ما زالت تجربة جرجي زيدان (1861-1914) السردية قابلة للقراءة النقدية بعد أن أغفلها النقد، أو على الأصح تغافل عتها لأسباب كثيرة، أو من جهة ثانية نظر اليها من موقع اعتبارها مجرد نصوص تتأرجح بين نصوص التعليم والترفيه (عبد المحسن طه بدر: تطور الرواية العربية الحديثة في مصر. دار المعارف.مصر. 1968).
وأهمية هذه التجربة، قبل تحليل أحد نماذجها، تكمن في الآتي:
1- في كونها علامة فارقة في الكتابة العربية، أثناء القرن19 وبداية القرن العشرين، التي بدأت في الانتقال، مداً وجزراً، من الشعر إلى النثر، (المويلحي/ حافظ إبراهيم/ فرح انطوان…الخ) بحثاً عن أداة تعبيرية ملائمة عن المرحلة وتحولاتها.
2- في رغبة ممارسي الكتابة استيعاب بعض أسئلة النهضة العربية الحديثة. وأهم هذه الأسئلة كان متعلقاً بالتاريخ والتأليف فيه (الجبرتي/ علي مبارك/ أحمد فارس الشدياق/ رفاعة الطهطاوي).
3- ومحاولة استيعاب أسئلة النهضة محاولة أيضاً لاستيعاب التاريخ ذاته. ولم يكن من قبيل الصدفة لجوء جرجي زيدان إلى التاريخ العربي، والإسلامي، مؤكداً على أن الهدف المركزي من "رواياته" تعليم التاريخ (نقلاً عن عبد المحسن بدر، م. م، ص98). كما أن هذا التلقين للتاريخ يحتاج إلى أداة جديدة تتجاوز الأدوات التعبيرية والفنية، المتداولة في عصره. إنها الروايات التي تقوم مقام القصص التي كانت شائعة بين العامة لذلك العهد مما ألفه العرب من الأجيال الإسلامية الوسطى، نعني قصة "علي الزيبق" و"سيف ذي يزن" و"الملك الظاهر" و"بني هلال" وغيرها، فضلاً عن القصص القديمة كـ"عنترة" و"ألف ليلة وليلة .. فوجدوا الروايات المنقولة عن الافرنجية أقرب إلى المعقول مما يلائم روح هذا العصر فأقبلوا عليها.
4- والغريب، في هذه التجربة، استنادا إلى القولة أعلاه، سقوطها في ما حذرت منه ومن ثم تحول التاريخ في هذه التجربة إلى إعادة إنتاج المحكي الشعبي بأدوات تأرجحت بين العراقة والحداثة بين الراوية والروائي.
جرجي زيدان بين الراوية والروائي:
الرواية لغة: من روى يروي، رواية (الحديث) نقله وحمله الى غيره.
رجل راوية: كثير الرواية.
الراوية (التاء للمبالغة) والرواة طبقات ومدارس واتجاهات وجودة الرواية ترتبط بالاقتراب من الصدق أو الابتعاد عنه، أي تقديم الحقيقة.
الروائي: منسوب إلى الرواية "أحداث روائية" ج، روائيون. والروائيون اتجاهات و"تقنيات" وجودة الرواية ترتبط بتحويل المتخيل إلى واقع أو حقيقة قابلة للتصديق والتعامل معه كما يتم التعامل مع الواقع.
جرجي زيدان الراوية: أول ما يثير الانتباه في هذه التجربة وجود سارد "عليم بكل شيء" منذ الصفحة الأولى، سارد ممتلئ، حتى النخاع، بالأخبار والمعارف والمرويات المختلفة .. وهو، بالإضافة إلى ذلك، سارد لا يمل من تقديم المعرفة أو الخبر، والخبر عند العرب مرادف للتاريخ للمتلقي أو المستمع.
والراوية، في هذا السياق، ينتسب إلى سلالة الرواة والحكائيين الذين تعاقبوا على الحكاية، في عصور مختلفة، وأعادوا إنتاجها بصيغ متقاربة، وبسبب ذلك أصبح الراوية مستودعاً معرفياً للمتلقي متقمصاً شخصية الرحالة، حيناً، أو شخصية الجغرافي أو كاتب "الأطوال والعروض" بالرفع حيناً آخر وهو، أحياناً، الواعظ وأحياناً أخرى العالم بالأنساب والأفخاذ والبطون والأجناس والشعوب، وهو، أحياناً، "المؤرخ الرسمي" الذي يرابط بالقصور، وأحياناً، أخرى يتحول إلى أخباري بالفتح يرصد ما يروج في الزوايا والخانات والأكواخ والفضاءات العامة أو الخاصة.
