يتناول الناقد العراقي هنا رواية «شارع المحاكم» للكاتبة الإماراتية أسماء الزرعوني حيث تنبثق هوية جيل أنثوي جديد يحمل بيديه ولسانه مشروعه التواصلي، لكنه المشروع الذي سيصطدم بهوية العُرف والتقاليد المغلقة التي جُبلت عليها الحياة الموروثة في مجتمع الرواية.

تجليات الأنوثة الواعدة وهويَّة الأعراف المجتمعية

قراءة في رواية «شارع المحاكم» لأسماء الزرعوني

رسول محمد رسول

فيما مضى، كنتُ قد درستُ أول رواية للكاتبة الإماراتية أسماء الزرعوني (الجسد الراحل/2004) في كتابين لي (1). وفي خلال سنوات أخرى تلت صدور تلك الرواية، كنتُ أنتظر منها نشر روايتها الثانية، التي أخبرتني يوماً أنها باتت جاهزة للنشر، حتى جاء العام 2011 لتصدر بعنوان (شارع المحاكم/ متوالية الحب والوجع) (2).

تكمن شاعرية عنوان الرواية (شارع المحاكم) في المفارقات التي تحدثها دلالته لدى المتلقِّي؛ لكن ما يتقدَّم متن الرواية هو الإهداء أو "إهداء"، وهو نص مصاحب Paratextuel أو عتبة نصية Seuils\ تستحق أن نتوقَّف عندها لأنها ستعمل على تشفير المتن الروائي برمته Encoding بقدر ما ستفكُّ ذلك التشفير Decoding، وتلك لعبة الخيال الخصب التي تتمتَّع بها تجربة أسماء الزرعوني السَّردية فيما تكتب سواء في القصة القصيرة أم في الرواية.

عندما نقرأ نص الإهداء أو "إهداء" = "Dédicace" (3)، كما فضَّلت الزرعوني اشتقاقه، سنجد أنه يعبِّر عن كينونته كخطاب موجَّه إلى المتلقِّي أو قارئ النَّص في فاعليته العامة؛ خطاب سيكشف عمّا يريد قوله المتن الروائي رغم طابعه الشَّخصي؛ فالمُهدى لها Dédicataire هي "بدرية ربيع"، صديقة المُهدي Dédicateur "أسماء الزرعوني"، وهذا يعني أنه إهداء خاص وشخصي؛ فعلى ما يبدو، أن المُهدى لها، كانت قد ارتبطت بعلاقة حميمية مع المؤلِّفة تمتد لعقود طويلة، وتبدو مناسبة الإهداء سبباً في وجوده، بل في وجود الرواية كعمل إبداعي كون "بدرية ربيع" قد رحلت عن الدُّنيا، وما الإهداء سوى وفاء لتلك الأنثى/ الصديقة التي رحلت، وتركت المؤلِّفة تنسج الذكرى آلاماً، وشعوراً بالفقد، وهو الفقد الذي آثرت أسماء الزرعوني استثماره إبداعياً، وذلك هو ديدن المبدعين في حياتهم. لكن هذا الإهداء سيمارس وظيفة أخرى، ألا وهي فك النَّص على أحداثه وأزمنته المصطفاة، وعلى بقية فضاءاته الأخرى؛ كالأمكنة، والشُّخوص، والأهواء، وبقية العوامل الأخرى المشاركة في بناء المتن الروائي وخطابه.

دعونا نقرأ متن الإهداء لنقف عنده قليلاً: "صديقتي الغالية بدرية ربيع: لقد رحلتِ، وأنا أعدكِ بأن أرسم ملامح شارع طفولتنا، لم استطع حبس دمعاتي، وأنا استرسل مع قلمي المشاكس في تضاريس الحكاية، كنتِ أكبر حكاية عندما تركتني ورحلت بهدوء" (ص 5).

يضمُّ نص الإهداء أربع وحدات قرائية يمكن تصنيفها كالآتي: 1. "لقد رحلت،.... ورحلت بهدوء". 2. "وأنا أعدكِ بأن أرسم ملامح شارع طفولتنا". 3. "لم استطع حبس دمعاتي وأنا استرسل مع قلمي المشاكس في تضاريس الحكاية". 4. "كنتِ أكبر حكاية عندما تركتني". 

