في لسان العرب الوطن هو "المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان، وجمعه "أوطان"، ونرجح أنه كذلك في غير لسان. وإذا سمحنا لأنفسنا تجاوز تقسيم ديكارت الشهير لما هو موجود، وإنطلاقاً من المنزل "الجغرافيا"، ومن الإقامة التي تتضمن الوجود المتشابك والمستمر مع الطبيعة؛ يمكن أن نقول: إن للحيوان وللحشرات وللنبات وطن. إذ يشهد عالم النبات صراعات من أجل حيازة موطن يوفر طاقة الحياة. ولا نعلم حتى اليوم إن كان هناك من وعي جمعي عند أنواع من النبات!، لكن ثمة سلوك جمعي عند بعضها يوطد حيازتها لموطن، موسعاً رقعته مما يوفر فرص بقاء واستمرار أفضل. ونعلم أن قطعان الضواري تختار مناطق نفوذها وتحدد عديدها وفق معايير ترتبط باقتصاد العيش والأمن والبقاء، وتدافع عن معايرها تلك وبضراوة من خلال أنماط سلوكية سبق أن استنبطتها واختبرتها أجيال متعاقبة للتوثق من نجاعتها في تكريس حماية جغرافية الوجود وكيمياء اللحمة (أي الوطن)، ومن ثم تورث كحامل لشفرة حفظ النوع.
على عكس الضواري نزعت الحيوانات العاشبة إلى زيادة عديد قطعانها طلباً لضمان حفظ النوع (نزعة نلحظها في البحر والبر والجو).
تحدد التشاركية في مجتمع الحيوان حقوقاً ومسؤوليات من خلال نظم تحكم حياتها الداخلية، إذ تمارس الفيلة بعض الطقوس (حداد) عند موت أحدها، وتعتبر حضانة جراء الكلاب البرية مسؤولية جماعية وكذلك رعاية المريض منها أو المصاب في عراك مع ضواري أخرى، وتحفظ بعض القرود حقوقا للشيخوخة، وتعرض الذئبة نفسها للقتل دفاعاً عن وجر أطفالها .. الخ.
لم يسجل تاريخ الحيوان والحشرات ما يمكن أن يصنف خيانة وطنية، واقتصرت ممارسته للعنف على تحقيق البقاء، ولم تعرف مجتمعاته الفساد الداخلي كما المجتمع الإنساني رغم أن "حضاراته" عرفت احتلال الأوطان وما ترتب عليه من قتل وتشرد وحتى السبي.
تميز الجنس البشري (النباتي اللاحم) عن غيره بتركه لسقف عدد المجموعة التي تختار لنفسها وطناً مفتوحاً وفق معيار يرتبط أيضاً باقتصاد العيش والأمن وديمومة البقاء. وارتبط فعل الكون عنده كما عند كل الأحياء بالوطن (إناء الكينونة). لذلك كان لا بد من أن يطور منظومات أخلاقية وسلوكية تحمي ذلك الإناء (شرط وجود الفرد والجماعة)، كما قابلية التضحية بالنفس وغيرها من السجايا والأعراف والعادات. مصفوفة منظومات استنبطتها وغرستها وسقتها الخبرات والأديان والفلسفات والفنون من خلال تجارب ومدارس سلوكية متنوعة ومتلاحقة اتفق جلها وعند كل الشعوب على تقديس إرادة وحق الحياة التي هي حجر أساس فكرة الوطن، الذي قدس واعتبرت خيانتة أكثر الجرائم بشاعة (أعظم الخيانة خيانة الأمة. علي).
ألقى كل ذلك أعباء تنظيمية هائلة على المجتمع البشري الذي لم يقتصر عنفه على حفظ النوع بل تعداه إلى إبادة الأنواع الأخرى وإلى السيادة التامة على الطبيعة.
كيف لإناء النفس والجماعة أن يصان؟ وكيف تتطور شروط حفظه مع تطور الزمان والمكان؟
تلك هي إحدى مهام الأخلاق والقوانين والدساتير الوضعية والشرائع السماوية. كذلك كان وما زال السؤال.