وفي كل الأحوال كان جرجي زيدان ممارساً للرواية بواسطة الكلام قبل الكتابة أو لنقل: إنها كتابة الكلام التي ظل فيها الطابع الشفهي بارزاً في الجوانب التالية:
التركيز على التلقين المسترسل بمعارفه المتواترة، وأخباره المتعاقبة، وأحداثه المتدافعة، وهذا التواتر والتعاقب والتدافع ينسحب على الإنسان والحيوان والجماد، فضلاً عن الأحداث والمواقف المختلفة. منذ الصفحة الأولى من رواية "الأمين والمأمون" نلمس هذه السيولة المعرفية، والحكائية، الصادرة عن راوية طافح بهذا الرصيد. يقول الراوية: "بني المنصور مدينته المستديرة سنة 145هـ، وجعلها معقلاً له ولجنده ورجال دولته .. ولم يمض زمن حتى تكونت حول المدينة أحياء عرفت بأسماء خاصة بها .. ويتخلل تلك الأحياء كثير من القصور والحدائق والأنهار (أو الترع) المنشقة من دجلة إلى كل الجهات...".
يدعم هذا الاسترسال بطبيعته الشفهية، أسلوب الاستطراد بين موضوع وآخر، وبين حكاية وأخرى. وتبعاً لذلك أصبح النص عند جرجي زيدان ميداناً فسيحاً للمد والجزر بين المعارف والحكايات والوقائع.
وكما يحدث عادة في المحكي الشعبي، ينبري السارد، أو الراوية، أمام المتلقي، بمظهر الحرفي المتمكن من حرفة الحكي، ومساربه عبر تنويع الموضوعات بين الجد والهزل، الحرب والسلم، الشجاعة والجبن، الواجب والعاطفة.. الخ.
غير أن هذا المتلقي هو أقرب إلى السامع منه إلى القارئ. ومن ثم، فهو حاضر بشكل مستمر من خلال ضمير الخطاب الذي يسمح بإشراك المستمع من جهة، وبسهولة الانتقال من جهة ثانية.
من مظاهر هذا الحضور نذكر الصيغ التالية:
صيغة تحيين المستمع عن طريق ربطه بزمن الحكاية. يقول السارد في هذا السياق: "كان هذا القصر على عهد قصتنا هذه، في جنوبي القسم الشرقي من بغداد فوق قصر الأمين".
وفي مكان آخر يقول السارد: "اتفق في اليوم الذي بدأنا به روايتنا، أن كانت زينب جالسة مع مربيتها.."
ب- أما الصيغة الثانية فهي التي يحاول فيها السارد لحم أجزاء الرواية المتباعدة بأخبارها المختلفة، وموضوعاتها المتعددة، عن طريق ربط السابق باللاحق. يقول السارد: "تركنا دنانير في صباح الأمس بعد ذهاب عبادة وميمونة وهي قلقة على سلامة زينب تنتظر رجوعهما بالطيب". وفي مكان آخر يؤكد على الأسلوب ذاته "ولنعد الى ميمونة، فقد تركناها في بيت الأمين ببغداد، وهي على أحر من الجمر، وحيدة غريبة..".
ج- وهذا التحيين يمتد أيضاً إلى المعجم المستعمل في عصر السامع أي في عصر المحكي له، وليس في عصر المحكي عنه، من الأمثلة على ذلك نذكر الآتي:
أ- "الملفان رتبة علمية عند السريان تقابل (دكتور أو علامة) اليوم"
ب- "فشبت وقد ماتت والدتها، فكانت تسمى مربيتها (ماما)" ولا تناديها بغير هذا الاسم".
