يقدم الباحث المغربي هنا دراسته في "ثنائية السياسة والأخلاق" وفقا لمنهجية الاستقراء التاريخي، والالتزام بأدوات المناظرة بين الأطروحات الفلسفية والقانونية المعروضة لاستخراج الأسئلة الابستمولوجية والإشكالات النظرية البارزة في ثنايا هذه الأطروحات، وصولا إلى طرح الأسئلة المهمة في العلاقة بين طرفيها.

جدلية الأخلاق والسياسة

حوار العقل...أم عقال الفكر خلف السجال

عبد الحكيم قرمان

«كل كائن عاقل هو كائن يتمتع بحرية الإرادة والقدرة على القيام بالفعل الأخلاقي، ولا معنى للفعل الأخلاقي في غياب الحرية والإرادة.»        إمانويل كانط

«ليست الحرية هي القيام بكل ما يريده الإنسان، بل الحرية هي القيام بما تسمح به القوانين، فالقانون لا يعارض الحرية بل ينظمها.»      مونتيسكيو

«على القائد السياسي أن يستخدم كل الوسائل للتغلب على خصومه وبلوغ غايته، وعليه أن يعرف كيف يخضع الناس لسلطته بالقانون والقوة معا.» ماكيافيلي

«على القائد السياسي أن يكون القدوة للآخرين، بأن يحترم الأخلاق الفاضلة ويدافع عن الحق، وعليه أن يتعامل بحكمة واعتدال مع غيره.»  ابن خلدون

«السياسة والحياة الاجتماعية هي مجال ممارسة الحرية الفعلية، و في غياب تنظيم سياسي لا يمكن الحديث عن حضور للحرية.»           حنا أرندت

 

السياق العام
انشغل ولا يزال العديد من المفكرين والدارسين ومعهم الممارسون للشأن السياسي، على مر العصور، بالبحث والتحليل والدرس حول ثنائية "السياسة والأخلاق"، محاولين فهم وتفسير "الظاهرة السياسية" في مختلف أبعادها النظرية، والمؤسسية والعملية من جهة، ومجتهدين في تفكيك السياقات التاريخية والشروط السوسيوثقافية والسيكولوجية المتحكمة في فكر وممارسات الفاعلين السياسيين أنفسهم، وذلك سعيا منهم لرصد حدود التداخل والتباعد بين الحقلين السياسي والأخلاقي أولا، ولتقديم المسوغات النظرية القائلة بالتكامل والاتصال بين هذين المجالين، أو تلك المبررة لفرضية التنافر والانفصال بينهما ثانيا. لذلك فان بسط النقاش والتداول من جديد حول هذه "الثنائية – الإشكال"، يعد غوصا في محيط صاخب الأمواج النظرية، ومحفوف الأعماق بشتى ألوان الجدل والدجل. غير أن تجديد النقاش حول هذا الموضوع، يستمد في اعتقادي، أهميته وراهنيته من خلال ثلاثة زوايا نظر معتبرة:

 أ – من حالة الارتجاج الفكري الكبير الذي أحدثته العولمة فيما يتصل بضمور، إن لم نقل، وأد السياسة كمنظومة قيم تؤطر حياة الناس، وكممارسات عقلانية لتدبير شؤون المدينة، وكفن نبيل يعكس الثقة المتبادلة بين الحكام والمحكومين، عبر الاحتكام إلى المؤسسات والقوانين الناظمة لها، ويحدد قواعد اللعبة السياسية ومجالاتها، كما يتيح فرص الاشتغال والتباري السليم بين مختلف الفاعلين في المجال العام. لذلك فإن هذا "البؤس الفكري"، وتردي الممارسات، وخسوف الضوابط والأعراف والأخلاقيات في فضائنا السياسي عموما وفي المشهد الحزبي بشكل أخص، بات يعكس مأزقا فكريا حقيقيا في الفهم والتمثل لماهية " الشأن السياسي في علاقته بالالتزام الأخلاقي، الشيء الذي يستدعي منا، ليس كممارسين للعمل العام فقط ، بل كمهتمين ودارسين وباحثين أيضا، إماطة الستار عن هذه الموضوعة الملتبسة المضامين والأبعاد، في سياق متجدد المقاربات والمفاهيم، ثم تسليط الضوء على زواياها المعتمة لتفكيك ألغازها في محاولة لإيجاد التوازن المفقود بين الحقلين المذكورين بما يعيد الاعتبار لهما معا في وعي وحياة الناس.

 ب – من مأزومية أنماط الحكم السلطوية والهجينة في مختلف البقاع، وفي محيطنا العربي الإفريقي والإسلامي بشكل أدق، تلكم النظم التي يبدو من مجريات الأمور بها، أنها بلغت ذروة العجز والترهل والانشطار، ولعلها بالأحرى، تشارف إنهاء دورتها البيولوجية في الاستمرار والوجود. كما أن ما يجري الآن " في حظيرة بعض الأمصار العربية – الإفريقية والمتوسطية "، ينذر بالكثير من الأزمات والتحولات في الأمد المنظور وعلى المديين المتوسط والبعيد. وأمام وضع جيوسياسي مركب الأبعاد تعيشه مجتمعاتنا العربية منذ انبلاج فجر "الفورات الاحتجاجية العارمة"، تتعمق الهوة أكثر فأكثر بين مشاريع الدمقرطة من فوق، التي تشتغل عليها وتنشدها النخب السياسية والثقافية التقليدية منذ عقود (أحزاب ونقابات ومؤسسات ومراكز إنتاج القيم والمفاهيم والتوقعات) من جهة، وبين ديناميات التغيير الجماهيري من تحت التي باتت واقعا ملموسا فرضته "القوى الصاعدة الجديدة" الغير منتظمة في الإطارات والبنيات التنظيمية المشار إليها. هكذا، يصبح الحديث عن راهنية الدفع بقيم التغيير الديمقراطي المنشدة للمساواة والحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية مطلبا جماهيريا ضاغطا في تجاه رد الاعتبار للقيم النبيلة للفعل السياسي كآلية لتخليق التدبير، بما يحقق مصالح المجتمع قبل مصالح الفئات والأفراد، وتبعا لذلك، تتحدد المعادلة في سياق جديد يجعل من تغيير التمثلات القيمية، والممارسات السياسية التقليديتين، مدخلا أساسيا لإعادة تشكيل مضمون ومكونات المجال العام، ومن ثمة المرور نحو تقويض المصالح والذهنيات والممارسات المؤسسة لاستبداد الفساد والتحكم والإخضاع.

