التمشكل مع هذا السؤال-سؤال الماهية والوجود لا يحمل ماضيا مجيدا، بل يمكن التأكيد بأنه تاريخ خيبات، وكانت المواجهات مع هذه الإشكالية تتسم على الدوام بنزوع دونكيشوتي، فلقد ارتد عنه الفكر الفلسفي خاسئا وهو حسير، بل نزيد ونقول أن هذا السؤال قد حير عقول الأنبياء وطير ألبابهم، وقصة العزير معروفة وهي تتشابه في جوهرها مع قصة النبي إبراهيم، فكلاهما أراد أن يعرف ماهية الموجودات قبل أن توجد، كيف كانت في حال عدمها، ما هو شكل الماهية المحضة التي لم تتعلق بعد بأي موجود؟. هل كانت أفكارا في عقل الإله تنتظر دورها في التحقق حسب برمجة إلهية أزلية؟، هل كانت عدما محضا كما يذهب اغلب العارفين؟، ويتضح من النصوص القرآنية أن الأنبياء أرادوا -بدافع الفضول البشري- التلصص عل اللحظة الدراماتيكية التي ينتقل فيها الموجود من حال العدم المحض أو الماهية الخالصة إلى الوجود العيني الملموس المتحقق، ولقد أجاب الإله على حيرة الأنبياء وفضولهم بان أراهم الصيرورة فقط، أراهم كيف تتحول المادة الميتة بشكلها البدئي الى كائن حي يزخر بالوجود وينبض بالحياة، فلقد شاهد إبراهيم نتف الطائر وهي تتجمع ثانية بعد تمزيقها لتصبح طائرا حيا، وشاهد العزير الحمار وهو يتحول من حالة العظام الرميمة الى كائن حي ينبض بالحياة، لقد شاهدا تحولات المادة، اعني الصيرورة فقط، ولكنهم لم يشاهدوا ما قبل المادة. العدم المحض، لم يشاهدوا العدم المحض وهو يتحول الى وجود انطولوجي متعين، هذه اللحظة هي سر الصنعة الإلهية، ولا ينبغي لبشري أن يطلع عليها أو يتلصص على قدسيتها.
ما الذي يدعو موسى حوامدة الى التمشكل مع هذه الإشكالية ذات التاريخ الشائك سوى النزوع الدونكيشوتي الذي يميز الشعراء عمن سواهم من البشر، سؤال الماهيات نراه ماثلا ومتمددا على مساحة الكثير من نصوص موسى حوامدة، ولقناعة شاعرنا أن هذا السؤال يتعالق مع أسرار اللغة بوصف اللغة كلا لا خارج له فإننا نراه يبدأ مهمته بامتحان احد مفردات اللغة واختبار قدرتها على الإيفاء بمتطلبات الإجابة عن احد جوانب هذا الإشكال، نراه يبادر إلى امتحان مفردة "الريح" والتي تشي بمحاولة مبكرة لتوظيف هذه المفردة وتوريطها في مهمة التعبير عن المطلق وانتدابها لتكون مسكنا للماهيات، وانأ اعد هذا الإجراء مشروعا، فأين ستسكن الماهيات إذا لم تتساكن مع المطلق؟.
في نصه الموسوم "سلالتي الريح وعنواني المطر" يفصح موسى عن مشروعه الوجودي الطموح وهو التجاور مع المطلق، ويعلن انحيازه واصطفافه لجهة الوجود الماهوي وأولويته على الوجود الاونطولوجي، ويعمد في ثنايا نصوصه إلى تقديم صور متنوعة عن هذا الوجود الماهوي، ويرينا انه وجود احتمالي قابل للتحقق، ولكنه بحاجة إلى خالق لكي يحيله إلى وجود عيني، ولكن الشاعر يأبى إلا أن يشارك الله في الخلق، ولا أرى أحدا يستحق هذه المشروعية (مشروعية الاضطلاع بالخلق) مثل الشاعر، وتظل صرخة غوته الملهمة التي أتته في لحظة كشف نادرة –حينما قال: فلنشارك الله في الخلق- تدور في فلك هذا المشروع.