إن ما يضعف التشاركية وبالتالي الوطن هو الظلم "كل ظلم الحاد .. مر مذاقته كطعم العلقم. عنتره"، والفساد رحم المظالم (ظهر الفساد في البر والبحر بما تسببت أيدي الناس، ق-ك الروم)، وفسد في اللغة ضد صلح. أي تخريباً لما يلزم ولما ينفع، داء يهدد كل تكوين (مفكك الأجساد والأوطان والإمبراطوريات).
إذا كان المنتج الرئيس لحضارة البشر هو العنف! فعنف الكائن الحي في الحقبة التي اصطلح على تسميتها" ما قبل التاريخ"، تمثل باستهلاكه للطاقة للحصول على الغذاء الضروري لحفظ حياته ولو أدى ذلك لإزهاق حياة أخرى. أي أن العنف متحول لتابع هو الحياة.
في زمن لاحق بات العنف والفساد تابعين للسلطة التي ولدت مع ولادة التاريخ. ذلك العنف هو برأينا من أنتج لاحقاً الفساد والظلم معاً بعد انفلاته من ضوابطه الطبيعية (يرى البعض أن العنف والمظالم متحولين تابعين للفساد). لكن ومنذ فجر التاريخ (على الأقل) اعتبرت "خيانة الوطن" عند كل الشعوب رأس الجرائم، حتى ولو كان العنف الذي وقع على الفرد وسبب تلك الخيانة غير قابل لأن يحتمل. فلماذا؟
هل هي أنانية جمعية؟ أم تعبير من خلال المنظومات الأخلاقية عن ضرورة حماية شرط البقاء؟ وهل من شرط رئيس لبقاء الأوطان والأمم؟
ثمة رأي لشاعر: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، وفي اللغة الموروثة يعبر عن فساد شخص ما بالقول: "ناقصو أخلاق" أو "ما عنده أخلاق". فهي تنحى كما الشاعر إلى "بقيت وذهبت" .. تنحى لتعتبر الأخلاق جوهراً. لكن الجوهر لا يتغير بتعاقب الزمن. فهل هي كذلك؟
"وإنك لعلى خلق عظيم، ق.ك. القلم"، فقد خص الله تبارك وتعالى رسوله محمد (ص) بمكارم الأخلاق: "اليقين والقناعة، والصبر، والشكر، والحلم، وحسن الخلق، والسخاء، والغيرة، والشجاعة، والمروءة، صدق اللسان وأداء الأمانة، وإطعام السائل، والعفو عند المقدرة .. ورأسهن الحياء (جعفر الصادق)".
واضح أن الأخلاق هي الجذع الحامل لفروع المدرسة السلوكية الإسلامية العظيمة، وربما لذلك أعطيت صفة الجوهر، رغم خضوع ثمار شجرتها إلى القاعدة الفقهية العامة "تغير الأحكام بتغير الأزمان"، فالثابت هو وظيفة الأخلاق. ولذلك لم يصح في زمن الشاعر أن تكون الأخلاق فاسدة، بل يقال حسنت وساءت وقلت ونقصت.
هل يصح اليوم أن نقول: استوطن الفساد الأخلاق؟ ونشتق من ذلك أخلاق فاسدة ومجتمع فاسد وأمة فاسدة ووطن فاسد (تفاسد القوم: تدابروا ووقع الخلاف بينهم)؟
واقع الحال أننا تدابرنا ووقع الخلاف بيننا إلى حد بات فيه بعضنا يجزم بفساد الأمة والوطن، وإذا فسد الوطن فقد صلاحيته كوطن، وتوجب استبدال المنظومة الأخلاقية المواكبة لوجوده كتحصيل حاصل لزوال شرط وجودها من الواقع.
