هذا الحوار العميق مع الشاعر والكاتب والمترجم الفلسطيني محمد حلمي الريشة يكشف عن أفق انشغالاته في مجالات عدة، ورؤاه في قضايا إبداعية وجمالية وتخيّلية متعلقة بالإبداع والترجمة. إن هذا الحوار الذي سيصدر في كتاب يمثل سيرة الشاعر مع الكتابة وأسئلتها المتعددة.

حوار مع الشَّاعر محمَّد حلمي الرِّيشة (شِعريار)

حياتي الشِّعرُ وأَعلى دَرجاتِ التَّجلّي الشِّعري أَن تكونَ المرأَةُ/ الأُنثى هيَ القَصيدة

حاوره من المغرب: أحمد الدمناتي*

 

يقود هذا الحوارُ اللغة إلى سفر شيّق يَهَبُ خصوبته للمتلقي بوصفه شهادة حسن النية في مصاحبة القصيدة لأسرارها الخبيئة بطيبوبةٍ نادرةٍ، كما تحكمه الشساعة في طرح قضايا إبداعية وجمالية وتخيّلية متعلقة بالإبداع والترجمة، وزمن الكتابة، والذكريات العتيقة مع طفولة أول قصيدة طريّة في بهو الذاكرة محكومة بدهشة الحنين والفرح الصغير الذي يتساقط من فردوس الغبطة مبتهجًا بمحبته الأنيقة.

في كل مرة كنت أظن أني أربكه أو أسيّجه بأسئلة عصيّة، فيخرج منتصرًا بأناقة لغته من شقوق سرية يعرف أبوابها وحده فقط، وكأنه يُضاعف اختراق متخيّله بفاعلية متوهجة بحنين لا يضل طريقه نحو الينابيع ارتواءً للمجهول واللايقين، وخصوبة ضد المحو والنسيان المكثف. لا هدنة مع الحوار عندما تكون الأسئلة فِخَاخًا والأجوبة مكائد.

غنى في المتخيل والرؤية والحدس والذاكرة التي تتسم بها إجابات الشاعر والكاتب والمترجم محمد حلمي الريشة في هذا الحوار العميق، الشيق، الثري، الذي ينفتح على أسئلة القصيدة بممكناتها التخيّلية وخياراتها الإبداعية والجمالية لتأسيس شروط وجودها في الذات كما في الكون، وهاجس انتسابها لحركية الإبداع أفقًا لتخصيب ملامح اللغة. إنه الذهاب إلى ضفاف القلب بيُتم المعنى، وتخوم الجسد بلغة تهيّجها الذاكرة الاسترجاعية من رحم زمن فَر سريعًا كبرق خاطفٍ.

هو حوار في اللغة وبها مع شاعر خبر أهوال المخاطرة في جُب القصيدة، متشردًا بأناقة هنا وهناك في فلوات المعنى، صَاحَبَ فتنة اللغة الشعرية منذ عقود منتشيًا بالكلمة العميقة، منقبًا، جوالاً، منعزلاً، مندهشًا، منفجرًا، هادئًا، وديعًا، صاخبًا، ضاجًّا بالحياة، مشاكسًا، مستسلمًا لنداء الشعر وأقاصيه الرحبة والرحيبة المتيمة بسؤال المحبة والإنصات والتواضع.

حوار يتجسس بعمق على المناطق الخفية للشاعر، لا يُقدم أسئلة بقدر ما يثير أسئلة في الوجود والكتابة والشعر واللغة مبتهجًا بعينٍ لاقطةٍ في تجذير سؤال الإبداع بما هو دخول طري، ندي، طازج، عذب، نيئ، في المجهول واللايقين واللامفكر فيه، حيث البحث عن مواطن الجمال في خرائط المتخيل قضية أساسية يستعذبها أفق جمالية التلقي ويستلذها.

ملزم أنت باستثمار غني وذكي وعميق للأسئلة استعدادًا لِمَكْرِ الأجوبة، وخِبرتها في ترويض الألغام المدسوسة في خيمة اللغة. المُحَاوِرُ يشحذ ذخيرته باستمرار للحرب القادمة، والمُحَاوَرُ يسترد أنفاسه كاملة تحسبًا لهجوم مبكر على مواقعه الآمنة دائمًا، بين الكرّ والفرّ تؤسس لغة الحوار خصوبتها غير عابئة بحروب تدور هنا، أوهناك، في غفلة من دهشة حلمها بتجديد علائقها بالوجود والذات والكون، وكأنها المنذورة لاستقطاب حدس الاستشراف المشرق بابتهاج المعنى العاري، النقي، الدافئ كحضن امرأة لا تأتي في الموعد المحدد لاستكمال ألق أنوثتها.

هكذا، يصبح الحوار سيرة حياة شاعر. إنصات ومكابدة حقيقية لنداء القصيدة في ديمومة ولادتها المتجددة، وهي الراغبة بشهوة عنيفة في توريط العين، قبل القلب، في سفر يستحبّ بعناية دقيقة منفى اللغة اختيارًا واندهاشًا، لا إصرارًا وإكراهًا.

هي مقدمة لا تريد توجيهًا مسبقًا للقراءة بقدر ما هي تحريض العين لقراءة الكتاب بضوء القلب، فالقلب دليل الإنسان بقوة بصره وبصيرته في ارتياد المجهول، واكتشاف الألغاز والأسرار، وهو حوار له غبطة التجسس على مغارة آهلة بالعجائب والغرائب، ومتعة التلصص على كهف تأوي إليه الجميلات خوفًا من حزم ودهاء شهريار.

لحظاتٌ شرسةٌ ومحبَّبةٌ في آنٍ

* درجة الوعي عند الشاعر بخطورة الانتساب بصدق للقصيدة، يجعله يتهيب للسفر في مجهولها. كيف يستطيع الشاعر أن يتّق شراسة المصافحة الأولى مع النص لحظة الكتابة؟

- كلُّ وَقتِ/ أَوقاتِ كتابةِ القصيدةِ لحظاتٌ شرِسةٌ تنهشُ في الشَّاعرِ كلَّ شيءٍ. إِنَّها تحمِلُه إِلى أَراضٍ جديدةٍ، ومُناخٍ مُغايرٍ كلَّ مرَّةٍ. هيَ لا تشبَعُ من إِنهاكِ شاعرِها كلَّما مارَستْهُ بَدءًا منَ اسْتلقائِها ورقةً بيضاءَ مُغوِيةً، وحتَّى امتلائِها بما يشبِهُ التَّخطيطَ الأَوَّليَّ للَوحةٍ سِرياليَّةٍ.

هيَ، أَيضًا، وقتُ/ أَوقاتُ حبٍّ بينَها وبينَهُ حينَ يُوافِقُهما اللِّقاءُ، ويختلِفانِ فيهِ على بعضهِما، في بعضِهِما، حدَّ الامتزاجِ الذي لا يُمَكِّنكَ من مَعرفةِ الشِّعرِ منَ الشَّاعرِ.

نوافذُ عاليةٌ من ضبابٍ يابسٍ

* ما هو الباب الذي تفتحه القصيدة لك سريعًا عند لقائك بها في مُنحدر اللغة؛ باب الطفولة، باب الحنين، باب الحب، باب النسيان، باب المرأة، باب المكان، باب الأم، باب الدهشة، باب الذكرى، باب الوجع، باب الأمل... وللشاعر في أبوابه أسرار وألغاز؟

- أَوَّلاً: ليتَهُ منحدَرٌ، بل هوَ صعودٌ ("كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ"- القرآنُ الكريمُ).

ثانيًا: ما من بابٍ محدَّدٍ، لأَنَّ القصيدةَ لا أَبوابَ لها، بل توجَدُ نوافذُ عاليةٌ ذاتُ إِطاراتٍ من ضبابٍ يابسٍ، والشَّاعرُ في غُرفةٍ محاطًا بجُدرانِ الوَحدةِ، والعزلةِ، واليأْسِ.

إِنَّهُ يُريدُ أَن يطيرَ خارجَها، تحملُه جوانحُ قصيدتِه نحوَ آفاقِ الحبِّ والفرحِ والدَّهشةِ والمتعةِ و...، التي يجبُ أَن تحقِّقَها القصيدةُ، وصولاً إِلى إِحساسِكَ بالشِّعرِ أَنَّهُ "مثلُ الوقوفِ على حافَّةِ بحيرةٍ يغمرُكَ عندَها نورُ القمرِ طوالَ الوقتِ"، كما أَحسَّهُ (كولينز).

القصيدةُ الضَّيفُ

* من المحو نكتشف مجهول الكتابة، وعمق المخاطرة مع ضيافة القصيدة، من الذي يكون ضيفًا على الآخر القصيدة أم الشاعر؟ أم كلاهما في ضيافة متعة تفتك بتكهنات عرّافة؟

- هيَ مَن تأْتِي لِتحلَّ ضيفةً على الشَّاعرِ، وعليهِ أَن يكونَ حاضرًا وجاهزًا لها، لأَنَّها لا تحبُّ أَن تحضرَ دونَ أَن يكونَ شاعرُها في اسْتقبالِها، وعليهِ أَن يُحسنَ اسْتقبالَها، ويُتقِنَ ضيافتَها كي تقبلَ المكوثَ. بعدَ هذَا، يتماهيانِ معًا في حالةٍ منَ اللاَّشعورِ/ واللاَّوعي، حتَّى يَصِلا إِلى سؤالِ الشَّاعرِ (وليم بتلر ييتس) المُدهشِ/ المُذهلِ: "كيفَ نعرِفُ الرَّقصَ منَ الرَّاقصِ؟!"

المرورُ بينَ الشَّيءِ وضدِّهِ

* الكتابة الشعرية انخراط عنيف في الإنصات لعوالم الداخل المشبعة بالجرح والحلم، تعرية لتضاعيف الذاكرة بِشعلة القصيدة. هل تؤمن بأن الشعر قادر على تغيير العالم إلى ما هو أنقى وأصفى في ظل السلم والسلام بعيدًا عن الحروب وقتل الأبرياء والشيوخ والنساء والأطفال؟

- لا شِعر دونَ فكرةٍ/ أَفكارٍ، حتَّى "الفانتازيا" الشِّعريَّةِ، أَو الشِّعرِ "الفانتازيِّ"، لا بدَّ وأَن يحملَ فكرةً ما، ذلكَ أَنَّ الشِّعرَ لا يولدُ من فراغٍ، أَو عدمٍ، ولا يَحيا في اللاَّشيءِ، أَو يكونُ لِلاَشيءٍ.

الوطنُ، مثلاً، فكرةٌ جماليَّةٌ عُليَا/ سماويَّةٌ، وهو غيرُ قابلٍ للقسمةِ إِلاَّ على واحدٍ، والاحتلالُ فكرةٌ دونيَّةٌ، لِما فيها من بشاعةٍ، وحقدٍ، ودمٍ مباحٍ دونَ وجهِ حقٍّ، وإِنسانيَّةٍ مهدورةٍ من لا إِنسانيَّةٍ حقيرةٍ، لذَا فهو إِلى زوالٍ، مهما عمَّرَ من خرابٍ.

الشِّعرُ يحاولُ المرورَ بينَ الشَّيءِ وضدِّهِ منتصرًا للجمالِ والحبِّ والإِنسانِ- الإِنسانِ، لهذا أَجدُني شاعرًا أَقسو على قصيدتِي بما أَستطيعهُ من حنانٍ، كي تُطلَّ من شرفةِ القلبِ بأَبهى ما يمكنُ، مهمَا كانت موضوعتُها.

إِنَّني لا أَعتقدُ أَنَّ القصيدةَ تستطيعُ، وعمومَ الكتابةِ، مهما بلغتْ من بلاغةٍ، أَن تجمعَ أَشلاءَ طفلٍ تناثرتْ في حضنِ أُمِّهِ وهي تُرضِعهُ، ولا تستطيعُ حتَّى محوَ دمعةٍ حارقةٍ عن خدِّها المُتصدِّعِ. لستُ أَشكو عجزَ الشِّعرِ، لأَنَّ الحواسَّ، وهيَ الأَساسُ في الكتابةِ الإِبداعيَّةِ، لا تستطيعُ أَن تمسكَ قلمًا وهيَ تُشوَى في أَتونِ الحربِ.

للأَسفِ الشَّديدِ، فإِنَّ الشِّعرَ لا يستطيعُ أَن يُرجعَ فوَّهةَ دبَّابةٍ مترًا واحدًا إِلى الخلفِ.

جَغرافيا إِنسانيَّةٌ

* هل القصيدة قلعة الشاعر الدائمة يحتمي فيها وبها من عواصف الحزن والاغتراب والشجن،  أم نافذة يطل منها على أشيائه السرية والحميمة؟

- هيَ هكذا عندَ شعراءَ، وهكذا عندَ شعراءَ آخرينَ، لكنَّها في كلا الحالتينِ ليستْ قلعةً، بل هيَ جَغرافيا إِنسانيَّةٌ بكلِّ شسَاعاتِها وفضاءاتِها. أَنا أَقربُ كثيرًا في قصيدتي من ذَاتي بما تُشرِقهُ الحواسُّ آناءَ الكتابةِ، فالقصيدةُ التي تنبعُ من قرارِ الذَّاتِ وتخطُّها الحواسُّ، هي الأَصدقُ، خصوصًا إِذا كانت حمولتُها الجماليَّةُ في أَقصَى حالاتِها.

تشاسعُ مساحةِ البياضِ

* للقصيدة مآزقها ومكائدها ومضائقها وكمائنها أيضًا، هل يستطيع الشاعر النجاة من هذه المكائد والكمائن دائمًا؟

- لا يُمكِن أَن ينجحَ الشَّاعرُ بعبورِها في كلِّ قصيدةٍ، بل وفي أَيَّةِ قصيدةٍ، لأَنَّ الشِّعرَ صَعبٌ ("أَعسرُ من قلعِ ضِرسٍ" كما قالَ الفرزدقُ)، وصهوتُه تعلُو أَكثرَ فأَكثرَ كلَّما انتَهى الشَّاعرُ من نصٍّ جديدٍ، وتزدادُ الصُّعوبةُ كلَّما وجدَ مساحةَ البياضِ تتشاسعُ في دواخلِه كما هوَ الحالُ في بياضِ الصَّفحةِ، فينتابُه الأَسى العارمُ لأَنَّهُ يشعرُ أَنَّهُ لمْ يُنجِزْ شيئًا بعدُ. عملُ الشَّاعرِ هُنا أَن يحاولَ تذليلَ ما استطاعَ مِنها/ إِليها سبيلاً، لأَنَّها من طبيعةِ القصيدةِ ومكوَّناتِها، ولأَنَّ الشِّعرَ ليسَ اسْتقامةَ نهرٍ ضحلِ الماءِ، فيهِ السِّباحةُ مثلَ طيرٍ يطيرُ في فضائِه، بلِ الشِّعرُ/ القصيدةُ مجهولاتٌ تتوَالى فجائيَّةً، تتَّسعُ وتضيقُ، تعلُو وتهبطُ، تكونُ أُفقيَّةً وعموديَّةً بين لحظةٍ وأُخرى، تكتمُ الأَنفاسَ، وتزيدُ من إِيقاعِ ضرباتِ القلبِ، كأَنَّها الدُّخولُ في رحمِ الموتِ لاستخراجِ شهادةِ وِلادةٍ.     

