هذا صوت جديد في الكتابة القصصية المصرية له مذاقه الخاص ولغته السردية المتفردة. يهدي قصصه لسينمائيين كبيرين، وكأنه يلفت انتباه القراء عبر هذه الاهداءات إلى الحوار المضمر في نصوصه بين لغة السرد المكتوبة ولغة السينما المرئية.

قصتان

مجدي عبدالمجيد خاطر

. 1رجل يلتقط الصور

إهداء إلى يوسف شاهين

"صباح ومسا، شيء ما بينتسى..
تركت الحب، وأخدت الأسى".
فيروز

كانت تهتف مع الجموع في المظاهرة، قبل أن تهاجمهم فرق الأمن المركزي، وتبدأ في تفريقهم. بدا صوتها مميزا، فيما تزعق "إحنا حاجة وأنتو حاجة أنتو حاجة، أنتو بعتوا كل حاجة! ". "اللي بيضرب في بغداد، بكرة ح يضرب في الوراق!". "ساكتين ليه، بعد ده كله ح يحصل إيه!". ومضت تتكئ على حشود المتظاهرين في شارع 26 يوليو.
وكنت ألتقط لهم الصور، فجذبتها نحو مدخل البناية. وشوهدت مدام رويدة المعز - الموظفة المصرية بمكتب وكالة أنباء أجنبية بالقاهرة ـ تصعد إلى شقتي، الكائنة بالدور الخامس، في وكالة البلح. أنا ـ يحيى أيوب ـ مصور الفوتوغرافيا، الذي يعيش مع سهير أيوب.


دق الهوى ع الباب .. قلنا حبايبنا..
تاري الهوى كداب ... قصده يداعبنا..
فبراير، شتاء 1986 م.

في الإسكندرية، كنا ثلاثين رجلاً. .. وتفيق المدينة على نبأ اعتقال بحارين إسرائيليين بتهمة التهريب في حي الجمرك. أقرأ في الجورنال الصباحي متكئاً على حرف البلكونة التي تطل على مدرسة سان جوزيف، وجراج شركة الدخان الشرقية إيسترن كومبانى في شارع منشا بالعطارين. تنهض على ناصية الشارع مكتبة البلدية، حيث تفضل ليليان البقاء بمفردها أوقاتاً طويلة. وكي نتحاشى الحديث، نتدرب على الخروج للشاطئ، لم تعترض على دعوتي دخول سينما أوديون التي تعرض فيلم "شاطئ الحب" لشمس البارودي وحسن يوسف.أعرف ميلها للجلوس على طوار باتيسيري ديليس المواجه لشاطئ الرمل، وملء رئتيها بيود نسيم يدنو إذ يغشاها يساراً مبنى الغرفة التجارية، ثم ممر شارع المينا الشرقية إلى رحم ميدان عرابي في المنشية ـ حيث كثافة لوكاندات النوم تلفت النظر ـ فيما تغازل أطراف أصابعها قطعة تارت شيكولاتة في طبق.

شاهِدها تحتسى قهوتها الاكسبرسو متكئة على حافة جدار في مخازن البن البرازيلي في شارع سعد، قبل أن تغتال سحابة النهار خلف واجهة زجاجية لبوتيك ملابس داخلية للنساء في بداية شارع النبي دانيال ـ الذي تفشل دائما في تطوير أية أفكار أو مشاعر خاصة حياله ـ شاهِدها ثم التقط لها صورة، أنا فعلت ذلك.
نعبر شارع فرنسا ثم نميل في حارة ضيقة، تلقينا في طريق الترام. نجلس متحلقين حول نافذة الترام الواسعة أحدق في دكاكين ترمح متزاحمة. بغتة، تتعرى من دثار الصمت:

ـ عرفتني على سرير في فندق بايرون هاوس.
أكتفي بإيماءة. تستطرد
ـ فندق رخيص. أظنه في ميدان الشهداء
ـ ليليان، فيه مشكلة.
أسأل في قلق. تهز كتفيها بلامبالاة. وأنا اتكئ على الصمت منذ الان. أعرف ـ أيضاً ـ أن ليليان تريد الانفصال.


.. لأجل من دافع واستشهد في المداخل،
الانتحار والشهادة مجرد شكل، في قصة مضمونها أن نعيش الآن، وحبكتها منطق الأسطورة،
يونيو، صيف 1982 م..