في الوحدتين القرائيتين، الأولى والرابعة، ثمَّ إخبار بأن المُهدى إليها قد توفيت. وفي الثانية، يوجد وعد ووفاء بأنَّ رفقة الماضي ستكون خالدة عبر نصٍّ سردي ـ إبداعي، ويتخذ فعل السَّرد هنا ملفوظ إجرائي هو "الرَّسم"، وهو دال استعاري = فعل الكتابة السَّردية.

كما أن هذه الوحدة ذاتها، تتضمَّن إشارة إلى عنوان الرواية؛ فـ "شارع المحاكم" هو شارع طفولة الطرفين؛ المُهدية والمُهدى إليها معاً، إنه الشارع الأيقونة Icon في فضاء المتن الروائي الذي سترسُم الناصَّة ملامحه الكينونية المتخيَّلة، وتصطفي كل ما دار فيه ما يخدم برامج الرواية السَّردية.

وفي الوحدة القرائية الثالثة، ستنجلي الأهواء Passions التي سترافق عملية الرَّسم أو فعل الكتابة السَّردية، إلى جانب تمثيل مصطلح "الحكاية" الذي ستكون الوحدة القرائية الرابعة معادله التنفيذي، وارتقاء دلالة الوفاء إلى ذروة الفعل المشهود، وفي الوقت ذاته تثوير العلاقة بين "فعل الرحيل" و"فعل الكتابة"، فعل الرحيل الذي سيتحوَّل إلى مهماز لا فكاك من الاستجابة إلى ندائه عبر الكتابة، لكونه ـ أي الرحيل ـ بدا الحكاية الكبرى التي لا مناص من الإذعان إلى صوتها مسروداً.

نعم، كان "الإهداء" نصاً مصاحباً، وكان عتبة، وكان رفيقاً كنصٍّ محيط، لكنه النَّص الذي فتح أفق القراءة، كما فتح الرحيل لدى أسماء الزرعوني أفق الكتابة السَّردية في روايتها الأولى (الجسد الراحل).

اكتسب موت "بدرية رفيع" زمنية الماضي، لذلك يجيء السَّرد لما مضى، فالرواية، من الإهداء إلى المتن، هي اشتغال استعادي، تذكُّر، ووفاء، ورسم وسرد لما جرى Flashback. وبين (الجسد الراحل/ 2004)، و(شارع المحاكم/ 2011)، ثمة تكريس لفعل الرحيل، "عيسى المزلاي" في الرواية الأولى يرحل مكانياً، وبدرية رفيع في الرواية الثانية ترحل وجودياً، وبين نمطي الرحيل، تمضي اشتغالات السَّرد في تجربة أسماء الزرعوني الروائية. وفي الرواية الثانية سيشتغل الرحيل المكاني والوجودي على نحو فاعل لدى الفاعلين فيها؛ كما هو الحال بالنسبة إلى "سيف العماني"، و"سعود"، و"شيخة"، و"سلوى"، و"العنود"، و"فهدة" من حيث الرحيل المكاني، و"وليد العراقي" من حيث الرحيل الوجودي أو الموت. لقد بحثتُ في المتن الروائي عن بدرية رفيع من حيث التشابه بينها والإناث الفاعلات في الرواية، لكني لم أجد أية إشارة دالة على هويتها، ولكني وجدته متوثبة في ذات كل أنثى تشتغل كفاعل في أحداث الرواية.