لكن من هو صاحب حق تقرير مصير وطن و أمة؟ من مؤهل ليقرر نفاذ صلاحية وطن و أمة؟ أو أن منظومة الأخلاق المواكبة لهما باتت غير نافعة؟ ولا بأس من وأدها .. من "موت رحيم" أو حتى غير رحيم لها؟ ومن أين تأتي الشرعية لذلك؟
ذلك ما تهاب كبار الفلاسفة الخوض فيه ويستسهله الجهلة.
قد يغزو الفساد قوما ويهزم أحدهم فيتخلي عن رابطته بقومه وعن أخلاقهم ويكتسب عقله أخلاقاً (معادن ومناقب) أخرى تحمي تكوينا آخر ووظائف أخرى لا تورث "حمداً". وقد يهزم الفساد ويستوطن عقل و"أخلاق" الكثيرين؛ أي يستبدلها، فثمة دائماً من يفقد الارتباط بالوطن وبأخلاقه وثمة دائماً من يقاوم.
في فيلمه السينمائي الرائع "أليكسندر نيفسكي" قدم المخرج السينمائي الروسي سيرغي أيزنشتاين تعريفاً للوطن وللوطنية الروسية؛ فالروس الذين أرهبهم الجيش السويدي الذي يغزو بلادهم حارقاً قراهم ومرتكباً أبشع المجازر (في القرن الثالث عشر) يدركون أن الأغنياء لن يدافعوا إلا عن وطنهم الذي هو أموالهم فقط (فساد). يذهب الفقراء الروس (الغلابة) إلى الأمير أليكسندر نيفسكي المحارب الوطني الشجاع ويطلبون منه قيادتهم ليهزموا العدو الغازي. لم ينكروا الوطن لسبب أو لأخر، فهو في النهاية شرط وجودهم وبقائهم.
تاريخياً، حصل ذلك قبل "الحداثة"، لكن الروس كرروها ضد النازية وبقيادة ديكتاتور من طراز رفيع .. وكانت البشرية قد عرفت الحداثة.
ربما يقول أحدهم أن الاتحاد السوفيتي بمجمله يعود لمرحلة ما قبل الحداثة. لكن ما من قول قادر أن يزيح كون حاجة البقاء أقدم وأهم من الحداثة. الحداثة بوصفها رؤية .. أسفرت تطوراً للمنظومة الأخلاقية المجتمعية أشيد على نفس حجر الأساس القديم "الفرد"، الذي بات "مواطنا". هي رؤية أرقى وأفضل لتحقيق الهدف القديم والذي هو حفظ النوع وارتقائه. في الشمال (الغرب الأوروبي) وفي القرن السابع عشر كانت كلمة "مواطن" تدل على الإنسان الذي يسكن المدينة ويتمتع بحقوق الإقامة فيها، وفي الثامن عشر أخذت معنى"الفرد المستقل مدنياً والذي ينتمي إلى بلد جمهوري الحكم"، وأطلقت الثورة الفرنسية إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي أسهم بتوفير الطاقة اللازمة لبناء محرك جرّ حديث لقطار المجتمعات ألأوروبية هو الديمقراطية، التي مكنت بعضها من تحرير وحيازة طاقة هائلة، مما أضاف لشرط الوجود والارتقاء دلالة جديدة، ربطته بوطن قوي ومواطن قوي وبوطنية عالية.
لاحقاً ستطلق سلطات بعض تلك الدول موجة استعمارية ضارية وتبتكر إضافة جديدة لشرط الوجود والارتقاء تتمثل بالسيادة على الآخر وبمنعه من بناء محرك جر حديث لمجتمعه. في الغرب الذي ساد العالم منذ قرون، واستقرت فيه الدولة ومؤسساتها، ورسخت حقوق المواطن ومؤسساته المدنية وتوافرت القوة والضمانات للحاضر والمستقبل. كان طبيعياً أن يبحث الفكر في إمكانيات التحرر من أعباء وضوابط كانت ضرورية في مرحلة التأسيس الديمقراطي، ومنها قدسية الوطن ومدى حاكميه السلطة المنتخبة، وصولاً إلى شاعر قصيدته هي وطنه، إلى فرد هو وطن بذاته، جرى ويجري ذلك استجابة لنزوع للتحرر من قيود ونظم مألوفة (تراكمت عبر عهود) في ظل وجود ضمانات هائلة من القوة والفاعلية يوفرها إشراف المجتمع المدني المباشر على أمن المجتمع وكذلك سلطاته المنتخبه، مما شكل مانعاً قوياً ضد احتمالات نكوص ما هو جمعي إلى الضعف. هي أشبه بفانتازيا رقص على الجليد لا تسبب موتاً بل رضوضاً طفيفة محتملة في أسوأ حال. لكنها سترفع سوية الكفاءة وتحفز المخيلة بلا شك.