غير أن أهم مظاهر الحكي الشعبي تبرز في بناء النص القصصي الذي ظل مخلصا لبناء الحكاية الشعبية قبل إخلاصه للبناء الروائي. "وبالرغم من الكم الكبير الذي شغلته نصوص جرجي زيدان فإن بناءها العام يظل خاضعا لمكونات الحكاية الشعبية من سرد شفهي، واختبارات حكائية وشخصيات مركزية وشخصيات مضادة.. الخ. يوضح الجدول التالي المستخلص من نص "الأمين والمأمون" أهم عناصر هذا البناء.
البداية البطل البطل المضاد البطل المساعد الاختبارات الوظائف النهاية عامة
"بنى المنصور مدينته المستديرة سنة 145هـ" (ص15. الرواية) الأمين المأمون مع تبادل المواقع التي يصبح فيها الأمين بطلاً مضاداً والمأمون بطلاً. الفضل بن ربيع بالنسبة (الامين) الفضل بن سهل وزير المأمون) الخيانة الطمع الإغراء المادي (سلطة أو (مال) الحب القوة الشجاعة.
قد نجد بعضها كما وردت عند فلادمير بروب في تحليله للحكاية الروسية، و"السلافية" عامة. ومعلوم أن الوظائف ترادف الأفعال في الحكاية. انظر شخصية "بهزاد" في النص من البداية الى النهاية النهاية السعيدة: "أما المأمون فبعد ان جاء بغداد تزوج ببوران بنت الحسن بن سهيل ترضية لأبيها عما لحق بأخيه لان سبب قتله لم يخف عليه (ص236 الرواية).
واذا حاولنا قراءة هذا الجدول قراءة سريعة، سنكتشف طبيعة المسار الحكائي الذي استند كما سبقت الإشارة إلى بناء الحكاية الشعبية القائم على السارد المجهول نصاً والمعلوم مؤلفاً، فضلاً عن أساليب السرد القائم على التهويل والوصف المعتمد على الإثارة والإلحاح على المغامرة بهدف الإدهاش والإمتاع بكل ما هو عجيب أو غريب من جهة، أو خارق. من جهة أخرى. كما هو متداول في المحكيات والسير الشعبية.
وبالإضافة إلى هذا وذاك، لم يتم ـ بالرغم من الوعي النظري تشغيل أدوات البناء القصصي في سياق تجربة روائية تجعل من الحوار دالاً على الشخصية، وهذه الأخيرة تملك حريتها الخاصة تجاه المؤلف، والسارد أيضاً، سلوكاً ولغة كما أن السرد ذاته هو سرد المؤلف، قبل أن يكون سرد السارد الذي يظل محافظاً على الخصائص النحوية والصرفية والبيانية دون تغيير أو تبديل مما يؤكد على أن الشخصية في النص لم تتجاوز الطابع النمطي الذي دفع بالمؤلف السارد إلى تشخيص كما هو وارد عند راوي الحكاية الشعبية لكل الأدوار التي تخضع لسلطة السارد المؤلف بسرده ذي الخصائص السابقة، الذي ظل مخلصاً فيها للغته الواحدة والوحيدة سواء نطق بها الخليفة أو العيار، العربي أو الفارسي، المرأة أو الرجل، العالم أو الجاهل.. الخ.
جرجي زيدان الروائي: انتساب رجي زيدان الى الرواية، انتساب أيضاً إلى الحداثة أثناء البدايات الأولى للنهضة العربية الحديثة أواخر القرن 18 وبداية القرن19. فمصطلح (روائي) يجب ما قبله من مفاهيم حكائية وسردية متحت من التراث الشعبي خرافة وحكايات وأحجيات وطرائف ونوادر.
ولما كان مصطلح (روائي) يعكس تحولات المجتمع المصري و"الشامي"، في هذه الفترة، في سياق ظهور فئة متوسطة وصغيرة صدرت عن ذائقة جديدة تتحكم في المقروء الذي أصبح يجمع بين المتعة والمعرفة، فإن مجال اشتغالها وجدته في الصحف والمجلات والمنابر المختلفة التي أصبحت آنذاك (إحدى دعائم المؤسسة الأدبية الجديدة، وهكذا تبارت "الجنان" 1870 لبطرس البستاني، ثم لسليم البستاني، و"المقتطف" 1876 ليعقوب صروف، و"الهلال" 1892 لجرجي زيدان، و"الجامعة" لفرح أنطون و"الروايات الجديدة" 1910، واسمها وحده يحيل على وعي بكتابة متفردة في حقل الإبداع الروائي، و"السفور" 1917، وقد دعت إلى اعتناق المزاهد الأوروبية في الأدب والتاريخ، وإلى التحرر من التقليد، ثم سعت بعد ذلك إلى البحث عن أدب مصري صميم.