ليليان الإسكندرانيه شوهدت أيضاً، تصعد شقة الدور الخامس، في وكالة البلح.
ـ مين دول اللي معلقة صورهم على الحيطان.
ـ معقول مش عارفهم.
قالت ليليان في دهشة.
ـ قصدي أشوف لو كنتى تعرفيهم.
ضحكت ليليان.
ـ مش ح أزعل. ده المسيا، وده جيفارا.. شي جيفارا، وده ناجي العلي، عارفه؟.
ـ مش ح أزعل.
شد انتباهي أن حافة البلكونة تقترب من سور السكة الحديد، وكان قطار أبو قير قد مر الآن.
ـ يا ترى جيفارا وهو باصص لفوق كده، كان شايف إيه.
ـ ..................
ـ ح أسمعك فيروز.
تقول لي مفككة الأعضاء.

ـ هي دي إسكندرية يا يوحنا، مثل نساءٍ عجائز يخطرن منسابات في بطئهن اللذيذ، قدام واجهات البوتيكات الزجاجية، يتخيرن موديلات الأغيرة الداخلية مثل فتيات في شرخ الصبا، ويحلمن بحرارة الحب واللقاء، ثم ينصرفن ساهمات في وقار يلقين بالأسرار في عرض البحر دون شراء. أمنية أخري لا تتحقق.
ـ عاوز أشوف جارتك.
ـ ح تصورها كمان.
ـ بس توافق.
ـ : وليه لأ !.


وإن فات طيفك يوم في منامي وجه صحاني
برضه أطاوعك وأهي نوبة وبعدها توبة ،..

الطالب حمدين الصباحي :.. طبقة جديدة من الناس اللي بيشتغلوا في تجارة الشنطة وفى التهريب وفى البضائع المستوردة وفى بعض الدخول الطفيلية.. بيتاح لهم أن يكسبوا وأن يغتنوا جداً في الوقت اللي.. الرئيس:.. هل هناك اقتصاد دولة يمشى بإنك تلبس طاقية ده لده..


ديسمبر شتاء 1998 م..
لم يكن بوسعنا - هذه المرة - احتواء الخلاف حول تركيب الباركيه. وكان جدنا المشترك عزيز أيوب يغلق باب أوضة النوم مشغولاً بالبحث في الحركة الطلابية. ويترك صوت الكاسيت عاليا ينبعث منه صوت شعبان حافظ يلقى بيان اتحاد الطلاب، ويرتب بنوداً يراها سبيل علاج الأوضاع في مصر. وكان أحمد زكي يختلس نظرات مكشوفة على فخذ يسرا العارية جواره في مقعد بالأتوبيس. استغرب من قدرة سهير على إعادة ترتيب النقاط التي تؤيد رغبتها في تركيب الباركيه فوق حوائط أوضة النوم والصالون لتكرارها بإصرار يثير الملل. ألجأ لمحاولة النوم بنصف عين مفتوحة أمام الفيديو، فتصاب سهير بإحباط، وتنهض مغمغمة في ضجر
ـ أوكى يا يحيى.

أضحك على يونس شلبي المصور الذي يُرجع ملماته لتدبير المخابرات ومباحث أمن الدولة فيما تراودني أحلام النزول مع سهير للصلاة في الحسين والسياحة الليلية في المشهد متواطئين مع حُسن حوانيت وبازارات ومقاهي خان الخليلي الأخاذ.. ودخول مسمط في السيدة زينب لتناول الفتة ولحمة الرأس. ثم.. وعقب العودة، أنضو ملابسي عن جسد يهفو للجنس.
يرن التليفون. حسن زياد.
ـ أنت نايم عندك، والدنيا مقلوبة تحت..
ـ ......
ـ ح أقابلك في البستان. بس أنزل فوراً.
كان عبد المنعم أبو الفتوح يتكلم عن شيل الشيخ الغزالي من جامع عمرو بقرار مجهول. وكنت ألتقط الكاميرا من على الشيفونيرة في أوضة النوم فيما تسأل سهير بقلق، فأجيب أن الضرب في بغداد بدأ منذ ساعة، أن الطلبة نزلوا الشوارع بالبيجامات.
تغمغم الجدة
ـ ربنا يهد المفتري.