ثمة في البلدان العربية من يقتبس وبطريقته من مابعد الحداثة تلك مقترحاً التزلج فوق منحدر مفروش بشظايا صوان فلقته عوامل جوية وصنعية. يقترح ذلك بعد أن أمن نفسه حيث العشاء سلطة جمبري والتحلية بكعكة التفاح، وحيث الرض البسيط هو الحد الأقصى لإصابة محتملة. بارتياح وهدوء يشرع لوجوب ربط وجود الوطن بوجود الديمقراطية. ولأن البلدان العربية تخضع لسلطات مستبدة (مجمع عليه)، فإن تسويق فكرة أن الوطن مغيب أو رهينة يغدو تحصيل حاصل. ثم طورت الفكرة في خطوة لاحقة، إلى أن الوطن غير موجود. هكذا أنجز فقهاء مابعد الحداثة نفياً للوطن منتشين بعبقريتهم أمام كاميرا لإحدى الفضائيات وبكأس النبيذ مع الجمبري. ثم جاء من رحب بقوة خارجية لاستيلاد "وطن" وربما أوطان! وصورت تلك القوة "كمحرر" و"كحامل للديمقراطية". الدبابة حامل للديمقراطية؟!!
في ذلك السياق استخدمت الديمقراطية كرقية ضد الفساد والمظالم. رقية لا تستحضر من درويش صاحب طريقة، بل من وحي مقابلة مع رامسفيلد أو مع بوش أو بزيارة لحائط المبكى.
لم تعد الديمقراطية بعد ذلك الجهد المبذول منتجاً مجتمعياً يحتاج إنجازه للعمل الدؤوب ولأجيال متعاقبة (ثلاثة قرون في أوروبا)، بل منتجاً سحرياً تهبه قوة خارقة خارجية. لقد أنجز تشويه فكرة الديمقراطية كما شوهت وبنسبة ما فكرة المجتمع المدني وفكرة حقوق الإنسان. وكانت السلطات العربية قد أتلفت ولحد كبير فكرة "الوحدة والحرية والاشتراكية".
ثمة من تنادى لوقف التعامل مع مصطلح "الوطن العربي" والأمة العربية" (تفكيك للتاريخ) وحمل مسؤولية المظالم والتخلف كله على كتفي الإسلام والعروبة (تفكيك للمنظومات الأخلاقية). فارشاً وبذكاء ملحوظ سجادته تلك على الأرضية المتسخة للأنظمة العربية المستبدة. مزيحاً من سفر التاريخ، قروناً من انحطاط السياسة والفكر ومسؤولية السياسات الاستعمارية الكونية، ومتجاهلاً مأزق الحضارة البشرية المزمن المتجلي بتطوير متنامي للعنف ضد الطبيعة والنفس. وفي هذا السياق تم العمل وباحترافية عالية على تشويه العقل، بالانطلاق من كون التابع (مسؤلية المظالم والتخلف)، في جملة مركبة جداً كهذه (تاريخ)، هو تابع لمتحول وحيد تم اختياره من قبل "النقباء" أو "البطاركة" فقط، ولخدمة تكتيك سياسياتهم في لحظة راهنه وحسب. تماماً كما تعتمد إدارات المؤسسات الفاسدة حلولاً مؤقتة لحل مشاكل سببها سوء تخطيطها وإدارتها، مما يزرع مشكلة جديدة ستنمو وتحتاج للمعالجة لاحقاً. لقد أضاف ذلك النسق التكتيكي خلال عقود انصرمت؛ عاملاً إضافياً وفعالاً لتفتيت الكفاءة في المجتمع، تضافر مع جهود كل من الاستبداد والتخلف الذين أنجباه.
