بالرغم من أن الناقد المغربي المرموق يموضع استقصاءاته عن التطرف في الواقع المغربي، فإنها تنفتح على الحاضر العربي برمته حيث ينطلق من التمركز على الذات في مجال الفكر، في سياق تنتفي فيه المبادئ الأولية لـلتفكير، وتستشري به عقائد شعبوية تتاجر بالدين والتعنيف الإيديولوجي؛ وهي كلها عوامل ضامنة لتوسيع شبكات التطرف.

طوفان القارئ المتطرف

يحيى بن الوليد

بهذا الموضوع الحدّي، المتعلـِّق بـ"القارئ المتطرّف"، نكون قد بلغنا، ما كانت تسميه العرب، "ثالثة الأثافي" ... وكل ذلك في نطاق ما يمكن نعته، ومن جهتنا، بـ"النفق القرائي" الذي يزيد من تكريس حال الاحتقان السياسي والثقافي في الحالة المغربية. والمؤكد أن نخلص إلى مثل هذه الحال بالنظر إلى "خطورة جبهة القراءة" التي تتحوّل، هنا، من أن ترقى إلى أفق قوامه التعددية الرحبة إلى نفق قوامه "الأحادية المقيتة". ومن ثم ينتفي الشرط الذاتي والتاريخي لـ"الفعل القرائي" فيغيب "الفكر القرائي" ذاته أو بالأحرى يغيب الانتساب لهذا الفكر ما دام أن هذا الأخير، وفي المقال الأوّل والذي هو مقام "الإنتاجية"، متصل بأصناف الكتـّاب والمفكرين والمحللين والمعلقين والخبراء والنقاد ... لكن دون حرمان القراء، هنا، من "التدخل" بالمعنى الذي تعطيه "التفكيكية الإيجابية"، لا "العدمية"، لمفهوم "التدخـُّل". التدخل في أفق صياغة فهم تشاركي موسـّع للقضايا التي تسهم في مد الفكر بـحبال الواقع ومن خارج "نظرية الانعكاس" أو مقابلتها "نظرية الانعكاس المعاكسة". الأهم، في حالنا، محاولة تعميق الأفكار التي تشقّ "الضباب". وكلما اشتد الضباب إلا وازدادت حاجتنا إلى "الأفكار الواضحة"، تبعا لوصية الأكاديمي العالمي الأبرز والأشهر إدوارد سعيد.

وقبل أن نعرض لـ"القارئ المتطرف"، وفي المدار ذاته الذي لا يفارق "استبداد النسق الافتراسي" كما أكـَّدنا عليه في أكثر من مقال، فإنه سيكون من المفيد، وحتى لا نسقط في أي نوع من تلك "النظرة" التي تهدر السياق، أن نؤكد على أن العصر الذي نعيشه، وسواء على مستوى "مدار النظرية" أو على مستوى "مدار الممارسة"، هو "عصر التطرف" الذي تلا "عصر الاستعمار". وإذا كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يقول: "إن السلطة توجد في أي مكان" فإنه يمكن القول أيضا: "إن التطرف يوجد في أي مكان". ولذلك لا يبدو غريبا أن نجد عناوين تحافظ على هذا العنوان العريض، وفي مقدّمها الكتاب المرجعي والموسوعي والشمولي "عصر التطرُّفات: القرن العشرون الوجيز، 1914-1991" (1994) لصاحبه المؤرخ البريطاني الشهير (والماركسي المقاتل كما نعته راسل جاكوبي) إريك هوبْزْباومْ (Eric Hobsbawm). وقد فعل الباحث السوسيولوجي الأردني فايز الصيّاغ خيرا عندما أقدم على ترجمة هذا المصنف الكبير، في إطار من "المنظمة العربية للترجمة"، حتى نفيد منه في السياق العربي الخانق الذي لم يسلم، بدوره، وبمقادير تجاوزت مدى الظنون، من "نيران" و"حرائق التطرف".