 ج – من الوعي بمستجدات السياقات الدولية والإقليمية المتسمة باستفحال الأزمات الاقتصادية والمالية "لليبرالية الفوضوية" في طبعتها المنقحة، وأمام المتغيرات المتواصلة التأثير والارتداد لفورات "الربيع العربي"، يتراءى للمتأمل في الوضع السياسي المغربي- بكل ما قيل فيه وعنه "من تفرد واستثناء" في محيطه الإقليمي، بروز"ثقافة سياسية"، أو قل صرعة سياسية جديدة غاية في "التفرد"، عارضوها "زعماء" وفاعلون سياسيون يلقبهم البعض بالزعامات الشعبية، و"بالجيل الجديد من القادة السياسيين" وهناك من وصفهم أيضا "برجال المرحلة القادرين على كبح جماح الإسلاميين، وللاختصار فقد قيل الكثير عن أبطال هذه "الموضة النضالية بالوكالة"، لدرجة أن هؤلاء صدقوا اللعبة واندمجوا في أداء الأدوار في تألق ساذج وغير مألوف لدى الطبقة السياسية المغربية... ويشهد لهم بكونهم تفننوا في إبهار المواطنين باعتمادهم خطابات سياسية مستوحاة من عالم الحيوان وقاموس التحريض بكل أصنافه. الحقيقة الثانية، وعلى عكس ما جرت به العادة في عالم صناعة النجوم السينمائية، لم ينجح على ما يبدو كتاب السيناريو والإخراج في تحقيق المتعة والحرفية والجودة المطلوبة في العرض السياسي الذي تتبعه جمهور المواطنين على امتداد شهور من "الفرجة" والإثارة في الترويج، وحتى باستعمال تقنيات العرض البطيء مع الدبلجة بلغة عامية، في جعل أبطال مسلسلهم المفضل " التحكم والتطويع"، يقنعون ويؤثرون في الناس عبر أداء المشاهد المطلوبة بالرغم من توفرهم على كل الإمكانيات والمقومات اللوجستيكية والبشرية المدربة تاريخيا على مثل هذه الأدوار...فهل يمكن القول - من باب الولع بالسينما والنقد البناء والرصد الموضوعي لأحداث ومشاهد المسلسل، التي ربما قد شارفت على نهايتها المؤسفة حينما قدم "الحمار"، ذلك المخلوق الخدوم لأصحابه، كبطل تراجيدي لنهاية الاستعراض في الشارع العام- بأن عزوف المناضلين والموالين وكذا عموم المواطنين عن المؤازرة والانخراط في مثل هذه المشاهد المحزنة، يعد بمثابة إعلان عن نهاية الحفل بالنسبة لعارضي الموضة الحزبية الجديدة: وكأن لسان حال هؤلاء المواطنين يقول: يا لهم من ممثلين فاشلين، وما أغباهم من مؤلفين لسيناريو، وبئس الأداء والإخراج.

تبعا لما سلف، سنحاول فتح نقاش هادئ رصين حول موضوع السياسة في ارتباطها بالأخلاق، أملا في إثارة الانتباه لما يمكن أن تقود إليه "ممارسات سياسوية" مبخسة للقيم والمبادئ، ومبشرة بعهد تهمش فيه الكفاءات، وتغيب فيه العقول، وتقلب فيه الموازين والمفاهيم بغية تشويش المرحلة بكاملها، مما سيعطل مسيرة الإصلاح السياسي والمؤسساتي التي ناضلت من أجلها أجيال متعاقبة من القوى الحية ببلادنا لعقود خلت. ولعل التداول بشأن مجالات الدمقرطة والتحديث والإصلاح بمغرب ما بعد دستور يوليوز 2011، لم يعد من أولويات جدول أعمال جل المكونات السياسية ومختلف الفاعلين، الذين توافقوا في البدء حول مضامينه الأساسية. بمعنى أصح لم تعد كل الخيول على ما يبدو في مقدمة العربة. ففي الوقت الذي يتطلع فيه غالبية المغاربة إلى رؤية "مغرب الاستثناء الديمقراطي" محملا بكل وعوده في الرفاه الاجتماعي ومؤتيا لثماره في التنمية البشرية المستدامة، وأهمها إنجاح التجربة التي افرزها التمرين الديمقراطي لتشريعيات 25 نونبر 2011، نلاحظ أن هناك من يريد العودة بالتجربة الديمقراطية الفتية إلى نقطة البدء إن لم يكن نحو عوالم السلطوية المعتمة.

بداية سنتناول "ثنائية السياسة والأخلاق" وفقا لمنهجية الاستقراء الثلاثية الأبعاد، حيث سنقوم بجولة تفقدية لمحاورة ثلة من الفلاسفة والمفكرين والدارسين لهذه الموضوعة، المؤسسين منهم، ثم المجددين، فالمحدثين. كما سنلزم الفرضيات المعلنة بأدوات المناظرة بين مجمل الأطروحات الفلسفية والفقهية والقانونية المعروضة. ثم سنحاول استخراج الأسئلة الابستمولوجية والإشكالات النظرية البارزة في ثنايا هذه الأطروحات، لنعيد صياغتها استجلاء لنقط التلاقي والافتراق بينها، سواء القائلة منها بالتناقض بين المجالين السياسي والأخلاقي، أو تلك الدافعة في تجاه تلازم الحقلين. بعد ذلك، سندلي ببعض الأفكار للتأمل حول إشكالية يعتقد الكثيرون أنها محسومة بفعل التقادم، أو نتيجة لهيمنة الفاعل السياسي على مجمل آليات وحقول إنتاج الخطاب والمفاهيم، في مقابل ضمور صناع الرأي والقيم من أهل الفكر والقلم. وكخلاصة للمقال، وتبعا لما ستسفر عنه هذه "الرحلة المغامرة" من نتائج واستنتاجات، سنقترح بعضا منها كفرضيات قابلة للزرع والإنبات، كإسهام نظري متواضع، وكدعوة مواطنة لكل من يهمهم الأمر للتداول والحوار بشأن ما يتعرض له مجتمعنا عموما، ومشهدنا السياسي تخصيصا، من تداعيات خسوف منظومة القيم المشكلة لوعينا الجمعي وشخصيتنا المغربية .