لنقل أن مفردة "الريح" سبق اختبارها من قبل الفيلسوف كيركغورد وأثبتت جدارة تستحق الثناء في التعبير عن المطلق في تحولاته الوجودية، فلقد أسهب كيركجورد في وصف الريح التي تتواجد في الأماكن الواسعة المفتوحة حيث تصدر صفيرا رتيبا لا تباين فيه، وتكون بذلك معبرة بشك ممتاز عن المطلق قبل أن تدخل في الأماكن المأهولة والمؤثثة بالمباني، حيث يصبح صوت الريح مطابقا للاماكن التي يدخلها، يتلون بلونها، فنراها تتلون مع أصوات الخشب والمعدن والشجر والحجر، تبعا للمكان الذي تلج فيه، وأرى بوضوح أن بيتهوفن عندما كتب السيمفونية التاسعة، كان حاضرا في ذهنه صفير الريح الرتيب في الأماكن الواسعة الفارغة، فاستعمله للتعبير عن المطلق واستخدم آلات النفخ التي تصدر صوتا رتيبا لا تمايز فيه، ثم ليمزجها لاحقا مع الأداء الكورالي الذي ينشد نشيد الحرية لشيلر بوصف الحرية هي التوق للتماس مع المطلق.
يقول موسى في نصه الموسوم "سلالتي الريح وعنواني المطر"
قَبْلَ أَنْ تَرتطمَ الفكرةُ بالأرضِِِ
قبْلَ أنْ تفوحَ رائحةُ الطينِ
تَجولتُ في سوقِ الوشاياتِ
أحملُ ضياعي
أقتلُ نفسي
أنا هابيلُ وقابيل،
آدمُ أنا وحواءُ
نسلُ الخطيئةِ
وزواجُ السوسنِ من بيتِ الطيوبْ.
لعلِّي في نَسْغ الصنوبرةِ أو الأرزة
في طَمْي النيل أو قاع التايمز
لعلي ريشةٌ في جناحِ غراب
ذرةٌ مطمورةٌ في رمادِ منجمِ فحمٍ صيني
بعضُ فاكهةٍ أفريقيةٍ أو جذعُ شجرةٍ في بنما،
ظلامٌ يغطي القطبَ الشمالي
أو نهارٌ يشرقُ فوقَ المحيط الهادي،
لعلّي من أسلافٍ مَغول
أو من نسلِ قاتلٍ روماني،
لعلي من سلالة آشورية
أو من عائلةٍ كردية،
من بقايا الهنود الحمر
أو من كاهنٍ هندوسي.
من يَجزمُ أنَّ دمعَ العينِ لا يتغير
وأن ريحَ الخريف لا تعبرُ كلَّ أيام السنة،
من يضمن أن ترابَ المقبرةِ
لم يسكنْ غيمَ شتاءِ القرن السابقِ لميلاد سقراط،
من يثبت أن الحرارة التي طبخت جسد الفرعون تحتمس،
ليست نفسَ الحرارة التي تعبثُ بوجه طفلتي الصغيرة.
لَعلّي من أُممٍ كثيرة ورجالٍ كثيرين
لعلَّ لي جداتٍ روسياتٍ وعماتٍ اسبانيات
واثقٌ أن مياهَ الخلقِ تدورُ بين الوديان والشهوة
بين الحرير واللُّهاثْ،
واثقٌ أن لغتي ليستْ جسدي
وأن أصواتَ الطيور ليست غريبةً عن حركة الريح والمطر.
كنتُ طائراً في زمنِ الفُرسِ
صليباً في عهد قسطنطينْ
سيفاً في يد صلاح الدين
كأساً في يد الخيام
من يدلني عليّ ؟
لستُ قادراً على شتمِ كوكب المريخ
لا رغبةَ عندي لانتقادِ مسار الزهرة
ولستُ حريصاً على وقف هبوبِ المغناطيس
فوق عظام الأجداد الميتين.