الاستشهاد السابق، على طوله، يقدم لنا هذا الوعي بتحول الكتابة القصصية من جهة، وصورة ـ الذائقة الأدبية للمتلقي من جهة ثانية. والرأي التالي لجرجي زيدان يؤكد بصريح العبارة: "وأما أهل هذه النهضة فقد أكثروا من نقل هذه الكتب عن الفرنساوية والإنجليزية والإيطالية. وهي تسمى في اصطلاح أهل هذا الزمان (روايات) والروايات المنقولة الى العربية في هذه النهضة لا تعد ولا تحصى وأكثرها يراد به التسلية ويندر أن يراد بها الفائدة الاجتماعية أو التاريخية أو غيرها وقدر حب قراء العربية العقلاء بهذه الروايات لتقوم مقام القصص التي كانت شائعة بين العامة لذلك العهد…الخ".
وعلى هذا الأساس، كان جرجي زيدان يرى في الرواية مجموعة وظائف أشار اليها سابقا في القولة أعلاه وأهمها:
· تثمين تجربة الانفتاح على الغرب بالترجمة والنقل للنص الروائي.
· ربط النص الروائي بالمتعة والفائدة في آن واحد.
· خلق متلقين (عقلاء) جدداً ارتبطوا بالنص الروائي الجديد بسبب وظائفه البارزة في نمو العقل وترقية الوجدان من جهة، والانفتاح على المعرفة في شقيها المجتمعي والتاريخي (النخبة المتنورة) من جهة ثانية.
ولتحقيق هذه الوظائف من خلال صيغة أدبية ملائمة لجأ جرجي زيدان إلى التاريخ العربي والإسلامي منذ أيام الجاهلية إلى العصر الحديث (رواية الانقلاب العثماني (1910-1911) ومن الطبيعي أن يتسلح جرجي زيدان بالمصدر التاريخي العربي والإسلامي، وهو يصرح بمصادره في كل رواياته من جهة، وبمقروءاته في اللغة والتمدن الإسلاميين من جهة ثانية، وبمطالعاته، من جهة ثالثة، للرواية الغربية خاصة روايات (الكسندر ديما الأب).
إن اختيار الصيغة التاريخية لدى جرجي زيدان في الكتابة القصصية لم يكن وليد الصدفة ومن ثم فالقصدية واضحة وضوحا لا مزيد عليه في آرائه ومقدماته لرواياته العديدة التي ركز فيها على المعادلة الشهيرة المترددة في آرائه وكتاباته وهي "تعليم التاريخ قبل تعليم فن الرواية. والروائي من خلال ما سبق ابن شرعي لهذا الحداثة المتنامية في جسد المجتمع العربي المصري والشامي في تلك الفترة، غير أن ارتباط الروائي بمجتمعه، عبر أسئلة الحداثة، ثم من خلال الموضوع التاريخي، علماً أن شكل "الرواية الواقعية" على حد تعبير لوكاتش من جهة، وشكل "الرواية التاريخية" وجهان لعملة واحدة. وسواء صور الروائيون الماضي (التاريخ) أو الراهن (المجتمع أو الواقع) فإن الهدف من ذلك هو "تصوير سياق كلي للحياة الاجتماعية، سواء أكانت حاضرة أم ماضية، في شكل سرد قصصي".
كيف تعامل جرجي زيدان مع التاريخ؟
I- من أهم المكتسبات التي عبرت عنها هذه التجربة:
أ-التعامل مع تاريخ العرب والإسلام من موقع حضاري. فالمؤلف في نصوصه نظر إلى الدين الإسلامي من حيث كونه حضارة إنسانية شملت كل الميادين المادية والرمزية.