مدخل لتفكيك الإشكالية
لقد ساد الاعتقاد لدى فئات واسعة من المجتمع لكثرة ما تم الترويج له عن قصد أو عن جهل، بأن التعاطي مع الشأن السياسي عموما والاشتغال به من أي مستوى كان، يستوجب بالضرورة التخلي عن التقيد بالقيم الأخلاقية للمجتمع، وبالتالي فان الحصول على صفة المناضل السياسي، أو الفاعل السياسي، أو رجل السياسة (الفعل يخص المرأة والرجل طبعا)، يخوله اللجوء إلى أساليب يختص بها دون غيره من المواطنين، تجعله بحكم "ضرورات الاشتغال بالسياسة" في حل من كل الضوابط والقواعد والقيم المتوافق عليها داخل النسق القيمي والاجتماعي الذي ينتمي إليه. وانطلاقا من هذا المعطى الأولي، الشائع في أوساط الكثير من الناس، يصعب التمييز بين الفاعل السياسي وغيره ممن هم موضوع اشتغال للسياسة من جهة، وكذالك يستعصي إعطاء تعريف محدد ومضبوط حول المواصفات الواجب توفرها في شخص بعينه كي يوصف "بالسياسي" ، وأمام تعقيد وضبابية التمثلات والتعريف والأدوار المنوطة بممتهن أو متعاطي السياسة بمعناها العام أو بالمعنى الحزبي الفئوي داخل المجتمع، يصبح رجل السياسة، تبعا لذلك، في نظر عامة الناس كائنا متميزا وخارقا وغريبا عن سياق مجتمعه.

وفي هذا الباب، ستجد الكثير من المتحدثين بكل ألوان الطيف "الحداثيين" منهم و"المحافظين"، وأصحاب "المنزلة بين المنزلتين"، يترافعون بإيمان راسخ وعقيدة لا تلين، بكون السياسة لا علاقة لها بالأخلاق لا من قريب ولا من بعيد، فهما مجالان منفصلان تماما عن بعضهما بالدليل والبرهان. وسوف تجد في الضفة الأخرى كذلك، فريقا من المعارضين لا يقلون عزما ولا عددا أو شكيمة، ينتصرون لتلازم الأخلاق بالسياسة، بل ويؤكد البعض منهم على أن السياسة قد "توازي الحكمة"، في شمولية معارفها، ونبل مقاصدها، لكونها أنيطت عبر التاريخ برجال ونساء شيمتهم حسن التدبير في السراء، أشداء البأس في الضراء، وأهل فكر وذوي رؤية وأصحاب قضية وفضيلة. كما ستجد فئة ثالثة تتوسط الطرفين، تقول بالوسطية والاعتدال، وتعتبر السياسة في كنهها أسلوبا راقيا ومنظما لتدبير شؤون الناس وفقا لقواعد وقوانين وأعراف مرعية من لدن أهل المدينة ( بمعنى الدولة ). من هنا تأتي ملحاحية تقديم تعريف لكلمتي "السياسة " و "الأخلاق" لوضعهما في سياقهما اللغوي الاصطلاحي من ناحية، ولكي نحدد ونؤطر المضامين الفلسفية والحمولة الدلالية لكليهما من ناحية أخرى.

1- الأخلاق /"الإيتيقا "Etica/ Moral

لغويا، كلا الكلمتين "الأخلاق" و"الإيتيقا"، تحيلان على نفس الحقل الدلالي عند استعمالهما في السياق العام، وهو الحقل الدال على مجموع قواعد السلوك الإنساني. واشتقاقيا، فإنهما "Moral وEtica"، تحيلان على التوالي إلى "Mores أوEthos"، إلى مجمل سلوكيات الناس المقيدة بعادات وتقاليد وأعراف مجتمعهم. من ذلك تواضع المجتمع على اعتبار هذا السلوك، أو ذاك، أخلاقيا أو غير أخلاقي، إيتيقي أو العكس، بمعنى أنه مستحسن أو مستهجن، مقبول أو مرفوض، متوافق مع مجموع معايير السلوك المشتركة بين جماعة من الناس بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية المفترضة.

2- السياسة: Política

السياسة لغة: مصدر ساس يسوس سياسة، من ساس الفرس، إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والرعاية. واصطلاحا: تعرِّفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت -نقلا عن معجم (روبير Robert)- بأنها: فن إدارة المجتمعات الإنسانية. فهي الإجراءات والطرق المعتمدة لاتخاذ قرارات في شأن المجموعات والمجتمعات البشرية، ومع أن هذه الكلمة ترتبط بسياسات الدول وأمور الحكومات، فإن كلمة سياسة قد تستخدم أيضا للدلالة على تسيير أمور أي جماعة وقيادتها ومعرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة، والتفاعلات بين أفراد المجتمع الواحد، بما فيها التجمعات الدينية والأكاديميات والمنظمات الحزبية والنقابية وغيرها . كما تعرف السياسة أيضا بكيفية توزيع القوة والنفوذ وفنون إدارة شؤون المدينة حسب الشروط التاريخية ونمط الإنتاج الاجتماعي ووفقا لنظام حكم معين

3- الأخلاق والسياسة: Política et Ética

بعد تحديد المعاني اللغوية والدلالات الاصطلاحية للكلمتين موضوع المقال، نخلص إلى الإمساك بأولى خيوط الإشكالية المعروضة للدرس والنظر، حيث يظهر أن الرابط الدلالي متين بينهما بالرغم من التباعد الاصطلاحي للثنائية المذكورة. وعليه، فإذا اعتبرنا بأن السياسة في كنهها تعني فن قيادة الجماعة البشرية، وأشكال تدبير شؤونها لما يعتقد أنه خيرها ومنفعتها، فالأخلاق هي مجمل القيم والمثل الموجهة للسلوك البشري نحو ما يعتقد أيضاً أنه خير للجماعة، وتجنب ما ينظر إليه على أنه شر من لدن نفس الجماعة. وهكذا فان كليهما (السياسة والأخلاق) يستهدفان تحقيق المنفعة العامة للمواطنين، وجعلهم يسعون لتدبير شؤونهم المشتركة وفقا لضوابط ومحددات ومرجعيات متوافق عليها، وبالتالي فإنهما يلتقيان في نقطة ارتكاز واضحة قوامها تحقيق المصالح الفردية والجماعية في العيش الكريم وبناء صرح متين للعلاقات الإنسانية تستجيب للمتطلبات المادية المشروعة للأفراد والمجموعات في إطار من التقيد بالأعراف والقيم والقوانين التي يعتبرها الجميع أخلاقيات الفعل والسلوك السياسي المحقق للمصالح العامة والخاصة على السواء.