معي ومضةٌ من سلاح الإله مارس
قبسٌ من نار بروميثيوس،
ومعي آياتٌ من القرآن
مزاميرُ من داود
تراتيلُ من بولص
مقاطعُ من بوذا
كلماتٌ من عبدالبهاء،
ش
لستُ عارفاً مطالعَ الفُلْكِ ولا مغاربَ الخلق
بدأتُ أعتادُ الدهشة
وأتجلَّى في مراياي!
أعرفُ من لا يعرفني
أخي الذي لا يمتُ لي بِصِلَةٍ ولم يسمعْ باسمي من قبل
أختي من قفقاسيا
عمتي من اليونان،
ربما وَشَمَ صوتيَ الأتراكُ
أو هذَّبَ وحشيتيَ البحرُ
ربما وُلدَ مني مزارعٌ فرنسي
أو سياسيٌ مخادعٌ في ايطاليا
ربما جئت من تراب لوس انجيلوس
أو من طين أثينا
من يعرف تاريخَ جسدي قبل ألفي سنة
من يملك بيضةَ الرُخِّ في يده
من يدلُّني عليّ؟
قلبي مليءٌ بوجيبِ العالم
خطواتي تأخذني لبيت النار الأول.
لعلَّكَ أنتَ مني وأنا من ثرى المريخ،
لا أنكرُ صلتي بزيوس
ولا أقرُّ بدمه في عروقي،
لا أطعنُ في صحة النهر
ولا أخبئُ البحر في خزانتي
سلالتي الريحُ
وعنواني المطر.
لسنا بحاجة الى المزيد من الشرح لكي يتبين لنا تمشكل النص بوضوح مع الإشكالية التي أسهبنا في عرضها، فالعنوان يباشر على الفور في تقديم الرؤية، ويصرح منذ المقطع الأول بالاحتمالية والحرية التي يمتاز بها عالم الماهيات نظرا لمساكنته المطلق، إن عبارات "قبل أن ترتطم الفكرة بالأرض" و "قبل أن تفوح رائحة الطين" تحيل بشكل لا لبس فيه الى عالم الماهيات، ويدفعني إغراء لا يقاوم أن اترك النص بين يدي المتلقي دون أي تدخل مني حتى لا افسد عليه متعة التأويل، فكل متلق سوف يقدم تأويلا جميلا يغني النص حسب ثقافته وحساسيته ومزاجه لحظة التلقي، ولكني سوف الفت النظر الى التوظيف الممتاز لمفردة الوشايات التي وردت في البداية، سوق الوشايات هو بالتأكيد عالم الماهيات، الأشياء حين تشي عن مستقبلها، عن المصير الذي ستؤول إليه بعد تحققها، والوشاية تحمل في مضمونها معنى التسرب، تسرب المعارف، التلصص على ما كتب في اللوح المحفوظ وإذاعته همساً، نص "سلالة الريح" يتكلم عن عالم الماهيات فقط قبل تحققها.