أبتسم فيما ترقص فيفي عبده لأحمد زكي في حفلة عيد ميلاده. كان طلبة جامعة القاهرة يحتشدون في مظاهر ضخمة تطوف شوارع بين السرايات يوقظون سكان المنطقة على نبأ الضرب. وكانت الساعة تتجاوز الواحدة بعد منتصف الليل والشوارع مكتظة بطلاب ثائرين يتجهون إلى ميدان الدقي وبدأت تدق أجراس كنائس. وأعلنت طالبات المدن الجامعية اعتصاماً فيما خرجت مجموعة أخرى إلى الشارع.
ـ رحت فين ؟ وفين حاتم.
ـ ...
ـ فيه بيانات طلعت.
ـ ...
ـ أول ما حاجة تطلع، عارف طبعاً ح تعمل إيه.
ـ ....
ألتقط صور. أذكر فتاة مرت أمامي في مقهى بشارع الجيش، ملأت أنوثتها الإستريتش الذي يلتصق بفخذيها فأشعر بنتوء يصطدم بسوستة البنطلون، وأحس بألم.
ـ ما هذا الاهتياج !؟.


.. وحروف الرسالة ماحيها الشتا،
أغسطس، صيف 1990 م..

.. التي مرت قدامنا في مقهى المنشية آتية من زنقة الستات تلف حول خصرها المسكون بالغواية ملاية لف سوداء طرفها على ذراع ممتلئ على طريقة بنات بحري، يكاد بياض سمانة الساق المتعرية يضئ. مالت في دكان بقالة خردوات على القمة المقابلة للحارة. شوهدت ملاءتها تهوي فوق أرضية التلتوار المبلط وتنضو عن قميص نوم شفتشي في مشهد مباغت قصير، وتناثرت تعليقات محاذرة تلفت انتباه الحلو الذي امتقع وجهه لحظة يحوش ما وقع منه، لكنها لعّبت حواجبها وزعقت بامتعاض غير حقيقي:
ـ أحيه ع الرجالة، جرى إيه .. ما شفتوش لحم أبيض قبل كده يا غجر.
ومصمصت شفايفها قبل أن تغيب في الميدان المزدحم باستمرار، تزايلها ضحكات يخامرها إعجاب بجرأة المرة. كانت رويدة تركن ظهر كرسيها على الجدار البراني للمقهى تتابعها ببصر شارد. تنهيدة عميقة بدرت عنها فيما تغمغم:
ـ يا بختها.

ألم تتغير رويدة فيروزية العينين منذ سنوات مدرسة رسالتين الثانوية بنات. الإفلات من حصة الأحياء لنتكور منكمشين في أحد شبابيك قلعة قايتباي العتيقة، نتفرج على المد، نردد أغنيات فيروز وعبد الحليم وشادية فيما تلتقي شفاهنا في قبلات مختلسة سريعة، لكنها كالنار قبل أن نغيب في قبلتنا الأثيرة فنفيق عقبها منتشين أننا فعلنا ذلك. رمحنا في الشوارع أسكندرية المدينة الشيوعية بالفطرة كما تطلقين عليها، والتمشية متعانقي الأكف شاعرين بسلام يحتوينا على شاطئ البحر متى وصلنا الإبراهيمية نعود بالترام. متى تزوجنا ومتى قررت بمفردك ارتداء الحجاب لتصير ندوات قصر ثقافة الانفوشي والحرية كلاماً فارغاً. متى امتنعت عن سماع فيروز وقراءة الأبنودي ...

وأقولك إيه اللي قطع الدايرة يا أمير
وخلى ما بين النبي والخلق
الغربة وتقطيع المشاوير؟.
أن وأنت بنلعب طول العمر دورين
طليعة وجماهير،..

ألقى نظرة على بلوزتك الخفيفة والجوبة الميكرو الملقاة بإهمال متعمد فوق أريكة خلف باب الشقة. متعرية اللهم من قميص نوم يصير جسدك داخلة متهدلاً، متى هاجمك هذا الإعياء مستمرة في جهاد للف ملاية حول خصرك الذي ترهل دون تجدي لعبة التباديل والتوافيق. تصير أنفاسك أقصر وأسرع فتلتقطين علبة سجائرك الكنت وراوية لإلياس خوري بنرفزة من درج الكومدينو جوار السرير. ثم تسقطين فوق فوتيه في الردهة فيما يسرى النيكوتين مخدراً أعصابك ..
ـ يعنى إيه.. مش ح أعرف ألف حتة ملاية.
تقول بضيق، بلهجة من يعاني سقوطاً.