I التأصيل التاريخي للقول بثنائية الأخلاق والسياسة
أ‌- المنطلقات الفلسفية لدى المفكرين المؤسسين

إن الغوص في التاريخ القديم والوسيط والمعاصر بحثا عن تلمس مجمل الأفكار والمقولات والأطروحات التي أسست، أو مهدت وبالتالي وضعت المنطلقات النظرية المؤطرة للحقلين السياسي والأخلاقي في تكاملهما أو تنافرهما، يقودنا بالضرورة نحو بدايات التشكل النظري للمفهومين السالفي الذكر. وهكذا، تنقشع أمامنا الإشراقات الأولى للفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي جمع في "مدينته الفاضلة" (كتاب الجمهورية) بين السياسية والأخلاق، معتبرا أن مثال الحكم السديد يرتسي على أربع فضائل ينبغي توفرها في الحاكم: أولها الحكمة بما تمثله من فهم وتمثل للفكر والمعارف والتأمل، وثانيها الشجاعة بما تقتضيه من طبائع الإقدام والجلد والعزيمة، وثالثها العفة، بما تمثله من ذكاء ونخوة ومروءة، ورابعها العدالة، وهي مواصفات الإنصاف وحسن التدبير وقوة الشكيمة عند تحمل المهام الكبيرة. هكذا تمثل كبير مفكري اليونان مواصفات "الكائن السياسي" المنوط به تدبير شؤون المدينة والقيام على أمور ساكنيها، ومن لا تتوفر فيه هذه الفضائل فليبتعد عن حكم الناس. وعلى هديه سار تلميذه النجيب أرسطو معتبرا أن السياسة بما هي فن وعلم وقواعد محددة لإدارة شؤون البلاد والعباد، إنما هي تصريف اجتماعي منظم لقواعد السلوك المقيد بالأخلاق
.

ومع ظهور الإسلام (مرحلة التأسيس) وعلى عهد الخلافة لاحقا، تشبعت الممارسات السياسة للدولة الإسلامية الصاعدة بحمولة معتبرة من القيم الدينية المستوحاة من القران والسنة النبوية، حيث عرفت الجزيرة العربية والأقطار المتاخمة لها أو تلك الواقعة ضمن مجال النفوذ الإسلامي، بروز مفاهيم ومقاربات واجتهادات فكرية تروم تقييد العمل السياسي للحكام والولاة بالضوابط الأخلاقية، وذلك من منطلق المزاوجة بين العقيدة والقول والعمل. ومن هنا تميز "فقه السياسة" إن صح القول (الآداب السلطانية) لدى مفكري الإسلام، بالنظر والاجتهاد الفلسفي الموصولين بمقاصد الشريعة، وبتفاسير الكتاب والسنة، وبمختلف التقاليد والأعراف السائدة آنذاك، وإن ظل التأثير اليوناني حاضرا من خلال العديد من المقولات والمفاهيم المؤسسة لهذه "الممارسة السياسية الخليقة".

ونذكر من جملة أولئك المؤسسين، الفيلسوف الأخلاقي ابن مسكويه، حين يؤكد في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق"، الذي يشكل عن حق، أحد أهم المؤلفات في فلسفة الأخلاق، بأن سياسة الحاكم (الوالي) وسلوكه ومبررات وأسلوب تدبيره للحكم ينبغي أن يكون "استمرارا لأوامر ونواهي" ولقيم الشريعة الإسلامية، وبالتالي فهو يضفي على السياسة لباس المشروعية من وحي الشريعة، فنجده يقول" (والقائم بحفظ هذه السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى لا تزول عن أوضاعها هو الإمام، وصناعته هي صناعة المُلك، والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدِّين وقام بحفظ مراتبه وأوامره ونواهيه. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبًا، ولا يؤهلونه لاسم الملك". وقال حكيم الفرس ومَلِكهم أزدشير: "إن الدِّين والمُلْك أخوان توأمان، لا يتم أحدهما إلا بالآخر، فالدِّين أسّ والمُلك حارس، وكل ما لا أسّ له فمهدوم، وكل ما لا حارس له فضائع" . وأضاف الإمام الحسن بن محمد الأصفهاني صاحب كتاب (الذريعة إلى مكارم الشريعة) وهو يتحدث عن السياسة بقوله : "والسياسة ضربان: أحدهما: سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به. والثاني: سياسة غيره من ذويه وأهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره مَن لا يصلح لسياسة نفسه".

ب‌-    ثنائية الأخلاق والسياسة عند الفلاسفة المجددين
بتنامي الفتوحات الإسلامية وتحول ثقل الإشعاع الثقافي والفلسفي من المشرق وبلاد الرافدين إلى شمال أفريقيا والأندلس، انطلقت حركة التجديد الحضاري والفكري في العديد من المستويات الفقهية، الفلسفية ، القانونية ، العلمية والأدبية وغيرها من فنون النحت والعمارة والموسيقى والصناعة...، وفي خضم هذه النقلة الحضارية البارزة في التاريخ الإسلامي، سطع نجم العالم الفقيه ابن خلدون، «مؤسس علم الاجتماع"، الذي اهتم بالتأمل والاشتغال بالسياسة العملية، فنجده قد جمع بين الفكر والاجتهاد والممارسة على أرض الواقع للشأن السياسي. لقد أبدع ابن خلدون أسلوبا مبتكرا للتحليل الواقعي للأحداث والمعطيات وسلوكيات الحاكمين في عصره، الشيء الذي مكنه من تجاوز المقاربات المثالية كجمهورية أفلاطون أو نظيرتها مدينة الفارابي. والأهم من ذلك، أنه اكتشف مسالك جديدة للبحث في القوانين الطبيعية التي تحكم تطور الأمم والدول والمجتمعات من خلال ما توصل إليه من خلاصات علمية مبتكرة في شرح "طبائع العمران"، وبذلك كان له السبق في وضع الأسس النظرية والمنهجية لعلم الاجتماع بمعناه الواسع. وللتذكير، فقد أفاد الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز"، حين إقامته بفرنسا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر بأن الغربيين يصفون ابن خلدون بمنتسكيو الشرق أو الإسلام، ويسمون منتسكيو ابن خلدون الغرب
.

