإنسان عن رؤية الأشياء حقا. فالمصور لا يرى الشئ إلا من حيث هو موضوع لصورة. وهذه مصيبة. لأن معنى ذلك أنه لا يرى الشئ فى ذاته ولذاته.
قال رتشارد:
ـ أرجوك ياحبيبتى أن تناولينى هذه الزجاجة. إن هذا الفتى يتفلسف. أو املأى لى كأسى إذا قررت إلا تعطنى الزجاجة.
وبعد أن أخذ رشفة من الكأس قال:
ـ تريد أن تقول إن التصوير ـ شأنه شأن التأليف بالمناسبة ـ يصيب ممارسه بنوع من التشوه المهنى. هذا جميل. أعترف لك أننى منذ احترفت الكتابة لم أعد أنظر إلى الناس إلا من هذه الزاوية. موضوعات محتملة لقصص. تشوه. هذا صحيح، ولكنه ليس مصيبة؛ إنه تشوه بديع.
وقالت باتريشيا:
ـ بل أنا أوافق حسن.
ثم وجهت الخطاب إليه:
ـ يخيل إلى فى بعض الأحيان أن رتشارد لا يعاملنى كإنسانة حقيقية؛ أنه لا يعرفنى...
قال رتشارد:
ـ ولكنك تعرفيننى على الأقل. أنا إنسان شفاف.
ـ أنت!؟ شفاف؟
ثم استدارت إلى حسن:
ـ إذا لم تكن متزوجا، فلا بد أن لك عشيقة.
ولكن حسن أراد تغيير الحديث:
ـ لنعد إذن إلى الإسماعيلية.
قال رتشارد:
ـ أستطيع أن أقول إن الإسماعيلية كانت من أجمل المدن الصغيرة التى شهدتها طيلة أسفارى. كان هناك بطبيعة الحال حى العرب، وهو لا يختلف عن أى حى شعبى فى القاهرة أو غيرها من مدن الأقاليم فى مصر. وكان هناك أيضا ما يسمى لسبب لا أعرفه «عرايشية العبيد»، وكانت أسوأ من حى العرب وأقذر بكثير، وكانت تأوى الحثالة والرعاع. ولكن كان هناك حى الأفرنج، وكان جوهرة حضارية. كان مزدهرا بتعدد جالياته وكثرة دور السينما والمكتبات والمقاهى الجميلة والمراقص. قطعة من أوروبا كما كان يحب الخديوى إسماعيل. ثم كانت هناك حدائق عامة غناء مترامية الأطراف، وكانت هناك البحيرة ـ بحيرة التمساح ـ والشواطئ الفاخرة وملاعب الجولف. ولذلك لم يخب ظنى فى الرئيس السادات عندما اتخذ لنفسه سكنا هناك.
وتنهد رتشارد:
ـ كان رجلا ذواقة. ولكنى أعيب عليه وعلى المصريين بصفة عامة أنهم لم يحسنوا صيانة ذلك التراث الرائع …
وهم حسن بمقاطعته فلوح له بيده أن دعنى أكمل حديثى:
ـ أعرف ما تريد أن تقول. كانت هناك رغبة المصريين فى الاستقلال والتخلص من الانجليز وذيول الاحتلال، وكان لا بد أن تؤمم القناة وأن ينزح الأجانب لسبب أو لآخر. تستطيع أن تقول ذلك، ولن أختلف معك، فقد كنت أؤيد ناصر ـ بينى وبين نفسى بطبعية الحال ـ رغم أننى كنت جنديا فى جيش صاحبة الجلالة. وتستطيع أن تقول إن الإسرائيليين تكفلوا بتدمير أجزاء من المدينة أثناء حرب الاستنزاف، وسأوافقك على ذلك أيضا. ولكن الإسماعيلية كان يجب أن تصان بعد أن عادت ملكيتها إليكم خالصة. لقد أهملتم صيانتها. إن نفسى تتقطع حسرات عندما أعود الآن إلى الإسماعيلية فلا أكاد أتعرف عليها.
ـ وما الذى يدهشك فى ذلك؟ هل تستطيع أن تشير إلى أى مدينة فى مصر أحسنت صيانتها؟ ولماذا الإسماعيلية بالذات، وقد تدهورت جميع المدن؟
ـ الإسماعيلية بالذات لأنكم قبلتم التحدى الناتج عن رحيل المرشدين الأجانب بعد تأميم القناة وارتفعتم إلى مستواه. لقد ظن الفرنسيون أنكم ستفشلون فشلا ذريعا فى إدارة القناة، ولكنكم أحسنتم إدارتها بكفاءاتكم الخاصة. أليس كذلك؟ وظن الإسرائيليون أنهم سيبقون على شاطئ القناة إلى الأبد، ولكنكم اكتسحتموهم خلال ساعات. ألم تكن تلك الانتصارات جديرة بالاحتفال عن طريق تكريم الإسماعيلية؟ أم أننى أقول كلاما فارغا؟
وقالت باتريشيا:
ـ أعتقد أن رتشارد محق فيما يقول. إننى آخذ على المصريين أنهم لا يتمون ما يبدءون. سرعان ما يصابون بالتراخى. خذ مثلا الإصلاحات التى كان يجب أن نجريها فى الفيللا والجهود الجبارة التى كان علينا أن نبذلها لإقناع العمال والحرفيين المصريين بأن يتموا أعمالهم كما ينبغى. كانوا يدوخونا حتى نطردهم ونرضى بالعمل الناقص. يا له من صداع.