أكمنة يا ناس واحشني.. وخصامة كمان حايشنى،
أكتوبر، خريف 2001

لم أحب الرئيس السادات لكنني أيضاً لم أشعر بتعاطف مع قاتليه، ظلت رويدة ترتعد مفزوعة يوم اغتياله في حادث المنصة غير مصدقة. تؤكد أن الحادث مجرد فن، كابوس فانتازي أبعد من أن يكون جدياً. بدأت ترتاب في الحجاب بيد أنها عجزت عن تكوين موقف واضح تجاهه فانتهت بتجاهل الأمر برمته. بدأت تفقد حماسها ثم وزنها والكثير من بهاء رويدة مع سقوط بيروت في 82. صباح العيد الذى تسلل بعد انتهاء السادات سألتنى بشك ...
ـ أنت ليه بتكرهه.
هل أبدى غباءً وأتجاهل معرفتي بهوية الشخص. آثرت أن أداعبها
ـ يجوز علشان خلى الكاميرا زينيت الروسي تشح من السوق..
لم تستسغ سخريتي، وأبدت امتعاضاً. والآن، في شقة سهير تستفسر مرة أخرى بدهشة،..
ـ يحيى،أنت لسه شيوعي..


قالوا كفاية ده مفتش حد ومين هيرد
القمر مسافر،..
صباح أول يناير، شتاء 2002 م..

منذ قليل بلل مطر خفيف رصيف مقهى صغير في شارع وابور الترجمان. ساءت علاقتك بأحمد زوج رويدة الثاني وأمس أغلق في وجهك التليفون. وسهير غادرت الشقة دون نية في عودة قريبة. هل تبتسم؟ أكتشف الأستاذ راتب جارك في الدور الفوقاني مدير الشئون القانونية بالأوقاف أن شريكته في الفراش وكيلة المدرسة مجرد شرموطة تقيم علاقة مع مهندس شاب في إدارة الحى. كان منير رجب يزعق بنرفزة ـ يا أستاذ يا محترم، شوف مراتك كانت بايتة مع مين أمبارح.
فضيحة تفرج عليها سكان عمارة وكالة البلح.
رقة موديل الإعلانات وأغاني الفيديو كليب زينب عبد الكريم فتاة شارع الجيش تشعر بها في روحك، وكذلك دفء جسدها الذي سرى في كوعك التي أنغرزت في أنوثتها. ليليان كانت أيضاً رقيقة.
لماذا ساءت علاقتك بأحمد زوج رويدة ؟!.
كم مرة حلمت بالحب مع فتاة شارع الجيش التي تفوق سعاد حسنى بهاءاً.
كم مرة راودتك فيروز،
ورويدة ..
وليليان ..
هل حقاً قالت ليليان، أن الانتحار مجرد شكل؟
وزينب و سهير ...
أضحك بقوة مثل جندي منتصر ...



2. حادثة أتوبيس

إهداء إلى: عاطف الطيب.

(1)

عروض ليلية
مثل عرض صيفي خاص بالبورنو، ثلاث وعشرون دقيقة يتقلص فضاء الصالة. ترتاح البدينة قرب النيش، ويكون عليها الإنتظار دقيقة. يمارسانه على البلاط على الموكيت فوق الفوتيه ثم يفوز بها سخية فوق طرابيزة السفرة. هل للمشهد روعة ما. تطبق لبنى شفتيها. كانت الغرفة ترقد في الظلام فإستطاعت رؤية امرأة تلهو تلهو بأعضائها بعد مسافة أمتار من الشباك المفتوح. ينسحب بصرها تجاه بقعة مطر مضيئة تكونت بغتة أسفل بجوار الحائط المقابل. مشهد ارتطامه بالبلاطات المرصوصة في مواجهة قدر لا تملك حياله أختيار كأن معركةً تدور. سوف يختلط عليها وشيش تناثر رذاذ هارب من كرنفال صفعات البلاط البارد إلى دفء السجادة الوحيدة ومونت كارلو تبث أخبار الحرب. علاء بعد أن ينجح في إحراز نصره ينهض منتشياً. تفكر في وضع حد لهذا العرض. يغلق الشباك موضحاً لا أحد من المشاركين يمكنه وضع حد ثم يضئ الغرفة. ينسحب الظلام إلى مكانٍ ما. يجفف شعره جيداً ثم يصففه. يهمس : مش كنتِ أخدتي حمام معايا. تستغرقها الأنباء المتقافزة عن هجمات التحالف. يضحك بلا شهية تقريباً ويعرض عليها تشغيل التلفزيون. يقول الفرجة أفضل تعلق كأنها مسرحية يجيب هي كذلك. تسكب نظرة على البلاطات التي خرجت من معركتها مغسولة ثم تنصحه بنشر سجادته المبلولة تحت الشمس لو أنها أشرقت في الصباح. تنتهي من إرتداء هدومها وتلتقط مشطاً تصفف به شعرها في سرعة. تفكر في التعري بإعتباره مأزقاً ثم تعرج إلى تضاؤل وقته عشرون ثانية. قليلة لكن في المدى مؤثرة ثم بلهجة من يستفسر