ب-محاولة خلق بناء قصصي يتداخل فيه التاريخ بالخيال، مما يعد طفرة هامة في تلك المرحلة عبر عنها المؤلف بالقولة التالية: "فرسمنا ذلك العصر في صورة مكبرة جمعنا فيها أبهى مناظره وأهم مظاهره، فإذا لم تكن هي الحقيقة بعينها فإنها كثيرة الشبه بها، وإذا كان بعض حوادثها لم تقع، فوقوعه ممكن، لأن الروائي المؤرخ لا يكفيه تقرير الحقيقة مجرة، وإنما هو ينمقها بما يوضحها.
ج-الابتعاد عن التأويل الإيديولوجي للتاريخ سواء بالتركيز على لحظات الانتصار، وإغفال لحظات الهزيمة، أو، من جهة ثانية، بالإسقاط وهو مستوى من مستويات الأدلجة أيضاً على المتن التاريخي، بأبعاد مختلفة، ومن مواقع متباينة.
ولعل تجربة علي أحمد باكثير وفريد أبو حديد وعبد العزيز عبد الله .. فضلاً عن تجارب أخرى، تجسد هذا المنظور الإيديولوجي، في حين اقتصر جرجي زيدان على تقديم المرحلة التاريخية كما أوردتها المصادر، مع ملء الفراغات أو مساحات البياض بالقصة الغرامية الدائمة.
وتعكس قصة "الأمين والمأمون" مستويات الصراع الضاري حول السلطة أو الخلافة، من خلال تقديم مواقف الأطراف المتصارعة دون الانحياز لطرف دون آخر، بل إن القارئ لا يجد أي أثر، بالرغم من حدة الصراع العربي الفارسي، للمعجم الشعوبي وما يتعارض معه من مفاهيم وممارسات.
د-لم يكن النص التاريخي ـ كما سبقت الإشارة ـ بعيداً عن الواقع (المجتمع). ذلك أن المرحلة التاريخية المقدمة من قبل الكاتب تعود في جوهرها إلى فعل الأفراد أثناء تفاعلهم ـ سلباً أو إيجاباً مع واقع معين. وبقدر ما كانت الشخصية مشدودة إلى شرطها التاريخي، انشدت، أيضا، إلى شرطها الإنساني من خلال حوافز الكراهية والحب، القدرة والعجز، الطموح والتواضع .. ولعل هذا ما يفسر طبيعة الشخصية النمطية التي خضعت لتخطيط مسبق، جعل منها "مواقف فكرية" بالرغم من لحظات التشخيص المتسمة بالحيوية والحركية في مواقف محدودة.
هـ- ومن المؤكد أن جرجي زيدان لم يختر الكتابة التاريخية، بمحض الصدفة، بل إن الهدف، كما سبقت الإشارة، من ذلك هو "تعليم التاريخ" أي الاستفادة من مدونة التاريخ لمعرفة مواطئ القدم. وبالرغم من كون الرؤية التاريخية عند جرجي زيدان قد تكون قاصرة عن تقديم الجوهري مكتفية بتقديم كل الجزئيات والتفاصيل، لأهداف تعليمية، فإن ذلك لم يمنع جرجي زيدان من التقاط حركة الشخصيات المندمجة في جدلية الصراع بين الذاتي والموضوعي، بين حركة المعارضة السياسية ورموزها القاهرة.
II ـ أما بالنسبة للجانب السلبي، في هذه التجربة الهامة، فيكمن، أساساً، في قضية جوهرية شكلت حجر الزاوية في كتاب لوكاتش الحافل بالكثير من الآراء القابلة للأخذ والرد في سياق الكتابة الروائية التاريخية.
وجوهر هذه القضية يقوم على ما أسماه لوكاتش بالكلية Totalit. وهنا مربط الفرس في التجربة القصصية المستوحية للتاريخ عامة، وتجربة جرجي زيدان خاصة، من خلال الملاحظات التالية:
1- لا تعني الكلية، تقديم كل شيء إذا صح التعبير عن مرحلة تاريخية محددة. والبرغم من التقاط، بعيدا عن الطابع التعليمي، جرجي زيدان للحظات حاسمة من تاريخ العرب والإسلام شكلت بداية ناجحة في العمل القصصي، فإن ذلك ما يلبث أن يغيب عن السيرورة ـ والصيرورة أيضا الروائية، أمام زحف مؤثتات المرحلة بأحداثها وأزيائها ومعمارها وطبيعتها ومخازنها وإنتاجها وبلدانها .. إلخ. إنه الحشد الكبير لما تزخر به المرحلة. ومن ثم، فهو يتعارض مع مفهوم "الكلية" الذي لا يقتضي قول كل شيء عن هذه المرحلة، أي ـ كما قال لوكاتش: "معاملة التاريخ وكأنه مجرد أزياء".