لغةٌ تروِّضُ كلَّ شيءٍ

* تتغذى القصيدة من الأمكنة وهي تؤسس عبورها نحو المهاوي الحلمية بهدوء، هل بمقدور الشاعر ترويض المكان باللغة؟

- الشِّعرُ لغةٌ أَوَّلاً. اللُّغةُ الشِّعريَّةُ تَقدِرُ على تَرويضِ كلِّ شيءٍ، لكنَّهُ ترويضٌ أَكثرُ ما يكونُ حُلميًّا.

بالتَّأْكيدِ هذَا الحلميُّ شيءٌ باعثٌ على التَّأَمُّلِ، فالدَّهشةِ، وهذا ممَّا يُشتَهى من الشِّعرِ، وإِن كانتِ اليقظةُ منَ الحُلمِ، في بعضِ حالاتِها، صدمةً كوميديَّةً.

قلتُ ذاتَ قصيدةٍ:

"بِاسْتِطَاعَةِ اللُّغَةِ أَنْ تَأْتِيَنِي:

بِعَرْشِ سَاقَيْهَا الْغَضِّ

بِمَنَابِتِ عُلُوِّهَا تَحْتَ سَفْحِ فِطَامِي

بِأَيَائِلِ نَظَرَاتِهَا السَّائِبَاتِ

بِتَأْوِيلِ طَلَّسْمِهَا الْفَادِحِ فِي هُبُوبِهِ

لكِنْ..

مَنْ سَيَأْمَنُ لِي

أَنْ لَا تُوقِظَنِي وَخْزَةُ شَعْرَةٍ لَهَا

مِنَ الْحُلُمِ؟"

الشِّعرُ التَّشكيليُّ

* تلعب على الثقافة البصرية للقارئ من خلال التوزيع الفضائي للنص على صفحة المجموعة الشعرية، هل هذه التقنية الذكية تجعل من القصيدة لغة ولوحة؟ أم هو تدريب المخيلة على قراءة الشعر من مكان جمالي آخر؟

- القصيدةُ هيَ وعاءُ الشِّعرِ. هذا الوعاءُ كانَ لأَكثرَ من أَلفٍ وخمسمائةِ سنةٍ جامدًا صلبًا، نظامًا قاسيًا وضيِّقًا، جعلَ أَجنحةَ الشِّعرِ تُرفرِفُ في  الإِناءِ الواحدِ، وهذا ضدُّ الشِّعرِ الذي هوَ ضدُّ الزَّمانِ والمكانِ، والذي يعشقُ الحرِّيَّةَ ويُعشِّقُها بلُغتهِ، والذي يحبُّ، اشْتهاءً، الدُّخولَ إِلى عوالمَ مجهولةٍ لمْ يكتشِفْها شِاعرٌ قبلَهُ. ["يقولُونَ إِنَّكَ فوضَويٌّ لأَنَّهم بحاجةٍ إِلى الحدائقِ، وليسَ إِلى الأَدغالِ" (جيمي سابينيس)]، والتَّحلِيقَ في فضاءِ الحياةِ كغَيمةٍ حُبلَى، والبياضَ الذي يشكِّلُ لهُ تحدِّيًا إِغوائيًّا لينقُشَ الكلامَ فيهِ كأَنَّهُ يمامٌ أَزرقُ.

"الشِّعرُ رسمٌ ناطقٌ، والرَّسمُ شعرٌ صامتٌ" كمَا يقولُ (سيمونيدس)، لكنَّ "الشِّعرَ يفوقُ الرَّسمَ؛ فالرَّسمُ ينحصرُ في مكانٍ محدَّدٍ، ويلتزمُ ملمحًا معيَّنًا لوضعٍ أَو حدثٍ، بينَما يقوَى الشِّعرُ على عرضِ موضوعٍ ما في عمقِه، وعلى مدَى تناميهِ الآنيِّ" كمَا يقولُ (هيجل).

الشَّكلُ البَصَريُّ للنَّصِّ الشِّعريِّ لديَّ هوَ حالةٌ طبيعيَّةٌ ناتجةٌ عن تدفُّقِ الكلامِ على الصَّفحةِ/ البياضِ، هذا التَّدفُّقُ يحمِلُ معهُ خطَّ مَسارِهِ واتِّجاهاتِه؛ أُفقيًّا، انسيابيًّا، مائلاً، متقطِّعًا، فراغيًّا، ... وهكذَا.

إِنَّ الشِّعرَ تشكيلٌ بالكلامِ (أُسمِّيهِ الشِّعرَ التَّشكيليَّ)، لأَنَّ الكلامَ لهُ إِيقاعٌ، ولونٌ، ومذاقٌ، ورائحةٌ، وملمسٌ، وهيئةٌ مختلفةٌ كلَّ مرَّةٍ، وبالتَّالي يحقِّقُ هذا إِبداعًا/ جمالاً جديدًا، ولأَنَّ هذا الشِّعرَ ليسَ شعرًا مسموعًا، بل هو شعرٌ مقروءٌ، يمنحُ القارئَ فُرَصَ التَّأْويلِ، والتَّفكيكِ، وإِعادةِ التَّركيبِ، كمَا لو أَنَّهُ (القارئ) يعِيدُ كتابةَ القصيدةِ بأَدواتِه، ورُؤاهُ، ومخيلتهِ.

أَنَّى لهُ هذا؟

* القصيدة رسالة مفتوحة للعالم، وأنت تكتب هل تُفكر في القارئ؟

- لأَنَّ القصيدةَ كما وصفتَها أَنتَ، ولأَنَّ الشَّاعرَ آناءَ كتابتِها يكونُ في عوالمَ مجهولةٍ وبلا وعيهِ، فإِنَّه بالتَّأْكيدِ لا يفكِّرُ بالقارئِ، وأَنَّى لهُ هذا وهو في حالتِه تلكَ؟

إِذَا فكَّرَ بالقارئِ وجعلَهُ في المسافةِ بين القلمِ والورقةِ، فإِنَّ القارئَ سيكونُ مرشِدَها وكاتبَها أَكثرَ من  الشَّاعرِ ذاتِه، فكيفَ إِذا فكَّرَ الشَّاعرُ بأَكثرَ من قارئٍ، وأَكثرَ من مُتلقٍّ، فكيفَ تكونُ قصيدةَ شاعرِها؟! والمفترضُ الإِبداعيُّ هوَ في أَن يكونَها؛ هي منهُ وهو مِنها.

هذه هي إِشكاليَّةٌ قديمةٌ- جديدةٌ؛ أَن يكونَ الشَّاعرُ صوتَ الآخرِ كما يُرادُ لهُ، لا صوتَه هوَ. هنا يَنتفِي التَّفرُّدُ الشَّخصيُّ، والإِبداعُ الذَّاتيُّ الذي يجبُ أَن يَخرجَ مُدهِشًا، ومُفاجِئًا، لا أَن يكونَ مُتوقَّعًا من متلقٍّ، أَو قارئٍ، أَو ناقدٍ، أَو أَيِّ مهتمٍّ بالشِّعرِ.

اللُّغةُ في الشِّعرِ

* قصيدة التفاصيل أو الاحتفال باليومي والمعيش في جغرافيات المتن الشعري المعاصر، هل أعطته بُعْدًا جماليًّا آخر خِصبًا وخلاقًا في آنٍ؟

- هذهِ القصيدةُ تراوحتْ بينَ الشِّعريِّ واللاَّشعريِّ؛ ثمَّة مَن كتبَها بلُغةِ الشِّعرِ التي نعرفُ، وآخرونَ كأَنَّها نسخٌ، أَو تصويرٌ (فوتغرافيٌّ) بكلماتٍ، معتمدًا على حاسَّةِ الرُّؤيةِ فقط، لذَا جاءتْ كلامًا عاديًّا، مباشَرًا، مخبِرًا، وهذا ما يجعلُها مجرَّدَ سردٍ، لا يفتحُ أَيَّ أُفقٍ للتَّأْويلِ، لأَنَّها لا تفعلُ أَكثرَ من أَن تُعِيدُ لكَ ما رأْتهُ عينٌ، وسجَّلتهُ يدٌ على الورقِ.

أَحيانًا تجدُها مجرَّدَ تدوينٍ للمشاعرِ، وهذا لا يُعطيها، أَيضًا، صفةَ الشِّعرِ، لأَنَّهُ "ليسَ مسأَلةَ مشاعرٍ، بل هوَ مسأَلةُ لغةٍ. الشِّعرُ لغةٌ تخلقُ المشاعرَ" (أَمبرتو إِيكو).

إِذًا، اللُّغةُ الشِّعريَّةُ يجبُ أَنْ لا تُنفَى منَ القصيدةِ مهمَا كانت موضوعةُ القصيدةِ، وإلاَّ ما الفارقُ الجوهريُّ بينَها وغيرِها من فنونِ الكتابةِ؟! كذلكَ الحالُ/ الفارقُ بينَ كتابةِ الشِّعرِ ونظمِه.

تجدُني، هنَا، أُركِّزُ على اللُّغةِ في الشِّعرِ، لأَنَّ "الشِّعرَ لغةٌ في أَزهَى صورِها. الشِّعرُ حليبُ نهدِ اللُّغةِ" (روبرت كراوفورد).

اسْتدرارٌ لحليبِ الأَملِ

* الشعر هو الفرصة الوحيدة للكائن المبدع لينصت لعزلته وطفولته ومكائده وانتصاراته وخساراته وأحلامه وآلامه، هل أعطتك القصيدة فعلاً هذه الفرصة الحقيقية للتأمل؟

- الشِّعرُ النَّابعُ/ الفائرُ/ الطَّافحُ منَ الذَّاتِ الشَّاعرةِ عَنها وعنِ الآخرِ (ثمَّةَ بالطَّبعِ أَكثرُ من آخر)، هوَ الشِّعرُ الصَّافيُّ الذي يشعُّ ماؤهُ الفضِّيُّ من تجاربِ الشَّاعرِ وتجريبهِ ومغامراتهِ، وليسَ منَ اخْتلاقِ كتابةٍ، أَو تكليفٍ بهَا، أَو إِقحامٍ علَيها، لأَنَّ مصدرَ الشِّعرِ القلبُ المملوءُ بأَسبابِ الحياةِ/ الجَمالِ.

نَعم، هوَ فرصةٌ للشَّاعرِ كيْ ينصِتَ، كتابةً، لباطنهِ المدغُولِ بخصوصياتهِ وخصائصهِ وصراخهِ الهادئِ/ المتأَمِّلِ/ الحواسيِّ/ المشحونِ بزخمِ الرَّغبةِ إِلى إِثباتِ أَسئلةِ الحلمِ/ الوجودِ.

كلُّ كتابةٍ شعريَّةٍ ذاتيَّةٍ، هيَ اسْتدرارٌ لحليبِ الأَملِ من وَرْقَاءِ الرُّوحِ السَّابحةِ في مداراتِ الحرِّيَّةِ المتشاسعةِ كدوائرِ ماءِ القلبِ، بعدَ سقوطِ كتلةٍ منَ الأَلمِ في حضنهِ البرِّيِّ. 

لقاءُ عاشقَيْنِ في قصيدةٍ

* يقول مالارميه: "القصيدة سرّ، وعلى القارئ أن يبحث عن مفتاح". هل للقصيدة أسرارها الخاصة مثل عاشقة في منتصف الغواية؟وهل لا بدّ للقارئ العاشق أن يدخل أبوابها، ويبحث عن مفاتيح خاصة بها؟

- نعم.. هيَ القصيدةُ هكذَا، وهيَ سرٌّ شهيٌّ.. بهيٌّ.. نقيٌّ... لهُ مِفتاحٌ لاَ يتدلَّى من رقبتِها، لأَنَّها بعدَ الانتهاءِ مِنها، تَرميهِ فِيها، كما تُرمَى جوهرةٌ في إِناءٍ لاَ حدودَ لهُ، وعلى القارئِ العاشقِ (هيَ عاشقةٌ تُتقِنُ غَوايَتها) أَن يطيرَ في فضائهِ بجناحينِ من رفيفِ القلبِ، ويسبحَ في مائهِ بمجذافينِ من تعبِ الحبِّ، لأَنَّ الشِّعرَ لقاءُ عاشقَيْنِ في قصيدةٍ.    

تأَتي .. أَو ترحلُ سريعًا

* القصيدة امرأة غجرية مهذبة خائنة لجميع المواعيد المرتبة معها، كيف تلسع هذه الخيانة متخيلك بعد انتظار مخيب للأمل؟

- جميلٌ وصفُكَ القصيدةَ أَنَّها امرأَةٌ غجريَّةٌ مهذَّبةٌ، لكنَّها لا تخونُ مواعيدَها معَ شاعرِها. صَحيحٌ أَنَّها تأْتي بتوقيتِ موعدِها الَّذي تختارُه دونَ تنسيقٍ مُسبقٍ مع شاعرِها، لكنَّها تأْتي. المُهمُّ أَنَّ على الشَّاعرِ أَن يكونَ جاهزًا لاستقبالِها في أَيَّةِ لحظةٍ، على الأَقلِّ لاستقبالِ إِشراقتِها، وإِلاَّ فإِنَّها ترحلُ سريعًا إِنْ لم تجدْهُ، وهذا طبعُها الَّذي لا يستطيعُ أَيُّ شاعرٍ مبدعٍ أَن يُغيِّرَه.

أَستغربُ جدًّا من (شعراءَ) يكتبونَ الشِّعرَ (وما هوَ بشعرٍ في أَدنى مفاهيمهِ) متى يُريدونَ! ليسَ تسجيلُ الإِشراقةِ قبلَ أُفولِها، بل يكتبونَ قصيدةً متَى شاؤوا، كأَنَّهم يأْكلونَ أَو يشربونَ! يجلِسونَ يكتبونَ في أَيِّ ظرفٍ زمانيٍّ، أَو مكانيٍّ، أَو حالةٍ، أَو...! والنَّتيجةُ معروفةٌ؛ هُم شُعراء لَهمُ المكانةُ الاعتباريَّةُ (سلطةً ومجتمعًا) لأَنَّهم يتماشونَ معَ الذَّوقِ التَّقليديِّ للمُتلقِّينَ، ولا يُطوِّرونَ فيهِ، رغمَ أَنَّها إِحدى وظائفِ الشَّاعرِ، كما يُطالِبُ (أُوكتافيو باث): "على الشَّاعرِ أَن يَرتقيَ بلُغةِ القبيلةِ".

يقولُ (ابنُ قُتيبة) : "وقدْ رأَيتُ من علمائِنا مَن يَستجيدُ الشِّعرَ السَّخيفَ لِتقدُّمِ قائلِه ويضعُه في مُتخيِّرهِ، ويرذلُ الشِّعرَ الرَّصينَ ولا عيبَ لهُ عندَه إِلاَّ أَنَّهُ قيلَ في زمانِه أَو أَنَّهُ رأَى قائلَهُ".