قال حسن لرتشارد:
ـ ولكن لماذا تعود إلى الإسماعيلية؟
ثم استدرك:
ـ نعم الآن تذكرت. تعود إليها لتكتب عنها وعن حبك الأول فيها. لابد أن المحبوبة كانت إحدى المجندات فى المعسكر.
ـ بالعكس كانت مصرية صميمة وكانت تسكن عرايشية العبيد.
ـ رائع. عسكرى انجليزى يقع فى حب مصرية تسكن فى أسوأ حى من المدينة. هذا موضوع يصلح بالفعل لرواية. إلى بالقصة إذن. تفضل. كلى آذان صاغية.
قال رتشارد:
ـ دعنا الآن من حى الأفرنج، فليس له فى القصة أى دور. بل ودعنا من حى العرب أيضا؛ فهو يقع خلف سور يفصله عن خط السكة الحديد وعرايشية العبيد. وفى موقع معين كنت وزميل لى من موريشيوس نقفز من القطار الذى يقلنا إلى المعسكر ونسرع نحو العرايشية. كان علينا أن نقطع عدوا أرضا فضاء بين السكة الحديد ومشارف العرايشية لكيلا يرانا أحد أو على الأقل لا يتحرش بنا. فإذا بلغنا بيتا معينا على أطراف الحى ألقينا عند صاحبته بأحمالنا وحمدنا الله على السلامة.
ـ أى أحمال؟
ـ ما تيسر من المواد التى كنا نختلسها من مخازن المعسكر. ولكن دعنى أحدثك أولا عن صاحبة البيت: فتحية. كانت امرأة من طراز فريد: كانت "معلمة" أو "فتوة" كما تقولون. وكانت تتحدى أى رجل أو «أجدع شنب» كما كانت تردد دائما. وكانت صادقة. فلم تكن تحجم عن العراك مع الرجال. وما كانت لتنهزم. كانت تنطح بالرأس ("تضرب بالروسية" كما تقولون) وتضرب بالركبة فيما بين الفخذين. وكانت لنا مع فتحية تجارة مزدهرة: نحمل إليها السجائر وعلب البولوبيف وعلب البيرة وفى بعض الأحيان ملابس الرجال الداخلية المصنوعة من الصوف، ونقايضها بالحشيش.
قال حسن:
ـ لا تقل لى إنك وقعت فى هوى فتحية!
وضحك رتشارد:
ـ كلا بطبيعة الحال.
وتوقف برهة كمن خطرت له فكرة مفاجئة:
ـ لكن قل لى: أين تعلمت انجليزيتك؟
قال حسن:
ـ فى لندن.
وهللت باتريشيا:
ـ إذن فقد عشت فى لندن. رائع.
ـ كنت أخبز البيتزا فى إيرلز كورت. ولكننى ذهبت إلى مدرسة للغات.
وسارع رتشارد إلى استئناف الحديث قبل أن ينصرف إلى لندن:
ـ كانت هناك فى البيت صبية هى شريفة ابنة فتحية. كانت ما زالت طفلة عندما بدأنا التردد على ذلك البيت. كنت أراها تجلس على بسطة السلم أمام كتبها المدرسية، فها كذا كانت تستذكر دروسها. وكان منظرها فى ذلك المكان آسرا. لا أعنى بذلك جمالها، ولكنى كنت أرى فيها خصلة جميلة لاحظت شيوعها بين المصريين الفقراء، وهى تعطشهم إلى التعليم رغبة منهم بلا شك فى تحسين أحوالهم. كان منظرها يمسنى. قدمت إليها ذات يوم لوحا من الشيكولاطة فرفضته حتى قالت لها أمها:
ـ خذيه من جونى.
فأخذته. وكانت أمها بالمناسبة تسمينى وتسمى كل من يرافقنى جونى. وجونى إذن هو العسكرى الانجليزى أيا من كان. وعندما كبرت فتحية أخذت أحمل إليها بعض الهدايا: بعد الشيكولاطة جاءت الأقلام والأدوات المدرسية وما إلى ذلك. وكانت فى كل مرة تتردد فى أخذ الهدية حتى تأمرها أمها أن تأخذها من «جونى». فمتى على وجه التحديد وقعت فى حبها؟ قد تعجب إذا أخبرتك أننى لم أعرف أننى أحبها إلا بعد أن رحلت عن مصر بسنوات. ولا بد أننى كنت شابا بطيء النمو. ولكننى أذكر المرة الأخيرة التى رأيتها فيها قبل الرحيل. كانت الاضطرابات قد بدأت فى منطقة القناة، ونشط الفدائيون ضد معسكراتنا وأصبح خروجنا إلى المدينة خاضعا لقيود صارمة. وفى الزيارة الأخيرة لبيت فتحية وقفت أمامها أودعها على مشهد من الأم. وسألتنى:
ـ ما اسمك؟
وكانت تلك هى أول مرة تخاطبنى فيها. قلت:
ـ جونى.