مع هذا الإنهمام بالماضي واستعادته تمثيلاً إبداعية متخيَّلاً، فإن بداية الخط السَّردي تنطلق من "حاضر"؛ حاضر زواج "العنود" ابنة "سلوى/ الأم" التي ما راقَ لها ابتعاد ابنتها عنها في ظل الشُّعور بالوحدة الذي هيمنَ على كينونتها كأم، وهو شعور معتاد في مثل هذه الحالات، لكنه الشُّعور الذي وجدت الناصَّة Textor فيه فتحاً لحكاية الرواية، حتى إنها أطلقت على الفصل الأول من فصول الرواية اسم "ليلة الذكريات"؛ لذلك، ومن باب التكيُّف مع مآلات الشُّعور بالوحدة، خرجت سلوى من منزلها، وتوسَّلت سيارتها قاصدةً "شارع المحاكم" في مدينتها الشارقة، لكنه الشارع الذي لم يعُد أثراً  Trace سوى في ذاكرتها؛ فقد مسخته المدينة الحديثة، مدينة الأبراج والإسفلت: "أين ستجري بين ناطحات السَّحاب، وأنفاس الغرباء؟" (ص 9). فتعود سلوى أدراجها إلى المنزل حزينة، وتستلقي على سريرها، وتستعيد الماضي، تقول السّاردة: "رجعتْ إلى البيت، لا أحد يحس بها، زوج لا يتحرك، وجدران صلبة تزيد في وحشتها، والوحيدة التي تحمَّلت من أجلها قسوة السنين، تركتها وذهبت، لتبدأ حياتها الجديدة، تقلَّبت على سريرها، بحثت عن النعاس، لا جدوى من الذكريات، فالصور اجتاحتها، لا بل النعاس، استرسلت معها، وعاشتها كأنها تعيش يومها، وجلست تُعيد في ذاكرتها قصَّة كل واحدة منهن" (ص 11).

بدأت سلوى بحكاية غرامها مع سيف العُماني (5) الذي عشقته رغم الفارق الطبقي بينهما؛ فهو مجرَّد شاب فقير الحال، وعامل وافد إلى الشارقة يعمل عند والدها التاجر "خليفة المرواس" (ص 25)، لكنها، وبحكم السُّلطة الطبقية التي تتمتَّع بها، تصارح العُماني العشق، ويبادلها الشُّعور ذاته (ص 19). لكنه يشدُّ العزم على تعديل أوضاعه المالية أو الطبقية فيرحل عنها مكانياً إلى أبوظبي لتحقيق هدفه أن يصبح ضابطاً في جيش الدولة الوليدة بالإمارات.

تبدو حكاية أو مدار عشق سلوى لسيف مركزية في الفصل الأول، لكنها الحكاية التي جذبت إليها حكايات مساعدة في الفصل الثاني "بوح العاشقات الصغيرات"؛ فلسلوى صديقات بالمدرسة، منهن "زهرة" الشِّيعية التي عشقت "عبد الرحمن" الذي كان يعمل مع والد سلوى (ص 12)، و"موزة" التي عشقت "وليد العراقي" (ص 21)، و"شيخة" التي تعشق "صلاح المصري" (ص 25).

ولنلاحظ هنا، أن العلاقات الإنسانية مع الآخر أو الوافد في مجتمع الرواية المسرود Narrated society، قائمة على التواصل الاجتماعي في أدق المشاعر والأحاسيس الغرامية أو العشقية، ما يعني أن الآخر The other كان شريكاً منتجاً في صناعة الحالة الوجدانية والأهوائية في المجتمع، وهذا ما سنجده في الفصل الثالث "بداية انفراط" لكن هذا الشَّريك سيعاني من صرامة العرف الاجتماعي السائد وهويته المغلقة تعصباً في المجتمع "مجتمع مغلق، مجتمع قاسي" (ص 74)؛ فالإرادة الأنثوية عندما تقرِّر أن تختار، غالياً ما تواجه جحيم العُرف والتقاليد بمزيد من القهر والحرمان، ولعل المآل الذي مُنيت به "شيخة" خير دليل على ذلك؛ لكن شيخة التي أحبت "صلاح المصري" وتزوجته أمام الملأ، وبحضور أسرتها، قوبل زواجها بالرفض والإقصاء المجتمعي، وأوله رفض وإقصاء أهلها اللذين حرَّموا عليها دخول منزل الوالدين، بل و"أصبحت منبوذة من أهل الحي كالوباء"، ولم "يشاركها أحد فرحتها"، وسط إعلان "الجميع مقاطعتها" (ص 36)، فلم "يحدث في عائلتهم، بل في الحي كله، أن تتزوَّج أحد من غير أهل البلد" (ص 34). وهنا، تتساءل والدتها: "ألم تعصي أمرنا وتخذلنا؟ ألم تخرج عن طوعنا؟ ألم تجعلنا حكاية على ألسن الناس؟" (ص 41). ولكن، ورغم ذلك، هاجرت "شيخة" برفقة "صلاح المصري" الشارقة بعد أن تزوجا، ومضت لتعيش في إمارة عجمان، ولتشتغل هناك "معلِّمة" بإحدى المدارس، بينما يعمل زوجها في القطاع الخاص لتنتصر هوية الحب والإرادة الأنثوية على جحيم التقاليد والأعراف المغلقة.