ـ في باقي حساب يا علاء.
يتجاهل استفسارها عن عمد فتلتقط شنطة يدها من فوق الشيفونيرة على يسار السرير وتفتح الباب. يستوقفها
ـ لبنى.. (تلتفت) .. أخدتي التصريح .. (ترنو إليه تنتظر) .. بكره ف نفس الميعاد أه ..
ثم وهو يدير مؤشر الراديو
ـ بتعمليه بره بخمسة ومعايا بعشرة، إشمعنى.. أنا بأخد حقي.


(2)

النيابة العامة. مكتب النائب العام. مكتب التظلم من أوامر الإعتقال. السيد / مدير سجن استقبال طرة. بعد التحية. بناءً على الطلب المقدم من السيد / علاء زكي غبريال، المحامي توكيل رقم ( ) بتاريخ 9 / 11 / 1990 م. بشأن التصريح بزيارة المعتقل / موسى عبد الحميد فؤاد.
(1) لبنى أحمد رمضان      زوجة
(2) كوثر موسى عبد الحميد      ابنة
(3) ـــــــــــ
(4) ــــــــــ.
بزيارة المعتقل المذكور مرة واحدة. بحضور مندوبي السجن وذلك بعد انتهاء مدة المنع من الزيارة بقرار وزير الداخلية. وتقبلوا تحياتنا. تاريخ التحرير ورقم الصفحة. المحامي العام الأول، المستشار. ختم إدارة المكتب الفني.


(3)

رجلٌ عجوز. أنثى صغيرة
حصل على تذكرتين للمترو ثم وقف ينتظر. على القرب منه تلصق راديو ترانزيستور بأذنها اليمنى تقول: الطلبة عاملين مظاهرات. لم يعلق، إتخذا مكانيهما متجاورين، ووضع حقيبته بين قدميه. ينحي عجوز بالمواجهة جريدته جانباً ويتمتم بشئٍ ما ثم يرفع صوته بغتة فيما ينشغل الآخر بالنظر من النافذة.
يقول يأتي عقيد في الداخلية أول سبت من كل شهر الساعة عشرة الصبح بالبوكس ويقف أمام واجهة الكافي شوب ثم ينزل بالتريننج والطبنجة الميري بينما اللبس الميري والكاب في كابينة العربية. يسلم الحاج لفة السوليفان ويستلم الظرف الأصفر ثم ينصرف. ينزل العجوز في مارجرجس يهبد كفاً بكف ويزعق
ـ اللي ينرفز إن حتى الميعاد ما بيغيرهوش.