2- الكلية، إذن، لا تعني إعادة إنتاج المرحلة التاريخية، بكل مظاهرها المادية والرمزية، بل تعني حسب رأي لوكاتش "القدرة" على ترجمة عناصر التغير الاقتصادية والاجتماعية الجديدة هذه إلى مصائر إنسانية، الى سايكولوجيا متغيرة".
ولعل إعجاب لوكاتش بوالترسكوت يعود إلى هذه القدرة، قدرة الروائي على متابعة واستقصاء التمثيل الفردي من خلال الشخصية للمصير الإنساني في خضم تلاحق أحداث التاريخ.
ومحاولة جرجي زيدان متأثرا بدوره بـألكسندردوما-الأب، لتقديم النص التاريخي، روائيا، لم تبتعد عن دائرة (الكلية) بالمعنى "الساذج، أي إعادة إنتاج الوثيقة التاريخية من موقع الراوية عوض ان تصدر عن الروائي.وبالرغم من استعمال بعض (توابل) المتخيل (القصة العاطفية الدائمة مثلا) فإن طبيعة هذا الاستعمال لا تتعدى جانب الربط والإلحام لأجزاء الرواية ومعارفها الواسعة.
3- من هنا يحق لنا أن نرى في تجربة جرجي زيدان نصا وظف التاريخ، دون أن يكون نصا روائيا تاريخيا. والفرق واسع بين الرواية ذات الموضوع التاريخي والرواية التاريخية.
الرواية التاريخية "وعي (حسب لوكاتش) بحركة التاريخ في لحظاته الجوهرية التي تعكس التصادم بين الخاص والعام. ولكي يعبر الروائي عن ذلك، فإن تقديم مفهومه للتاريخ لا يعني الالتزام بكل الحقائق التاريخية، بل بإمكان الكاتب" .. أن يعالج الحقائق الفردية بأكبر قدر من الحرية يشاء، لأن مجرد الإخلاص للحقائق الفردية في التاريخ بغير هذه الصلة عديم القيمة تماماً.
4- ظل النص القصصي عند جرجي زيدان أسير الماضي، علما أن الحديث عن التاريخ لا ينفي محاورة الحاضر بواسطة "التصوير الأدبي الذي يبدو، أولا، متناقضا، ومن ثم واضحا تماما، وهو انه يكشف دوافع السلوك الاجتماعية والإنسانية، وتكون الأحداث غير المهمة ظاهريا، أي العلاقات الصغرى (في الخارج)، أكثر ملاءمة من سلسلة أحداث التاريخ العلمي المهمة الكبرى" (لوكاتش، م.م ص46).
5- وتحيلنا قضية التصوير الأدبي على طبيعة الأدوات المستعملة من قبل جرجي زيدان لتبليغ المرحلة التاريخية من خلال الآتي:
تحويل السرد، في الكثير من المقاطع الروائية، الى وصف يغرقه الكاتب في الجزئيات الكثيرة بهدف المحافظة على الأمانة التاريخية، في حين يتحول النص إلى مجرد استنساخ للمصدر التاريخي، عن طريق، كما سبقت الإشارة،ـ تحويل "التاريخ إلى أزياء" (لوكاتش، م.م. ص12).
من هنا تحول السرد الى استعراض لعدد "المصابيح، وأشكال الملابس وتاريخ الأمكنة وعدد الجيوش والخيام، وأبواب الأسوار وأنواع السفن، وأسماء القصور وعدد الجواري .. إلخ.
ولا شك ان هذا السرد وليد مرجعية تراثية تداخل فيها المصدر التاريخي بكتب الأطوال والعروض، بالرفع، وامتزج فيها كتب الأخباريين بكتب الطبقات والوصافين والنسابين .. وضح المثال التالي من رواية "الأمين والمأمون" ذلك: "وكانت مدينة المنصور مستديرة الشكل، حولها سور ضخم طوله 20.000 ذراع وعرض أساسه 90 ذراعاً، ثم يقل حتى يصير في أعلاه 25 ذراعا، وارتفاعه 60 ذراعا، وهو السور الأعظم، (الرواية، ص81).