بذل جهد كبير للتنظير لاستحالة كسر حلقة الاستبداد العربية عموماً والعراقية والسورية خصوصاً من الداخل. أي استحالة التطور أو الإصلاح ذاتياً. ولوى "منظر يساري" مقولة ماركس في المسألة الهندية لتسويق الاستعانة بالخارج. ليس على طريقة "لا تقربوا الصلاة"، بل (وكمثال) بأخذ القول "أن إدخال حملة نابليون للمطبعة كان لصالح مصر"، ومن ثم إسقاط "إدخال المطبعة" والاحتفاظ بأن "حملة نابليون كانت لخير مصر، وبالتالي لا بأس من حملات جديدة. بنى المنظر المونتاج بحيث يبدو ماركس هو صاحب الاستنتاج الأخير.
ثمة قائل: أن القوى الخارجية (الإدارة الأميريكية) لم تكن عدواً للشعب العراقي، بل للسلطة المستبدة فقط، و"علينا" .. على السوريين أن يتحرروا من عقدة رفض الاستعانة بها، فهي ستساعدهم الانتقال إلى الديمقراطية. كأن الذهاب إلى الديمقراطية عملية نقل أثاث منزلي من شقة لأخرى!
يختبئ القصد والنية هنا وراء كلمة "مساعدة"*، وإذا تساءلت لماذا الاستعانة ومن سيحمي المجتمع من أنياب الخارج، وكيف وما هي الضمانات؟ ستفاجأ بأنه سؤال متهم بالغباء وبالتواطؤ مع الاستبداد! وستصنف كذلك. فخطاب "فك العقدة" ذلك الذي يتبنون مبني على إغفال تام لأهمية وجود أية ضمانة ممسوكة باليد تمنع الانزلاق نحو الهاوية العراقية أوغيرها، وعلى إغفال أي حضور لرأي غيرهم من البشر.أي إحالة الشعوب برمتها لأسوأ مما أحالت إليه فتوى الجبرية (التي صلبت وقطعت لسان وأطراف غيلان الدمشقي) وفتوى كاوتسكي "الطليعة المنارة" الواجبة الوجود دائماً. في العراق وسوريا ولبنان تم ذلك وللأسف على يد محسوبة تاريخيا على "اليسار" بحماس.
نظروا لذلك لجمهور المحاضرات والندوات وللإعلام ولمسؤولين غربيين راحوا يطرحون ببراءة استحالة كسر حلقة الاستبداد العربي ذاتياً؛ كفكرة سمعوها من أطراف محلية. هي في الأصل فكرتهم هم، كحصان طروادة جديد صنع من أجل العرب، ونجحوا في تأمين دود خل عربي يدخله عبر بوابات الوطن العربي!
لو قيل أن إصلاح الأنظمة من داخلها فقط هو أمر مستحيل، لقلنا هذا بدهي وصحيح ومؤكد، فكل ما ينغلق على ذاته يأسن. وقد قطعت الأنظمة العربية شوطاً طويلاً في درب الانغلاق على الذات ومعاداة محيطها. لكن فكرة استحالة الإصلاح والعجز عن كسر حلقة التحديات ذاتياً هي أبعد دلالة ومدى من أن تحصر بصراع سياسي مع سلطة راهنة. إنها صياغة حديثة لفكرة استعمارية قديمة طرحت المستعمر كمعلم ومطور لبرابرة ومتخلفين لا يحسنون تدبير أمورهم بأنفسهم، بل وجعلته السيد المخلص صاحب الفضل، الذي قبل مشكوراً أن يستعمرهم وأن يكون سيدهم (روبنسون وفرايدي). إنها فتوى خارجية لداخل محلي أسهم في تسويقها "ثوريون" في السابق من الزمن.