ومن المفيد أن نشير أيضا إلى معطيات ووقائع كبرى أسهمت، بدورها، في توسيع زوابع التطرف في أنسجة المجتمعات... من أشكال الكراهية والتعصب والمؤامرة والراديكالية والأصولية والإرهاب ... وهي أشكال جديرة بـترسيم الخرائط والصور المنمطة في أبنية الفكر وتيارات الفهم. وهذه الأشكال لا تزال سائدة إلى يومنا هذا ... ما لم نقل بأنها متزايدة، وبوتائر متسارعة، بالنظر لـ"الانفجار الثقافي" الذي في إطار منه أخذنا نناقش "الألغام" و"الزوابع". ولعل ما في النقاش الثقافي ما يشي بـ"التدمير الأعنف والأعرض" مقارنة مع "النقاش السياسي" الذي لا يخلو من "مناسباتية". فالثقافة هي الأرجح على مستوى الترسيخ لـ"الأفكار" التي تنمِّط الإنسان وتفضي به ــ بالتالي ــ إلى النتائج المرسومة والمدروسة. وتعديل الأفكار الأخيرة، لكي لا نطمع في تغييرها وتحويلها، يظل الأبعد والأصعب. العمل يتطلب الاشتغال على أصعب الجبهات وهي جبهة النسق الذهني الكاسح، وتتضاعف مشكلات الاشتغال أكثر في ضوء "المدد الطويلة"  (Longues Durées) التي ترتبط بها "الذهنيات" كما في نقاشات "مدرسة الحوليات" (les Annales)التي كان لها ميزة توجيه "قلعة التاريخ" نحو "المشكلات الاجتماعية والاقتصادية".

وفي ضوء ما سلف يظهر أن "التطرف" "تيار عالمي"، غير أنه لا ينبغي أن نكتفي بأن ننظر إليه في ضوء تلك النظرة الشمولية التي بموجبها يصير التطرف مرتبطا بالحروب والإبادات والجرائم الدولية فقط. ولذلك من المفيد أن ننظر إليه أيضا في ضوء المواضيع الهامشية أو في ضوء الأطراف التي نعدّها "هشة" مع أن تأثيرها لا يقل خطورة إن لم نقل بأنها مكمـّلة بدورها للحروب والإبادات والكراهيات... إلخ. فـ"التطرف خبز عالمي" كما قال راشد المبارك، في كتابه الهام، الذي يحمل العنوان ذاته (2006(. والتطرف له جذوره ومرجعياته، ويظهر في تيارات ومذاهب، وله أنواع وأصناف، وله مخلفات وتبعات.. إلخ. وهو في المغرب كما في سائر البلدان، وبما أنه في المغرب كما في سائر البلدان فهو يتأثر بالأجناس والألوان والديانات. وفي مثل هذه الحالات وجدناه محكوما بـ"ثقافات" أو وجدناه محكوما بالخطاطة الأنثروبولوجية: "شعوب وثقافات". وكما قال الفيلسوف نيتشه، وحتى نتلافى متاهة الوثوق الفكري والمنهجي، فإن جميع الكلمات التي لها تاريخ هي "كلمات إشكالية".

وأما نحن، وفي ما تبقى من هذا المقال، وفي إطار من التركيز على "الحالة المغربية"، فلا نرغب سوى في معالجة "ظاهرة القارئ المتطرف" التي تبدو لكثيرين في شكل "كبسولة" لا أكثر ... مع أن مفعول هذه الكبسولة لا يقل عن مفعول "دبـّابة" ما لم نقل بأن زحف "التطرف" لا يمكن الحد منه أو حتى مواجهته. ولعل هذا ما تؤكده المؤتمرات والاتفاقيات والميزانيات المالية التي ترصد للتصدي له. فالمعركة، هنا، في الرأي وبالرأي وللرأي؛ والمواجهة، بالتالي، مع طبقات من التكلـّس والتحجـّر وفي المجال الأعسر (كما أسلفنا) وهو "المجال الذهني".

وثمة أكثر من صلة تصل ما بين القارئ المتطرف والقارئ العدواني، وهذه الصلة تتحدّد من خلال "القفز" على النص بدافع من "استرتيجيا التدمير": تدمير النص وقبل ذلك تدمير صاحبه كما في حال "القارئ الثاني" تأكيدا لـ"وهم المطابقة" أو "وهم البحث" عن "بطولة مفتقدة"... فيما تتحدد الصلة ذاتها، وكما في الحال الأولى، من خلال "الرد" على النص لكن بما يؤكد على "أفكار" القارئ، وإما بـ"الزيادة" ــ و بالأدق "الزيادة المفرطة" ــ على أفكار النص في نطاق "الاستجابة" لـ"خطاطة الشيخ والمريد" أو في نطاق ما يضاد الخطاطة الأخيرة وعلى نحو ما يفسح المجال للقارئ للتأكيد على "خطابه العاصف" ومن حيث هو "خطاب نقيض" أو "مضاد" (Contre Discours)