يمط علاء شفتيه ثم يلتقط حقيبته وتزفر لبنى المشوار من الدَراسة للمعادي ومن شارع 77 لطرة يهد أجدعها حيل.
ـ بُكره أروح الشهر العقاري أخلص التوكيل.
تهمس الموظف أخذ أخر فلوس معها. بلهجة من يغير دفة الحديث يطلب منها تكرار ما قالته عن المظاهرات. تشرد قليلا ثم تعود فتردد كانوا يتغلبون على القنابل المسيلة للدموع بخرق مبلولة بالماء، أما الرصاص المطاطي فيحتاج إلى سواتر. يغمغم هناك وسيلة أخرى. تستفسر فيقهقه، حبوب الإسهال إنتروكين، يوضح ليس جباناً بطبعه لكنه يخشى القضايا الخاسرة. تحاول تدعيم موقفها ويقول ما تحكيه يصلح كخرافة. تلتزم الصمت فترة. تتوق للإنكماش قليلا فتنزوي في ركن جوار النافذة الموصدة. يدفعها سرسوب دفء للتفكير في الإغفاء. في رمسيس ينزلان سوياً. يسأل ألن تأتي معه.
ـ البنت وحشتني.
ـ مش حتيجي من ساعة زيادة.
ثم وهو يشير لشرطي في موقف الأتوبيس يهمس
ـ عسكري من الأرياف زي ده يتهيأله دلوقت إن هو اللي بيحمي النظام.
في بداية شارع كلوت يحود على دكان ويشتري علبة بلمونت وكبريت. تهمس ـ مش شايف إن لسه بدري.
في شقته بالدور الثاني قال يحتفظ بزجاجة بيرة في الثلاجة. تدخن سجارة على عجل وتشاهده خارجاً من الحمام يردد ساخراً ماذا لو لم تكن ثمة مراحيض. يسأل ماذا لدينا في المطبخ ثم يقول على سبيل تمضية الوقت، في سبتمبر قامت الداخلية بتصفية المتحدث الرسمي باسم الجماعات الإسلامية في شارع الهرم باسم عدالة القانون والنظام. بعدها وفي أكتوبر قامت الجماعات برد الصفعة وإغتالت رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب أمام فندق شبرد باسم العدالة الإلهية لأنه عطل تطبيق الشريعة. كان قد بدأ يخلع بنطلونه فنحت كوباية البيرة فوق الكومدينو على يمينها فيما تحتفظ بساقيها منفرجتين


(4)

لماذا هي دائمة المطر؟!
تصعد الدرب ثم تعرج يساراً في شارع كلوت بك. كان المطر قد توقف عن الهطول. تستطيع تجاوز حفرة عميقة في ضيق الدرب. في اتساع الشارع بِرك صغيرة. تفكر الإتساع أو التجزؤ. تفكر أيضاً ربما الساعة تتجاوز الحادية عشرة. الدكاكين والمحلات على الصفين مغلقة. ينساب نور من شبابيك الدور الفوقاني وينبعث دفء. تسارع الخطو فتجتاز قسم شرطة الخازندار. بدأت الدنيا تهمل ثانية فتلجأ إلى تراسينة خشب عتيقة تنكمش تحتها. تفكر الشارع خامل والدروب في موات. هل هو الوقت لخلع الحذاء ؟ يلسعها ابتراد أحجار البازلت ويبدو الحفاء كأنه متعتها الأثيرة.


(5)

تنتفض ناهضة وموسى كان قد وصل الى باب الأوضة. تضىء النور ملقية بصرها على عقارب المنبه ثم تتمتم تطلب الستر من الله.تفتح شيش البلكونة والأفكار المذعورة تندفع تملاْ فراغ الدم الهارب. تمارس أفكارها الانتحار علي حافة السور الحديدي. ليس انفجار أنبوبة بوتجاز. ثكنات الأمن المركزي في الجوار هادئة، ليس تمرد. تداهمها رؤية عربتان بوكس في الشارع تسدان مدخل البيت تصحبهما قوة من العساكر في السواد تبدو وكأنها تحاصره. تهاجمها مخاوف الإعتقال ويتجه تفكيرها للإنتخابات أو ربما النقابة. لثوان تالية يصاب عقلها بشلل. تفيق علي هتاف موسي في الصالة : إيه اللي حصل، وتبدأ حيرتها أن تسلك طريقاً آخر. تهرول نحو الصوت فيما تسبح الردهة في ظلام يتخلله انبعاث نور ضئيل من أوضة النوم. يهدد أي محاول لإحداث جلبة سوف تواجه بقلة الأدب. شاهدتهم ينسابون كمخاط في الأوضتين والصالة. بهدلوا العفش بحثا عن أشياء ما، إنتهي تفتيشهم بالعثور علي كتب وأوراق. رأس المال، تاريخ الحركة الوطنية، خريف الغضب. روايتان، حادث النصف متر وبيت الياسمين. ثم ديوان شعر مكتوب بخط اليد لنجيب سرور وبعض أعداد من صحف قومية ومعارضة. كراسة مذكرات وراديو ترانزستور صغير وصورة لمناضل من أمريكا اللاتينية. مثل حشرة هائمة يلتقط كتاب من تحت المخدة في أوضة النوم. يقلّبه بين أصابعه في هدوء ثم يشير به إلي موسي مستفسرا.يقول إن معالم في الطريق موجود في فتارين المكتبات وهو ليس ممنوعا. يردد في برود