مآل أنثوي أخر يدخل في تمثيلات ما هو مستعاد في مخيَّلة سلوى، ذلك هو مدار الطفلة اللقيطة التي تم إيجادها على عتبة منزل "مصبح"، خال سلوى، والذي لا تنجب زوجته "آمنة" أي طفل. ففي الفصل الرابع، "قدر المرأة"، سيتم تمثيل Representation الذات الأنثوية كآخر As other سعودي لكون "فهدة" امرأة جاءت من السُّعودية هرباً من عار سيكلفها الكثير من الآلام والفضيحة فيما لو بقيت في وطنها؛ فلشدَّة عشقها لحبيبها "حمود" كانت قد "سلَّمت له نفسها قبل إعلان الزواج" (ص 51)، لكن "حمود" مات قبل دخلة الزواج وترك في رحم حبيبته جنيناً، لتقرِّر عائلتها الرحيل عن الوطن شطر "فريج الشوهيين" بإمارة الشارقة، لتضع طفلتها في الديار الجديدة، لكن والدتها "أم تركي" تقنعها بضرورة التخلُّص من الطفلة، برميها عند عتبة منزل "مصبح"، الذي لم يُرزق بأي طفل، فيأخذها وسط فرح غامر، بينما كانت والدتها الحقيقية "فهدة" تتلوى ألماً بأنها فقدت قطعة من مهجتها، وستسمى الطفلة فيما بعد بـ "عفراء" (ص 51). ولعل ما زاد آلام فهدة أن بيت مصبح كان ملاصقاً للبيت الذي تسكنه، حتى إنها صارت تسمع صراخ ابنتها إذا ما بكت، وكان ذلك قد سبب لها الكثير من المتاعب النفسية. وفي ظل هذا المشهد المأسوي، بدأت الشكوك تساور سلوى بأن هذه الطفلة ليست لقيطة، ولا ابنة زنا Foundling، فـ "وراءها حكاية" (ص 56) (6)، لكن مدار Topic هذه الشكوك لم يتطرَّق إليها السَّرد حتى آخر الرواية، باستثناء زواج فهدة من إماراتي.

مآل أخر يرتبط بكينونة الآخر المختلف، حرصت الناصَّة على تسريده في الفصل الخامس "أوجاع جديدة"، ألا وهو موت "وليد العراقي" المفاجئ، وليد الأعزب والوافد الغريب في "فريج الشوهيين" بشارع المحاكم، موته الذي كشف عن عاشقة أخرى له ألا وهي "عوشة"، ابنة عم سلوى، التي نحبت موته بألم وحرقة وهي التي كانت تعشقه بصمت. ومن محاسن الصدف في هذا السياق أن "موزة" هي الأخرى عرفت بموته، وهي التي كانت تعشقه في مرحلة من حياتها، "اقتربت منها موزة، عانقتها، بكت على صدرها، أخذتها بعيداً عن الكرنفال الحاشد أمام بيت وليد: خذي راحتك يا عوشة، ابكي، فضفضي" (ص 61).

للآخرين المختلفين أيضاً مصائرهم في مجتمع الرواية، فبين ولادة "عفراء"، وموت "وليد"، وبين عشق "فهدة" لطفلتها، وعشق "موزة + عوشة" لـ "وليد"، تنساب متوالية الحب والوجع في مسارات الأحداث بالرواية. وهنا تتجاور، بقدر ما تتقابل، جملة الأهواء الناتجة عن مشهديَّة الشُّعور بالفقد وبالافتقاد لدى الذوات الأنثوية؛ افتقاد موزة + عوشة لوليد، وافتقاد فهدة لطفلتها الوليدة عفراء. لكن مسار مآلات من هذا النوع لم تنته بعد، ففي الفصل السادس "شوق المسافات البعيدة" تُعيد الناصَّة تسريد حكاية سلوى + سيف، وسلوى + عبد العزيز، ابن الجيران، الذي يعشق سلوى بصمت، لكنه يرحل مكانياً عنها إلى أبوظبي للعمل في سك الشُّرطة، وقبيل ذلك يودعها وجهاً لوجه، ويخبرها بأن كل النقوش والكلمات Epigraphy التي يرسمها على الجدران كانت لها: "أنا ذاهب يا سلوى، استوحش المكان وأكثر شيء أخسره في رحيلي هو أنتِ، كلما اشتقتِ لشقاوتي، إقرائي الجُمل والعبارات التي رسمتُها على جدران الحي، كلها لك يا سلوى" (ص  76). يغادر عبد العزيز المشهد وتبقى سلوى تعاني مشهدية رحيل حبيب لم تتوقَّع إعجابه بها، إلا أن سلوى، وفي نهاية الرواية، ستكتشف سلوى، بعد أن استيقظت من تمثيل الماضي، أن عبد العزيز أصبح ضابطاً له شأنه في شرطة الشارقة.