وعندما نعبر إلى نص (الفراشات) الذي يشي تاريخ إنشائه بأنه آخر النصوص التي أنتجها موسى، نرى بوضوح الميل إلى التجريد في هذا النص، والتجريد لا يليق إلا بــعالم الماهيات، وينخرط النص في مهمة جديدة هي كشف التعالق بين الماهية والوجود، الفراشات- وان كانت كائنات خفيفة خفة لا تنبغي لكائن متعين- الا أنها تنتمي إلى عالم الوجود أو لنقل بشكل أكثر مصداقية أنها تتواجد قرب منطقة البرزخ الذي يفصل الماهية عن الوجود، هي أخف الموجودات أو أثقل الماهيات (سلاماً على من خلقنا رمزا للرهافة)، قفزة بسيطة وتصبح في عالم الماهيات، ولذا لا نستغرب عندما يبدأ النص بقول الفراشات: نحن متزوجات من بنات أفكارنا، زواج بحكم التجاور، ولأن الفراشات تسكن عالم البرزخ مستودع الأسرار وموطن الحقائق فأنها تمتلك سجلاً رائعا لهذا التنقل الأزلي بين الماهية والوجود، إحدى الفراشات متزوجة من ضجر الزمن، وهنا تقدم لنا الفراشات توصيفات ومقارنات بين عالم الوجود وعالم الماهية، ومرة أخرى ادع النص بين يدي المتلقي دون أي تدخل مني حتى لا افسد عليه متعته التجول بين عالم الماهية وعالم الوجود، في هذا النص نلحظ بوضوح انحياز الشاعر إلى الوجود الماهوي وأولويته على الوجود المتعين، ولو شئنا لأفضنا بالحديث عن السلام الذي يسود عالم الوجود الماهوي المترفع عن صراع الكائنات الأرضية ورغباتها الثقيلة، الوجود الماهوي تتجاور فيه الأضداد بلا صراع كما تتجاور الأضداد في الأحلام، ما أجمل الأحلام قبل أن ترتطم بالأرض ولو شئنا لأفضنا عن الاحتراب الذي يسود وجودنا العيني وصراع الشهوات والرغبات الزنخة الملتصقة بـالطين، ولكننا سندع كل ذلك للنص لكي يقوله على طريقته الخاصة.
الفراشات
الفراشات قلن لي وقت الغروب
نحن متزوجات من بنات أفكارنا
قلَّ الذكور بيننا
فبتنا نحصي العدم
ولأننا لا نملك قدرة على الحزن
تزوجنا المساء
إحدى زميلاتنا متزوجة من ضجر الزمن
بينما الملكة منا تموت لتعطي جناحيها لإحدى المريضات الصغيرات
دونما عناء
نبكي على حريتنا التي لم نفتقدها في سوق النخاسة
نطير بشوق الى حتف الكلمات
التي تعطي النور مساحة للعتمة
وتحرمنا من ممارسة عاداتنا الليلية
وكما تتسعكون في شوارع البلدة ليلا
يضج بنا الملل
فنبني رفرفات من خيالاتنا
قصائد
لا يعرفها شعراؤكم المشغولون بقصقصة الهراء
وربط ما لا يستحق بقافية السأم
سئمنا أفكاركم عن الحب
عن الموت
واحترقنا في حريتنا
تمكثون هرمين بانتظار عزرائيل
نطير بطيئا لكننا نغير وجه الأفق
بينا تتكاثرون فوق الطين
تبنون قبورا شاهقة تحسبونها جنانا أو بيوتا
ثم تجلسون فيها تمارسون البصاق
والتأفف على القدر
مريضكم تحاصره الأوجاع والعلل
مريضنا حرٌ حتى في احترافه الأمل
لا نملك ما تملكون
لكننا نطير بلا قيود
ولا نتراجع عن ذبذبات الاجنحة
لا نغير العالم ولا نوقف قصف الرعود
أو نزول المطر
لكن الزلازل لا تصيبنا بمقتل
ولا تقتلنا الشرطة في الميادين
ولا تُطلق علينا النار بلا سبب
أو لأي سبب
نحن حرات مثل أفكارنا
وبناتنا زوجات النهار
دون أزواجنا نرحل تاركين لكم غبار الدنيا
وظل الفراغ
تبحثون عن تفسير لتأثير الفراش في تغيير الكون
نقولها لكم بلا تورية
لا نغير شيئا ولا يهمنا أن نغير حتى البشر
نعيش حرية الموت كما يعيش النور بهجة قتلنا في ناره
وهي تستعر.
سلام على الفراشات
وهي تصعد سلم الحكمة
وتعطي الناس سديم المسرة
ونار العبرات..
لا نؤثث لمجد
ولا نفكر بحكم الطواغيت
نفكر بالله كما يفكر الأطفال به
لا نحفل بيوم القيامة
أو عذاب القبور
لأنا لا نؤذي الحياة
ولا نثرثر بما يقتلنا ويدفعنا لكي نعتذر
لا نعتذر عن كوننا فراشات
ولا نعتذر لأننا غير متزوجات من ذكور ثقال الأثر.