فابتسمت:
ـ اسمك الحقيقى.
فأخبرتها باسمى الحقيقى. ومدت يدها لتصافحنى. كانت تعصب رأسها بمنديل أخضر يتدلى منه الترتر وضفيرتان طويلتان. وكانت تطل من عينيها السوداوين الواسعتين نظرة غريبة. وددت عندئذ أن أعانقها، أن أقبلها.
قال حسن:
ـ هذه قصة محزنة: تنتهى العلاقة فى اللحظة التى بدأت فيها.
قال رتشارد:
ـ ولكنها لم تنته إلا بعد ذلك بسنين. وذلك أننى عدت إلى انجلترا وسرحت من الجيش، ودرست اللغة العربية. وعدت إلى مصر بعد ثمانية أعوام تقريبا. وفى تلك الأثناء كانت شريفة قد أصبحت ممثلة على أعتاب النجومية. عندما اتصلت بها بالتليفون لأول مرة قلت: «أنا جونى» فقالت: «أهلا يارتشارد». فكأنما كانت تنتظرنى. وكانت لنا إذن جولة ثانية، ولكن شريفة كانت قد أصبحت امرأة فاتنة وقاتلة للرجال. وقد نجوت منها بجلدى؛ فقد كادت تفتك بى. ولم ينقذنى منها إلا أننى اكتشفت الكتابة. بل أستطيع أن أقول إن حب شريفة هو الذى جعل منى كاتبا.
قال حسن:
ـ أنت بالفعل رجل سعيد الحظ.
ـ وذلك إذن هو موضوع الرواية. وسوف أنجح إذا تمكنت من تنبيه القارئ إلى روعتها. أريد أن يرى كيف تطورت شريفة من الطفلة التى تجلس على بسطة السلم فى ظل أم تتاجر فى المخدرات والمسروقات المهربة من المعسكر الانجليزى حتى تصبح غانية تفتك بالرجال. أين تعلمت فن إغواء الرجال؟ وهى على بسطة السلم؟ كانت قد منحت كل شيء: جمال الوجه والجسد والذكاء والأعجب من ذلك ما اكتسبته وأتقنته من عادات ومهارات الطبقة العليا، فكأنها ولدت لأسرة أرستقراطية. أريد للقارئ أن يرى عنصر الروعة فى الحياة، لأن الحياة رائعة يا صديقى ولأن فن الرواية هو أولا وأخيرا إبراز ذلك العنصر.
وقالت باتريشيا لحسن:
ـ ولكن لماذا عدت من لندن؟ رتشارد يفضل الحياة فى مصر لأنه كاتب، ولأن له حبا قديما فيها، والكتاب كما تعلم مجانين. أم أن لك بدورك حبا قديما فى مصر؟
قال حسن:
ـ لى فى القاهرة حب قديم بالفعل، ولكنى لم أعد بسبب تلك الفتاة. كنت فى باريس أصلا، وكنت أعمل هناك بالتصوير، وكان كل شئ يبدو على ما يرام حتى جاءنى خطاب من أبى يحثنى فيه على العودة حتى أكون مع والدى فى شيخوختهما. وقد قررت العودة بالفعل، ولكننى فعلت ذلك على طريقتى. اتخذت طريقا ملتوية إلى القاهرة. لذلك ذهبت إلى لندن وعشت فيها ثلاث سنوات قبل أن أعود بصفة نهائية.
قالت باتريشيا:
ـ وفتاتك الأولى؟
ـ متزوجة الآن ولها طفلان.
وقال رتشارد:
ـ ألا تراودك نفسك أحيانا فى أن تراها؟
ـ على الإطلاق. ولكنى أحوم حول المنطقة التى تعيش فيها فى السيدة عائشة. ولا أشعر برغبة فى رؤيتها. لقد انتهى كل ذلك. ولا يعنينى الآن سوى الحاضر. أحب التجوال فى تلك الأحياء القديمة وأرى ما آلت إليه. فهناك ولدت وعشت إلى أن سافرت. وهناك أمارس التصوير كهواية.
قال رتشارد:
ـ تعنى القاهرة كما وصفها نجيب محفوظ؟
ـ تقريبا. لقد اكتشفت فى لندن أن ذلك هو عالمى.
ـ ولكنه عالم آيل إلى الانهيار.
ـ ليس كذلك تماما. هناك محاولات للإصلاح والترميم. وستبقى المبانى والشوارع أو بعض المبانى والشوارع. لست متشائما من هذه الناحية. إلا أن طريقة الحياة التى عرفتها فى طفولتى بسبيلها إلى الزوال. كنا نحيا حياة متواضعة، ولكنها كانت مستقرة؛ وكان الزمن يمر ببطء...
وقال حسن بعد سكوت:
ـ ما يعنينى هو طريقة الحياة. أنا أعرف فى تلك المنطقة كل حارة وكل زقاق. وأعرف الناس. وأنا أريد لكل ذلك أن يظهر فى صورى.
قال رتشارد:
ـ ولكن الرحالة والمستشرقين قد فعلوا ذلك.