ـ ح نشوف
فزع هائل يدفع كوثر للبكاء تفشل معه محاولات لبني لتهدئته. يأمرهم بتحرير المضبوطات واقتياد موسي الي البوكس. يزداد ارتعاب كوثر وتبدأ لبني في التصرف مثل قطة مسعورة. تشبط في عنق الطويل تحاول تخليص موسي الذي حاول مباشرة بعض المقاومة في الطرقة أمام باب الشقة وباءت محاولته بالسقوط علي السلالم. يهتف : ياجدعان دا انا شيوعي، إنتو كده حتودوني ف داهية. يدافعه اثنان بدبشك البندقية فيما ينهال عليها الطويل ببيادته الميري فوق ظهرها ثم يحتويها ويجرها داخل الشقة ويوصد الباب. تحس بالاحتراق إزاء وساخة تستنشقها مع ذرات الهواء في الكنبة الأخيرة من الميكروباص. ساقها اليسري كانت مرفوعة فوق ظهر الكرسي التالي لكنه يزغدها في كتفها كي تخليها معاه شوية. تباغته
ـ جري إيه وحياة ماما، ماتخلص وانت ساكت.


(6)

بروفيل إمراة سيئة
يمنح دخان سيجارة البلومونت لبني تنميلا يسري في جذعها المتعري. تهمس بنبرات مبحوحة تجاهد ألا تقلق كوثر المتكورة في الفراش مثل جنين يقبع في الظلام
ـ مش عيب تدخل علي واحدة عريانة من غير استئذان.
يتكلس عند باب الأوضة يسأل
ـ كنتِ فين لغاية دلوقت ِ يا مرات أخويا.
تنقبض شفايفها وتسير إلي الصالة والكلام يفرفط من تحت أسنانها، كل ليلة تسأل نفس السؤال ونفس الرد، شئ لايخصك. ثم تهبد الباب علي المغروزة في السرير تلوح
ـ قومي شوفي جوزك.
تتجاهلها وهي تنفض كل مافي قلعها من سباب وتثبت الخرطوم في حنفية الحوض وتدليها في برميل الغسالة. تغمر هدومها وهدوم البنت المتسخة في الماء المخلوط بالبرسيل. يباغتها إحساس بإمتلاء المثانة فتدخل الحمام بعد دقائق من الشتائم المتواصلة تشد السيفون وتلقي العقب في المرحاض ثم تعيد الغطاء.
تكتشف نسيان الحنفية مفتوحة وإن المياه تسيح من الغسالة علي الصالة تغمغم
ـ ناقصة
وتبادر بمسحها بخيشة جافة. تتمني لو يأخذهم ربنا أو تمنح بدنها المكدود لوثرة المرتبة القطن. يدب في عروقها نشاط مفاجئ فتنتر الذنوبة وتمشي حافية. يمنحها ابتراد البلاط أفكاراً سيئةً تنفذها علي الفور. كان الصوت يأتي من وراء باب ينفتح عليهما باستفزاز. أمام عينيها تروح وتجييء لبني عارية إلا من سليب وسوتيان وكأنها جُنت. ثم بدأت تزعق.


(7)

تراودها البلاطات التي خرجت من معركتها مغسولة. تفكر، هل تضاؤل عشرين ثانية في المدي مؤثرة؟


(8)