سبحان من خلقنا رمزا للرهافة
طعما للأحلام
ملاذا للحذر...........
نحن الفراشات
نقدس الحرية
ولا نبتغي من الدنيا ثمنا لعيشتنا فيها
ولا نحمي بيوتنا من تسونامي الحياة.
***
المجد للفراشات في الارض
وعلى سطح الارض
نقيم صلاة الروح
نصوم عن ثرثرة الناس
نزكي أنفسنا ولو كنا محرومين مما يمكله الاثرياء لديكم
لأنا ولدنا فراشات حرة
نموت فراشات حرة
بعمرنا يبدأ الكون
وبعمرنا كل شيء ينكسر.
ويقدم موسى مقاربة أخرى ممتازة عن الوجود والماهية حين يعتبر السرد وجودا ماهويا، كل وحدة سردية هي عبارة عن ماهية قابلة للتحقق مستقبلا، فالسارد حين يخلق عوالمه يعلم يقينا أنها قابلة للتحقق وممكنة الوجود، وهذا ما ذهب إليه شيخ النقاد أرسطو حين صرح بان الفن لا يتكلم عن أشياء موجودة في الواقع على نحو مباشر(فهذه ليست وظيفة الفن)، بل يتكلم عن أشياء محتملة الوجود، ولذا فان السرد يمتلك حدوسات، وهناك الكثير من الأعمال السردية استطاعت أن تقدم رؤية مسبقة للواقع ثم جاءت الأحداث لتثبت صدقها أو تطابقها مع الواقع، وهنا تكمن عظمة الأدب تحديدا.
كانت النظرة التقليدية أن السرد يروى ولا يعاش وان الحياة تعاش ولا تروى، ولكن الحدود الفاصلة بين السرد والحياة انهارت حين اتضح ان الحياة لا يمكن تمثلها من قبل العقل الإنساني الا عندما تتحول الى سردية، والسردية بمعناها الحديث (الما بعد حداثي) تمتلك معالم وجودية، ولقد اسهم المابعد حداثيين في إعطاء السرد بعدا اونطولوجيا متناميا وانتهي الأمر ببول ريكور إلى محو الحواجز التي تفصل السرد عن الحياة في كتابه المعنون(السرد الوجود الزمن)
متناغما مع رؤية بول ريكور، يقدم موسى في نصه الموسوم " حكمة الكولونيل كل الأدوات التي تكشف عن العلاقة السرية بين السرد بوصفه ماهية وبين الحياة، ويتساءل في النص عن قدرة الوحدات السردية على التحقق مستقبلا حين يخاطب المستقبل قائلا: أما للحروف من أثر؟، وهو يعتب على ماركيز الروائي بسبب المصير الفاجع الذي آل اليه الكولونيل ويطلب منه -بوصفه صانعا للماهية- ان يغير في مصير الكولونيل ويرأف بحاله ولو برسالة تلقى في بريده او يطلق الديك ليشارك في المبارزة المرجوة أو.. أو... أو، ويذكره بأنه يمتلك مطلق الصلاحية في التحكم بمصير شخوصه عندما يشاء، فهو عمد إلى جعل العجوز تطير في الهواء وأصبح طيرانها أمرا واقعا صدقه القراء، وهكذا يستمر موسى بمخاطبة ماركيز بوصفه صانعا للماهيات على هيئة سرد
يقول موسى في نصه الموسوم" حكمة الكولونيل
أيُها المستقبلُ المعقوفُ مثلَ صليبِ النازي
أَمَا للحُروفِ من أَثرْ
أما للكلمات من مِديةٍ أو سَيف
أما للحلمِ من تَكوينٍ
على ظلِّ لوحةٍ لماتيس
أو جانبَ سورٍ في خيال الجنائز؟
أما للكهوفِ من غذاءٍ
سوى الظلمة واللصوص؟
انتهتْ متاعبُ الميِّتْ
اجعلْ حذاءَك القديمَ
مستودعاً للطيبة
تقدمْ حفلةَ المُغفلين
تلك التي تكشفُ للخالق
جرائمَ الحشرات
خديعةََََ المواعظِ والنظريات،
مبارزةُ الديوك
تفيضُ على حاجة المُعْدَم.
