تواصل الباحثة السودانية المرموقة هنا تحليلها للاقتصاد السياسي للربيع العربي، رابطة بين صناعة الكلام وتحويله لسلاح لإفراغ الثورة من محتواها. لكنها تأمل أن وعي الشباب الحقيقي الذي تطيرت منه الرأسمالية المالية وحكم على الاحزاب السياسية بالبوار هو الذي سيحمي الثورات الشعبية من مؤامرات الثورة المضادة.

الربيع العربي والاقتصاد السياسي لصناعة الكلام والسلاح

بوار المعارضة المنظمة وخنادق الوعى الزائف

خديجة صفوت

مقدمة: الاقتصاد السياسي للمجاز والتقية وصناعة الكلام الفارابية
ما يبرح كثيرون يتغالطون فيما اذا كان الربيع العربي ربيعا حقا، ام انه احبولة كمثل ما يترى من الأحابيل اللغوية كالتعددية الحزبية والمعارضة المنظمة وما بعد الحداثة الرأسمالية المالية-الصهيونية العالمية وغيرها من المفهومات التي تتحدث كي تعنى عكس ما تقول. فحتى الربيع العربي لم نعرف عنه نحن له اسما حتى فاجأنا، ومعه اسمه وكأنه احدى المعلبات او السلع الجاهرة التي تتناولها من فوق رف سوبرماركيت
. فقد تنزل الربيع العربي كاملا ومعه اسمه The Arab Spring ملفوفا ف ورق السلوفان هدية من السماء تلقفناها نحن وترجمناه واحتفلنا به ولا يعنى ذلك ان لم تندلع ثورات شعبية وانتفاضات وما يسمى حراك، وانما الذي حدث هو ان غفلة معظمنا قيضت اختلاط الثورات والثورات المضادة، وفوجئنا مرة ثانية بحركات متطرفة تخترق الثورة وتختطفها وتكاد تقضي عليها.

وقياسا تجد الحركات الشعبية التي تبدو وكأنها استجابة لمثل تلك الاحابيل تعاني مغبة الخواء الذي ينتابها في لحظة من لحظات تمثلها؛ حين تتلفت فلاتجد ما يدل على ما يدار حولها سوى البوار كما يجد بعضها انه قد استثمر في الخراب كما في ليبيا مثلا. وعليه فقد بقيت المعارضات المنظمة Organised Oppositions  بدورها مثلما بقيت النخب المتمولة بمال الخليج وبيت الحرية خاصة، تستدعي طويلا ما لا سبيل الى تحققه. فان ووجهت تلك المعارضات والنخب بالحركات الشعبية، فلم يكن معدى من ان تصاب باضطراب عظيم مثلما يصاب البط الداجن عندما تمر فوق سمائه اسراب البط البري حسب ما يقول سانت اوكسبري في (ارض البشر).

وفي عجزها عن رؤية الواقع الماثل وربما رفض رؤيته تثابر المعارضات المنظمة والنخب على انكار وجود الحركات الشعبية وخاصة المعارضات غير المنظمة Un-organised Oppositions عامة في عجزها تنعت الحركات المنظمة والنخب الحركات الشعبية والمعارضات غير المنظمة بمسميات تستهين بالحركات الشعبية وبالمعارضات غير المنظمة و–او تختلق المعارضات المنظمة والنخب خاصة قاموس مفردات وبراديجمات تبتخس الحركات الشعبية والمعارضات غير المنظمة فتصمها بحركات الشارع وتستكثر عليها حتى صفة الحراك فتصفها بالتحركات دون ان تهتم حتى بتعريف معنى الاخيرة. ولا تزيد المعارضات المنظمة والنخب خاصة في كل ذلك سوى ان تصدر عن موقف ومعمار لغة الطبقات الرسمية وسادة الاخيرة من الرأسمالية المالية الصهيونية العالمية.