أما الشخصية في هذا النص، فإنها تظل مشدودة إلى السارد، خاضعة لسلطته المستبدة مما جعل منه مجرد "ملقن مسرحي"، يحرص على توجيه الشخصية حسب رغباته عوض أن تصدر الشخصية عن رغباتها وأهوائها وطموحاتها. هكذا لم تنبع الشخصية من الفعل التاريخي، بل نبعث من الشحن المتواصل الذي يمارسه المؤلف على بطله.
ج- وانتقل هذا الشحن إلى المتلقي الذي رأى في الشخصية التاريخية مجرد حفرية من حفريات الماضي، عوض أن تكون ممتلكة لحياة جديدة نابعة من التاريخ في جوهره القائم على الصراع الممتد إلى كل الحقب. وهذا لن يتأتى إلا لسارد فهم جوهر التاريخ الذي يجب أن يستوعبه الناس من حيث كونه "شيئاً يؤثر بعمق في حياتهم اليومية ويعنيهم على نحو مباشر" (لوكاتش، م.م. ص19).
بين الراوية والروائي، تأرجحت هذه التجربة التي جعلت من النص كما اعتبر ذلك بعض النقاد، مجرد كتابة تتوسل بالتاريخ، وهي متوزعة بين التسلية والتعليم.
وبالرغم كما سبقت الإشارة ـ من وعي جرجي زيدان بضرورة الانتقال من مرحلة الكتابة الساذجة المفتقدة للأهداف التربوية، كما هو الشأن في النصوص الشعبية المتداولة في عصره، إلى مرحلة الكتابة الجادة، بفوائدها المعرفية والتربوية العديدة، أقول بالرغم من ذلك، فإن جرحى زيدان، وقع في مطب ما كان يحذر منه، واقصد بذلك المفارقة بين الوعي النظري، من جهة، والممارسة السردية من جهة أخرى، ومن ثم كان جرحى زيدان سارداً روائياً بالمعنى الحديث على مستوى التصريح (مقدمات رواياته / كتاباته التاريخية والنظرية) وكان ساردا راوية، بالمعنى الشعبي، على مستوى النص أو الكتابة القصصية التاريخية.
وأعتقد ان النقد الروائي، خاصة، والأدبي عامة، لم يلتفت إلى ان الأصول الحقيقية لبداية التأليف الروائي ارتبطت بأصول السرد الشعبي ومظاهره المتعددة (يمكن الاستئناس برأي باختين في هذا المجال الذي يلح على الطابع الشعبي والكرنفالي للأصول الروائية). أما المؤثرات الغربية (المثاقفة) فهي مؤثرات الضرورة من جهة، ومؤشرات، من جهة أخرى، على تحول التاريخ لصالح هذا الغرب. وبسبب هذا التحول، تم إجهاض مجتمع بأكمله، وبرز ذلك جليا في أدواته التعبيرية ومنها الرواية. وفي كل الأحوال، تظل تجربة جرجي زيدان تجربة البداية الفعلية للنص الروائي العربي، والإسلامي، مادامت هذه التجربة صادرة عن الرغبة المشروعة في استيعاب التاريخ. وكتابة الرواية العربية، الإسلامية، إلى الآن، مازالت تحاور هذه الرغبة بحثا عن شرعيتها الإبداعية، والتاريخية، من ناحية، وتحقيقا، لخصوصيتها الفكرية والجمالية من ناحية أخرى.
-عبد المحسن طه بدر.م.م ص122 ويقول احمد اليابوري، في هذا السياق: "وقد أدرج محمد عبده في القسم الثالث ما أسماه بـ(الرومانسيات، الروايات) وهي في نظره ‘المخترعة لمقصد جليل كتعليم الأدب، وبيان أصول الأمم، والحث على الفضائل، والتنفير من الرذائل، ككتاب "كليلة ودمنة" و"فاكهة الخلفاء"، و"المرزبان"، و"التيلماك" والقصة التي تترجم في جريدة الأهرام، وهذا القسم كثير التداول في المدن والثغور.
أحمد اليابوري: في الرواية العربية، التكون والاشتغال المدارس 2000، ص22.