ذلك على الأقل ما اختبر في المسألة العراقية حيث وجه الخارج أولائك المنظرين والمحللين لفكرة فصل السلطة عن الوطن، للإضعاف حلقة الممانعة الوطنية. وسيطر على خلافاتهم حتى أنجز احتلال العراق. ثم ترك تناقضاتهم لتفجر صفوفهم. ففقدوا التوازن في كل اتجاه سوى الفساد. ما دفعهم فعلاً للاستعانة بالخارج، وكانت رغبتهم في فتح حلقة عجزهم الصدئة بغية الوصول إلى أهدفهم البراقة.
ما أسهم به أولائك، لم يتعد العمل على تدمير العقل ودفع الرؤية إلى فراغ وفوضى خلاقة للعدمية الأخلاقية ولتعويم للهوية. وأيضاً على قطع الطريق أمام جهود محلية مخلصة وإن متواضعة؛ تعمل في حقل صناعة أدوات التطور نحو الديمقراطية في كون يعج بكمائن الرمال المتحركة.
ذلك بعض من رصيد من شغفوا بكسب ذاتي ثمين ولو على حساب شعب ووطن. "ديمقراطيون جدد" هم شموليون في نقي عظمهم، فالمجرم الوحيد ودائماً هو ذلك الذي يحول دون وصولهم لبغيتهم (لا يقبلون التشاركية حتى في الجريمة)، وهم "ليبراليون جدد" يؤمنون بحرية التعبير المطلقة لأنفسهم وينكرون حق التعبير على سواهم، حتى ولو جاء في صندوق الاقتراع.
كل ذلك يشرع لسؤال ولو بصيغة تعليمية:
-من سيبني الديمقراطية ولمن؟
-هل هي بيعة أبدية لنخبة النخبة، التي تستحق ودائماً أن يكون الصولجان بيدها؟
-هل ترانا نشهد ولادة أصولية جديدة؛ أصولية ذاتية قادرة حتى على سكب رائحة مطلقها السلطوي فوق كل شيء؟!
تتدافع الأسئلة:
- هل حق للآخر لغته وحقيقته؟ وهل يسقط ذلك الحق إذا كان الآخر خصما؟ أليس العجز عن قبول التنوع سقوط في الأحادية؟
- هل متحول أخر لثقافة الاستبداد هو من يرتدي اليوم قبعة وسروال ما بعد الحداثة؟
- هل التهمت السياسات العربية الفاسدة الحقوق، فأنجبت دعاة لنموذج أحادي تحولت أطراف منه إلى جلادين لمجتمعاتهم، وأطراف أخرى إلى شركات مرتزقة تقايض مفاتيح حصون مجتمعاتها وأوطانها مقابل أجر؟
- هل غدت السياسة في وطننا العربي حاوية لقمامة عفنة يصر الساسة على بقائها كذلك كي لا تقربها العامة؟ كان من شأن كل ذلك أن يبدو أقل خطرا لو أنه جاء من حاويات السياسة فقط. لكنه وللأسف ارتدى ثوب الفكر والتبشير الثقافي.
ربما لحسنا طرف ملعقة الديمقراطية في يوم ما، لكننا لم نعشها ومعرفتنا لها وبها ناقصة، وأدواتها غير متوافرة لدينا بعد، ولا بد من صنعها لجسر تلك الهوة، الأمر الذي يتطلب عملاً دائباً في ميادين الحياة المجتمعية وقراعاً يومياً، فهي (الديمقراطية) أهم وأقوى تأثيراً وفاعلية من القنبلة الذرية. وهي مثلها لا تهدى ولا تباع. هي ارتقاء لفن إدارة الحياة. حصل أن أنتج ريفنا وعفوياً مقدمات له تبدت في إدارة النسوة لصناعة الخبز وفي إدارة الرجال للحصيد، ولسلق القمح وقشره، وفي صيانة البيوت الطينية. ربما استنبط الريف ذلك الشكل من الحلول لزيادة طاقته للبقاء ولتحمل ومواجهة ظلم المدينة السافر له. نخب المثقفين وخصوصاً منها من كان من أصول شيوعية (كاوتسكية لينينية ستالينية أو تروتسكية) ثم انعطف بحدة نحو الديمقراطية، لم تلحظ ذلك المنتج الإداري الريفي. ليس لأنه ريفي المنشأ وليس عمالياً (حيث يتوافر نظرياً حضورهم الإفتراضي). بل ربما لأنهم وأصلاً لم يعرفوا لماذا ضيع أنجلز وقته وكل تلك الطاقة في البحث في قصة روبنسون كروزو وفي الأساطير اليونانية أو فيما هو إنساني.