أَنا أَحرقُ مخزنَ سَجائر في صدرِي، وأَسبحُ في بُحيرةِ قهوةٍ في مَعِدتي، من أَجلِ مقطعٍ شعريٍّ واحدٍ قد لا أَرضى عنهُ، وقد أَمحوهُ إِلى ما لا يُمكنُ استرجاعُه أَبدًا.

المرأَةُ / الأُنثى هي القصيدةُ

* كيف تتجلّى صورة المرأة في قصائدك؟

- أَعلى دَرجاتِ التَّجلِّي الشِّعريِّ أَن تكونَ المرأَةُ/ الأُنثى هيَ القَصيدة. في الكتابةِ الشِّعريَّةِ تكونُ هيَ في كلِّ شيءٍ؛ هيَ الحاضرةُ الوحيدةُ، حتَّى لو كانت كخلفيَّةٍ، أَو صورةٍ مائيَّةٍ، في القَصيدةِ.

تأْنيثُ القصيدةِ، أَو تأْنيثُ أَشيائِها، باتَ نمطًا/ ظاهرةً في شِعري، حيثُ أُحسُّ، دونَ عَمْدٍ، أَنَّني أَلجأُ إِلى تأْنيثِ الأَشياءِ لإِثراءِ مُحاورتِها، وفَتحِ مَغاليقِها الفاتنةِ، وإِشاعةِ الرُّوحِ الإِيقاعيَّةِ فيها، بوساطةِ لُغةِ الحواسِّ؛ اللُّغةِ الأَكثر لياقةً وأَلَقًا للشِّعرِ، والمرأَةُ/ الأُنثى- القصيدةُ هيَ أَكثرُ ما تليقُ بها لغةُ الشِّعرِ هذهِ.    

كثيرًا ما نعرِفُ من الشُّعراءِ أَنَّ المرأَةَ في قَصائدِهم هيَ الأُمُّ، الزَّوجةُ، الأُختُ، الابنةُ، الحبيبةُ... الخ. كلُّ واحدةٍ من هذهِ تدلُّ على دَورٍ لها في الحياةِ. في القَصيدةِ أَرى أَنَّ المرأَةَ/ الأُنثى، تكونُ في أَيِّ نصٍّ شِعريٍّ، ليسَ أَقلَّ من كَونِها حارِسةَ الجمالِ فيهِ، إِنْ لَمْ تكُنِ القصيدةَ ذاتَها، لذَا أَعمدُ إِلى أَن يكونَ التَّأْنيثُ، حتَّى في الأَشياءِ، لأَرَاها خارجَ دَورِها العاديِّ في القصيدةِ/ الشِّعرِ.

إِثراءٌ جماليٌّ باهظٌ للشِّعرِ

* بين القصيدة والمرأة خيط غَوَايَةٍ، القصيدة استفادت من المرأة منذ القصيدة الجاهلية مرورًا بالشعر الأموي (الغزل العذري/الغزل الحسي) حتى الشعر الحديث والشعريات العالمية والكونية. هل قراءة المرأة لقصيدة ممتعة، أو الاستماع لأمسية باذخة تعتبر استفادة عكسية للمرأة من القصيدة؟ وكيف تفسر هذا التجاور والتحاور الغريب والغني في آنٍ معًا؟

- كأَنِّي سمِعتُ الصَّرخةَ الشِّعريَّةَ الأُولى للشَّاعرِ الأَوَّل كانت عندَما رأَى المرأَةَ الأُولى بشاعريَّةِ النَّقصِ لدَيْهِ.

كأَنِّي رأَيتُه يخرجُ من كهفِه وهو يتأَبَّطُ الفراغَ، والعزلةَ، والحزنَ، وفي حلْقهِ الجافِّ يقفُ كلامٌ ليسَ كالكلامِ.

كأَنِّي قرأْتُ خطواتِ أَصابعِه الشَّقيَّةِ على جدارِ الكهفِ وهي تحاولُ إِخراجَ نشيجِ الوَحدةِ من باطنِ نَفْسِها المتهالكةِ.

القصيدةُ لا تبحثُ عنِ الاستفادةِ منَ الأَشياءِ كيْ تكونَ قصيدةً. إِنَّها تَحكي الشَّيءَ بلُغتِها كما تَراهُ هيَ بشعريَّتِها، لذَا فإِنَّ الشَّيءَ هو المُستفِيدُ مِنها، والمرأَةُ كانتْ، وستَبقى، أَروعَ الأَشياءِ/ الكائناتِ، لهذا كانت لها الحصَّةُ الكُبرى في الشِّعرِ.

بالتأْكيدِ أَنَّ المرأَةَ تحبُّ جدًّا أَن يُقالَ فِيها الشِّعرُ، وأَن تسمعَ الشِّعرَ الذي يكتَبُ عَنها ولَها وفِيها، لأَنَّهُ يَمنحُها طاقةَ جمالٍ استثنائيٍّ كلَّما رَاوَدتْهُ كلَّ مرَّةٍ، لذَا فإِنَّ تَماهي المرأَةِ في القصيدةِ، وتَماهي الشَّاعرِ في القصيدةِ المرأَةِ فيهِ إِثراءٌ جماليٌّ باهظٌ للشِّعرِ.

خيلٌ جموحةٌ بحنانٍ عارمٍ

* هل القصيدة عصية وعصبية دائمًا كامرأة متكبرة؟

- لو أَنَّ القصيدةَ كامرأَةٍ متكبِّرةٍ لمَا أَحببناها وأَحرقنا رملَ ساعةِ وقتِنا من أَجلِها وسِرْنا عليهِ حفاةَ الرُّوحِ والقلبِ والبدنِ. هيَ عصيَّةٌ دائمًا، ليسَ في مطلعِها فقط، بل في كلِّها لغايةِ أَن يشعرَ الشَّاعرُ أَنَّهُ انتَهى هوَ منها لا هيَ، لكنَّها ليستْ عصبيَّةً، فلو كانت هكذا، لمَا أَدركَها الشَّاعرُ، لأَنَّ الشِّعرَ الإِبداعيَّ لا يحتملُ النَّزقَ، أَو التَّوتُّرَ، أَو الضِّيقَ.

 هي، في أَحدِ أَوصافِها، خيلٌ جموحةٌ بحنانٍ عارمٍ، تثيرُ شهوةَ الشَّاعرِ الحقيقيِّ لترويضِها، ذلك أَنَّها تحبُّ هذا بشغفٍ أُنثى شبقةٍ لاحتواءِ تدلُّلِها في فضاءاتِها المُذهلةِ.

الشِّعرُ الإِبداعيُّ ضرورةٌ إِنسانيَّةٌ

* يقول الشاعر لويس أَراغون "لولا الشعر لأُصبنا جميعًا... بالسكتة القلبية." أَليس العالم بدون شعر خراب وخواء؟

- إِنَّها مقولةٌ في غايةِ الصَّوابِ والأَهميَّةِ، ليسَ لأَنَّني شاعرٌ أَنحازُ إِليها، بل لأَنَّ الشِّعرَ الإِبداعيَّ ضرورةٌ إِنسانيَّةٌ، يُضفِي على الحياةِ، بكلِّ مكوَّناتِها ومكنوناتِها، عَبَقًا من لذيذِ الضَّوءِ على عتمتِها المُؤلمةِ بفعلِ أَيدينا البشريِّةِ. إِنَّهُ يصبغُ العالمَ بأَلوانِ الحبِّ والعذوبةِ والرِّقَّةِ، وبكلِّ مفرداتِ معجمِ الجمالِ. كمْ أَتمنَّى أَن يَغدو الشِّعرُ وجبةَ حبٍّ يوميَّةً للإِنسانِ، لأَنَّهُ كما قالَ (إِيف بونفوا): "الشِّعُر فعلٌ تتجدَّدُ بهِ العَلاقةُ بينَ الكلماتِ والواقعِ"، لعلَّها تنجحُ بتغييرهِ نحوَ الأَحلى، والأَشهى، والأَعلى.

الشَّاعرُ عاشقًا

* يقول الشاعر المكسيكي الراحل أوكتافيو باث: "الحب موقف بطولي وأعظم ابتكار للحضارة الإنسانية." كيف توظف نِعمة الحب لخدمة متخيل القصيدة لديك؟

- تَتواءمُ عبارةُ هذَا الشَّاعرِ (كمْ أُحبُّ شِعرَهُ!) معَ بيتِ شعرٍ للشَّاعرِ (نزار قبَّاني):

"الحبُّ في الأَرضِ بعضٌ من تخيُّلنا/ لو لم نَجدْهُ عليها لاَخْترعناهُ". وأَيضًا قالَ:

"لولا المحبَّةُ في جوانحهِ/ ما أَصبحَ الإِنسانُ إِنسانًا".

هكذا همُ الشُّعراءُ المبدِعونَ الأَنيقونَ شعرًا؛ يتواءَمونَ ويتَّحِدونَ في الأَفكارِ الإِنسانيَّة النَّبيلةِ، مَهْما كانت جغرافيَّاتُهم، ومشاربُهم الثَّقافيَّةُ، ولونُ دمِ مِدادِهم.

لا شكَّ أَنَّ الحبَّ، بأَشكالهِ ومضامينهِ المختلفةِ العُليا، نِعمةٌ إِلهيَّةٌ تجعلُ القلبَ جنَّةً مُشعَّةً بذاتِها، للآخرينَ ولها، وفضاءً ورديًّا فسيحًا، وفصلاً أَخضرَ دائمًا. دونَهُ؛ لا يكونُ الإنسانُ إِنسانًا، ولا الأَرضُ قادرةً على احتمالهِ، ولا حتَّى كلُّ شيءٍ فيها وعَليها وعالِيها.

يقولُ الشَّاعرُ (لوركا): "لا يحتاجُ الشِّعرُ إِلى مهنيِّينَ مَهرةٍ، بل إِلى عشَّاق". بالنِّسبةِ إِليَّ؛ تعوَّدَ شِعري أَنْ ينطلقَ، منذُ بواكيرهِ، من مُرتقَى القلبِ، حَبْوًا وحُبًّا، نحوَ الحياةِ كما أَشتهِيها أَن تكونَ لنَا، نحنُ الإِنسانَ، وظلَّتْ هذهِ الحالةُ انطلاقَ كلِّ قصيدةٍ دائمًا.

بالحبِّ؛ أَحببتُ لُغتي، ومِدادي الأَزرقَ، ووَرقي الأَصفرَ، وتَعبِي الكلِّيِّ روحًا وجسدًا، وقَلقي الرَّصينَ على القصيدةِ، فأَحببتُني شاعرًا. بهذَا وغيرهِ، أَحببتُ الحياةَ فسحةً للجمالِ، والإِنسانَ ممارسًا لإِنسانيَّتهِ، والكونَ رائعًا خلاَّبًا مدهِشًا، وباعثًا الحقيقةَ. من هذَا، لا أَحتملُ شعرًا يشتمُ، أَو يَهجُو، أَو يلعنُ، أَو يَمدحُ كذبًا، أَو يَرثي سلبًا.

لمْ أَكتبِ الشِّعرَ إِلاَّ بعصيرِ القلبِ، وعلى أَشعِّةِ الرُّوحِ، أَرشقُه بِيدِ الوَلَهِ نحوَ نافذةِ الإِنسانِ المُنفتحِ القلبِ كيْ لاَ يَنسى أَنَّهُ إِنسانٌ طوالَ الوقتِ ما دامتِ الحياةُ فيهِ.

قوَّةٌ إِنشائيَّةٌ

* يقول رينيه شار: "إننا نخضع أحرارًا لسطوة القصائد ونحبها بعنف، هذه الثنائية تمدنا بالقلق والكبرياء والبهجة." هل هذا الحب العنيف هو ما يؤسس علاقتنا وصداقتنا بالحياة من خلال فعل اللغة؟

- الحبُّ الحقيقيُّ (العنيفُ برقَّتهِ المذهلةِ) يؤسِّسُ لكلِّ شيءٍ جميلٍ في الحياةِ، ويضيفُ إِليهِ من عبقهِ وحلوهِ وبريقهِ لمساتٍ عذبةً شهيَّةً، ويستطيعُ ترويضَ الشَّراسةِ والعنفِ في الإِنسانِ والطَّبيعةِ ما استطاعَ إِلى هذَا سبيلاً. اللُّغةُ وسيلةٌ منَ الوسائلِ رغمَ عجزِها في أَشياءَ كثيرةٍ كالحبِّ والشِّعرِ، لهذَا فالمبدعُ دائمُ القلقِ الإِيجابيِّ، قليلُ القناعةِ، دائمُ البحثِ عنِ الاختلافِ والمغايرةِ، ومَا الحبُّ الجارفُ (العنيفُ) إِلاَّ قوَّة إِنشائيَّة تساعدُنا في اقتحامِ الحياةِ بالحرِّيَّةِ المعجونةِ بالنَّجاةِ منَ النَّجاةِ.

الخوفُ منَ الحقيقةِ العاريةِ

* رسائل الشعراء والمبدعين فيما بينهم كنز عظيم، وتراث إنساني عميق، لماذا تغيب عنا أدبيات جمع الرسائل ونشرها على غرار رسائل محمود درويش مع سميح القاسم، جبران خليل جبران مع ماري هاسكل، أو مي زيادة، غادة السمان مع غسان كنفاني، فرناندوا بيسوا مع حبيبته أوفيليا الخ...؟

- نحنُ أُمَّةٌ تخافُ الحقيقةَ العاريةَ غيرَ المُغطَّاةِ بأَلف قشرةٍ وقشرةٍ، والبوحَ الإِنسانيَّ الممزوجَ بالحبِّ العاطفيِّ الذي يدلُّ على حدائقِ الحياةِ المضيئةِ بالمشاعرِ النَّقيَّةِ، لذَا تذهبُ الكثيرُ من هذهِ الرَّسائلِ (أُسمِّيها: أَدب القلبِ) بينَ المبدعينَ العربِ أَدراجَ الخوفِ والضَّياعِ، خصوصًا رسائل المبدعاتِ العربيَّاتِ.

ما ظهرَ من رسائلِ الكاتبةِ العربيَّةِ لمْ يكنْ فيها بوحٌ عاطفيٌّ واضحٌ، يكشِفُ المشاعرَ الوجدانيَّةَ الحقيقيَّةَ، ومعظمُ ما ظهرَ، فقط، رسائلُ الكاتبِ الرَّجلِ، أَمثال غسَّان كنفاني (لماذا لمْ تكشِفْ غادة السَّمان عن رسائِلها لهُ؟)، وأَنور المعدَّاوي (لماذا طَلبتِ الشَّاعرةُ فدوى طوقان منهُ أَن يحرقَ رسائلَها؟). لا بدَّ وأَنَّهُ في رسائلِ الكاتبةِ المرأَةِ كشفُ حالٍ لها، لا يقبَلهُ المجتمعُ المريضُ بالانفصامِ، وبالتَّالي فيها ما يصيبُ مكانتَها الاجتماعيَّةَ والاعتباريَّةَ.