وازعم ان دور بعض المعارضات المنظمة ودور النخب خاصة يثابر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية على الاقل على تكريس الزراية بالحركات الشعبية وبالمعارضات غير المنظمة بوصف الاخيرة باتت تؤلف خطرا على كل من النخب، وعلى النظام الذي تنذر النخب نفسها بطبيعتها للدفاع عنه والزود عن مصالحة. وفي محاولة معظم تلك المعارضات وكافة النخب غسيل الافكار الشعبية ان صح التعبير- فقد راحت معظم المعارضات المنظمة والنخب تتواطأ مع الاعلام على مفصلة لغة اصبح همها الاوحد هو مصادرة الحقيقة. ولعل معظمنا يلاحظ معظم تلك الملامح في الحرب الاعلامية على سوريا فتسمى ثورة فنادق الخمس نجوم المضادة، المعارضة المعتدلة، وتتغافل تماما عن المعارضة الوطنية داخل سوريا.

وقياسا فلم تعد ادوات المعارضات المنظمة وحتى الاحزاب الحاكمة واسلحتها في مواجهة الحركات الشعبية عامة والشعوب خاصة سوى لغة ممقصلة تصدر في المكان الاول عن تزويق معمار لغة خطاب المال والاعمال وصناعة السلاح وكانت الاخيرة قد باتت السلعة الوحيدة التي تنتجها الرأسمالية المالية. وقياسا باتت اللغة –نتيجة مثابرة النخب والاعلام على التكاذب حيث لم يعد ثمة امكان لقول الحقيقية جراء فحش وفظاعة ما يصار اليه حال العالم كافة. فقد باتت اللغة وادوات الكلام تصدر عن مفككات فكر كان قد غدى بدوره غير قابل للالتقاط. ففيما خلا المزوقات والممفصلات والمجاز والكناية والتقية والاستعارات المجازية والاسوة وصناعة الكلام الفارابية اي تدوير الكلام Spin لحساب العلاقات العامة Public Relations  لم يعد في افضل الاحوال سبيل الى شيء سوى انصاف الحقائق والاكاذيب  ذلك ان الفكر كان قد بات يصدر عن الكلام الذي لا يقول شيئا مما غدى معه لكل شيء مرادفات ونظائر شيطانية لا متناهية وكل شيء يوجد في اكثر من مكان ويبقى الفرد غريبا مغربا ومتطيرا وقد انتابه احساس بالشؤم  a sense of forebodingوبعدم الامان وقد تهدده خطر يحدق به من كل جانب فيما تثابر السلطة/ الدولة/ النخب/ الاعلام/ على اقناع الفرد بان كل شيء على ما يرام Eeverything is OK. هذا وفيما بات الكلام في افضل الشروط يعنى اكثر من شيء في وقت واحد فقد سهل الرجوع عن الكلام في أي لحظة، بل في اللحظة التالية. ولك مثلا من ذلك في محادثات روسيا والولايات المتحدة المتصلة والمضنية بشأن الحرب على سوريا التي لا يجرؤ احد على النطق بحقيقة اسمها.

ففي المحادثات حول ما يسمى الازمة السورية في جنيفا الاحد 15 سبتمبر 2013 فان سيرجي لا فروف وزير الخارجية الروسي وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي لا يكادان يتفقان مرة على بيان. ذلك ان الاخير ما ينفك ينكص علي ما اتفق عليه مع لافروف لحظة خروج الاثنين من غرفة الاجتماع التي تكون قد ضمتهما وحدهما بلا شاهد او رقيب. فان يماري جون كيري فيما أتفق الاثنان عليه ويحتج لافروف ترى كيري يمازحه (تقصعا كراقصة تطالب الزبون بـ"النقطة" ومعناها نقود الاستحسان) قائلا "اليس ثمة سبيل الى ممازحتك"؟" الا ان الامر لا يكون ممازحة، اذ سرعان ما تنبري وكالات الانباء المتواطئة الى نقل ما يصدر ممازحة عن وزير الخارجية الأمريكي حرفيا. وتصبح الصحافة في اليوم التالي بعناوين كبرى، تؤكد ما لم يتفق عليه لافروف مع كيري.