قام الرئيس العراقي صدام حسين فجر الخميس 2/8/1990 بغزو عسكري للكويت. يوم 12 أغسطس طرح مبادرة تربط الانسحاب من الكويت بالانسحاب الاسرائيلي من الاراضي المحتلة. في عمان بالأردن يصدر أحد قادة منظمة التحرير الفلسطينة عن دائرة الافتاء فتوي تعتبر كل من يساند الأنظمة الرجعية بالدول العربية مرتدا عن دين الإسلام وخطيب المسجد الأقصي يقول أمام عشرة آلاف مصلي " القادة العرب يمنحون أراضي المسلمين للأمريكيين ". ويصدر ياسر عرفات بياناً يدعو إلي انتفاضة شعبية عارمة تنادي بسقوط الأنظمة الرجعية الخائنة. ثم قام العراقيون ليلة 18 يناير 1991 بإطلاق أول صاروخ من طراز سكود يسقط منفجرا علي أطراف تل أبيب. قوبل النبأ بصيحات التكبير والتهليل المتكررة من جنود مصريين وسوريين يتابعون محطات الراديو في حفر الباطن. ثم خرجت مظاهرات التأييد للعراق من كل أنحاء الدول العربية. الأردن، اليمن، الأراضي المحتلة، السودان والجزائر. في السودان، بدأت المظاهرات منذ 4 أغسطس كأول مظاهر التأييد وانتشرت صورصدام وعرفات وعبد الناصر وتلقت سفاراتا مصر وأمريكا النصيب الأكبر من السخط الذي توجهه الجماهير وأُعلن عن فتح باب التطوع للحرب في صفوف العراق وظهرت موضة جديدة للزي الشعبي المميز للمراة السودانية أطلق عليه ( ثوب صدام ). في الجزائر، قادت جبهة الإنقاذ مظاهرات ضخمة ضمت 400 ألف فرد شاركت فيها كل الأحزاب السياسية. في مصر، وصف حزب العمل التحالف الدولي بحملة صليببة ضد قيام الإسلام والعروبة وانتقدت جريدة الشعب بشدة دور السوفيت في التفاوض مع العراق قبل الهجوم البري الذي اندلع يوم 25فبراير ووصفت الدور السوفيتي بالدور الفاسد واتهمتهم بخيانة العراق وربطت التورط السوفيتي في هذه الأزمة بخداعهم لعبد الناصر 1967. وصرح عمر عبد الرحمن زعيم جماعة الجهاد الأسلامي من منفاه في الولايات المتحدة أن المسلم الذي يُقتل في حرب لايخوضها من أجل إعلاء كلمة الله لايُعد شهيداً. ثم في السعودية، المفتي السعودي عبد العزيز بن باز يصدر فتوي دينية تقر بوجود قوات التحالف لمقاومة العدوان والدفاع عن البلاد. تبدو الحرب في الخليج مثل حرب فتاوي غير مقدسة. لبني.


(9)

حادثة أتوبيس
تنسحب من الاضواء المنثالة في ميدان رمسيس إلي زحمة الأتوبيس. تجاوز العقار العاشرة ليلا واللُند في السقف تبعث نور يلون الوجوه بشحوب. يندفعون في شارع الجمهورية وتتمطى تريد اللحاق بالفضاء العائم فوق الأدمغة. تلتقط أصابعها العمود الممدود تلتمس العون ضد الإرتجاج. تقاوم رغبة لحوح في تدخين سيجارة تبدد اضطراب أطرافها. تمط شفتيها المصبوغتين كما لو كانت تمنح بوسة لرجل ما. تردد لنفسها
ـ اللي يعرفك يالبني مايقلعكيش من رجله.

وبدت ملامحها خالية من التعبير. هل أغوت قبلتها رجلاً يتربص بمؤخرتها المغروزة في الوسادة البشرية المحيطة. يعرض صبي مفكات بربع ثمن يقول مهربة من بورسعيد. يعبرون التقاطع مع شارع 26 يوليو ويصيرون في ميدان الأوبرا. الآن تتأكد ثمة من يقبض علي مؤخرتها فتغمر فضاءها بنظرة يشوبها توتر. تفكر في النزول، هل يعرفها. يباغتها مشهد البدينة مُفترسة فوق طرابيزة السفرة. كم رجل مارس معها الجنس وترك في حقيبتها ورقة نقدية ؟ لعلهم مئات. يتسلل إلى صدرها انقباض مثل خدر يسري في أعصابها. تنهار مقاومتها كحائط ثلجي وتلتقط علبة البلمونت والكبريت. لاتدري لماذا تهاجمها فكرة أن الله قد تخلي عنها منذ البداية. تفشل في الحصول علي دخان أكثر من نفسين من السيجارة فتتركها تسقط تحت الأقدام. لماذا تبدو الوجوه مألوفة وباعثة علي الانقباض في آن ؟ يسحبهم الكوبري تحته عند تقاطع بور سعيد ويقذفهم في شارع الأزهر. تحتد شوكة ألم ينبعث من جنبها ويسيل دم. لماذا تفكر بشكل أخلاقي. تلقي أنوار المحلات والبازارات بظلال خافتة عبر النوافذ علي وجوه مكدرة. تتمتم عابثة ماذا تفعل البدينة حتي تقاوم الذوبان إذا كان الله قد تخلي عنها، وتشعر بإرتياح يغمرها. تفكر في وضع حاد. يمارس ضغطاً أكبر وقد قارب الإفراز ملوثا وركيها فيما يصعد الاوتوبيس الي الدّراسة.

* * *

تحس ببدنها يطير عبر الاوتوبيس. وكانت سيارة آتية من الخلف.