 الحديث عن تيمة "الأخلاق والسياسة" من منظور رائد علم الاجتماع السياسي الحديث، عبد الرحمن بن خلدون (808هـ)، يتأسس على رؤية وقراءة متجددة للفكر الإسلامي بكل حمولته القيمية ومرتكزاته الفقهية مضاف إليها تشبعه بسالف المعارف الفلسفية والعلمية والأدبية التي أنتجها الإغريق والرومان وغيرها، ويتضح عمق نظرته ونفاذ رؤيته من خلال ما جاء به من قراءات وتحاليل لواقع المجتمع في عصره، في مؤلفه الموسوعي المعروف ب"مقدمة ابن خلدون"، وهو أثر الدِّين عند العرب في إقامة المُلك وتثبيته، بالرغم من كونه وسم طباع أهل السياسة ومريديهم في الحكم بالغلظة والتعصب والقهر، حيث يشير إلى هؤلاء الناس من أهل "الحل والعقد" ممن حكموا الأمصار العربية بالقوة والبأس بأنهم أقرب إلى التَّوحش منهم إلى العمران والحضارة، ومع هذا قرَّر: أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصفة دينية، من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدِّين، أو مكارم الأخلاق على الحكم والقيام على أمور الناس.

وإذا عبرنا نحو الضفة الشمالية للمتوسط نحو أوربا، نجد ما يقابل "مقدمة ابن خلدون" في مجال التنظير الفلسفي لعلاقة "السياسة بالأخلاق" من منظور أكثر برغماتية عند المفكر الايطالي نيكولا ماكيافيلي، (1419-1527م)، حيث نجد هذا الأخير ينادي بالفصل بين السياسة و الأخلاق، وهو يدعو في كتابه الشهير "الأمير" (الحاكم) إلى استعمال كل الوسائل المتاحة، غير آبه بالمضامين الأخلاقية لسلوكه السياسي، بالقدر الذي يتوجب عليه الانكباب على تحقيق الأهداف المسطرة بما يضمن تثبيت حكمه ودوام سلطانه، طبقا لشعاره المأثور "الغاية تبرر الوسيلة ". وهكذا ، قدم ميكيافيلي مفهوما جديدا أحدث القطيعة مع كل التصورات التي عاصرته أو التي أسست لظهوره.

والمستفاد من خلال هذه الإطلالة المقتضبة على مجمل التمثلات المرجعية حول العلاقات الملتبسة بين السياسة والأخلاق منذ القدم، لا نهدف من ورائه إلى تبيان فرضية بعينها، ولا التركيز على أيهما يوجه الآخر: السياسة تحدد السلوك والأخلاق أم بالعكس، بل ما يشغلنا بالأساس هو استشكال المسائل النظرية المتداولة على سبيل التبسيط والاستسهال، وكذا محاولة خلخلتها فلسفيا لكي نعيد طرح الأسئلة المنهجية والابستمولوجية المحتملة في هذا النطاق. أو ليس طرح السؤال يعد نصف الطريق إلى المعرفة؟

II جدلية الأخلاق والسياسة عند المتنورين ودعاة الإصلاح
 أ- فلسفة ابن رشد وبدايات التنوير بضفتي المتوسط

إن المتأمل لبدايات التنوير الفكري من الأندلس كنقطة ارتكاز لما ستعرفه باقي أمصار المتوسط بشمالها الأوربي وجنوبها العربي_الامازيغي والإفريقي، وخصوصا بالرجوع إلى بعض المقولات والمفاهيم التي جاءت بها النظريات التي تبناها "الرشدانيون" الفلاسفة، لاسيما تلك الاجتهادات الفكرية حول مواضيع لم تلق من قبلهم العناية اللائقة في التحليل والتدقيق، تتصل بقيمة العقل والمادة والخلق، أفضت في مجملها إلى بزوغ فجر متجدد بالاكتشافات ومحمل بالآمال في مجالات العلوم الحقة والطب والهندسة والآداب والفنون والفلسفة وفقه الرسالات السماوية، بالإضافة إلى وضع أصول وتطبيقات فنون الحرب والسياسة. ومع تنامي موجات التفكير المنطقي والتأويل العقلي للنصوص الدينية حينذاك، وما لقيه روادها المتنورون من قمع وتنكيل من الكنيسة بأوربا (دار الحرب)، ومن لدن بعض الجماعات الدينية المتطرفة بالأندلس وبعض الأمصار الإسلامية (دار السلم)، وقد وتوزع القمع والبطش والعدوان على أعلام الفلسفة "الرشدانية" ما بين القتل والنفي والاعتقال والتهميش والتكفير والاتهام بالزندقة
.

ويمكن القول بأن ابن رشد ومن تبعه من مناصرين لفكره العقلاني ساهموا بقوة في إحداث نقلة نوعية مست مختلف جوانب حياة المجتمع، و أحدثت رجة عميقة في الجانب السياسي، فقد كانوا "ثوارا بلا جيوش" يقودون التغيير من فوق، وقد أعطت ثورتهم الفكرية ثمارها في ما بعد القرون الوسطى بأفول الهيمنة الكنسية وتسلط رجال الدين والمتعصبين من ساحة العمل السياسي. وذلك راجع لكون الحياة السياسية القروسطية بأوروبا كانت تتسم بالصراع بين السلطة الدينية متمثلة في البابا، والإمبراطور أو الملك بما هو سلطة دنيوية. وقبل ظهور الرشدانية السياسية كانت التيوقراطية تشغل كل مساحات الساحة السياسية.