ولمفاقمة الربكة المقصودة يجتمع كيري وويليام هيج وزير خارجية بريطانيا ورولان فابيوس وزير خارجية فرنسا في باريس الاثنين 16 سبتمبر 2013 فيعلنوا ان امام سوريا اسبوع لتقديم ما يطلب منها من تقرير بشأن كمية مخزوناتها ومختبراتها ومصنعاتها من السلاح الكيمائي في نفس الوقت الذي يصرح فيه بان كي مون بان تقارير المفتشين الدوليين- الذين لم يفوضوا بسوى التحقق فيما اذا كان السلاح الكيمائي قد استخدم في الغوطة الشمالية يوم 21 اغسطس 2013 ليس الا. يصر بان كي مون ان المفتشين يوكدون استخدام الكيمائي في غوطة دمشق الشمالية بصواريخ أرض أرض مما زودت روسيا به سوريا. ويزيد بان كي مون ان استخدام السلاح الكيمائي جريمة يعاقب عليها القانون الدولي.

ورغم ان هذا الخطاب-في وقت غير وقته وقبل اوانه – حريا بان يكون ادعى الى الجنون، فبان كي مون لم يكن له ان ينطق بعد به في تلك اللحظة، بوصف ان ذلك التصريح سابق لأوانه كونه ينتمي الى حلقة لاحقة من حلقات التخاتل، او يبق متسترا عليه مثله مثل زلة لسان جورج ووكر بوش حين جأر بان الحرب على العراق صلييبة جديدة- الا ان بان كي مون كان حريا بان يعجز عن ادراك معظم فحوى خطاب الحرب وصناعة السلاح، ومركب الصناعة العسكري Industrial Complex فبان كي مون من تلك الشخصيات التي تنتقيها الرأسمالية المالية الصهيونية العالمية بدقة، من بين من يشارفون التخلف العقلي، او-و من يبدو عليهم انهم كذلك حتى تلقنهم وتبرمجهم فتخرج منهم كائنات معدلة جينيا، مثلما فعلت مع جورج ووكر الابن، ورولاند ريجان من قبله، وكاثرين اشتون، ومانويل بوروسو وغيرهم.

ولعل ذلك يصدر عن طريقة اختيار الرب من الرجال والنساء لقيادة شعبه المختار ممن قد لا يخلو من قصور أو عاهة أو اخرى مثلما تتخير الرأسمالية-الصهيونية العالمية اقل المرشحين ابداعا والمعية. فقد درج يهوا في الاصحاح القديم على اختيار اقل الافراد لياقة فجدارة بالزعامة لقيادة اليهود. ذلك ان بولص الرسول كان باعثا على الملالة، بل كان وما يبرح مثيرا للجدل. وكان يونس اصغر سنا من ان يقود قومه. وهرب جيرامايا عندما اختاره الرب لقيادة قومه. وكان داود قاتل وزير نساء، وكذا كان سليمان زير نساء. وكان موسى بدوره قاتل مصري برئ، وقد اوشك ان يقتل مصري ثان. وكان يوسف ومريم مثيران للجدل، وكانت مريم المجدلية متهمة بان الشيطان قد تلبسها، وكانت الهلاوس تنتابها(1) .

أنك سوف ترى وتسمع ان بشار الاسد سوف يتهم باستخدام السلاح الكيمائي بغاية تقديمه لمحكمة الجنايات الدولية عقابا على صموده وعلى الجرؤ بامتلاك ولاء الشعب والجيش دون اذن الآلهة. وقياسا يغدو حوار لافروف وكيري حوار طرشان، بل حوارا مجنونا يدعي فيه الكاذب العقل، ويتهم خصمه بالجنون وهكذا.