أَيضًا، المرأَةُ العربيَّةُ العاديَّةُ، في جميعِ مراحلِ عُمرِها، تخافُ من كشفِ مشاعرِها، قولاً وكتابةً، وتشعرُ أَنَّ بانكشافِ عواطفِها الصَّادقةِ هتكًا لسَترِها الذي يفرضُه المجتمعُ العاريُّ من العدلِ، المُنتفخُ منَ الفحولةِ، لا الذُّكورةِ الطبيعيَّةِ كما هي الأُنوثةُ. باعتقادِي، فإِنَّ هذا النَّوعَ من الكتابةِ بين المبدعينِ منَ الجنسينِ، فيهِ منَ الإِثراءِ الذي يساهمُ في سبرِ أَعماقِ إِبداعهِم، لأَنَّ الكتابةَ الإِبداعيَّةَ فيها من الحُلمِ والرُّؤى والاستعارةِ والتَّأْويلِ والمُناورةِ... الخ، بينمَا كثيرًا ما نجدُ في قراءةِ الرَّسائلِ لغةً عاشقةً بَوْحيَّةً طبيعيَّةً، ذاتَ مذاقٍ مُذهلٍ وحميميٍّ، كأَنَّهُ النَّدى على أَوراقِ الوردِ.

الحبُّ أَقوَى من الكتابةِ فيُعجِزها

* دَمُ الشعراء مُشترك رغم اختلاف القارات وتنوع الأراضي الشعرية، كيف تلقيت فاجعة رحيل محمود درويش، وكيف كانت علاقتك معه؟

- تلقَّيتُها كما لَو أَنَّ جِداريَّةً سَقطتْ على رَأْسي! ولم أَعرفْ، لغايةِ الآنَ، أَن أَكتبَ شيئًا عنهُ/ عَنها! هلِ الحبُّ أَقوى من الكتابةِ فيُعجِزها؟! أَم أَنَّ الصَّمتَ أَنقَى لغةً في مثلِ هذَا المقامِ؟!

لم تكنْ عَلاقةٌ بَينَنا، ولمْ أَرَهُ شخصيًّا سِوى لبضعِ مرَّاتٍ؛ ثمَّة مرَّتانِ رأَيتُهما فيهِ هُنا يَشدُو من أَشعارِه، ومرَّتانِ الأُولى حينَ التقيناهُ ثلَّةٌ منَ المثقَّفينَ بعدَ عودتهِ إِلى ما تبقَّى (ولمْ يزلْ يُقضَمُ) من هذا الوطنِ، والثَّانيةُ كانت حينَ عقدَ بيتُ الشِّعرِ في فِلِسطينَ المهرجانَ الشِّعريَّ الأَوَّلَ واليتيمَ سنةَ (2000) مواكبًا، صُدفةً، بدايةَ انتفاضةِ الأَقصى.

لا شكَّ أَنَّ غيابَ الشُّعراءِ قاسٍ جدًّا، لأَنَّهُ يُوقِفُ تدفُّقَ نَهرِ شعرِ الشَّاعرِ، لكنْ يَبقى الأَثرُ الَّذي لا يَمَّحي، وفي هذَا عزاءٌ بَاهٍ، وتحريضٌ شرسٌ على الغرقِ أَعمقَ وأَعمقَ في حِرْفةِ الجنونِ الجميلِ.

لغةٌ واحدةٌ للشِّعرِ

* ترجمة الشعر، هل هي خيانة أنيقة للنص الأصلي، أم ترويض اللغة بدُربة المترجم(ة) للبحث عن ضيافة متخيل آخر يُغني حركية الإبداع الإنساني، ويفتح آفاق اشتغاله على كينونة لغة بلا حدود ولا تُخوم تستهدي بنور البصرَ والبَصيرة تمنحها الذاكرة لروح الكلمات والنصوص؟

- ترجمةُ الشِّعرِ، ومن خلالِ مُمارستي لها، لمْ أَجدْ أَنَّ المقولةَ الإِيطاليَّةَ: "ترجمةُ الشِّعرِ خيانةٌ"، تُعبِّرُ جيِّدًا عن هذهِ الممارسةِ بهذهِ الصِّفةِ، إِذ أَينَ تكمنُ "الخيانةُ" طالمَا أَنَّ الإِبداعَ الشِّعريَّ، بالضَّرورةِ، يجبُ أَنْ يكونَ عالميًّا، بِمعنى أَنَّهُ فعلٌ إِنسانيٌّ للإِنسانِ، أَينما وُجِدَ على هذهِ الكرةِ المائيَّةِ (ثلاثةُ أَرباعِها ماءٌ).

هل يمكنُ تغييرُ العبارةِ إِلى ما كنتُ قلتُه ذاتَ يومٍ: "ترجمةُ الشِّعرِ إِعادةُ خلقٍ ثانٍ لهُ"، خصوصًا إِذا أَنجزهُ شاعرٌ؟

لكنْ، ولأَنَّ للإِنسانِ أَكثرَ من لغةٍ، كانَ لا بدَّ منَ التَّرجمةِ، رغمَ عدمِ قُدرتِها الكاملةِ على توصيلِ اللُّغةِ الأُولى إِلى أَيَّةِ لغةٍ أُخرى، فكيفَ الحالةُ في ترجمةِ الشِّعرِ الذي يُبنى على التَّراكيبِ اللُّغويةِ للُّغةِ الأَصلِ، والصُّورِ السِّرياليَّةِ التي ترسُمها الحواسُّ، وحتَّى ما بعدَ الحواسِّ؟

أَميلُ كثيرًا إِلى مقولةِ الشَّاعرِ محمَّد بنِّيس: "منَ البداهةِ أَنَّ ترجمةَ الشِّعرِ شبهُ مستحيلةٍ، ولكنْ هناكَ درجاتٍ للاستحالةِ." ولأَنَّهُ لا بدَّ منَ التَّرجمةِ، كانَ لا بدَّ لنَا أَنْ نُمارسَ درجةً منْ درجاتِ الاستحالةِ، لأَنَّهُ لا يُمكِننا جميعًا أَن نقرأَ الشِّعرَ بلُغتهِ الأُمِّ، والأَهمُّ من هذَا وغيرهِ، أَنَّنا نحتاجُ الشِّعرَ ، لأَنَّهُ ضرورةٌ لمنْ يُدركُ أَنَّهُ أَكثرُ الفنونِ تأْثيرًا في صياغةِ جماليَّةِ إِنسانيَّةِ الإِنسانِ.

تقِيمُ ترجمةُ الشِّعرِ حوارًا صامتًا، شيِّقًا وعذبًا، ثريًّا ومهمًّا، بينَ الشَّاعرِ والمترجمِ الشَّاعرِ أَوَّلاً، وبينَ الأَخيرِ وشعراءَ آخرينَ يقرَؤونَ بلغةِ المترجمِ ثانيًا، وليسَ ثالثًا حينَ تُعمَّمُ نشرًا بوسائلِ النَّشرِ المختلفةِ. 

ما شدَّني برغبةٍ عاليةٍ إِلى ترجمةِ الشِّعرِ، بعدَ قراءتهِ بلُغتهِ الأُولى (كانَ بإِمكاني أَنْ أَكتفي بِهذا الإِشباعِ)، هوَ شُعوري بالإِبداعِ أَثناءَ التَّرجمةِ بأَنَّني أَنا الَّذي أُكتبُه، حيثُ تتخلَّقُ القصيدةُ بلُغتي العربيَّةِ، وكما لَو أَنَّني أُعِيدُ تبييضَها عن مسوَّدتِها. هذهِ لذَّةُ إِبداعٍ أَراها، وإِنْ كانت بدرجةٍ أَقلَّ من كتابةِ قَصيدتي الخاصَّةِ بِي.

كمْ تمنَّيتُ، وأَنَا أُترجمُ شعرًا، وحيثُ أَكتبُهُ، أَنْ تكونَ للشِّعرِ، بالذَّاتِ، لغةٌ واحدةٌ يكتبُ بها كلُّ الشِّعراءِ. أَليسَ بِهذا نبرئُ مترجمَ الشِّعرِ منْ تُهمةِ "الخيانةِ"، وإِن كانتْ "خيانةً أَنيقةً للنصِّ"، كما تقولُها يا صَديقي الجَميل؟ وأَيضًا، كمْ أَرى أَنَّ لغةً واحدةً للشِّعرِ، تَجعلُه كونيًّا، ودونَ الانتقاصِ، بشكلٍ أَو بآخرَ، منْ قيمتهِ الجماليَّةِ أَوَّلاً؛ ذلكَ الانتقاصُ الَّذي يمسُّهُ بشيءٍ منَ السُّوءِ، وحتَّى تتحقَّقَ هذهِ الأُمنيةُ (لغةٌ واحدةٌ للشِّعرِ)، فلنْ نكفُّ عن هذهِ الغَوايةِ، رغمَ تلكَ "التُّهمةِ" التي لا بدَّ منَ اقترافِها مع سَبقِ العنادِ والتَّودُّدِ!

الطَّبيعةُ وقلقُ الإِنسانِ المُعاصرِ

* أهديت بمحبة صافية ترجمة بديعة للمكتبة العربية، لماذا همس العشب ثانية؟ مختارات شعرية من "مشاهدة النار" للشاعر كريستوفر ميريل. لماذا هذا الاختيار بالتدقيق؟هل هناك تجاذب شعري قبلي لعالمه الإبداعي؟ وهل منحتك هذه المصاحبة ما يكفي للتجسس على رؤية هذا الشاعر للقصيدة والكتابة؟

- كانَ لِقائي البَصريُّ بشعرِ (كريستوفر ميريل) صُدفةً، فلمْ أَكنْ قرأْتُ لهُ، أَو سمعتُ عنهُ، قبلَ أَن تقعَ بينَ يديَّ مجموعتُه الشِّعريَّةُ "مشاهدةُ النَّارِ" بالإِنجليزيَّةِ، والتي احتوتْ على مختاراتٍ شعريَّةٍ من مجموعاتِه"كرَّاسةٌ"، و"حمَّى ومدٌّ"، و"حظٌّ".

تصفَّحتُ المجموعةَ، وقرأْتُ مِنها شذراتٍ غير منتظَمةٍ، فلفتَتْ انتباهيَ كثيرًا، واكتشفتُ أَنَّ شعرَهُ يتراوحُ بينَ تناولِ موادِّ الطَّبيعةِ لعالَمهِ الشِّعريِّ والإِنسانِ المعاصرِ القَلقِ جدًّا على نفْسهِ، وعلى كلِّ شيءٍ حولَه. إِنَّها أَشعارٌ ثريَّةٌ بالرُّؤيا لُغةً بلاغيَّةً، من خلالِ عُبورِها للحياةِ الطبيعيَّةِ والإِنسانيَّةِ الآنَ. إِنَّها تشتغلُ على الذَّاكرةِ الأُولى لهُ طفلاً كانَ، واستمرارًا حقيقيًّا ومتخيَّلاً، شخصًا وعالمًا، مع فائضٍ من أَسئلةِ الشِّعرِ التي لا جوابَ لها لدَى الشِّاعرِ.

لمْ تكُنْ في نيَّتِي التَّرجمةُ بعدَ القراءةِ الأُولى، أَمَّا بعدَ القراءةِ الثَّانيةِ الأَعمق، خطرتْ بِبالي أَن أَنقلَ شيئًا من تجربةِ هذا الشِّاعرِ إِلى اللُّغةِ العربيَّةِ، لأَنَّني وجدتُها تستحقُّ الاطِّلاعَ عليها؛ فهيَ تجربةٌ شعريَّةٌ جديدةٌ، لها منابعُها الخاصَّةُ بِها، وأُسلوبُها البلاغيُّ، واقتراحاتُها الشِّعريَّةُ الحديثةُ تَعنِي التَّميُّزَ والتَّفرُّدَ، كمَا هوَ الواجبُ الإِبداعيُّ المأْمولُ من أَيِّ شاعرٍ .

"كيفَ ابتَسمتْ شواهدُ القبورِ!

والغيومُ مثلَ أَزهارٍ،

استقرَّتْ فوقَ الأَشجارِ

بترتيباتٍ رماديَّةٍ،

عندَما اختبأْتُ فوقَ التلَّةِ

كيْ أُشاهِدَ جنازَتي." 

(من قصيدةِ: "حكايةٌ خرَّافيَّةٌ" لميريل)

أُمَّة (اقْرَأْ) لا تَقرأُ

* لشساعة متخيل الشاعر الأمريكي كريستوفر ميريل، ترجمت أعماله الشعرية لـ 28 لغة، كيف تلقى القارئ العربي الترجمة العربية التي أنجزتها؟

- لمْ أَرَ اهتمامًا عربيًّا، حتَّى لدَى المثقَّفينَ المهتمِّينَ، فأَحكي عنهُ، ربَّما بسببِ ضيقِ قَنواتِ التَّوصيلِ من هُنا إِلى السَّاحاتِ الثَّقافيَّةِ النَّحيلةِ، حدَّ الفجيعةِ، في العالمِ العربيِّ، وربَّما لأَنَّهُ شعرٌ، وأَنتَ تعرِفُ أَينَ وصلَ الاهتمامُ بالشِّعرِ لَدى أُمَّةِ الشِّعرِ (الشِّعرُ ديوانُ العربِ)! وتعرِفُ، أَيضًا، أَنَّ أُمَّةَ (اقْرَأْ) لا تقرأُ.

 لا بأْسَ.. هذا جزءٌ كبيرٌ من الإِحباطِ الشَّخصيِّ والعُمومِيِّ للشُّعراءِ، لكنْ ثمَّةَ عَزاء لنَا في مقولةِ (لويز جليك): "لمْ أَكنْ يومًا ممَّنْ يشعرونَ بضرورةِ توسيعِ قاعدةِ قرَّاءِ الشِّعرِ، فأَنا أَشعرُ أَنَّ مَن يحتاجونَ الشِّعرَ يجدونَه".

للحيادِ درجاتٌ متفاوتةٌ

* في ترجمة الشعر ليس هناك حياد تام للذات الشاعرة في توجيه بوصلة النص الشعري المترجَم، ما رأيك؟

- ليستِ التَّرجمةُ مرآةً تعكسُ كلَّ مَا في النَّصِّ الشعريِّ لأَنَّ التَّرجمةَ تحوُّلٌ من لُغةٍ إِلى أُخرى، كذلكَ لكلِّ لُغةٍ منَ اللُّغتينِ صفاتُها الخاصَّة، وبنيتُها التَّوليديَّةُ، وحياتُها الكائنيَّة، ومقاصدُ مَعانيها وتفسيراتُها... الخ.

هذا بعضُ مَا يتعلَّقُ باللُّغتينِ، لكنْ هناكَ الجوانبُ المختلفةُ المكوِّنةُ للمُترجمِ، وهنا أَعني تحديدًا المُترجمَ الشَّاعرَ اسْتنادًا إِلى ما وردَ في سؤالِكَ (الذَّات الشَّاعرة)، وتفضِيلي أَن يكونَ مترجمُ الشِّعرِ شاعرًا؛ ليسَ بدءًا من ذوقهِ الذَّاتيِّ وميلهِ إِلى نصٍّ مَا، وليسَ انتهاءً بإِتقانهِ، مَا اسْتطاعَ من كلِّ ما يلزمُ، النَّصِّ المُترجَمَ.