وتأسيسا على ذلك، فقد اندلعت معارك شرسة بين الفلاسفة والمفكرين والكتاب والمتكلمين، حيث عرفت أوربا نقاشات سياسية ودينية فارقة انطلقت شرارتها الأولى من الفلسفة والمناظرات الفقهية بين أهل النقل (الملتزمين بالنص الديني) ورواد العقل (أنصار الاجتهاد)، حول مكمن المنطق والحقيقة والبينة، هل هو الوحي المقدس أو التأمل العقلي أو هما معاً. من هنا جاءت أطروحة ترجيح الأخذ بالعقل ثم النقل، وكذلك تكامل الفكر بالسلوك عند ابن رشد ، لتؤسس منظومة جديدة من المفاهيم والمقاربات في تناول الشؤون العامة والخاصة للناس في عصره، بالتالي فقد أعاد ترتيب الأولويات فيما يخص السياسة وعلاقتها بالقيم والمعتقدات.

 ب - تكامل الأخلاق والسياسة من منظور الماوردي ومعاصريه
يعتبر أبو الحسن الماوردي (450 ه) أحد العلماء المسلمين البارزين، المشهود لهم بالرصانة الفكرية وعمق التأمل وموضوعية النقد وعقلانية التحليل، ولقد كتب الماوردي في الفقه والتفسير والأدب والسياسة والاقتصاد. وعلاقة بموضوع المقال، نجده في كتابه المعنون " درر السلوك في سياسية الملوك"، يدعو إلى ضرورة أن يتمثل السياسي خصال الصدق في مقاله، وأن يعطي المثال في سلوكه واشتغاله بالسلطة، وألا يفتري أو يكذب على الناس إلا على وجه التورية وضرورات حفظ وصيانة أسرار الدولة في خداع الحروب. ويقول في ذلك " فإن رخص لنفسه فيه على غير هذا الوجه، صار به موسوماً، لأن الإنسان بقدر ما يسبق إليه يعرف. وبما يظهر من أخلاقه يوصف، وبذلك جرت عادة الخلق : أنهم يُعدلون العادل بالغالب من أفعاله، وربما أساء، ويفسقون الفاسق بالغالب من أفعاله، وربما أحسن". ويستشهد الماوردي بما كتبه أبو بكر الصديق إلى عكرمة بن أبي جهل عامله بعُمان: "إياك أن توعد على قضيتين بأكثر من عقوبتهما، فإنك إن فعلت أثمت، وإن تركت كذبت
.

كما يحذر الماوردي الساسة وكل من يشتغلون في مجال رعاية وإدارة شؤون الناس، من تسخير مهاراتهم الخطابية لأغراض شخصية أو عصبية أو مذهبية، منتقداً لهم بقوله " يزوقون كلاماً مموهاً، ويزخرفون مذهباً مشوهاً، ويخلبون به قلوب الأغمار، ويعتضدون على نصرته بالسفلة الأشرار، فيصب الناس إليهم وينعطفوا عليهم، بخلابة كلامهم، وحسن ألطافهم..." ويستشهد بالحديث النبوي " إن أخوف ما أخاف على أمتي، منافق عليم اللسان". أما القاضي أبو عبد الله ابن الأزرق الأندلسي (832هـ - 1427م)، فيؤكد في كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك"، أن " تنزيه مقام السلطان عن إخلاف الوعد من أوجب ما يطالب به "، ويزيد التأكيد أيضاً إلى وجوب التزام السياسي بالصدق " لما في الكذب من المفاسد المخلة، لمصالح الدين والدنيا"، كما أن " خراب البلاد وفساد العباد مقرون بإبطال الوعد والوعيد ". ويروي عن ابن العربي قوله : " إن الإمام الكذاب شر الخلق عند الله تعالى؛ لأن الكذاب إنما يكذب حيلة لما يعجز عنه، وليس فوق الإمام يد، ولا دونه شيء مما يعتاد دركه، فإذا صادره بالكذب نزل عن الكرامة إلى الخسة وعن الطاعة إلى المعصية".

ويرى أبو بكر المرادي أن السياسي الناجح هو ذلك الذي يتصف بالدهاء، فيسعى إلى تحقيق أهدافه بألطف الوجوه ويبدو " كأنه أبله، وهو متباله، يحصي دقائق الأمور، ويدبر لطيفات الحيل، فلا ينطق حتى يجد جواباً مسكتاً أو خطاباً معجزاً، ولا يفعل حتى يرى فرصة حاضرة، ومضرة غائبة، فعدوه مغتر بعداوته، ومقدر عليه الغفلة والبله بغوايته، وهو مثل النار الكامنة في الرماد، والصوارم المكنونة في الأغماد. وقد قال عمر رضي الله عنه " لن يقيم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة، بعيد الغور، لا يطّلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الله لومة لائم".

بالرجوع إلى تلخيص ما سلف ذكره، نجد أن القول بتلازم السياسة والأخلاق أمر مطلوب ومؤكد في الممارسة والقول، لكن ذلك لا يعني البتة، إدغام السياسة قولا في بوتقة السجايا، ولا إدماجها سلوكا في خانة العمل الدعوي أو التصوف. لذلك، فإن أعلام النهضة، يقترحون إحداث تكامل منطقي يؤلف بين العمل السياسي بما هو تدبير لشؤون ومصالح العموم، وما هو أسلوب ومنهج وسلوك يعكس المنفعة الخاصة ضمن الصالح العام، من خلال تمثل القائمين على حكم المجموعة البشرية، في أدائهم وعلاقاتهم بالمحكومين، مجمل القيم الخلقية التي تعتقد غالبية الناس أنها خيرة وفيها صلاح ومنفعة للجميع. كل ذلك لا يلغي، إمكانية إعمال العقل والذكاء والمهارة الخطابية وحس الدعابة وحسن الكلام، وأحيانا إعمال الدهاء والتحفظ في القول وعدم إفشاء ما قد يعوق خطط الحرب، أو يعيق تحقيق منفعة عامة. ومن مسوغات الدهاء المطلوب في العمل السياسي – في نظر ابن الأزرق الأندلسي- التغافل، فالسياسي الحاذق هو الذي يهتدي بقوله تعالى: (عرّف بعضه وأعرض عن بعض) ويأخذ بقول العرب: " الشرف التغافل" و"ما استقصى كريم حقه قط". كما أن الحس السياسي النبيل يقتضي" ترك البحث عن باطن الغيوب، والإمساك عن ذكر العيوب.. والصفح عن التوبيخ، وإكرام الكريم، والبشر في اللقاء، ورد التحية، والتغافل عن خطأ الجاهل...فمن تشدد نفر، ومن تراخى تألف".