تعالق بوار الفطنة وصناعة الكلام
يعبر الفرق يين كيرى ولافروف عن نفسه في ان كيري يصدر عن مابعد حداثة تكرس سيادة المصارف المالية للعالم من وراء مشروع مالي لا اقتصادي، يتلفع بعباءة المسيحية الغربية المتكاذبة، تسترا على المسيحية اليهودية –الصهيونية العالمية، فيما يصدر لافروف عن نزعات عالم ما قبل حداثي، او حتى حداثي يكرس المألوف من العوالم القديمة. فكيري من اليهود المتنصرين مثلهم مثل المسيحين المتيهودين. فقد اعتنق كيري الكاثوليكية، مثلما اعتنق ويعتنق نظائر له كاثوليكية طائفة الاوباس داي Opus Dei على مر التاريخ وطائفة الاوباس داي طائفة غامضة تستدعي عوالم مستقبلية ترنوا في نفس الوقت الى اساطير العهد القديم وقد اعيد اختراعها مرة بعد مرة حسب الطلب. ويقول رب تلك الطائفة ان لليهودي ان يكذب بكل لغة الا العبرية، الا ان هذه المقولة ليست سوى اكذوبة بدورها. فلا يهوا اله اليهود وحدهم فقد كان يهوا وبعل الهة قبائل الجزيرة العربية واليونان وغيرها كما لم تكن العبرية قد اخترعت وقتها فقد نشأت العبرية منذ الف عام وحسب.

هذا وكان نظائر لكيري تكاذبوا بدورهم علي مر الاف السنين. فقد تعين يوسوفوس على المثل فبات مستشار الإمبراطور قسطنطين الاول المفضل، وكان يوسوفوس -حسب السردية الرسمية- قد تنصر بعد الماسادا- وهذه احبولة اخرى غير مثبتة- وبات يوسوفوس مواطنا رومانيا فاز بمنصب مستشار للإمبراطور قسطنطين الأول. وفعل بالمثل ديزرائلي الذي بات رئيس وزراء فيكتوريا، ومستشارها المفضل، وكذا فعل ميخاييل بوتمكين عشيق كاترينا الثانية والحاكم الفعلي لروسيا القيصرية(2)؛ وكذا فعلت مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية في حكومة بيل كلينون وتوني بلير وغيرهم وغيرهم. وقياسا فقد اعتنق المعتزلة اسلام يخصهم بغاية خلق اوليجاركية خزرية خصما على شرائح السلطة العباسية- وعلى الائمة الاربعة وعلى امة الخلافة العباسية في تنويع باكر على التنوير البروتستانتي، وعلى تكاذب علمانية المبدأ الانسانوي مما اناقشه تفصيلا في (سجال في صحراء قاحلة: مختصر تاريخ كل شيء تقريبا) الصادر في مارس 2013 بيروت والمنامة .

المهم فورا يصدر كيري بهذا الوصف عن معمار لغة وذهنية اعراب الشتات المتمأسسة منذ الاف السنين فوق المزوقات والممفصلات والمجاز والكناية والتقية والاستعارات المجازية والاسوة وصناعة الكلام الفارابية - ويقول الفارابي في حسين مروه في تعريف علم الكلام بانه "صناعة الكلام Speech Fabrication or manufacturing ويعرف حسين مروة ان صناعة الكلام "ملكة يعتد بها الانسان على نصرة الاقوال والافعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالاقاويل(3). هذا وقد يعرف علم الكلام بتدوير الكلام - العلاقات العامة  Spinوعن ما يسمى ما بعد الحداثة، ومعنى الاخيرة تجاوز تراث وتاريخ ومواضعات الرأسمالية الصناعية صانعة الحداثة، ومنطق وعقلية الحداثة، اي ان ما بعد الحداثة لا تعنى تطورا للحداثة وانما تعنى النكوص والتخاتل عليها بالكلام المتخاتل والمفهومات الرخوة القابلة للتحور باستمرار".