مَسأَلةُ الحيادِ وعدمهِ، أَو شيءٍ منهُ تعودُ للمترجمِ ذاتهِ، فللحيادِ درجاتٌ متفاوتةٌ، وحتَّى لَو قارنَ مُتمكِّنٌ منَ اللُّغتينِ، والتَّمكينُ أَيضًا مسأَلةٌ نسبيةٌ، لوجدَ أَنَّ مسأَلةَ الحيادِ علَيها كلامٌ حسبَ رؤيتهِ.

لكنْ بالضَّرورةِ أَن يعملَ المترجمُ ما أَمكنهُ من تقريبِ النَّصِّ الشِّعريِّ بلُغتهِ الأَصلِ إِلى النَّصِّ الشِّعريِّ باللُّغةِ المترجَمِ إِليها (لاَ أَعني الحَرفيَّةَ وإِن هيَ شبهُ مهمَّةٍ)، لأَنَّ الموضوعَ لا يَعني الأَصلَ والصُّورةَ.

أُحبُّ أَن أُترجمَ نصوصًا شعريَّةً مكتوبةً باللُّغةِ الإِنجليزيةِ إِلى اللُّغةِ العربيَّةِ، وليسَ العكسُ، لأَنَّ العربيَّةَ ثريَّةٌ جدًّا بأَكثرَ من مَعنى للكلمةِ الواحدةِ، حدَّ التَّضادِ أَحيانًا، وهذَا الثَّراءُ يوفِّرُ الكثيرَ للمترجمِ.

بالنِّسبةِ إِليَّ، فأَنا أَختارُ الكلمةَ الأَقربَ إِلى الشِّعرِ من جُملةِ المَعاني. هل هذَا يفسِّرُ عدمَ الحيادِ التَّامِّ؟ ربَّما، لكنِّي أَجدُ أَنَّ هذَا هوَ الأَفضلُ في ترجمةِ الشِّعرِ إِلى اللُّغةِ العربيَّةِ.

ليسَ شعرًا خارجَ السِّياقِ الشِّعريِّ

* هل القضية الفلسطينية كانت نِعمة أم نقمة على خريطة الشعر الفلسطيني، وكيف تفسرون ذلك؟

-  حساسيةُ الشَّاعرِ الحقيقيِّ الممزوجةُ بحواسِّهِ جِدُّ متأَثِّرةٍ بالقضايا الهامشيَّةِ، فكيفَ الحالُ بالقضايا المفصليَّةِ؟

ثمَّةَ نظرةٌ خاطئةٌ إِلى الشِّعرِ الفلسطينيِّ على اعتبارِ أَنَّهُ شعرٌ خارجَ السِّياقِ الشِّعريِّ العربيِّ، أَو الشِّعرِ عُمومًا. هذهِ النَّظرةُ حَصرتْهُ/ حاصَرتْهُ في أَتونِ السِّياسةِ قبلَ أَيِّ شيءٍ، لهذا كانَ مطالَبًا، دائمًا، بتقديمِ خطابِه الوطنيِّ/ الثَّوريِّ/ التَّحريضيِّ/ ...، دونَ الاهتمامِ حتَّى بأَدنى درجةٍ من درجاتِ جماليَّاتِ الشِّعرِ، وكأَنَّهُ شعرٌ مغفورٌ ذَنْبُهُ الإِبداعيُّ، طالمَا أَنَّهُ يطلعُ علينَا من قضيَّةٍ مقدَّسةٍ، وأَرضٍ أَقدَس.

لم أَكنْ، منذُ ما بعدَ بدايةِ مشواري الشِّعريِّ، أَنظرُ إِلى صكِّ الغفرانِ هذا، بالنِّسبةِ إِليَّ، على أَنَّه جوازُ سفرٍ لانتهاكِ فنِّيَّةِ الشِّعرِ، وشرودِه في الآفاقِ، فهذا ضدُّ حقيقةِ الجمالِ وضدُّ جمالِ الحقيقةِ.

بعدَ زلازلِ (اتِّفاقاتِ أُوسْلو)، والتي هزَّتِ الضَّميرَ الحيَّ، أَصبحَ الشَّاعرُ يكتبُ ذاتَهُ (كانَ ثمَّةَ انتصارٌ للسِّياسيِّ على الثَّقافيِّ، لأَنَّ الأخيرَ يشتغلُ على الحلمِ، بينما السِّياسيُّ يشتغلُ على المُتاحِ)، بعدَ أَنْ لم يستطعْ هذا بسببِ القضيَّةِ الوطنيَّةِ، على اعتبارِ أَنَّ الشِّعرَ الذَّاتيَّ لا يليقُ مع الوضعِ الفلسطينيِّ، لكنَّ الذي كنتُ أَدعو إِليهِ، منذُ ما قبلَ الانتفاضةِ الأُولى، هوَ أَنَّ على الشَّاعرِ أَن يكتبَ ذاتَه؛ أَيْ أَن يكتبَ ما تُمليهِ الذَّاتُ الشِّعريَّةُ/ الأَنا الشَّاعرةُ، مهما كانتِ الموضوعةُ.

لقدْ بدأَ كثيرٌ من الشُّعراءِ الفلسطينيِّينَ هذه الكتابةَ، بشراسةٍ، بعدَ انهيارِ الحلمِ الفلسطينيِّ، وحتَّى الجزئيِّ منهُ، لكنَّها جاءتْ في معظمِها بصورةٍ دماريَّةٍ/ سلبيَّةٍ/ يائسةٍ/ ...، وبرزَ هذا أَكثرَ في الجيلِ الشِّعريِّ الجديدِ الذي تلانَا (أَرفضُ مفهومَ المجايلةِ في الإِبداعِ، لكنْ لضرورةِ التَّوضيحِ لا أَكثر)، الذي تحطَّمتْ أَمواجُ آمالِه على صخرةِ الاتِّفاقِ/ الخديعةِ، فصارَ الشُّعراءُ الجددُ يكتبونَ النُّصوصَ الشَّخصيَّةَ، والإِيروسيَّةَ، والمتشظِّيةَ، والمتشائمةَ، والمهزومةَ، والكافكاويَّةَ، والسِّيزيفيَّةَ...، بدرجاتٍ جماليَّةٍ متفاوتةٍ.

لقد جاءَ التَّأْثيرُ عمومًا على الذَّاتِ الشِّعريَّةِ الخاصَّةِ قاتلاً، في حينِ أَنَّهُ كانَ على الشُّعراءِ إِيقاظَ حساسيةِ الانتباهةِ لدَيهم، لأَنَّ الشِّعرَ تحريضٌ فاحشٌ على الجمالِ/ الحقيقةِ/ المكاشفةِ/ الأَسئلةِ، ذلكَ أَنَّهُ "مساءلةٌ للماهيةِ، لا تعبيرٌ عَنها" كما قالَ (مارك دوتي). 

الشِّعرُ والخبزُ والسُّلطانُ

* يقول الشاعر الراحل نزار قباني في قصيدة "ماذا فعل العرب بالشعر؟" المنشورة بمجلة الناقد، العدد 26، غشت 1990، ص14:

"ماذا فعل العرب بشعرائهم الرائعين

الذين اخترعوا تاريخ السنبلة

وأبجدية المطر؟"

هل الوضع الاعتباري للشاعر في مجتمعاتنا العربية ممكن؟

- قبلَ بضعةِ أَيَّامٍ، سمعتُ معلِّقَ مباراةِ كرةِ قدمٍ، في دولةٍ عربيَّةٍ، يقولُ: إِنَّ الحضورَ تجاوزَ خمسينَ أَلفَ حاضرٍ، عدَا عنِ الَّذين يشاهدونَ المباراةَ عبرَ شاشاتِ التَّلفازِ! وفي أُمسيةٍ لشاعرٍ مشهورٍ وذي حضورٍ، كانَ الحضورُ (لا داعيَ لذِكْرِ العددِ!). هل تَكفي هاتانِ الواقعتانِ ردًّا على سؤالِكَ؟  

إِنَّ الشِّعرَ وحدَهُ، مهمَا بلغتْ درجةُ الإِبداعِ فيهِ، لا يصنعُ لشاعرِهِ وضعًا اعْتباريًّا يليقُ بشعرِهِ قبلَ شخصِهِ، لأَنَّهُ حتَّى الأَحجارَ الكريمةَ، تريدُ يدًا عارفةً بِها لاستخراجِها. هل كانَ يكفِي شعرُ أَبِينا (أَبي الطَّيبِ المُتنبِّي)، كي يكونَ لهُ اعتبارٌ يليقُ بهِ شاعرًا؟ لقد كانَ في زمنهِ، كما قرأْتُ، أَكثرُ من أَلفِ شاعرٍ، فلماذا هوَ بالذَّاتِ، كانَ لهُ وضعٌ اعتباريٌّ أَكثرَ بكثيرٍ جدًّا من غيرِه؟ قِسْ عليهِ شعراءَ آخرينَ معدودينَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

ثمَّةَ شعراءُ كثيرونَ، مبدعونَ ومهمِّونَ جدًّا في عصرِنا، ما يزالونَ يشتغلونَ لأَجلِ كفافِ يومِهم، وكمْ يكونُ هذا على حسابِ إِبداعهِم الذي لا ينتظرُ حينَ يأْتي! وثمَّة (شعراءُ) يتَّخذونَ منَ الشِّعرِ مطيَّةً لنَوايا شخصيَّةٍ مريضةٍ، كأَنَّها الضَّحكُ حتَّى على ذُقونِ الشُّهداء. 

لأَجلِ أَن يكونَ لكَ وضعٌ اعتباريٌّ، بل ومادِّيٌ أَيضًا، عليكَ أَن تقبلَ أَن تكونَ في حضنِ سلطانٍ ما، وإِذا أَردتَ أَن يعرفكَ النَّاسُ شاعرًا، دونَ وضعٍ اعتباريٍّ، فما عليكَ إِلاَّ بالشَّغبِ العَالي الجميلِ!

مَن يُريدهما سوفَ يجدُهما

* زمن الشعر أم زمن الرواية، جدال مَرّ ذات خريفٍ عابِسٍ، وترك رماده لطائر الفنيق، موقفك من هذا الرأي؟

- لا هذا ولا ذاكَ، فلا زمنَ للشِّعرِ، ولا زمنَ للرِّوايةِ، أَو لأَيِّ فنٍّ جماليٍّ. مَن يريدُ الشِّعرَ فسوفَ يَجدهُ، ومَن يريدُ الرِّوايةَ فسوفَ يَجدُها.

الجدلُ العابرُ الذي كانَ، ومالَ إِلى الرِّوايةِ، كان بسببِ غُربةِ الشِّعرِ الإِبداعيِّ عن عدمِ مُحاولةِ قرَّائهِ قراءتهُ قراءةً مختلفةً عمَّا أَلَفِ من أُسلوبٍ، وكذلك لِكثرةِ مُدَّعي الشِّعرِ، كما هو الحالُ في الغِناءِ اليومَ؛ ثمَّةَ استسهالٌ فيهِ، بل وفي جميعِ الفنونِ الأُخرى، وهذا انعكسَ سلبًا على الذَّائقةِ الشَّخصيَّةِ والجمعيَّةِ في آنٍ.

تقولُ (روزانا وارن): "الشِّعرُ إعادةُ تعريفٍ متواصلةٌ للجمالِ والحقيقةِ. الشِّعرُ هجومٌ كاسحٌ على جمالِ الأَمسِ الذي لم يعدْ له بريقٌ، وحقيقةِ الأَمسِ التي لمْ تعدِ اليومَ إلاَّ كذبةً."

رسالةٌ من الإِنسانِ إِلى الإِنسانِ

* حركة الشعر العربي في الخليج، هل هي امتداد للحركات الشعرية العالمية بما فيها المشرقية والمغربية وغيرها، أم نحتت لنفسها خريطة شعرية مغايرة احتفت بالعالم الجواني للذات الشاعرة ومعطيات الخارج؟

- لا يَنتمِي الشِّعرُ (ولا يَقبلُ)، وكافَّةُ الفُنونِ الإِبداعيَّةِ، إِلى جَغرافيَا، أَو جِنسيَّةٍ، أَو قَبَليَّةٍ... الخ، لأَنَّهُ رِسالةٌ منَ الشَّاعرِ الإِنسانِ (دونَ زمانٍ ومكانٍ) إِلى الإِنسانِ في كلِّ العالَمِ.

لقد كنتُ كتبتُ في دراسةٍ/ مُحاضَرةٍ  عنوانُها "الشِّعرُ لحوارٍ بينَ الحضاراتِ": "الشِّعْرُ بِوَصْفِهِ رِسَالَةً كَوْنِيَّةً تُؤَكِّدُ عَلَى اللَّهْفَةِ الشَّامِلَةِ، وَتُسَاهِمُ فِي صِيَاغَةِ التَّوَاصُلِ الْعَالَمِيِّ لِصَالِحِ تَشَابُكَاتِ اللَّحْظَةِ، فَقَصِيدَةٌ لِشَاعِرٍ مِنْ أَيِّ جُزْءٍ فِي الْكَوْنِ، تُحَرِّكُ مَشَاعِرَ الْبَشَرِ كَجِسْرِ حِوَارٍ دَاخِلِيٍّ تَضَامُنِيٍّ عَالِي الْقِيمَةِ، بِطَرِيقَةٍ تَمْزِجُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ، وَالمَوْضُوعِيِّ، وَالشُّمُولِيِّ، أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ قَرَارَاتِ المُنْتَدَيَاتِ الاقْتِصَادِيَّةِ، عَلَى أَهَمِيَّةِ اللَّحْظَةِ الاقْتِصَادِيَّةِ الرَّاهِنَةِ وَخُصُوصِيَّتِهَا".

لهذَا؛ أَرى أَنَّ حركةَ الشِّعرِ في الخليجِ (نقولُ الخليجَ مجازًا) ، لَيستْ مفصُولةً  عن حركةِ الشِّعرِ العربيِّ في مَغربِه ومَشرقِه، وبالتَّالي عن حركةِ الشِّعرِ العالميِّ أَوَّلاً، وثانيًا رأَيتُ، وأَرى، أَنَّ هذهِ الحركةَ، قَولاً وفِعلاً، قد تطوَّرتْ حداثةً بما يتساوقُ والحركةُ الشِّعريَّةُ العالميَّةُ، من حيثُ ضَرورة التَّجديدِ النَّابعِ من كتابةِ الذَّاتِ بالذَّاتِ منَ الدَّاخلِ، وكتابةِ الخارجِ، أَيضًا، من الذَّاتِ نفسِها، تحقيقًا لمقولةِ (تشيسلاف مييوش): "الشِّعرُ قِسمةٌ بينَ ما أَنتَ تعرِفهُ وما أَنتَ إِيَّاهُ"، لأَنَّ هذهِ الكتابةَ هيَ الأَصدقُ والأَجملُ والأَنقى، وصُولاً إِلى أَحقِّيَّةِ الحقيقةِ العادلةِ الجميلةِ.