نخبة النخب تلك كانوا دائماً سعاة، وقد وجدوا ضالتهم في قول لينين "خطوة للوراء من أجل خطوتين للأمام". وتعبيراً عن صلابة قصدهم تبنوا "خطوة للأمام من أجل خطوتين للوراء".
لم تكن السلطة وحدها من عادى إنبات مجتمعنا و"عفويا" لرغيف الديمقراطية.. ذلك القمح "العفوي" الذي أنبت الديمقراطية في أوربا، وليس الساسة والمفكرين سوى معلقين لاحقين على ذلك التاريخ الحافل بانجازات عظيمة للبنية التحتية المجتمعية، التي من حسن حظها أن أحداً من "المهمين" لم يلحظ أهمية أو خطورة ما تقوم به في وقت مبكر، فكان أن نمت خميرة الإدارة الديمقراطية في أسواق المدن، وفي الريف وفي العلاقات المشتركة بينهما لتنتج واقعاً، ومن ثم، ولاحقاً، ثقافة وسلطة ديمقراطية. لقد أساء بعض السادة في المعارضة السورية لرغيف الديمقراطية الذي ربما لم يؤمنون به يوماً، بل وفضلوا عليه ودائماً الرغيف السياحي على هيئة البروتشن الألمانية أو الباكيت الفرنسية أو ربما فطيرة التفاح الأنجلو سكسونية.
أن نتلمس بدايات سليمة مهما كانت متواضعة، أن نتأمل في كنوزنا الأثرية، وأن ننقب عن كنوز الحكمة في تربتنا (وهي خصبه) وننفض عنها الغبار والصدأ، أن نتأمل كيف انهارت الإمبراطورية العثمانية أمام أعين العثمانيين، أن نميز بوضوح وبدقة حجم ونوع تعويقنا الذاتي وكم وكيف ممانعة الخارج وردعه لمحاولاتنا أن نمسك مصيرنا بأيدينا، أن نفهم وبدقة ما هو الفساد، أن ننجح في ما قتل فيه الكواكبي وغيلان .. في ما أفشل فيه مدحت باشا ومصدق وعبد الناصر؛ ذلك هو السؤال.
حجر أساس الوطن (والوطنية) هو حيازة شرط الوجود والبقاء كجماعة معرفة جغرافيا وذات هوية، وليس كالحرية وكالعدالة من سقيا تصلب ذلك الأساس وليس كالفساد وكقمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان من مذيب ومفتت لتلك الحجر.
حجر أساس الديمقراطية قانون يحدد حقوق وواجبات الفرد والجماعة، وفرد يثق بنفسه وبذلك القانون ثقة تمنحه شعوراً بحيازته لسلطة هو حاضر دائماً للدفاع عنها بالتشارك مع أفراد آخرين يجمعه بهم وطن. وطن لا بد من كونه موجوداً كي تنسج عباءة الديمقراطية من صوفه ومن قطنه. وليس كالفساد وكالفكر الشمولي أو المغامر أو الارتزاقي أو الثأري من مذيب ومفتت لأدوات صناعة هذا الحجر الأساس، سوى عدو خارجي يسعى لتدمير كل منظوماتنا الأخلاقية وكل أحجار أسسنا معاً.
(دمشق، سوريا)