والمؤكد أن "القارئ المتطرف"، والتطرف بصفة عامة ومن ناحية الماهية والمهمة والأداة، يبرز، وبشكل سافر وكاسح، في أثناء "التعاطي" لمواضيع محددة في مقدّمها موضوع "العرق" و"المعتقد" (الديني بصفة خاصة). أجل ليس بإمكان أحد الاعتراض على ما تعرضت له الأمازيغية من "تضييق محكم"؛ مما جعل من وجودها، وعلى مدار طويل، وجود "مقاومة" تبعا للمفهوم الذي وظـّفه روبير مونتاني في دراساته التي كرّسها لـ"الحياة الاجتماعية والسياسية للبربر" في ثلاثينيات القرن المنصرم (وهي متضمنة في كتاب: "نظرات حول المغرب" (بالفرنسية، منشورات C.H.E.A.M) بكلام جامع: لا أحد بإمكانه الاعتراض على "الطرح الأمازيغي"، وخصوصا في "المنظور التاريخي" الذي يمزج بين "الحقيقة والحق"، وفي إطار من التأكيد على "الهوية الثقافية المفتوحة"، غير أنه سيكون من باب التطرّف أن نجعل من "الأمازيغية القضية ومن القضية الأمازيغية"...  ومن دون شك أن "يستفز" قول من هذا النوع "القارئ المتطرف" وأن يجعله يلجأ إلى "الرد الأنثروبولوجي الفيزيقي"، وعلى النحو الذي يؤكد على "تدخـّل الثقافة" (فهم محدّد للثقافة). وألم يؤكـِّد الأنثروبولوجيون، وفي مقدّمهم كلود ليفي شتراوس، على أن "الثقافة هي التي تصنع العرق لا العرق الذي يصنع الثقافة"؟

وفيما يخص المعتقد الديني فلا داعي للتأكيد، وعلى نحو ما هو مؤكـَّد في "أبجديات علم اجتماع الأديان" و"علم الأديان المقارن"،  على الفرق بين "النص الديني" و"الخطاب الديني"، الفرق بين "كلام الله" المتضمن في "كتابه المبين" في حال "القرآن الكريم" وبين "التأويلات" التي تعطى لهذا الأخير من قبل "البشر" وتحديدا في "سياقات تاريخية متدافعة ومتفاوتة". وعلى ذكر السياق فإنه لا مفر من الإشارة إلى ما تجاوز ما كان قد أسماه المفكر حسن حنفي، وقبل ثلاثة عقود، بـ"الكبوة" نحو ما يمكن نعته بـ"التحوَّل الجذري". التحوّل من "الإسلاميين" إلى "الإسلاميين المتشددين" ثمّ "السلفيين" وصولاً إلى "الجهاديين". ولذلك ما الذي يمكن "تلقيه" في حال "التلويح" بما ورد في تراثنا الإسلامي السمح من "أقوال مأثورة" من مثل هذا القول المنسوب للإمام مالك والذي كان يردّده الشيخ محمد عبده: "إذا ورد قول من قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولم يُحمَل على الكفر". فطرح "السؤال" أفضل من استخلاص مجمل دلالات "الحرب الثقافية" التي يخلفها من ورائه.

وفي السياق المغربي نلاحظ عودة لمناقشة الموضوع القديم/ الجديد المتمثل في "العلمانية" وعلى نحو يكشف عن "الحال" التي وصلت إليها الثقافة المغربية المعاصرة. والأكيد أن مناقشة العلمانية، ومن خارج العلف الأكاديمي الزائد ومن خارج السجال العقيم والعدواني، وفي ضوء "الجدلية المجتمعية المغربية الشائهة"، وعلى النحو الذي يستقدم "مجموعات قرائية" للنقاش، لا بد من أن يطرح "ردودا واسعة" و"ردودا عدائية عنيفة". ويحصل ذلك دونما اكتراث بما هو متضمـّن في العلمانية ذاتها، وعلى النحو الذي بموجبه يتم التمييز بين "العلمانية المؤمنة" و"العلمانية الملحدة". وألم يتضمن كتاب علال الفاسي "النقد الذاتي" (1952)، وفي إطار من تصوّر "مستقبلي لـ"مغرب ما بعد الاستعمار"، إشارات لـ"العلمانية"؟ وألم يلتقط عبد الله العروي هذه الإشارات ليستخلص "دلالاتها المركزية" في روايته "أوراق"؟ وألم يذهب العروي نفسه إلى ما هو أبعد مما سبق عندما قال في الرواية ذاتها: "يحتل مشكل العلمانية أو فصل الدين عن الدولة حيزا كبيرا من كتاب علال الفاسي النقد الذاتي"؟ وأليست العلمانية، ووفق فهم محدد لا يفرط في "ثوابتنا الدينية" كما ينبغي التأكيد على ذلك، جديرة بـ"ضمان تدبير الاختلاف" و"القبول بـ"الآخر" على "أرض الإسلام"؟ وألسنا في مسلكياتنا وفي أشكال شتى من التواصل "علمانيين"؟ وإلى أي حد يمكن "تقبـّل" ما ذهب إليه محمد أركون، في كتابه "الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد"، من "أن الإسلام يسمح بالعلمنة والحرية وبالتمييز بين الدين والسياسة"؟