III ثنائية الأخلاق والسياسة في عصر التنوير
 أ- انبثاق البرجوازية الليبرالية
إن بزوغ «فلسفة الأنوار» قد اقترن بانبثاق البرجوازية الليبرالية كحركة مجددة للمفاهيم والقيم التحررية وكقوة اجتماعية جديدة عكست في ديناميتها الثقافية والعقدية تطلعات ومصالح اقتصادية وتمثلات سياسية غير مسبوقة في مجال الحريات والحقوق المدنية والسياسية والمساواة بين المرأة والرجل كمرتكزات فلسفية لمجتمع تنتظم فيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم عبر مؤسسات خاضعة لمنظومة القانون. هكذا تمكنت صفوة من المثقفين والفلاسفة والمبدعين وبعض السياسيين مدعومين بفئات عريضة من المواطنين في معظم بلدان أوربا الغربية من تقويض الأسس الفكرية والاقتصادية للفيودالية والإقطاع اللذين عمرا بأوربا لقرون. لقد لعب الفلاسفة والأدباء والفنانون وجمهور المتعلمين دورا محوريا في إحداث التغيير الاجتماعي في كل مستوياته وبنياته الفوقية والتحتية، وهي الشروط الموضوعية التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية فأحدثت الرجة التاريخية الكبرى من قلب باريس، التي تجاوزت ارتداداتها الفكرية والقيمية الجارفة طموحاتها الذاتية، المحلية نحو الكونية.

إن هذه الثورة الفرنسية المولد، بعنفوان العالمية، ما كان لها أن تتحقق دونما تحرير المؤسسات والعقول، من القيود والذهنيات القروسطية والتمثلات التي صمدت لقرون طويلة على شكل ثوابت راسخة، ومقدسة في أحيان كثيرة. بالمقابل، لا ينبغي تحجيم حقبة الأنوار في المسافة الزمنية الممتدة ما بين 1670 وقيام الثورة الفرنسية في 1789، واعتبارها مجرد حركة فكرية واجتماعية واقتصادية، أو محض غطاء إيديولوجي لفئة أو نخبة أو فصيل سياسي بعينه. إنها حركة فكرية وسياسية وعلمية وعقدية وقيمية للإنسانية جمعاء. ولابد كذلك من الاعتراف ببعدها الابستمولوجي، ذلك المحفز الوجداني والعقلي، الذي شكل الوقود وقوة التغيير الهائلة التي أنجزت وثبتت الثورة الفرنسية ومنحتها الإشعاع والجاذبية على امتداد القارات. لقد أثرت الثورة الفرنسية التجربة الأوربية والإنسانية بما أثمرته من انجازات واكتشافات وتطورات في مجالات العلوم الإنسانية والطب والرياضيات وعلوم الأحياء بشكل لا يقاس. الأهم من ذلك أنها أحدثت قطيعة ابستمولوجية في الفكر الأوربي بين «القديم» و«الحديث» على صعيد منظومة القيم والممارسات السياسية والبناء المؤسسي للدولة و الحياة الثقافية والمعرفية.

باختصار، تمكنت الثورة الفرنسية وروادها البارزون في الفكر والفلسفة والفنون والعلوم والآداب من إحلال العقل محل النقل، والاستفهام محل الإيمان، والحرية والتسامح محل العبودية والتعصب، كما أبرزت «فلسفة الأنوار» قيم المساواة والاحتكام إلى القانون والمؤسسات ، وقوضت مزاعم الكنائس وحراس المعابد والطابو والمحرم والوضعي المقدس، لتعبر بالفرد والمجتمع إلى عوالم أرحب للفكر والإبداع والحرية والكونية والحقيقة.

ب – العقل الأخلاقي في مقابل البرغماتية السياسية
لقد ظلت معادلتا الجمع أو الطرح بين الأخلاق والسياسة تؤرق وتسائل المفكرين والدارسين والممارسين للشأن السياسي على مر العصور، وبالرغم من تمترس البعض خلف جدار حصين من الممانعة في رفض أي تلازم بين المجالين السياسي والأخلاقي، إلا أن غالبية المفكرين والدارسين من المؤسسين، مرورا بالمجددين ثم المحدثين، قد أكدوا على تكامل وتناغم الفعل السياسي مع قواعد السلوك العام للمجتمع. وإذا كان الفريق الأول يعتقد أن غاية السياسة تكمن بالأساس في تدبير السلطة وبناء صرح الدولة والسهر على فرض النظام والأمن في المجتمع، فمن البديهي أن يتحلل الفاعل السياسي من كل القيود الأخلاقية، بالتالي يسمح له باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من اجل صيانة الدولة. ويذهب ميكافيلي الى حد القول أن الغاية السياسية تمر عبر تجاوز المبادئ والقيم، فالأخلاق تشكل عائقا أمام تطور الدولة بل وتضعفها وتقوض أركان هيبتها وسلطانها. ونظرة ميكافيلي هذه نابعة من اعتباره الإنسان شريرا في نظره، ولا يمكن الحد من أنانيته وطبيعته الشريرة إلا عبر إخضاعه بالقوة القهرية للسلطة السياسية وبقوة القانون كذلك وشعاره في ذلك "الغاية تبرر الوسيلة".

بالمقابل يرى أنصار التكامل بين السياسة والأخلاق أن النظرة التي تدين طبيعة الإنسان وتصفه بالشرير لا تعبر عن طبيعة الإنسان تعبيرا صادقا، وبذلك فان النظرية القائمة على هذه النظرة التحقيرية للإنسان تتعارض تماما مع غاية المجتمع الذي يريد الفاعل السياسي، بمواصفات ميكافيلية، التبشير به وتحقيق أمنه وتلبية حاجاته و بالتالي ضمان ولائه لدولته وسلطانه، ويتساءلون كيف يمكن تحقيق هذا الخير العام في مجتمع يسوده المكر والقهر والمكيدة، وتغيب فيه الثقة والاحترام بين الحكام والمحكومين وفي انعدام الإحساس بالعدل والحرية والكرامة.