شجرةٌ موصولةٌ ومستقلَّةٌ بذاتِها في آنٍ

* قصيدة النثر قصيدة مشاكسة ومشاغبة، سببت في حروب إبداعية جميلة متعددة، بين ما هو مناصر ومعارض ومتفرج، كيف تنظرون لهذه الحروب الإبداعية الفاتنة بين إثبات الشرعية وجدل الأسئلة غالبًا ما يُتخذ كتاب سوزان برنار(قصيدة النثر من بودلير إلى الآن) كمرجع ثابت مقدس، ألا ترى بأن المهم هو البحث عن خصوصيات قصيدة النثر العربية وآفاق اشتغالها، ورؤيتها للذات والإنسان والعالم، أي في علاقتها بالعوالم الجوانية للمبدع، وسر انتشارها السريع والفادح؟

- أَبدأُ من الاسمِ الذي أُطلِقَ علَيها وهوَ "قصيدةُ النَّثرِ"، والحقيقةُ التي رَآها صديقي الشَّاعرُ والنَّاقدُ شربل داغر (الذي قدَّمَ كتابَنا "الإِشراقةُ المُجنَّحَة")، أَنَّ ترجمةَ الاسمِ عن الفرنسيَّةِ، باعتبارِ مَصدرِها هناكَ، هو "القصيدةُ بالنَّثرِ". لقد قرأْتُ الكثيرَ عن السِّجالاتِ التي دارتْ بينَ الشُّعراءِ والنُّقَّادِ وغيرِهم، وإِنْ أُلخِّصها، فإِنَّني أُلخِّصها بالاختلافِ على التَّسميةِ/ المصطلحِ.

أَلمْ تَنْتهِ تلكَ السِّجالاتُ (الخصوماتُ/التَّافراتُ/التَّقارباتُ/ التَّباعداتُ/ ...) بعدُ، حتَّى وإِن هيَ أَنيقةٌ كمَا تصفهُا؟ مرَّاتٍ تُظهِرُ الأَناقةُ شراستَها مع هالةٍ من الكبرياءِ، فَتسُوقُنا إِلى بشاعةِ اللَّهوِ بمسائلَ غيرِ مُجديةٍ، إِن لمْ تكنْ مُجدِبةً أَصلاً!

ثمَّة مَن ادَّعى أَنَّ القصيدةَ بالنَّثرِ عربيَّةُ المنشأِ، وأَوردَ أَنَّ كتابَ أَبي حيَّان التَّوحيدي "الإِشاراتُ الإِلهيَّةُ" هو قصائدُ بالنَّثرِ. لا يَعنيني مكانَ ولادتِها ولا أَعتقدُ أَنَّهُ يَعنيها، فهي كرَّستْ هُويَّتها في العالمِ.

هل بالضَّرورةِ أَن نظلَّ نبحثُ عن شهادةِ ولادةٍ للشَّيءِ كيْ نُثبِتَ وجودَهُ رغمَ أَنَّنا نراهُ حقيقةً؟ ثمَّةَ عقمٌ سيصِلُنا (في مسأَلةِ القصيدةِ بالنَّثرِ قد وصَلَنا) قبلَ أَن نصلَ إِليهِ. هوَ أَرادَ أَن يُريحنَا من عبثِ الجدالِ، لكنَّ فينَا مَن لا يزالُ يصرُّ على مقارعةِ هواءِ الطَّواحينِ!

القصيدةُ بالنَّثرِ وَلِدتْ مع شرعيَّتِها كمَا يولَدُ كائنٌ من كائنٍ، لأَنَّهُ "لاَ شيءَ يأْتي من لاَ شيء" (شكسبير)، وتمامًا كمَا تمَّتْ ولادةُ القصيدةِ العموديَّةِ قبلَ أَكثر من أَلفٍ وسبعمائةِ سَنة، وقصيدةِ التَّفعيلةِ في الأَربعينيَّاتِ (ربَّما قَبل) منَ القرنِ العِشرين. إِذًا هيَ ليستْ نسيجُ نَفْسِها، بلْ هيَ تَحرُّرٌ/ تطوُّرٌ طبيعيٌّ كما يحدثُ لأَيِّ كائنٍ حيٍّ.

إِنَّني لا أَعتقدُ أَنَّ القصيدةَ بالنَّثرِ هي نبتةُ ظلٍّ، بل هيَ شجرةٌ موصولةٌ ومستقلَّةٌ بذاتِها في آنٍ، نبتتْ من بذرةِ تجديدٍ إِيقاعيٍّ وحداثةِ إِبداعٍ؛ أَيْ أَنَّها لا تعتمدُ على بحورِ الشِّعرِ؛ عربيَّةً كانت أَمْ غربيَّةً، بل تعتمدُ أَوَّلاً على إِيقاعِ اللُّغةِ، وما نراهُ من الكمِّ الكبيرِ منَ استسهالِها لدَى الكثيرينَ، خصوصًا في المواقعِ الإِلكترونيَّةِ، والخلطِ بينَها وبينَ الخاطرةِ النَّثريَّةِ مثلاً، هو بسببِ عدمِ وجودِ موهبةٍ أَصيلةٍ لدَى كاتبِها يُدرِكُ بها الإِيقاعَ اللُّغويَّ الَّذي هو بنيتُها الأُولى، إِضافةً إِلى أَنَّ لُغتَها هي لغةُ الحواسِّ، لا الوصفُ المباشَرُ الحكائيُّ، كأَنَّ الشَّاعرَ الَّذي لا يُدرِكُ ماهيَّتها يمسكُ آلةَ تصويرٍ بدلاً من ريشةٍ، وأَعني ريشةً فعلاً، وليسَ قلمًا. هذا مختصرٌ سريعٌ، لأَنَّ السُّؤالَ/ الموضوعَ بحاجةٍ إِلى أَكثر منْ هذا بكثيرٍ.

كأَنَّها أَوَّلُ الشِّعرِ

* النقد يهدف لإضاءة العمل الإبداعي، كيف تنظر للعلاقة القائمة بين القصيدة والنقد في مشهدنا الشعري الراهن؟

- هل هذهِ وظيفةُ النَّقدِ؛ أَن يحمِلَ النَّاقدُ مِصباحًا، ويسلِّطُ حزمَ ضَوئهِ على العملِ الإِبداعيِّ ليُضِيئَهُ؟!

العملُ الإِبداعيُّ ذاتيُّ الإِضاءةِ، مشكَّلٌ من طَبقاتٍ ضوئيَّةٍ فوقَ بعضٍ، وفي كلِّ قراءةٍ أَعمقَ، يزدادُ التَّوهُّجُ مُصاحبًا دهشةً للقارئِ الذي يُتقنُ قراءَةَ العملِ الإِبداعيِّ بإِبداعٍ أَيضًا.

أَتساءلُ: هل النَّقدُ ضَرورةٌ للشِّعرِ؟ ماذا يقدِرُ النَّقدُ أَن يفعلَ للقصيدةِ؟ كيفَ يمكِنُ الكتابةُ عن شيءٍ يعبُركَ من حواسِّكَ إِنْ لمْ يكُنْ وما بعدَها؟ هل الكتابةُ عن الحُلمِ/ الدَّهشةِ/ التَّحليقِ في سابعِ فضاءٍ ممكنةٌ؟ أَعتقدُ، جازمًا، أَنَّ الشِّعرَ لا يحتاجُ الكتابةَ عنهُ، بل يريدُ الإِحساسَ المُتوسِّعَ بهِ، لدرجةِ أَن لا تستطيعَ معها سِوى أَن تجرعَ خمرَةَ الصَّمتِ ممزُوجةً بتفتُّحِ الرَّعشةِ أَزهارًا في كلِّ خليَّةٍ من خلاياكَ.

معظَمُ النَّقدِ العربيِّ للشِّعرِ يدورُ حولَ الغلافِ الغازيِّ للقصيدةِ، لأَنَّهُ يقرَؤها، كما يفعلُ أَيُّ قارئٍ، أَو حتَّى مُتلقٍّ، دونَ أَن يضعَ جانبًا إِرثَ أَفكارِهِ المُسبقةِ عن الشِّعرِ. إِنَّ القصيدةَ المبدَعَةَ تُريدُ أَن تُقرَأَ كأَنَّهُ لا قصيدَة قبلَها، ولستُ أُغالي إِن قلتُ: كأَنَّها أَوَّلُ الشِّعرِ.

"أَنا شاعرٌ، وهوَ مجرَّدُ إِمبراطور"

* بين السياسي والثقافي صداقة قديمة، هل تنجو القصيدة غالبًا من هذه الثنائية؟

- "صَداقة؟!".. لاَ توجَدُ صداقةٌ بينَهما، لأَنَّ عملَ السِّياسيِّ يختلفُ كلِّيَّةً عن عملِ الثَّقافيِّ، إِلاَّ مَن تقرَّبَ من الآخرِ لغَرضِ تحقيقِ هدفٍ مَا.

هذهِ الحقيقةُ ليستْ جديدةً، فلَطالمَا كانَ التَّنافرُ بينهُما يصلُ حدَّ إِقدامِ السِّياسيِّ على كتمِ الثَّقافيِّ بشتَّى الوسائلِ، حينَ يشعرُ أَنَّهُ يشكِّلُ لهُ ناقوسَ تَنبيهٍ حينَ يتجاوزَ في سُلطاتِه الحُرِّيَّاتِ الطَّبيعيَّةَ، أَو المصلحةَ الوطنيَّةَ، لهذا نجدُ (أُوفيد) يثأَرُ للثَّقافيِّ / الشَّاعرِ منَ السِّياسيِّ: "أَنا شاعرٌ، وهوَ مجرَّدُ إِمبراطور!".

أَنا أَفهمُ دورَ الثَّقافيِّ أَمامَ السِّياسيِّ أَنَّهُ مُوَجِّهٌ لهُ يستفِيدُ من أَفكارِه، ويستطيعُ بِها أَن ينجوَ منَ الضُّغوطاتِ التي يتعرَّضُ لَها، حينَ يقيمُ حُكمًا ديمقراطيًّا، يعودُ إِلى الشَّعبِ في كلِّ مسأْلةٍ؛ خارجيَّةً كانتْ أَم داخليَّةً، وهذا يكونُ حينَ يُؤمِنُ السِّياسيُّ أَنَّ ثروةَ سُلطتِه أَو حُكْمهِ، هيَ الإِنسانُ أَوَّلاً.

الشَّاعرُ المبدعُ المثقَّفُ لا يبحثُ إِلاَّ عن الحقيقةِ والجمالِ والعدلِ والحبِّ، وعن كلِّ المعَاني الإِنسانيَّةِ السَّاميةِ، لهذا تجدُ هذا الشَّاعرَ تكتبُه قصيدتُه، لا هوَ، لأَنَّها تنبتُ في تُربةِ ذاتِه النَّقيَّةِ المُشبَعةِ بمَاءِ الحياةِ الأَنقَى.  

المهرجاناتُ الشِّعريَّةُ إِنصاتٌ خارجيٌّ

* المهرجانات الشعرية، هل تخدم متخيل الشاعر، أم مجرد لقاء للأحباء والأصدقاء من جغرافيات متعددة، يجمعهم قلق القصيدة، وتفرقهم وحشة المسافة؟

- لا أَعتقدُ أَنَّ المهرجاناتِ الشِّعريَّةَ تخدمُ متخيَّلَ الشَّاعرِ، بل هي، كما تصفُها، مجرَّدُ لقاءٍ. الشِّعرُ الإِبداعيُّ ليسَ لهُ أَن يَعتليَ المنابرَ لأَنَّ الإِنصاتَ هنا يكونُ إِنصاتًا خارجيًّا؛ إِنصاتًا لصوتِ الشَّاعرِ لا الشِّعر. سأَفسِّرُ هذا بالآتي:

حينَ يدخلُ الشَّاعرُ في مجهولِ القصيدةِ بذاكرتِه المُنتبِهةِ ومخيلتِه التَّأْويليَّةِ، ويخرجُ بنصٍّ شعريٍّ بعدَ أَمدِ معاناةٍ وعذابٍ مُريعٍ، يتدفَّقُ منهُ كأَنَّهُ عصارةُ الرُّوحِ، فكيفَ لهُ أَن يستعيدَ ويُعيدَ هذه الحالةَ منتصبًا على منصَّةٍ بصوتهِ فقط؟! كذلكَ، كيفَ للسَّامعِ أَن يدخلَ في حالةِ الشَّاعرِ ويُدركَ ما أَدركهُ وهوَ في حالةٍ نفسيَّةٍ مغايرةٍ؟! منَ الصَّعبِ الوصولُ حتَّى إِلى عتبةِ القصيدةِ عبرَ حاسَّةِ السَّمعِ فقط، لأَنَّ الشَّاعرَ الحقيقيَّ يكتبُ بلغةِ الحواسِّ، وبالتَّالي فإِنَّ القراءةَ يجبُ أَن تكونَ، أَيضًا، بلغةِ الحواسِّ.

العزلةُ ومزاجُ الإِبداعِ

* الكاتب المصري خيري شلبي اختار عزلة المدافن كمكان أثير للكتابة، حيث استأجر مدفنًا يبتعد فيه عن الناس جميعًا ليتفرغ لإبداعه. هل العزلة ضرورية لهذا الحد ومحرضة على الكتابة؟

- إِذا كانَ (خيري شلبي) قدِ اختارَ مدفنًا كيْ يعتزلَ النَّاسَ للكتابةِ، فإِنَّ (جان بول سارتر) كانَ كتبَ كتابَهُ الضَّخمَ الشَّهيرَ "الوجودُ والعدمُ" في مقهًى باريسيٍّ. هل لهذا علاقةٌ بالعزلةِ، أَم بطقوسِ الكتابةِ، أَم بزَمنِها؟ أَم بمكانِها؟

أَنَا أَرى أَنَّ العزلةَ ضرورةٌ لمزاجِ الإِبداعِ؛ أَن تكونَ كلُّكَ وحدَكَ آناءَ الكتابةِ، بعدَ أَن تكونَ بينَ مجموعٍ، تشاركُ، وتراقبُ، وتتأَمَّلُ، وتحلِّلُ، وتفكِّرُ، وتخزِّنُ، وتدرِّبُ مخيلتَكَ... الخ. العزلةُ أَحتاجُها جدًّا، لأَنَّها تمنحُني قدرةً على التَّركيزِ الإِبداعيِّ، وتفكيكِ المخيلةِ، وفتحِ دفاترِ الذَّاكرةِ، وسماعِ الصَّوتِ الخارجِ من داخِلي... كلُّ هذا وأَكثرُ، من أَجلِ كتابةِ نصٍّ شعريٍّ مُغايرٍ كلَّ مرَّةٍ؛ أَكونُ فيهِ شاعرًا واحدًا لقصيدةٍ واحدةٍ دائمًا.