ـ كلا لم يعملوا ما أريد عمله. لكل منا طريقته فى رؤية الأشياء؟ هل تعتقد أن من غير الممكن أن يأتى بعدك روائى أصيل ويكتب عن الإسماعيلية، بل وعن سور السكة الحديد وعرايشية مصر؟ بل ان من الممكن أن نتخيل أن ذلك الروائى كان بدوره جنديا فى الجيش البريطانى، وأنه كان يتاجر مع فتحية من وراء ظهرك، وأنه رأى شريفة ووقع فى حبها. أليس من الممكن أن يكون لدى هذا الكاتب قصة أخرى يرويها.
فهتف رتشارد:
ـ الحق كل الحق معك، وأعتذر عن لجاجتى. إلى بمزيد من الشراب.
ومنحت باتريشيا حسن وجنتها ليقبلها، بينما قال رتشارد:
ـ لن أقول "إلى اللقاء"، بل سأقول "وداعا".
قال حسن مستنكرا:
ـ ألا تريد أن ترانى مرة ثانية؟
ـ كم أود ذلك. ولكنك أنت الذى ستتحاشى لقائى مرة ثانية.
وكان حسن مستلقيا على كنبة بالقرب من نافذة الشرفة فى مواجهة النجوم التى ازدحمت بها صفحة السماء. وحاول أن يفهم اللغز الذى ألقى به رتشارد فى نهاية السهرة حتى شعر بالتعب فقرر أن ينام حيث استلقى. فنهض ليخلع البدلة وليدخل فى جلبابه، وقال لنفسه وهو على حافة النوم إن الرجل قد أفرط فى الشراب، كما قال. وكان يسمع الريح وهى تعدو على سطح البحيرة. كان يسير ذات يوم على شاطئ فى جنوب انجلترا عندما لمح حصاة فى حجم البيضة ذات لون أخضر ضارب إلى السواد. فالتقطها. كانت ناعمة ملساء يطيب للكف أن تقبض عليها. فكم مليونا من السنين قضت الطبيعة في صياغتها؟ لعلها جزء من الحطام المتخلف عن شهاب أو لعلها بقية من الحمم التى قذف بها بركان قبل أن يغفو، أو ربما كانت فى الأصل حفنة من الطين لولا أن الرياح وماء البحر ظلا دهورا يسويانها ويصقلانها. وكل ذلك يحدث لدهور على مشهد من شمس الظهيرة المتلظية ونجوم السماء الزاهية. ولعل حيوانات غريبة كانت تجوب هذه المناطق الموحشة فى يوم من الأيام ثم انقرضت. فماذا كان يقصد رتشارد؟
وأصابته رجفة أثناء نومه. كأنما سمع خطو أقدام. وفتح عينيه فوجد باتريشيا أمامه:
ـ ماذا تفعلين هنا؟
كانت في لباس البحر والماء يقطر منها. ونهض جالسا:
ـ باتريشيا ماذا حدث؟
أما هى فكانت تضحك:
ـ آسفة لإزعاجك. أصابنى الأرق فقررت أن أسبح. أفعل ذلك أحيانا كى أستعيد الرغبة فى النوم. ثم شعرت برغبة قوية فى أن أراك. أرجو ألا تضايقك هذه الزيارة المفاجئة.
ولم يدر ماذا يقول حتى هداه تفكيره إلى عبارة مهذبة:
ـ على الإطلاق. تفضلى.
ورجته أن ينتظرها حتى تعود من الحمام. فلما عادت كانت ملفوفة فى بشكير. واستلقت إلى جانبه بعد أن أطفأت النور. وعندما التصقت به ولفت ذراعها حوله شعر بقلبه يغوص فى صدره. وسألها هامسا:
ـ ورتشارد؟
ـ لا تشغل بالك به. إنه لن يستيقظ قبل الساعات الأولى من الظهيرة.
وشدته إليها فأحس أنها تسحبه نحو أعماق لا غور لها. ولم يقاوم. وعندما أفاق أشعل الضوء. أراد أن يراها. كانت هناك بالفعل متوردة الخدين وقد ظهرت على أنفها حبات دقيقة من العرق. وكانت مسبلة الجفون تتنفس بعمق. وكان أول ما قالت عندما أفاقت: "أرجو ألا تكون نادما". قال: "وهل يمكن أن أندم على هذا الحلم الجميل؟" فقالت: «لا تتركنى إذن». قال: «أنا أتركك؟ أنت التى سوف تتركينى. لديك ما يشغلك عنى».
وكانا يتناولان الإفطار عندما فاجأته بقولها:
ـ أريد أن أطلعك على سر لا يعرفه غيرك. ينبغى أن تعلم أن رتشارد ليس زوجى. نحن نعيش معا. لا أكثر ولا أقل. ولكننا مضطران إلى تمثيل دور الزوجين أمام المصريين.