تؤول مدارات هذا الفصل إلى أحداث فاصلة؛ فبينما تنتظر سلوى عودة حبيبها سيف الذي سيتخرج ضابطاً في أبوظبي، ستكتشف زهرة أن عبد الرحمن تزوَّج من ابنة عمه (ص 90). أما موزة فسيساورها الشَّك بموقف ابن عمها سعود (ص 86)؛ سعود الذي تزوج من "مها" ابنة عم حنفي البقال في مصر (ص 84)، ويكون بذلك قد خان حبه لموزة، وهي الحالة الثانية التي يتزوَّج فيه إماراتي من مصرية بعد زواج فهدة السُّعودية من عيلان الإماراتي. لكن ثمَّ تمثيل حرصت الناصَّة على تسريده في نهاية هذا الفصل ألا وهو زواج "صالحة" الإماراتية من "غازي" الفلسطيني. ناهيك عن تسريد Narrating جملة التغيرات المكانية التي فرضتها طبيعة التطورات العمرانية بالشارقة، فقد انتقل منزل سلوى من "حي الشوهيين" بشارع المحاكم، إلى "منطقة ميسلون"، و"شارع الزهراء"، وانتقال إحدى صديقاتها إلى منطقة "القادسية" بالإمارة نفسها. إلا أن تغيرات سكن الذوات الأنثوية مكانياً،لم تثن الصديقات من تواصل وتيرة البوح العاطفي المتبادل.

اندفع الخط السَّردي في الفصل السابع "المكاشفة والرفض والهروب" اندفع شطر لحظة مصيرية في الحياة العاطفية لسلوى التي صارحت والدتها بخطبة سيف لها، لكن رد الفعل كان صريحاً في الرفض بدواع ما هو طبقي؛ فلكون سيف أصبح ضابطاً في الجيش الإماراتي، فإن ذلك لم يعف من كونه كان خادماً لدى والد سلوى: "أنتِ تتكلَّمين بجد، هذا مستحيل، إن شاء الله لو كان وزير، اسمه سيف، وكان خادم عند أبوك" (ص 95)، والكلام لوالدتها: "ما بقى إلا الخدم يطلبون بنتنا" (ص 94)، ومن ثم "أنسيتِ أنك ابنة خليفة المرواس، وأمك زوينة بنت سلطان؟ تهربين مع خادم، والله ما عرفت أربِّيك، انقلبت الموازين، خدمنا يتجرؤون علينا" (ص 103) (7). لكن سلوى ستهرب إلى مدينة صحار العُمانية مع سيف مدفوعة بغرامها ووفائها لمن أحبت، وهناك سيتم عقد قرآنها في بيت أخت سيف، وسط اشتعال نار والدتها التي تنتظر صباح اليوم التالي لتبحث عن ابنتها، وعندما وصلوا إلى هناك، أخذوا سلوى عنوة من زوجها، وطلَّقوها، لتعود أدراجها إلى الشارقة، ويتم إنزال جنينها من سيف قسراً، وبعدها ستتزوج إجباراً  من "مطر"، مطر الإماراتي الذي توفيت زوجته وله ولد منها، لتعيش سلوى معه حتى أنجبت منه ابنتها "العنود"، لكنه الزوج سقط مريضاً بالشلل لتصبح "ممرضته" (ص 111)، وليعود السَّرد إلى حاضر ما بدأت به الرواية؛ إلى يقظة الواقع، واقع حال سلوى التي لم تداوي الأيام جراحها، ولم تمسح عن مخيلتها ذكريات تأزمت، وأكلت كل أحاسيسها.