"الشَّاعرُ يَعملُ"

* يُروى أن (سان بول روكان) يضع كل يوم على باب منزله الريفي في (كاماري) لافتة كتب عليها "الشاعر يعمل". هل عمل الشاعر على اللغة يشبه عمل النحات على منحوتاته، أو الفنان التشكيلي على لوحاته؟

- لاَ شكَّ أَنَّهُ يفهمُ ما يعملُ، ويَعِي الحاجةَ إِلى الإِتقانِ، لأَنَّهُ مَا من شيءٍ سهلٍ في الشِّعرِ؛ ابتداءً من بياضِ الورقةِ التي يراهَا الشَّاعرُ مُحيطًا لا إِناءَ لهُ، وليسَ انتهاءً بانتهاءِ القصيدةِ المُفترضِ. حتَّى فُسَحَ البياضِ في الورقةِ؛ حولَها وبينَ الكلماتِ، "هيَ صمتٌ، لاَ ورقٌ" كمَا يَراها (جوري جراهام).

هذَا الصَّمتُ الدَّاخليُّ من ضرورةِ الصَّمتِ الخارجيِّ، لترتيبِ الإيقاعِ اللُّغوي؛ "الشِّعرُ إِيقاعٌ أَكثرُ منهُ مضمونٌ، والنَّغمةُ أَخفى أَسرارِ الشِّعرِ" (شيمس هيني)، ولترتيبِ الشَّكلِ البصَريِّ للقصيدةِ، وذلكَ بتفعيلِ الشَّاعرِ لمخيلتهِ وذاكرتِه.

إِنَّ عملَ الشَّاعرِ على اللُّغةِ هوَ العملُ الأَساسُ في النَّصِّ، فالشِّعرُ لغةٌ أَوَّلاً. هذهِ اللُّغةُ بحاجةٍ إِلى الشَّاعرِ الرَّسَّامِ بريشتهِ المغموسةِ بماءِ كلِّ شيءٍ، والشَّاعرِ النَّحَّاتِ بإِزميلهِ الَمبرِيِّ بكلِّ شيءٍ، حتَّى يخرُجَ إِلينَا من فضاءِ عزلتهِ الفسيحِ بالتَّعبِ الكلِّيِّ، حاملاً قطعةً من روحهِ، يضعُها أَمامنَا دونَ انتظارِ شيءٍ من أَحدٍ. 

قرانٌ جميلٌ

* هل من علاقة محتملة بين الإبداع والجنون؟

- كلُّ عملٍ إِبداعيٍّ هو جنونٌ جميلٌ؛ جنونٌ ليسَ كما يفهمهُ كثيرٌ منَ النَّاسِ أَنَّهُ مرضٌ كأَيِّ مرضٍ فسيولوجيٍّ!

فكرةُ الإِبداعِ تشرقُ من حُلمٍ، أَو مُستحيلٍ، لذا فهيَ غالبًا ما تُفسَّرُ بالجنونِ، حيثُ يبدأُ الحالمُ/ المبدعُ بمحاولةِ تطبيقِ حُلمِه إِنجازًا مرئيًّا في الحياةِ، وحينَ يفشلُ مرَّةً أَو أَكثرَ، ولأَنَّ حُلمَه في نظرِ الآخرينَ استحالةٌ، تنشأُ العلاقةُ بينَ الإِبداعِ والجنونِ، كردٍّ فوريٍّ على فشلِ التَّطبيقِ، لذا تجدُ أَنَّ العزلةَ هيَ المأْوى لحينِ أَن يتحوَّلَ الحلمُ إِلى صيرورةٍ قائمةٍ على صدمةٍ متأَلِّقةٍ، ودهشةٍ لذيذةٍ، وقرانٍ جميلٍ بين الإِبداعِ والجنونِ.

الطفلةُ التي تُشاغبُ فيَّ

* داخل كل شاعر طفل ما، ينصت لسكناته وحركاته، هل طفلك الساكن في أعماقك مشاغب، أم مدلل؟

- صحيحٌ أَنَّ داخلَ كلِّ شاعرٍ طفلاً، لكنِّي أَشعرُ أَنَّ الَّذي في داخِلي هو طفلٌ أُنثويٌّ. لقدِ انتبهتُ أَكثرَ إِليهِ/ إِليها في مَجموعتِي الشِّعريَّةِ "كتابُ المُنادَى"، ومن ثمَّ تحرَّكَ/ تحرَّكتْ في داخِلي أَكثرَ فأَكثرَ في المجموعاتِ الَّتي تَلتْها، مُسيطرًا/ مُسيطرةً عليها كلِّها؛ "خلفَ قَميصٍ نَافرٍ"، و"هاوياتٌ مُخصَّبَةٌ"، و"أَطلسُ الغُبارِ"، و"معجمٌ بكِ"، وآخرها "كأَعمى تَقودُني قَصبةُ النَّأْيِ".

هذهِ الطِّفلةُ تشاغِبُ في داخِلي/ داخلَ النَّصِّ الشِّعريِّ، بِهُدوءٍ تأَمُّليٍّ، واسْتبصارٍ في كلِّ خطوةٍ لأَجْلِ حَذَرِها اللُّغويِّ أَوَّلاً ودائمًا، وتنشيطِ البياضِ لحراثتِه، فَتسجيلِ الحُلمِ ما أَمكنَ (الحُلمُ) الشَّاعرَ منَ استطاعةِ التَّأْويلِ البَصَريِّ. هكذا شاءتْ هيَ أَن تكونَ دونَ تدخُّلٍ من الأَنا الشَّاعرةِ، فكانَ ما أَنجزَه الشَّاعرُ فيَّ حتَّى مَشرقِ التَّوهُّمِ!

شرفةُ القصيدةِ الأُولى

* عملية اختيار عناوين الدواوين والقصائد صعبة، وأحيانًا كثيرة تؤرّق الشاعر، كيف تختار عناوين قصائدك، وهل من طقوس معينة في الاختيار؟

- ما من شيءٍ سهلٍ في الشِّعرِ الإِبداعيِّ. القصيدةُ معاناةٌ من أَوِّلِ بريقِها إِلى أَن تُصبحَ مِدادَ ضوءٍ على أَديمِ الحياةِ. اختيارُ العناوينِ يقعُ ضمنَ هذهِ المعاناةِ، لكنَّها أَقلُّ قليلاً منَ الكتابةِ الشِّعريَّةِ ذاتِها.

العنوانُ جزءٌ مهمٌّ منَ القصيدةِ، ليسَ من أَجلِ أَن تُسمَّى بهِ كما تُسمَّى الأَشياءُ فقط، بل لأَنَّهُ يمثِّلُ شُرفتَها الأُولى التي تلوِّحُ لنَا مِنها للدُّخولِ فِيها. أَحيانًا يأْتي العنوانُ مع القصيدةِ، وأَحيانًا أَظلُّ أَنتظرُه إِلى حينٍ ما، وأَحيانًا أَستخرجُه مِنها بعدَ طُولِ لأْيٍ.

قراءةُ الحياةِ بكلِّ مكوِّناتِها

* لكل شاعر مرجعياته التخيلية والجمالية لبناء عالمه الإبداعي، ما هي ينابيع ومجاري أنهارك الشعرية لتأسيس قصيدتك؟

- لا أَستطيعُ حصرَها، لأَنَّها لا تَنحصرُ في القراءَاتِ فقط، بل هيَ أَكثرُ من هذَا؛ إِنَّها في قراءةِ الحياةِ بكلِّ مكوِّناتِها، لأَنَّها تتراكمُ شيئًا فشيئًا، ولحظةً إِثرَ لحظةٍ، لتُشكِّلَ المصادرَ والمراجعَ والينابيعَ الفكريَّةَ والفنِّيَّةَ والجماليَّةَ. كلُّ هذهِ تعملُ في الذَّاتِ الموهوبةِ، كأَنَّها ثمارٌ ذاتُ بذورٍ ناضجةٍ تغوصُ في تُربتِها العطشَى.

كنتُ أَقرأُ أَيَّ شيءٍ تقعُ عليهِ عينايَ، كنتُ جَرادةَ قراءةٍ، ولمْ أَكنِ انتقائيًّا آنذاكَ، لكنْ تجدُ نفْسَكَ، بعدَ نُضجِ التَّجربةِ، أَنَّكَ ميَّالٌ إِلى قراءاتٍ معيَّنةٍ، ولا تجدُ لهذا تفسيرًا إِلاَّ التَّفسيرَ النَّفسيَّ المُستمدَّ منَ الميلِ الشَّخصيِّ أَوَّلاً.

تَوَرُّثٌ وتجديدٌ

* هل قتل الأب رمزيًّا في القصيدة، دليل على خلق أراضٍ شعرية مغايرة؟

- ما من قتلٍ يمكنُ أَن يُنجزَ إِطلاقًا، لأَنَّ الكتابةَ الإِبداعيَّةَ تَوَرُّثٌ وتجديدٌ دائمًا، لذَا لا يمكنُ أَنْ تكونَ كتابةٌ من عدمٍ، فالكتابةُ حلقاتٌ متشابكةٌ، يضيفُ كلُّ مبدعٍ حلقتَه إِليها. إِنَّ قطعَ الحبلَ السُّرِّيَّ ضرورةٌ حياتيَّةٌ، لكنَّ هذهِ العمليَّةَ الانفصاليَّةَ لا تقطعُ المُورَّثاتِ الجينيَّةَ، والمبدعُ عليهِ أَنْ يجدِّدَها ويطوِّرها بعدَ أَنْ يكونَ قد اسْتقَى مِنها ما يلزمُ، ومن ثمَّ يبتكرُ جِيناته الخاصَّةَ بهِ، والتي تحملُ صفاتَهُ الحديثةَ والجديدةَ، فلا يكونُ نسخةً عن أَحدٍ، بل عليهِ، بابتكارهِ، أَن يجعلَنا نحسُّ أَنَّهُ نسيجُ ذاتِه فقط.

القصيدةُ وعذاباتُها العذبةُ

* قصيدة عذبتك كثيرًا قبل ولادتها الأخيرة؟

- ما من قصيدةٍ مُبدَعةٍ لا عذابَ يُرافقُ حَمْلَها وولادتَها، بل وحتَّى العنايةَ بها. هيَ شيءٌ جديدٌ سيخرجُ للحياةِ أَوَّلَ مرَّةٍ، وأَيُّ شيءٍ جديدٍ سيخرُج من الرَّحمِ الذي هو فيهِ سيفرزُ معهُ معاناةً لمَن يضمُّه في رحمِه. لذَا، لا أَذكرُ قصيدةً، حتَّى في بداياتِي، كانت محلِّقةً بينَ حُرقةِ الحبرِ ورقَّةِ الورقِ، وأَنَّها كانت تتجلَّى بوضوحٍ أَمامَ عينيَّ، وأَنَّني لَمْ أَكنْ سِوى ناسخٍ لها، أَو مُدوِّنًا.

طبعًا، ثمَّةَ عذابٌ متفاوتٌ بين قصيدةٍ وأُخرى، وهذا يتعلَّقُ باعتباراتٍ عدَّةٍ، مثلَ درجةِ حساسيِّةِ موضوعِها، ووضْعِ شاعرِها النَّفسيِّ، ومقدارِ نُضجِ حواسِّهِ، وحديقتهِ الفكريَّةِ والمعرفيَّةِ. أَعجبتني، وأَراها تضيفُ إِلى ردِّي إِضافةً مهمَّةً، مقولةُ الشَّاعرِ (تشارلز سيميك)،: "الشِّعرُ ثلاثةُ فردِ أَحذيةٍ غير مُتطابقةٍ في مدخلِ عمارةٍ مُعتمةٍ".     

هل ما يَراهُ هو القصيدةُ ؟

* ما هو إحساسك بعد الانتهاء من كتابة قصيدة؟

- ثمَّة ما قلتُه في هذا شعرًا:

"حِينَ انْتَهَى مِنْ وَجْهِهَا الْبَرِّيِّ أَطْفَأَ عَيْنَهُ

ذَاكَ الدُّخَانُ، تَمَدَّدَ الْجَسَدُ الطَّرِيُّ، تَثَاءَبَتْ

كُلُّ المَفَاصِلِ وَالْحَوَاسْ،

وَرَأَى بِأُخْرَى أَنَّهُ

فِي حَالَةِ الْإِغْمَاءِ أَنْضَجَ مِنْ فَوَاكِهِ تُشْتَهَى..

لَمْ يَسْتَرِحْ فِي مِتْعَةٍ

قَلَقٌ يُطَالِعُ بُقْعَةَ اللَّوْنِ/ الْحِكَايَةَ فِي بَرَارِيهَا/ المَدَى

وَهُوَ انْتِظَارَاتُ الصَّدَى..

هِيَ هكَذَا، أَوْ هكَذَا

تَأْتِي إِلَيْهِ كَأَنَّهَا الْأُولَى، فَيَرْشُقُ سُؤْلَهُ

مِنْ فُوَّهَاتِ جُنُونِهِ:

هَلْ مَا يَرَاهُ هُوَ الْقَصِيدَةْ؟"

الشِّعرُ خارجَ الزَّمانِ والمكانِ

* زمان ومكان الكتابة يختلف من مبدع أو شاعر لآخر، منهم من يكتب في الليل، ومنهم في ساعات الصباح الأولى، بعضهم يفضل المقهى، آخرون عزلة في مكاتبهم، كيف هي طقوس الكتابة عندك زمنيًّا ومكانيًّا؟

- لأَنَّني أَعتبرُ نَفْسي شاعرًا لا زمانيًّا ولا مكانيًّا (هكذا على الشُّعراءِ أَن يكُونوا)، ولأَنَّ الشِّعرَ يحضرُ بذاتهِ أَينَ شاءَ ومتى شاءَ، فإِنَّ على الشَّاعرِ أَنْ يتوقَّعَ حضورَهُ في أَيَّةِ لحظةٍ، وفي أَيِّ مكانٍ، وبالتَّالي فإِنَّه منَ المفترضِ أَن لاَ طقوسَ لهُ، فهوَ فنٌّ كتابيٌّ يختلفُ كليًّا عن الفنونِ الكتابيَّةِ الأُخرى كالرِّوايةِ والقصَّةِ مثلاً.

القصيدةُ لها برقتُها الأُولى، وتكونُ قبلَ فكرتِها، ولأَنَّ الشَّاعرَ المبدِعَ لا يَجلسُ ليكتبَ قصيدةً بإِرادتهِ ووعيهِ، لذَا فأَنا أُحاولُ أَن أَلتقطَها ما استطعتُ، بتدوينِها على أَيِّ شيءٍ، ولَوْ على سطحٍ مكسوٍّ بالغُبارِ، لأَنَّها برقةٌ/ ومضةٌ/ شعاعٌ سريعٌ خاطفٌ، ولأَنَّها- بعدَ بريقِها والتقاطهِ، تصيرُ دخولاً في عوالمَ مجهولةٍ غيرِ مرئيَّةٍ للشَّاعرِ. هذه الومضةُ كانت مشروعَ كتابي "الإِشراقةُ المُجنَّحَةُ- لحظةُ البيتِ الأَوَّلِ منَ القصيدةِ"، حيثُ شاركَ في هذا الكتابِ مائةٌ وواحدٌ وثلاثونَ شاعرًا/ةً في رصدِ هذهِ اللَّحظةِ، وكانت الشَّهاداتُ إِبداعًا آخرَ على إِبداعِهم الشِّعريِّ.  صدرَ الكتابُ، والذي يُعتبَرُ الأَوَّلَ من نَوعهِ من حيثُ المحتَوى، بثلاثمائةٍ وستِّينَ صفحةً من القطعِ الكبيرِ، وبتقديمِ الشَّاعرِ والنَّاقدِ (شربل داغر) تحتَ عنوان "لحظةٌ بأَبدٍ.. إِنْ أُتيحَ لها أَن تُشرقَ".