وبعد لحظة من الصمت قالت:
ـ تعرفت على رتشارد منذ عشر سنين. فى البداية كان كل شئ على ما يرام: كان فارق السن ضخما، لكن رتشارد كان مفعما بالنشاط والحيوية. ولقد تغير كثيرا منذ ذلك الحين. وقد كنت أعارض مجيئنا إلى هذه الصحراء، ولكننى سايرته لأننى أحبه. ولم أعد أحتمل هذا الوضع. هو وضع مناسب له لأنه كاتب، وهو بمعنى من المعانى مكتف بذاته. أما أنا فإنى ما زلت فى حاجة إلى الناس. وما زلت أريد الخروج والسهر والسفر. والمصيبة أن رتشارد يزداد عزلة وانطواء على نفسه مع مرور الأيام. إنه يعيش فيما يكتب. وهو عندما ينهمك فى الكتابة لا يريد أن يتحدث عن أى موضوع آخر، ومحال على أى إنسان أن ينفذ إليه، ومحال عليه هو نفسه أن يتعاطف مع أى إنسان أو أن يهتم بأى موضوع. وهو إذن يهملنى تماما. فكأننى غير موجودة. والأسوأ من كل ذلك أنه أصبح يسرف فى الشراب، ويخيل إلى أنه فى طريقه إلى الإدمان، إن لم يكن قد أصبح مدمنا بالفعل. بل يخيل إلى أحيانا أنه صار يكرهنى. لم يعد يتحمل سخافاتى كما كان يفعل فى الماضى بوصفه أكبر سنا وأنضج. على أى حال لا ينبغى أن تشغل بالك به. سوف يغار منك ولكنه سيتقبلك فى نهاية المطاف. وربما أصبحتما صديقين. اترك لى الموضوع ودعنى أتصرف.
قال حسن باستنكار:
ـ ماذا تعنين؟
ـ أعنى أنه سيتقبلك فى النهاية كأحد أفراد العائلة.
ـ تعنين أننا سنكون جميعا أطرافا فى علاقة ثلاثية؟
ـ صحيح أنك لن تقيم هنا بصفة دائمة، فلديك عملك فى القاهرة. ولكنك ستأتى إلى الجونة وتقيم معنا كلما أمكن ذلك. وسأزورك فى القاهرة. صدقنى إن رتشارد لن يمانع… أعنى فى نهاية المطاف. سنرتب الموضوع معا.
وقال حسن فى احتداد:
ـ هل جننت؟ كيف تخطر على بالك هذه الأفكار؟ إذا قبل رتشارد هذا الوضع فلا يمكن أن أقبله أنا.
ـ ولم لا؟ ألأنك شرقى غيور؟
ـ دعينا من الشرق والغرب. ما تقترحينه على ليس بالوضع الطبيعى. أنا شخصيا لا أتحمل أن يشاركنى أحد فى حب امرأة. ولا أستطيع أن أتحمل غيرة رتشارد الصامتة. فهو إذا وافق على ذلك الحل سيوافق مرغما. كلا لا أستطيع أن أرضى له تلك الإهانة.
وقالت وهى تهم بالانصراف:
ـ أعتقد أنك تبالغ.
وقبلته على شفتيه، ولكنه كان جامدا كالتمثال.
ورآها حسن تقفز فى الماء عائدة إلى بيتها.
وارتفعت الشمس فى الأفق. وتجاوزت نقطة السمت دون أن يحدث شئ. وكان حسن يجلس فى الشرفة يترقب فى وجل. وكان باستطاعته أن يرى باب الزوجين مغلقا. ليس هناك أنباء إذن بعد ما حدث البارحة. وفجأة ظهر سوكس بمفرده. وكانت تبدو عليه علامات الحيرة: كان يدور هنا وهناك لا يستقر له قرار. وهبط إليه حسن:
ـ ماذا بك يا غلام؟
وأخذ يربت على كتف الكلب بينما كان هذا الأخير يتشمم عنقه:
ـ أنت تبحث عن سيدتك. أليس كذلك؟ لقد عادت إلى البيت.
وتسارعت دقات قلبه عندما لمح رتشارد قادما من بعيد: كان يمشى متثاقلا وكأنه يعرج. وتحفزت أعصاب حسن تأهبا لما قد يقال أو يحدث. ولكن رتشارد جلس فى هدوء، وقال مستأنفا حديث البارحة:
ـ لقد خطرت لى بعد أن ذهبت فكرة، وهى أن الناس العاديين – أعنى البشر الذين نجوا من التشوه المهنى الذى يصيب الكتاب والفنانين – لا يعبرون عما يرون حتى لو افترضنا على سبيل الجدال أنهم يرون الأشياء على حقيقتها. الكتاب والفنانون هم الذين يخبرون عما يرون، وليس هناك غنى عنهم وعما ينقلون من أخبار. فهل يرضيك هذا الرد؟
وتنفس حسن بارتياح، ولكنه كان عاجزا عن التفكير.
وهنا وضع رتشارد يده على جبهته:
ـ أم أن ما أقوله كلام فارغ؟
ـ على الإطلاق. أعتقد أنك على حق.
وهم رتشارد باستئناف الحديث. ولكنه توقف ليقول:
ـ أكاد أموت من العطش. هل لديك أى ويسكى؟
ـ أعتقد أن صاحب الفيللا ترك بعض الزجاجات. سأذهب لأرى ما هنالك.
ـ أرجو إذا وجدت الويسكى ألا تنسى الثلج.
وكانت مكعبات الثلج تتصدع بصوت مسموع تحت وقع الويسكى. وتجرع رتشارد الكأس الأولى دفعة واحدة وأخذ يملأ كأسا ثانية. وطال صمته حتى قال فجأة:
ـ لقد رحلت.