وقياسا فان لم يمر لافروف- وقد ولد بعد اقل من ربع قرن من الثورة البلشفية - بأحبولة ما بعد الحداثة الغربية بهذا الوصف- وكانت حداثة روسيا القيصرية تستدعي اماني واحلام الثورة الفرنسية - فقد يجد لافروف نفسه في موقف غير موات للتعاطي مع معمار لغة وخارطة جون كيري الذهنية. ولعل ذلك كان حريا بان يضع لافروف- رغم قدراته الفائقة التي يعترف بها الغرب نفسه- في معسرة At a disadvantage  امام قدرات كيري على التكاذب والتخاتل. فالكلمات المتخاتلة رخوة مائعة لا تستقر، وتستبدل بنظائر عليها طوال الوقت على سبيل الموضة، فيما تروج كلمات كل مرة ولا تحتفظ اي منها بشكلها ابدا. ومع ذلك قد يبدو ان كل شيء قابل للتعرف عليه الا انك لا تملك التعرف عليه فالكلمات قد تقول لك ان كل شيء قابل للتحور Mutation طوال الوقت وقد بات كل شيء مألوف ورهيب بآن واحد. فالكلمات في حقيقتها غير اليفة، فهي اقرب الى ما هو غرائبي وغير مألوف، بوصفه مفروض عليك ولك ان تتعاطى معه وان تألفه. حتى ان لم يألفك هو. وقد باتت معانى الكلمات اليومية كمثل خزانة مليئة بالأشباح والهياكل العظمية لكائنات كانت يوما ولم تعد.

وتقابل اطفالا فتعرفهم الا انك تدرك فجأة انهم ليسوا بأطفال أبدا. فكل شيء تستوحش منه النفس لغرابته Uncanny وغموضه الذي يبعث الوحشة في النفس، كل كلمة غامضة ومؤقتة وموجسة تبعث على التوجس يخالج الانسان منها الروعة. فالشيء قابل للتعرف عليه بل قد تعرفه حق المعرفة. الا انه يتحور by mutation  ذلك ان ما هو بسيط قد يغدو بلحظة غريبا كل الغرابة. وفيما قد يغويك كل ما حولك بالألفة الا انه يعمل على تقطيع اوصال اشد الكيانات تعبيرا عن الألفة كالأسرة والابوان مثيران للرعب فقد بات الأبوان يقتلان اطفالهما، ويغتصب الأب ابنته، والأم ابنها، وتنتج افلام وتروج لتلك القصص. فقد احتلت هوليوود مكان الاصحاح القديم والجديد، والمخرجين والمنتجين مكان الرب، والنجوم مكان الانبياء والرسل. الا ان الاخيرين متطرفين سلفيين جهاديين رغم ازيائهم الانيقة الغالية، وابتساماتهم التي نضضها اطباء اسنان وسحنهم التي ملستها جراحات خبراء تجميل يحترفون بدورهم مثلما يفعل اطباء الكلام Spin تشويه خلقة الله.

وما يهمنا هنا هو ان تلك الحالة من استبدال القول بقول وعدم استقرار الكلام على معنى ان تلك الحالة قمينة بان تخلق كيماء الوعي الزائف False Consciousness بل هي معنية بان تخلق كمياء الوعي الزائف مما يخصم على الوعي الحقيقي Real conscienceless الذي يصدر عن الصدق والنزاهة والشجاعة والتضحية.