من جهته، يرى عمانويل كانط أن غاية السياسة هي الحفاظ على الإنسان، لأنه كائن أخلاقي جدير بالتكريم والاحترام، لذلك ينبغي أن تبنى الممارسة السياسية على أسس أخلاقية حتى تحظى باحترام واحتكام الناس إلى ممارسيها والموكول لهم رعاية وخدمة مصالح المجتمع بكل مكوناته وفئاته. وإذا كانت الحرية ضرورة أخلاقية، فان السياسة أيضا مجموعة شروط ومعايير وأهداف أخلاقية تروم صيانة الحقوق وفرض الواجبات وتحمي كرامة وحرية الأفراد والمجموعات. أما برتراند راسل فينبه إلى أن الحوادث التاريخية في نظره نتاج لسياسات معينة، وحتى يكون المستقبل أكثر أمنا واستقرارا على السياسة أن تقوم على المبادئ الأخلاقية المبنية على العدل والكرامة والمساواة والحرية والاحتكام إلى القانون في كل مجالات الحياة العامة. من هنا نبه راسل الممارسين للسياسة والقائمين عليها سواء كانوا أفرادا، أو أحزابا أو تجمعات إلى ضرورة أن يدركوا بأن مصير البشرية مرتبط بالسياسة وبالأخلاق.

 

خاتمة:
بناء على كل ما تقدم ، يتضح من خلال مجمل المحطات التاريخية التي مرت منها البشرية، بدءا باكتشاف ضرورة العيش كمجموعة، والاهتداء إلى بناء الدولة مرورا بالعشيرة والقبيلة، أن الصراع بين الفكر السياسي والفكر الأخلاقي يتمثل في الصراع بين الوسيلة والغاية. إن إرساء الاستقرار الاجتماعي المتمثل في قيام الدولة بمؤسساتها وهياكلها المستمدة لشرعيتها ومشروعيتها من الإرادة العامة للمواطنين، والمنتظمة أركانها ووظائفها والمهام الموكولة لها، يعد مكسبا هاما لأي مجتمع يعيش حياة سياسية سوية ومعبرة عن تطلعاته وحاجياته. كما أن تحضره ونماءه يقاس بنضج وكفاءة نخبه السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية باعتبارها مجتمعة مصادر السلطة الحقيقية الساهرة على تحقيق العدالة والأمن والطمأنينة داخل المجتمع. وبناء عليه، نستخلص بأن الدولة نفسها تصبح مجرد وسيلة لهذه المعاني الأخلاقية.

هكذا، نستخلص أن تقييد السياسة بالأخلاق لدى غالبية الفلاسفة المؤسسين، والمجددين ودعاة النهضة والإصلاح، يدخل في باب العمل بالمقاصد ووفقا لقواعد السلوك المتوافق على نفعه لدى مجموع الأمة. ولذلك، نجد تمايزا ملحوظا، ومنذ القدم، بين حجة القائلين بتقييد السياسة بالأخلاق، خصوصا ببلاد المشرق، وبين ضرورة تطويع قواعد الأخلاق العامة بالمرونة اللازمة لتصريف اللعبة السياسية بما يحقق الغايات المرسومة لها، عند نظرائهم في بلاد الغرب. وعليه، يجب ألا يعتبر التشديد هنا على أهمية المعايير الأخلاقية والإنسانية في العمل السياسي ضرباً من السذاجة أو تغريداً خارج السرب، بل هو تأكيد وتحديد منهجي متكامل البناء والمعالم بين حقلين يبدوان في ظاهرهما متعارضين كليا، إلا أنهما يتآلفان كليا من منطلق سعيهما إلى تحقيق سعادة الناس.

فهل السياسة الأخلاقية إذاً فن ممكن؟ أم أن حديث الأخلاق يبدو نشازاً في عالم يتحكم فيه حديث القوة والمصلحة فقط ؟ ومن هذا المنطلق تنجلي أمامنا بعض الاستنتاجات الأولية كمسالك محتملة للتأمل ومنها مثلا:
* ما هي حدود التكامل والتعارض بين حقلي السياسة والأخلاق من الناحيتين النظرية والعملية؟
*  هل يمكن الحديث عن فعل سياسي متخلق، وآخر خارج عن الأخلاق؟
*  هل المقصود من ذلك أن الفاعل السياسي ينبغي له بالضرورة أن يعكس في قوله وسلوكه ما يفيد تمثله لقيم النزاهة الفكرية والصدق والوفاء والشجاعة وخدمة الناس بالقدر الذي يسعى لخدمة مصالحه الخاصة؟
*  ما هي المؤثرات والمعايير الأخلاقية التي تحدد فهم وممارسة الفاعلين للسياسة، وما هي المنطلقات المتحكمة في اختياراتهم لأسلوب معين في التعامل مع الناس الغير ممتهني السياسة؟
*  هل توجد آليات ومعايير متفق عليها كونيا يمكن من خلالها تحديد ما إذا كانت هذه الممارسة السياسية أو تلك أخلاقية أو العكس؟
*  وما معنى أن تكون السياسة مقيدة بقواعد السلوك الأخلاقي المتعارف عليه عند مجموعة بشرية ما لكي تجلب المنفعة العامة، وبالأحرى كيف يكون للسياسة مضمون قيمي ونزعة لخدمة الصالح العام بالارتكاز على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ؟!.

كلها تساؤلات واستنتاجات ذات أهمية في تجاه محاولة استشكال الثنائية موضوع المقال، "لتأزيم القول المبني على المسلمات القطعية بشأنها"، في أفق اقتراح طرح يروم إحداث نوع من التوازن بين "السياسة والأخلاق" بما يفسح المجال لإعادة الانشغال بالشأن السياسي من جهة، والمساءلة العلمية وتسليط الضوء على الزوايا المعتمة في سلوك وممارسات الفاعل السياسي بما يزيح الغموض والضبابية المحيطة به من جهة أخرى.

 

باحث في العلوم السياسية / جامعة محمد الخامس الرباط