وأصاب حسن الفزع:
ـ من؟
ـ باتريشيا. لا أدرى متى على وجه التحديد. ولكنى عندما استيقظت وجدت رسالة منها.
وأحس حسن أن وجهه يمتقع وأن الأرض تميد من تحت قدميه:
ـ ولكن إلى أين؟
ـ إلى أين؟ إلى القاهرة بطبيعة الحال ومنها إلى لندن فيما أعتقد. فهذه هى النهاية يا صديقى العزيز.
ورفع الكأس إلى فمه وغض طرفه:
ـ هذه هى النهاية. الرسالة التى تركتها تعنى أن تلك هى النهاية.
وقال حسن:
ـ أنا آسف لذلك.
ولو انه طاوع نفسه لعبر بدوره عن شعوره بالفجيعة. آه من النساء! باتريشيا لا تختلف عن كاترين. لماذا يلقى حظه العاثر بهذا النوع من النساء فى طريقه؟ كيف طاوعتها نفسها بعد ما حدث أثناء الليل؟ هناك الآن خيانة مزدوجة. فمن أى مادة صنعت؟ وما الداعى لتلك القسوة؟
وقال رتشارد:
ـ لقد اتفقنا منذ البداية على أن يحتفظ كل منا لنفسه بهامش من الحرية: لى مغامراتى العابرة ولها نفس الحقوق. وقد كنت سعيدا بذلك الوضع فى البداية، ثم بدأت أشعر بالغيرة …
ـ لماذا؟
وتمهل رتشارد قليلا قبل أن يقول:
ـ ما زالت شابة فى عنفوان شبابها. أما أنا… إن عصر مغامراتى انتهى … إلى الأبد. من السهل عليك أن تفهم ذلك. على أى حال أصبحت أشعر بالغيرة، ولكنى أغض الطرف كيلا أفقدها. وها أنذا أفقدها وبطريقة لم تخطر لى قط.
ـ تقول إنك كنت تتوقع أن تفقدها؟
ـ تماما. ما زلت أعيش فى حالة من الرعب الصامت وخاصة منذ مدة. كنت أتوقع أن يظهر رجل أصغر منى سنا ليستولى عليها ويرحل بها. بل وسأكون صريحا معك إلى أقصى درجة وأخبرك بما خطر لى ليلة أمس.
وهنا مال رتشارد نحو حسن كأنما يريد أن يلقى إليه بسر خطير:
ـ لقد خيل لى ليلة أمس أنك أنت ذلك الرجل.
وبوغت حسن، وكان عليه أن يبذل جهدا كبيرا لكى يسأل:
ـ وما الذى أوحى إليك بذلك الخاطر؟ أترانى قد أسأت الأدب؟
ـ يا صديقى العزيز لقد كنت مثالا للجنتلمان، أما هى فلم تكن ترفع نظرها عنك. ألم تلاحظ ذلك؟
قال حسن بصوت مبحوح:
ـ على الإطلاق.
كان يثقله الشعور بالخزى إزاء الإطراء الذى لم يكن يستحقه. وجاءه صوت رتشارد:
ـ لقد كنت أراقبها. وأنا أعرفها. إذا راق لها رجل، فلا شئ ...
وتوقف برهة ليقول:
-ـ... فلا شئ يثنيها عما تريد. والآن أعتقد أن من واجبى أن أعتذر لك عن سوء ظنى بك. وها هى قد رحلت من تلقاء نفسها ولم يسلبنى أحد إياها. وهذه هى النهاية.
وهم بالنهوض:
ـ هيا بنا يا سوكس. لنستكمل جولتنا.
وكان يتمتم عندما وقف:
ـ أنا لا أكتب إلا فى ظل رعايتها. لا حياة لى بدونها.
وعادت إلى حسن المشاهد الأخيرة من حياته فى باريس. تذكر كيف كانت كاترين تقبل الشاب الذى تراقصه. كأنما تلقى عندئذ طعنة خنجر. كيف أمكنها أن تتجاهله على هذا النحو، وهى التى أقبلت عليه ودعته إلى حفلة عيد ميلادها. قالت: «الرقصة الأولى ستكون لك.» وهو إذن متأهب طيلة النهار ينتظر قدوم الليل بفارغ الصبر. فإذا صعد إلى الحفل متلهفا وجدها تراقص شابا آخر. فلينتظر إذن حتى تنتهى الرقصة أو الرقصات مع ذلك الشاب. غير أن دوره لا يكاد ينتهى حتى يتلقف كاترين شاب آخر. ولم تقاوم. بل استكانت إلى حضنه وأسلمته بعد قليل شفتيها. فماذا كانت تريد منه إذن ولماذا دعته؟ لقد ظل طيلة الليل بعد انسحابه من الحفل لا يستطيع أن يصرف الموسيقى التى أخذت تدوى فى رأسه. وكان كلما أفاق من هذيانه رأى فى مواجهته خطاب أبيه يدعوه إلى أن يعود إلى مصر. وعندما نهض فى الصباح أدرك أنه لا يعرف النساء ولا يفهمهن. وها هو الآن بعد مضى خمس سنوات على ذلك الحادث وإقامته ثلاث سنوات فى لندن ما زال على جهله. فها هى باتريشيا تخون زوجها أو عشيقها معه ثم تتخلى عنهما معا. ما هى قواعد اللعب إذن؟ وهل قدر عليه أن يشعر بالخطر كلما اقتربت منه امرأة؟ هل ينبغى أن يتجنب النساء؟ وماذا عن حاجته إلى الحب؟
وكان فى طريقه إلى خارج العمارة عندما نادته جارته العجوز فيوليت. وكانت كعادتها كل صباح جالسة فى الحديقة وهى فى كامل زينتها:
ـ تعال اجلس إلى جانبى. ما حقيقة هذه الأخبار التعيسة التى أسمعها؟ سمعت بعض نساء العمارة يثرثرن عند صناديق البريد وترامى إلى سمعى أن «الفتى المصرى» سيرحل عن العمارة. فهل هذا صحيح؟
ـ صحيح.