الوعي الحقيقي والوعي الزائف:
بوار المعارضة المنظمة وخنادق الوعى الزائف
:
كانت الرأسمالية المالية حرية بهذا الوصف ان تعول على تاريخ طويل نسيبا في التخاتل والتكاذب وتكريس الكلام الذي لا يقول شيئا على عجز العامة الغوغاء الشعب عن النشوء الى حركة جديرة بمواجهة خصوم الشعوب اعوان الاستعمار والاستبداد والاستحواذ ممن كان الرأسمالية قد تعهدتهم ومولتهم ودربتهم واعدتهم للحلول في السلطة بأشكالها. الا ان مغبة استهانة الرأسمالية المالية-الصهيونية العالمية وازلامها بالعامة الشعوب لم تنفك ان فاجأت الاخيرين. ذلك انه ان اصاب الوعي الحقيقي الشباب لم تنفك الرأسمالية المالية ان منيت بالتطيير مثلما ادركت النخب والاحزاب السياسية- وكانت الاخيرة قد علقت في فراغ العمل السياسي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية-ادركت انها حرية بان تمنى بالبوار. وقد فاقم اندلاع الحركات غير المنظمة في زمان الانتفاضات والثورات الشعبية بوار الاحزاب السياسية والنخب الا ما خلا المتمولين المتزلمين الذين تستبدل الرأسمالية المالية الصهيونية العلامية تنويعاتهم بغيرهم كل صباح في كل مكان.

ولعل الواقع الموضوعي الماثل يشير إلى ان معظم الاحزاب السياسية في كل مكان لم تعد تملك التعبير عن نفسها الا باليمين الوسط على اقسى تقدير فيما عجر اليسار عن التعبير عن اليسار وقياسا اختار الشباب ما يسمى العمل المباشر Direct Action اي المعارضة غير المنظمة –مقارنة مع المعارضة المنظمة -التي تملك الرأسمالية مراقبتها واختراقها وغواية وشراء ورشو زعاماتها فتطويعها. وما ان راح الشباب في كل مكان تقريبا يختار العمل المباشر بهذا الوصف فقد اصيبت الرأسمالية الماليه بالعصاب. الا ان الاخيرة ما تنفك تثابر على محاولة النحت في جدران صلابة العمل المباشر اي الثورات الشعبية بالتهوين من امرها او-و بالانتقاص من شأنها بإشاعة ان ثورة 30 يونيو2013 المصرية مثلا ما كانت لتنجح لولا الجيش او-و ثابر على القول بانها انقلاب. ولا يزيد ذلك ولا يقل عن استلاب تلك الحركات بالانتقاص من القدرات الشعبية في كل مكان، من ان تتعين على عمل له دلالة تاريخية، أو اثر غير منقوص. فان يكون 30 يونيو/ 3 يوليو 2013 انقلاب فان ذلك حريا بالا يقلقل الراو كان ذلك قد تمثل باكرا في ان سقوط المنظومة الاشتراكية بداية تسعينات القرن العشرين كان قد قيض نموذجا مماثلا للرأسمالية المالية الصهيونية العالمية. ذلك انه حيث اوهم سقوط المنظومة الاشتراكية مجاميع الشباب انهم يملكون احتكار الخطاب والاجندة- الا ان ذلك الوهم لم يكن سوى في البدئ وكان مؤقتا مما قد يكون قد تمثل في تنويع باكر على ماحدث لجماهير ما يسمى الربيع العربي. الا ان الشرق اوربيين سرعان ما ادركوا ما يراد لهم وبهم وما كان عليهم ان يكونوه مثلهم مثل غيرهم من النظائر المستقطبة.

ذلك انه حيث ادرك الشباب الشرق اوربي فورا انهم لم يكن لهم ان يجرؤا على التصريح بما من شأنه ان يشير باي شكل الى اعادة انتاج أو مناقشة ما قد يبدو شبيها بخطاب أو مفردات الفكر الاشتراكي- أي ما قد يلتبس و"اشباه" ونظائر ومفردات البرامج السياسية التقليدية الرجعية – حسب تعريف مارجريت ثاتشر- فقد راحوا يجأرون بعصاب من يخشى المغامرة بفقدان نعيم الرأسمالية- وكانت قد صورت لهم وكأنها الخلاص من جحيم الاشتراكية-راح الاوربيون الشرقيون يجأرون "نحن وسطيون". ذلك ان الشرق أوروبيين كان قد راح يتملكهم الخوف من ان يصنفوا بما قد يلتبس مع مشروع اليسار التقليدي، أو يظن فيهم "الانحراف" عن "الثورة الديمقراطية" المزعومة، وقياسا فقد راحوا يصدحون بان "مفهومات وافكار اليمين واليسار التقليديين القديمة لم تعد تؤلف أي شيء له معنى عندنا"(4).