وأنتَ أيُّها الروائيُّ الطاعنُ في الصبر والرَويّْ
أما توقفتَ قليلاً
لتُطعمَ الجوعى من نِثارٍ السَردِ
أما كانَ ينبغي؛
أنْ تُدبِّجَ للكولونيل تلك الرسالةَ المرتجاةَ
ولو من بابِ الخِداعِ والتَزييف
أو على سبيلِ المُتعة الذهنية؟
أعرفُ أن الحياةَ لا تخضعُ لمزاجِ الكُتَّابِ المُحترفين أمثالكْ
لكن كثيراً ما تنحرفُ الكلماتُ
وقليلاً ما تتماهى الشخوصُ مع المصائر.
لم تكنْ لتخسر نوبلَ لو فعلتَ
ولن تخسرَ الواقعيةَ السحرية
لو حسمتَ أمرَ الديك،
القراء؟
دعكَ منهم؛
إنهم لا يُشكلونَ سوى الدخانَ المتصاعدَ
من رأسِ السيجارةِ المُشتعلة
إنَّهم يبحثون عن حبيباتِهم بينَ الأَسطر
وعن أطماعِهم داخلَ الجُمَل
والمحترفون منهم
يرمقونَكَ بعينِ الحَسد،
وكثيرٌ منهم يودُّ إدراكَ سرَّ فَشلِه فيما اقترف
دَعْكَ منهم ومنّا
القرويونُ أجملُ من عَناءِ الكُتب والنُقاد
خاصةً أولئك الذين يتحلقونَ حولَ أقراصِ العسلِ الآمنة
وهم يلبسون ملابسَ المُنحلين
وَشَبكَ الوقاية من إبر النظريات،
القُرى أكثرُ فائدةً للترجمةِ من تراجيديات يوربيدس،
لا تقبل نصيحتي؛
فكلُّ حكمةٍ تحملُ رعونَتَها
ولكن من باب التلفيق
لا تحتكمْ لتاريخِ الشجر
أو فلسفةِ الأوروبيين
في إسداء العِِبرةِ عبرَ الرواية،
تَقدمْ وَحْدَكَ السحرَ والقَشْعريرة؛
فحينَ جعلتَ تلكَ العَجوزَ تطيرُ مع الهواء
صدَّقَكَ الناسُ وكذَّبوا الطبيعة
فلماذا وضعتَ كلَّ قسوتِك فوقَ رأسين بائسين؟
لم تكنْ بيكيت لتحرمَ غودو من المجيء
أو موسى لتمتحنَ شعبَك في التيهِ
ولم تكنْ مُحمداً لتعلِّمنا السعيَ والطَّوافْ
أو المسيحَ لتمدَّ ذراعيكَ فوقَ الصَليب
ورجليكَ للمَساميرْ
لكنَّك عن سَبْق تَفكيرٍ وتَرصُّد؛
تربَّصْتَ بالهزيمةِ والإحباط
حتى آويتَهما إلى فراش النياشين.
ربَّ ذنبٍ جرَّه العارُ
ربَّ أوسمةٍ لم تنمْ على أكتافِ حامليها.
أطلقْ الديكَ يا ماركيز
أطلقْه ليشاركَ في السباق
أو بِِعْهُ بما يفكُّ عسرَ الطبيعةِ ويسكتَ الجوع
اذبحه بسكين الاشتهاء على الأقل،
لا يا غابرييل،
ليست العبرةُ يائسةً إلى هذا الحد
ليست الفضيلةُ في قهرِ أصدقائِنا بطريقةٍ روائية.
مقاربة ثلاثية الأبعاد عبر ثلاثة نصوص استطاعت ان تقدم توصيفا رائعا لإشكالية العلاقة التي تربط الماهية بالوجود.