ـ وتتخلى عن صديقتك فيوليت؟
ـ أنا آسف.
ـ لقد كنت أعول عليك لكى تزورنى فى بيت المسنين.
ـ أنت راحلة بدورك إذن؟
ـ للأسف الشديد. فحفيدى ـ وهو الشخص الوحيد الذى يتكرم ويزورنى الآن مرة فى الأسبوع ـ يريد أن يتخلص منى كى يتحرر من هذا العبء.
وتنهدت:
ـ يبدو أنه وجد لنفسه صديقة، وهو يفضل أن يقضى كل وقته معها بدلا من أن ينفق منه ساعات مع جدته التى تناهز التسعين. ولست ألومه؛ فهذا هو حال الدنيا. وكنت أعول عليك، ولكنك ذاهب.
وقال حسن لكى يغير الموضوع:
ـ وغريمتك التى انتزعت منك زوجك: أما زلت ناقمة عليها؟
ـ ألعنها كل ليلة.
ـ أما آن أن تغفرى لها. لقد مر على هذه الأحداث أكثر من نصف قرن.
ـ لا أستطيع.
ومسحت دموعها:
ـ نفسى لا تتقبل ذلك العدوان. لم يكن لدى سوى رجلى. وأخذته منى.
ـ الغفران شئ سهل. وهو يريح الغافر ويزيح عن صدره الكرب. كل ما يقتضيه الأمر هو أن تتوجهى الليلة إلى الله وتشهديه على أنك غفرت لـ ... ماذا كانت تسمى؟
فأمسكت بيده:
ـ أنت رجل طيب. حافظ على ذلك. لا تعتدى على أحد. ولا تنس أن تمر على قبل السفر لأودعك.
كلام جميل. فليحاول إذن أن يغفر لباتريشيا. سوف يقتضى ذلك وقتا طويلا. ولكنه لا يفهم. ولن يجدى الفهم ـ إذا فهم ـ شيئا على أى حال. الغفران يزيح الكرب عن الصدر؟ هذا صحيح، ولكنه لن يحل المشكلة الأساسية. ما هى المشكلة الأساسية ؟ هى فى حالة فيوليت أنها قضت حياتها محرومة من حبها الوحيد. أما فى حالته ...
قبل الغروب بقليل دق جرس التليفون. ونهض ليرد وقد عقد العزم على الرحيل عن الفيللا المشؤومة. ها هو عصام يريد أن يعرف أخبار إقامته فيها . سيخبره إذن أنه ضاق بالجونة وأنه عائد إلى القاهرة مع شروق الشمس. فلما رفع سماعة التليفون إلى أذنه سمع من يقول:
- هالو يا حسن. وصلت إلى القاهرة منذ قليل. وأريدك أن تعلم أن ليس هناك ما يشغلنى عنك.
ويبدو أنها سمعت صوت بكائه، فقالت:
ـ أصغ لى: أنا منذ اليوم لك وحدك.
وأصابه خوار فجلس.