 وقياسا كان اليمين البريطاني المحافظ والجمهوريون الامريكان قد راحوا-و قد قرروا الاعلان عن هويتهم الحقيقية عشية سقوط المنظومة الاشتراكية وكانوا قد تحوروا الى محافظين جدد- راحوا يعلنون انهم تروتسكيين- ثوريين خلفوا اليمين التقليدي ورائهم لانهم كانوا قد ضاقوا ذرعا باليسار التقليدي. ذلك ان اليسار التقليدي عجز عن اشعال الثورة. ها ها ها! الا يذكرك ذلك بحرص بعض فضائل اليمين العربي المتطرف-الاسلام السياسي-على الديمقراطية ودفاعه المفاجئ عنها حتى الموت وهى التي لم تكن لهم سوى حافلة تنقلهم من الصندوق الى السلطة؟ فهل لم يزد ذلك الحرص والدفاع حتى الموت عن الديمقراطية سوى انها وسيلتهم الى السلطة التي اقسموا انهم سوف يحتلونها خمسمائة عام؟

هل العيب في الاحزاب ام في نمط الانتاج الاولجاركي
حيث كانت الاحزاب احزاب الملك ولم تلبث ان صارت احزاب الطبقات تخاتلا الا ان الاحزاب لم تنفك ان عادت مجددا الي عباءة الملك والاحرى الاوليجاركيات العولمية اي احزاب المال مفرغة المحتوى. واجادل وكنت قد جادلت مرارا ان نمط الانتاج المالي الاوليجاركي ليس سوى تنويع متفلصف -من الفالصو اي من المعدن الدنيء- من نمط الانتاج الشرقي او الأسيوي فان نمط الانتاج الاوليجاركي يغدو بهذا الوصف حريا بان يعيد انتاج ملامح عديدة من مكونات النمط الشرقي او-و الاسيوي بامتياز من الخراج وضريبة الرأس Poll Tax والربا والريع الى علاقات الانتاج العبودي وتسود كما يقول ماركس في تلك العلاقات ما يسمى العبودية العامة .General Slavery

وقياسا فحيث كانت الحرف والفئات على زمان البرجوازية الصناعية والرأسمالية الوطنية قد نظمت نفسها في تعاضدات واتحادات مطلبية سوى أن الاحزاب الحاكمة واحزاب الاوليجاركيات ما تنفك تنظم تعاضدات واتحادات بديلة ومناظرة للعمل وللشباب والمرأة والطلاب الخ.مفرغة المحتوي الطبقي بامتياز. وقياسا يلاحظ الناس في كل مكان انه لم يبق للاحزاب السياسية ولا لتلك المنظمات المهنية الشعبية سوى ان تسلم مكانها لما بات مثله مثل الاحزاب السياسية محض واجهات مظهرية لما لا وجود حقيقي له سوى خدمة المال واصحاب المال خصما على قدرات الاغلبيات الشعبية والفردية الابداعية في انتاج الفكر والتنظيم الذى يخصها لمواجهة اصحاب المال الخ وهي التي تعينت على مر التاريخ غير المكتوب على انتاج فائض وخالص العمل الحي وعلى خلق الثروة Creation of wealth.