لقد وضعتنا رواية (شارع المحاكم) عند تخوم ما كان يجري في مجتمع جيل إماراتي أنثوي خرج من خيمة التعليم الملائي المنعزل إلى فضاء التعليم الحديث، التعليم المنظَّم، وخرج للتو من نمط تواصل بدائي إلى نمط تواصل عابر للمكان المحدود حيث المعرفة والكتابة، ومن العواطف والأهواء المحبوسة إلى العواطف والأهواء والآمال الباحثة عن الحرية وإرادة الاختيار.

في رواية أسماء الزرعوني هذه، تنبثق هوية جيل أنثوي جديد يحمل بيديه ولسانه مشروعه التواصلي، لكنه المشروع الذي سيصطدم بهوية العُرف والتقاليد المغلقة التي جُبلت عليها الحياة الموروثة في مجتمع الرواية. ولذلك، كان العقاب الطبقي والجهوي والمذهبي سيداً في مصائر النماذج الأنثوية التي تقدَّمت الرواية بتسريد برامجها؛ فقد تكون شيخة ظفرت بصلاح المصري، ولكنها واجهت عقاب الأعراف والتقاليد إهمالاً وطرداً من أهلها وعشيرتها، وقد تكون صالحة الإماراتية أفلحت بزواجها من غازي الفلسطيني، لكن الرواية غيَّبت مواقف الأهل، وحراك الممانعة الغائبة، وقد يكون سعود تمرَّد على هوية العُرف عندما أفلح بالزواج من مها المصرية، لكنه خلَّف آلاماً لـ "شيخة" ابنة وطنه، وبذلك احدث شرخاً في مزاج ذكورية العُرف المجتمعي، وقد تكون فهدة أفلحت بالزواج من عيلان الإماراتي، ولكن جرحها لم يندمل بفقدان ابنتها، فكانت ضحية للتهيج الغريزي، وللقدر الذي أمات خطيبها قبل ليلة العرس، أما سلوى فقد لاقت المصير الأشد قسوة عندما حكَّمت مآل تحديد مصيرها بإرادتها، إلا أنها وقعت في فخ العُرف والتقاليد القاسية التي لم تذعن إلى رغبتها، فعادت أدراجها خائبة إلى منزل طاعة الأب من رحلة الحرية وتقرير المصير والاختيار، واستجابت بما ليس له حول ولا قوة ولا خيار لسلطة الأهل والعشيرة وهوية الأعراف المنغلقة لتتزوج من رجل أرمل.

تلك هي حكايات بنات "فريج الشاهيين" في "شارع المحاكم" بالشارقة، وتلك هي أهوائهن ومصائرهن فيما كتبت أنوثتهن فعلاً وهي تواجه ما فرضته الأعراف والتقاليد.

إنها حكايات أنوثة جديدة تبحث عن حرية التواصل، وحرية الهوى، وحرية تقرير المصير، تبحث عن هوية جديدة أكثر تسامحاً وحباً للغير والآخر، وأكثر عشقاً للمآل الإنساني المفتوح.

 

الهوامشـــــ

(1) د. رسول محمد رسول: "تمثيلات المرأة في الرواية الإماراتية"، ص 81 وما بعدها، وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، أبوظبي، 2010. و"الجسد في الرواية الإماراتية"، ص 108 وما بعدها، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، أبوظبي، 2010.

(2) أسماء الزرعوني: شارع المحاكم/ متوالية الحب والوجع، رواية، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2011.

(3) المصطلح بالفرنسية.

(4) عبد الحق بلعابد: عتبات جيرار جينيت: من النَّص إلى المناص، تقديم د. سعيد يقطين، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2008.

 (5) سيكون اسمه "سيف الخابوري" (ص 109).

(6) ستتزوج "فهدة" لاحقاً من "عيلان"، الإماراتي الذي توفيت زوجته (انظر ص 88).

(7) عندما ستذهب والدة سلوى إلى عُمان برفقة ولدها "سلطان"، سيخاطب سيف قائلاً: "دعها بالخائن؛ كيف تجرأ على أسيادك؟" (ص 110).