النتيجة هنا هي مجابهتنا بالقارئ المتطرف الذي يكون مجلى لـ"طوفان الفكر الديني الحرفي المتعصب". واستطرادا: لا مجال، هنا، لما ذهب إليه أبو حنيفة النعمان من أن "كلامنا هذا رَأي ... فمَن عنده خَيْر منه فَليَأتِ به ..."، ولا مجال لما ذهب إليه الإمام الشافعي من أن "هذا الذي نوجد فيه مجرد رأي لا نلزم به أحدا ولا نقول ينبغي قبوله بكراهية". ومن الجلي أن تنتفي، هنا، "فضيلة الاجتهاد" في مقابل "رذيلة نكون أو لا نكون" ... ويسود "المجهول" كما نعته المفكر الأردني فهمي جدعان في كتابه "المحنة". وهنا أيضا تسود، وحتى نتكلم بلغة "المطبخ الإسلاموي"، "الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاجرة" في سياق الاعتقاد في "الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة".

وفي مثال آخر، وهذه المرة بخصوص "التطرف السياسي"، ما الذي يمكن انتظاره من "قارئ متعين" عندما يسمع نقدا حادّا لـ"اليسار" الذي ينتمي إليه؟ وإلى أي حد يقبل بأن يعيد "يساره" النظر في "أدائه" وبما لا يجعله خارج "أرض الإيديولوجيا" ذاتها ؟ بكلام أوضح: أن ينفتح على ما هو حاصل في "اليسار" ككل ومن ناحية الفكر الفلسفي ذاته وعلى النحو الذي بموجبه يرقى فيه هذا اليسار من "ما قبل [أو حتى "ما قبل قبل قبل"] اليسار" إلى "ما بعد اليسار" وإلى "اليسار الأكاديمي" الذي لا يفارق "النضال الأكاديمي"؟ ومن ثم الانتماء للعصر والإسهام فيه من منظور يفسح المجال أيضا لـ"المثقف العام النقدي والمبدئي". المؤكد: سيرى القارئ المتطرف في هذا "المطلب" ما يشي بـ"العمالة" لجهات معينة، قد تصل "إسرائيل"، وبـ"قصدية" جعل اليسار ينزاح عن "رسالته التاريخية" و"مهمته الحضارية"؟

خطورة القارئ المتطرف أنه يستجيب لنظرة متطرفة بموجبها يبدو مصرّا، وبـ"العنف"، على "حجز الحقيقة" بأكملها. وخطورته، كذلك، أنه ينظر، وبشكل مسبق، إلى كل ما لا يساير فهمه كـ"خطأ" دون استناد إلى دليل أو تبرير مؤَسـَّس ومقنع أو دون استناد حتى إلى أبسط "محاولة إيجاد تفسير" أو "وظيفة" للأشياء. بل ويتجاوز هذا القارئ، وانطلاقا من "تمركزه الذاتي"، معارضة "أنظمة"، في مجال الفكر الديني أو السياسي أو الإيديولوجي، نحو الإصرار على قلب هذه النظام. ويتضاعف المشكل أكثر في سياق تنتفي فيه المبادئ الأولية لـالتفكير، لفائدة "عقيدة الشعبوية الكاسحة"، حيث "الاتجار في الدين" وحيث "الترقيع السياسي" و"التعنيف الإيديولوجي"؛ وهي كلها عوامل ضامنة لتوسيع "شبكات التطرف". ولذلك لا نجد ما هو أفضل مما يمكن أن نختم به، هذا المقال، من القول الروسي التالي: "إذا كان لم يكن في حوزتك غير مطرقة فستتعامل مع أي شيء على أنه مسمار".