وازعم ان حاصل جمع تلك الدلالات كانت حرية بان تعبر عن نفسه بوصفها مدعاة لخيبة الشباب والثوار جميعا في كل مكان. فان استهدفت الرأسمالية المالية الصهيونية العالمية الثوار في كل مكان لغل الاخيرون حريون بان يجدوا انفسهم ولم يبق لهم سوى القبض على سراب التنظيم الثوري فاقد الفكر الثوري او حتى الفرضية الثورية بوصف الاخيرة بوصلة الثورة ودليلها. فان اوهمت تلك الخديعة الرأسمالية المالية-الصهيونية العالمية بانها لم تعد بحاجة الى اشعال الحروب في كل مرة للتخلص من الاعداد الزائدة عن الحاجة وبخاصة من الشباب المتعلم العاطل وذلك باستدعاء الرأسمالية المالية-الصهيونية العالمية لتجربتها مع ثورات الطلاب الاوربيين والامريكان منذ 1968و مع صعود الليبرالرليين الجدد الى سدة الحكم في اوربا على غرار نظائرهم المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. فهل لم تعد الرأسمالية المالية الصهيونية العالمية بحاجة لسوى ان تلوح لبعض الشباب بالمراكز الممتازة مما اوصل العديد من الليبراليين الجدد لعضوية مجالس ادارات الشركات متعددة الجنسيات والمصارف الكبرى وحتى رئاسة الوزارة والجمهورية او-و تتوعدهم بالعطالة المزمنة.؟

فان باتت شروط المساومة على الضمائر والذمم وقد وقف بعض المثقفين ومعظم النخب ينتظرون في صفوف العمالة بصورة ناجزة فلم تعدم الرأسمالية المالية ان تغوي الشباب بالمراكز الرفيعة وبالمستقبل الزاهر مما تمثل في نماذج شهيرة كما في نيكولا ساركوزي الذى كان يعارض الحرب على كامبوديا ولم يلبث ان تاب واناب فبات رئيس الجمهورية الفرنسية وهكذا. وبالمقابل فان لم يفعل الشباب والطلاب لا هذا ولا ذاك فقد تكفلت الرأسمالية المالية الصهيونية العالمية بتوريط الشباب والطلاب في الديون الفردية مدى الحياة. وتستعبد الاخيرة الفرد فيغدو الفرد معها مرتهنا بالديون الفردية وتسمى العبودية بالدين enslavement by indebtedness تلك التي لا يملك سدادها للجامعة-او للدولة او للمصرف - الا وقد وصل الواحد منهم منتصف السبعين. الا انه وقد اصاب الوعي الحقيقي الشباب لم تنفك الرأسمالية المالية ان منيت بالتطيير مثلما منيت الاحزاب السياسية بالبوار في زمان الانتفاضات والثورات الشعبية في كل مكان.

 

هوامش
(1) الاخت جيما سيمونز دوجان راديو 4 بي بي سي الثلاثاء 8 فبراير 2011.

(2) تعين بوتمتكين على خلق أوليجاركية اقطاعية خاصة بملاك الاراضى والمستثمرين في نفط بحر قزوين مما ما تبرح تداعياته باقية حتى اليوم في روسيا المرسملة وفى العالم قاطبة الا ان انجلترا- راحت تحسن سيرة كاترينا العظمى كيما تحسن سيرة بوتمكين بالتماس نيابة عن الصهاينة العولميين وصولا الى تحسين سيرة العائلات النفطية التي سمحت لها ياكاترينا بايعاز من بوتمكين بالاستثمار في نفط بحر قزوين.

(3) انظر(ي) حسين مروه النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية "الجزء الأول" 1979: دار الفارابي: بيروت: ص: 842.

(4) -Ludo Marine-nd- The Velvet Revolutins: Brusseles & Discussion -enternet- Group for Sudan Concern- On behalf of Mahid Tahir: 30.2.1999 :Detering Democracy- by Naom Chomsky & Misha Glenny:1990: The Rebirth of History: Eastern Europe in the Age of Democracy: Penguin PP::188-190