وكان يتأهب لركوب السيارة لكى يفر دون أن يشعر به أحد، ولكنه توقف مذهولا عندما لمح على الشاطئ المقابل من البحيرة رتشارد. كان يلوح بيده أن وداعا بينما كان سوكس ينبح عبر البحيرة. فتظاهر حسن بأنه لم ير شيئا وأدار مفتاح السيارة وانطلق. وقد ظلت الشمس تضيء الطريق والتلال الرمادية حتى حوالي الثامنة والنصف. وكان الطريق متعرجا موحشا، ولكن حسن كان يندفع بالسيارة بأقصى سرعة. ولقد صدقت نبوءة رتشارد إذن : «أنت الذى ستتحاشى لقائى مرة ثانية». كأنما كان يقرأ فى كتاب الغيب. ولا بد أنه فهم الآن. لا بد أنه أدرك السر من وراء ذلك الفرار المفاجئ. وحز فى نفس حسن أنه لم يجرؤ على رد تحية الرجل عبر البحيرة. ولكن هل كان يمكنه أن يفعل غير ما فعل؟ هل كان يمكنه أن يذهب إلى رتشارد ويودعه؟ ألم يكن ينبغى عندئذ أن يشرح له سر رحيله المفاجئ؟ ألم يكن ذلك من واجبات اللياقة بعد أن حظى بكرم ضيافة الرجل؟ لياقة؟ وماذا كان يمكن أن يقول له؟ كان عليه أن يكذب ولعل الكذبة ما كانت تنطلى على رتشارد. أم كان ينبغى أن يكون صادقا فيخبر مضيفه أنه قد ضاجع امرأته بعد ذلك العشاء الجميل وأنه ذاهب للقائها مرة ثانية؟ وزاد من وحشة الطريق أن مجموعات من الكلاب كانت تظهر فجأة من وراء صخرة أو كثيب من الرمل. ثم حلّ الظلام واختفت الكلاب. ولكن صورتها وهي تطل على الطريق تتدلى ألسنتها من أفواهها ومن ورائها الشمس جانحة للغروب لم تكن تفارق خياله. هل هي كلاب ضالة؟ فلماذا هجرت العمران إلى هذه الصحراء القاحلة؟ أم أنها نشأت أصلا فى الصحراء وتوحشت. وكان يقول لنفسه إن سنة الحياة هى انتصار القوى على الضعيف ثم يعود فيتذكر ما قالته فيوليت عن الاعتداء على الغير. وإذا شح الطعام فى تلك الصحراء، فماذا تفعل تلك الكلاب؟ علام تتغذى؟ هل تغير على أطراف المدينة؟ أم أنها تنهش صغارها إذا اشتد بها الجوع؟ أليست الأولوية للقوى؟ وإذا تنافس ذكران على أنثى ألا تنشب بينهما معركة يفوز فيها الأقوى؟ هل ينبغى أن تكون السعادة دامية؟ أم أن باتريشيا كانت محقة عندما اقترحت حلها الواقعى فتكون هناك علاقة ثلاثية؟ ولكن كل ذلك أصبح فى ذمة الماضى. لقد حسم الأمر.
وها هو قد وصل إلى «قاعة فيينا» فى الفندق الذى تقيم فيه. وكان قلبه يخفق شوقا ورهبة. وتوقف أمام ستارة القاعة المخملية القرمزية، وبلغته من الداخل موسيقى الدانوب الأزرق. وفتح الستارة ليختلس نظرة من خلال الفرجة الصغيرة: ها هم العازفون، وها هى الثريات الباذخة تتدلى من السقف العالى والشموع مصفوفة إلى جانب بللور الكئوس والزهور. أين باتريشيا إذن؟ وعاد فأغلق الستارة بسرعة. ماذا لو دخل فلم يجدها؟ أو وجدها مع رجل آخر؟ وسنح له فجأة خاطر كاد يسحقه. وتوقف ليستعرض شريط الأحداث عندما جاءته باتريشيا ليلا: كيف صعدت إلى الطابق الأول وعرفت طريقها إلى الحمام ثم عادت ملتفة بالبشكير. وفى الصباح أعدت الإفطار فلم تسأله كيف يشعل البوتاجاز وأين يوجد الشاى والسكر. كأنما كانت تعرف طريقها فى أرجاء الفيللا. هل يمكن أن تكون قد… وتوقف السؤال فى حلقه. وانقطع حبل أفكاره: لم يكن يقوى على استخلاص النتيجة، وهى أن باتريشيا لا بد كانت تعرف صاحب الفيللا وتتردد عليه. وإلا فكيف عرفت رقم التليفون؟ وتجمد فى مكانه حتى انفرجت الستارة من الداخل. وظهر رجل يرتدى الاسموكنج. ها هو الجرسون يدعوه إلى أن يتفضل بالدخول. وانفتحت الستارة تماما. وحط نظره على باتريشيا. كانت تجلس على مكان مرتفع قليلا بحيث تشرف على المكان؟ كانت ترتدى فستانا أسود. ماذا عساه يفعل بكل ذلك الجمال وما يكتنفه من أشواك؟ كل ما كان يتمناه منذ سني مراهقته أن يجد فتاة يفتح له حبها منفذا إلى الحرية فى البلد الخانق. وها هى الحرية تأتيه كالريح العاصف. ولمحته باتريشيا ولوحت له مرحبة. وكان يتقدم نحوها ببطء. لم يعد له ما يعتمد عليه إلا ما حدث عندما استلقت إلى جانبه. فقد شدته إليها. فلما هم بها قالت: «تمهل». ولم تمكنه من نفسها حتى جالت بشفتيها تقبله فى كل موضع من جسده. وتوقفت طويلا عند صدره وساعديه. ولما مكنته فى نهاية المطاف من نفسها، رأى السقف يدور، وخيل إليه أنه يهوى وتهوى معه فى فضاء تنهمر فيه النجوم وتشقه سهام من الضوء الخاطف. وما الحب إذن إلا حقل مليء بالألغام. وكان يتقدم ببطء وحذر. وكان فى نفسه حزن وإحساس بالخطر. هذه امرأة إذا راق لها رجل لم يثنها شئ. ولكنه كان يسير نحوها بخطو ثابت كأنه مساق إليها. وكلما اقترب منها زاد انبهاره بها. ولم يعد بوسعه أن يتراجع.
من مجموعة الكاتب القصصية الثانية (ركن العشاق) التي صدرت مؤخرا