نحنُ  نُوجَدُ، فيما أُطلقَ عليهِ في الحياةِ/ المكان، ضمنَ سياقِ الزَّمانِ، وشِعريًّا؛ لستُ أُؤمنُ بِهذا ولا ذاكَ؛ مَا من مكانٍ ولا زمانٍ في الشِّعرِ؛ كِلاهما ظلٌّ لشيءٍ مُشتَبهٍ بهِ. الزَّمانُ هو ساعةُ الرَّملِ بذرَّاتِها اللاَّسعةِ فوقَ جلودِنا البيضَاء، والتي لا يمكنُ أَن نَقلِبها لتكرِّرَ ذرَّاتها مرَّةً أُخرى، والمكانُ الذي هو إِناءُ ساعةِ الرَّملِ، حالةٌ افتراضيَّةٌ لا أَكثرَ. المكانُ والزَّمانُ يكونانِ في حالةِ الخلودِ، وبما أَنَّهُ ما من خلودٍ هنَا، فإِنَّهما افتراضانِ/ احتمالانِ/ تَوَهُّمانِ لا أَكثرَ، لذَا ما من لاعبٍ حقيقيٍّ سوى الشَّاعرِ/ المبدعِ عمومًا، الذي يَبقرُ رحمَهُما ليكونَ خارجَهما، لهذا نجدُ إِبداعَه خارجَ سياقِهما جمالاً وحقيقةً، وأَيُّ عملٍ يُنتَج داخلَهما، هو عملٌ ثابتٌ ومكرَّرٌ وغيرُ رؤيويٍّ على الإِطلاقِ. المهمُّ هو العثورُ على المفتاحِ أَوَّلاً، ومن ثمَّ إِنشاءُ النَّسيجِ الذَّاتيِّ للشَّاعرِ. "لقدْ عثرتُ على المفتاحِ وتفرَّدتُ بهِ لوَحدي" (آرثر رامبو).

بالنِّسبةِ إِليَّ، كان عليَّ أَن أَفقَه لأَفهقَ هذا الرَّحمَ؛ لأَلفُظَ "الزَّمكانَ"، ولأَنتخبَ الفضاءَ؛ الحريَّةَ.. الحبَّ.. الحقيقةَ.. الحياةَ... وأَنا ما زلتُ أَشتغلُ، منذُ أَن قطعتُ الحبلَ السُّرِّيَّ، على هذا، ثمَّ إِنَّهُ لعلِّي لم أَبلغِ الرُّشدَ بعدُ.. هل أُريدُ؟

لا أَعتقدُني فكَّرتُ بهذا رغمَ الخمسينَ من أَعوادِ ثقابِ عُمري التي تحاولُ الاحتفاظَ بلهبِها إِلى أَن تسقطَ ورَقَتي من السِّجلِّ العاليِّ.

كأَنَّهُ وردةٌ عاشقةٌ

* قراءة الإبداع بمختلف أجناسه على الشبكة العنكبوتية/ الإنترنيت، هل عوضت فعلاً حميمية ودفء ومتعة الكتاب الورقي؟

- لاَ.. لمْ تفعلْ هذَا، بلْ زادتِ الحنينَ إِلى الكتابِ؛ إِلى عناقهِ كامرأَةٍ، وتمريرِ الأَصابعِ فوقَ كلماتِه، وشمِّ رائحةِ ورقهِ وحبرهِ كأَنَّهُ وردةٌ عاشقةٌ. هذهِ الشَّبكةُ حَرمَتْنا من حقِّنا برجفاتِ الحواسِّ حينَ يقعُ الكتابُ، أَوِ المجلَّةُ، أَوِ الجريدةُ بينَ أَيدينَا. بالنَّسبةِ إِليَّ، أَلجأُ كثيرًا إِلى الطِّباعةِ عنِ الشَّبكةِ كيْ لاَ أَفقدَ الحالةَ المُشتهاةَ تلكَ.

كنتُ كتبتُ مقالةً بعنوان "الإِطلالُ من نوافذِ الورقِ ونوافذِ الزُّجاجِ"، حولَ النَّشرِ الورقيِّ والنَّشرِ الإِلكترونيِّ، وتطرَّقتُ فيها إِلى عذابِ النَّشرِ أَيضًا، عدَا عن عذابِ الكتابةِ، وممَّا جاءَ فيهَا: كانَ الإطلالُ من نوافذِ الورقِ (في جريدةٍ أَو مجلَّةٍ) يُشكِّل شهادةَ ولادةٍ للنَّصِّ، لهذَا كنتُ أَفرحُ حينَ أَراهُ، فأَحتضنُ الجريدةَ أَوِ المجلَّةَ كثيرًا، كأَنَّها هديَّةٌ مفاجئةٌ لمْ تكنْ تخطرُ في بَالي رغمَ توقُّعِها. لكنَّ الإِطلالَ من نوافذِ الزُّجاجِ، رغمَ مساحتهِ التي تتشاسعُ كلَّ يومٍ، حرَمنِي من عبيرِ الحبرِ، ورائحةِ الورقِ، وعناقِ جسدِ النَّصِّ. طبعًا لاَ أَعني بهذَا أَنَّني ضدُّ نوافذِ الزُّجاجِ، لكنَّها حالةُ الحنينِ إِلى مَا كانَ (...) كلاَهما وردةٌ.. لكنْ؛ ثمَّةَ فرقٌ واضحٌ جدًّا (لمْ يزلْ من وجهةِ نظرِي، ربَّما بسببِ أَنَّني مخضرمٌ من ناحيةِ النَّشرِ) بينَ الوردةِ الحقيقيَّةِ والوردةِ البلاستيكيَّة.. أَليسَ كذلكَ؟!

بينَ الوفاءِ ونرجسيَّةِ الشَّاعرِ

* كتاب (مرايا الصهيل الأزرق- رؤية. قراءات. حوارات) الذي صدر لك مؤخرًا، هل هو توثيق لذاكرة الشعر واللغة ضد كل أشكال المحو والنسيان، أم غبطة جمع أنفاس الروح والحلم والكتابة بين دفتي كتاب؟

- لأَنِّي أُحبُّ الوفاءَ كثيرًا، ولأَنِّي رأَيتُ أَن أَجمعَ شتاتَ القراءاتِ والحواراتِ المُنتشرةِ في أَكثرَ من صحيفةٍ ومجلَّةٍ وموقعٍ إِلكترونيِّ حيثُ أَتوقَّعُ أَن لاَ أَجدَ أَحدًا سيجمعُها في المُستقبلِ، لذَا قرَّرتُ جمعَها في كتابٍ خاصٍّ. إِنَّني أَعتبرهُ (شهادةَ تقديرٍ) لي، كمَا اعتبرتُ كُتبًا سابقةً: "مراتبُ النَّصِّ- قراءةٌ في سيرةِ محمَّد حلمي الرِّيشة الشِّعريَّةِ" للشَّاعرِ والنَّاقدِ الرَّاحلِ مبكِّرًا علاَء الدِّين كاتِبَة، وكتاب "ضفافُ الأُنثى: سطوةُ اللَّحظةِ وطقوسُ النَّصِّ- مقارباتٌ في شعرِ محمَّد حلمي الرِّيشة" للنَّاقدِ د. إِبراهيم حسَّونة.

هل أَكونُ وقِحًا حينَ أَقولُ: لمْ أَحصلْ طوالَ مَسيرتي الشِّعريَّةِ، الَّتي تجاوزَ عمرُها خمسًا وثلاثينَ سنةً، على أَيَّةِ جائزةٍ مثلاً، أَو تقديرٍ وتكريمٍ مادِّيَّيْنِ؟ بل ما زلتُ أَطبعُ كُتبِي على نَفَقتي الخاصَّةِ وعلى حسابِ عائِلَتي، من شدَّةِ إِخلاصي وجُنوني، وأُوزِّعها بيديَّ مجَّانًا!   

بإِمكانكَ أَن تقولَ: إِنَّهُ من بابِ التَّوثيقِ، للشِّعرِ والشَّاعرِ، ضدَّ الضَّياعِ، أَوِ الإِهمالِ، أَوِ النِّسيانِ... وبإِمكانكَ أَن تقولَ: إِنَّهُ شيءٌ من نرجسيَّةِ الشَّاعرِ.    

الحبُّ .. الشِّعرُ .. المستحيلُ

* ماذا تمثل لك قصيدة "(لاورا) اللغز المبتسم غموضًا"، والتي كتبت قبل واحد وثلاثين سنة، تمثل تراجيدية مدمرة بين شاعر وامرأة، فَقدٌ بطعم الحنين، ووعد مات قبل وصول التحية...؟

- كنتُ قرأتُ، في ذلكَ الوقتِ، القصَّةَ التِّراجيديَّةَ للشَّاعرِ الإِيطاليِّ (فْرَانْتْشِيسْكُو بِتْرَارْكَا 1304-1374م)؛ هذا الشَّاعرُ الذي أَحبَّ حبًّا مُستحيلاً دامَ واحدًا وعشرينَ سنةً، وعاشَ وماتَ في المنفَى بعيدًا عن وطنِه، وهذا الحبُّ هو امرأَةٌ لمحَها مرتديةً بُرقعًا في كنيسةٍ ذاتَ صباحٍ من شهرِ نيسانَ؛ امرأَةٌ تموتُ بعدَ لمحةِ العينِ تلكَ بواحدٍ وعشرينَ سنةً بالتَّمامِ، ودونَ أَن تعرفَ هي بِهذا العشقِ طوالَ تلكَ المدَّةِ، والتي كتبَ خِلالها لَها أَكثرَ من أَلفٍ وأَربعمائةِ "سُونيَّتَهْ Sonetta"، لمْ تَقرأْها.. إِنَّهَا (لاوْرَا مِينِيأَتُورَا). هذه القصَّةُ تركتْ أَثرَها الهائلَ في نَفْسي، إِذ كنتُ آنَها في بداياتِ تَمارِيني الشِّعريَّةِ، تُرافقُها حالةُ حبٍّ يدخلُ القلبَ أَوَّلَ مرَّةٍ وفجأَةً من نافذةِ المراهقةِ، ويتعثَّرُ من بداياتِه.

رسالةٌ إِلى (م) الأَديبِ

* كيف تنظر بعد هذا العمر، إلى ذكرياتك القديمة الأولى مع أول قصيدة كتبتها أو نشرتها؟

- هيَ لم تكنْ قصيدةً، رغمَ إِصرارِ بعضِهم، آنذاكَ، أَنَّها قصيدةٌ؛ هل كانَ إِصرارُهم مجاملةً وهميَّةً، أَم تشجيعًا خائنًا، أَم تحريضًا مريضًا لأَجلِ مُحاولةِ الثَّانيةِ؟ لستُ أَعرفُ حتَّى هذهِ اللَّحظةِ! ربَّما لأَنَّ نشرَها جعلَها تُسمَّى قصيدةً، رغمَ أَنَّها لم تكنْ عموديَّةً، أَو تفعيليَّةً، بل كانتْ رسالةً عاطفيَّةً، أَخرجتُها بشكلِ القصيدةِ التَّفعيليَّةِ (كانتْ دونَ وزنٍ عَروضيٍّ لأَنَّني لَمْ أَكنْ مُلمًّا بعدُ بعلمِ العَروضِ) وذلكَ للتَّمويهِ كيْ تُنشرَ، فترَاها جهةُ الوصولِ)، لا أَذكرُ منها سِوى عنوانِها "رسَالة إِلى (م)"، لكثرةِ ما سُئلتُ عنها في حواراتٍ وغيرِها، وها أَنتَ تفعلُ كذلكَ.

الطَّريفُ المؤلمُ أَنَّ نشرَها، بصفتِها قصيدةً، وغزليَّةً أَيضًا، كانَ سببًا لهجومِ مدرِّسِ التَّربيةِ الدينيَّةِ عليَّ منذُ لحظةِ دخولِه غرفةَ الفصلِ الدِّراسيِّ: "أَتكتبُ غزلاً يا ولد؟!" (حينها عرفتُ منهُ عن نشرِها في الصَّحيفةِ)، ومن ثمَّ إِخراجي من الفصلِ الدِّراسيِّ لبضعةِ حصصٍ مُتتاليةٍ، عقوبةً لي، إِثرَ جدالٍ قصيرٍ جدًّا، لم أَطلبْ فيهِ، بصفتهِ قد تحوَّلَ، فجأَةً، إِلى قاضٍ، أَن أَعرفَ تُهمتي أَوَّلاً. كانَ الأَكثر دهشةً بالنِّسبةِ إِليَّ، لمَّا كتبَ محرِّرُ الصَّفحةِ، في الأُسبوعِ التَّالي، مقالةً عنونَها "رسالةٌ إِلى (م) الأَديبِ" حيثُ (م) هذهِ المرَّة تَعني الحرفَ الأَوَّلَ منِ اسمِي، مادِحًا "القصيدةَ"، وواصفًا كاتبَها أَنَّهُ أَديبٌ (لم يكتبْ أَنَّهُ شاعرٌ)، ومُعتقدًا أَنَّهُ كبيرُ العمرِ، وكانَ أَن تفاجأَ بصغرِ سنِّي (14 سنةً)، حينما قدَّمني إِليهِ (إِلى المحرِّرِ) وكيلُ وموزِّعُ الصّحيفةِ قائلاً لهُ: هذا هوَ (م) الأَديبُ!

أَعترفُ بأَنِّي حاولتُ "القصيدةَ" الثَّانيةَ؛ ليسَ بعدَ نشرِ الأُولى، أَو مقالةِ المحرِّرِ فقط، بل لأَنَّني أَردتُ من (م) الأُنثى، أَن تعرِفَ أَنَّني صِرتُ (شاعرًا) بينَ عشيَّةٍ وضُحاها (بينَ قصيدةٍ ونشرِها)، لإِظهارِ تفوُّقِ العاشقِ المراهقِ (شاعرًا) على مَشاعرِها المُنكِرةِ لَهُ.

إِنَّني أُفكِّرُ، منذُ مدَّةٍ لا بأَسَ بِها، أَن أَكتبَ "سِيرَتي الشِّعريَّةَ"، وها هوَ سؤالُكَ يُذكِّرني بِها (قد لا تكونُ مهمَّةً لأَحدٍ.. سِوايَ، فقط.. لأَختمَ بِها رِحلَتي الأَدبيَّةَ)، حيثُ تشتعلُ الفكرةُ حِينًا، وتنطفئُ أَحايينَ أَكثرَ، إِذ لم أَستطعْ حتَّى الآنَ، أَن أَقتطعَ لها وقتًا في ازدحامِ وقتِي.

حَياتي الشِّعرُ

* هل كتابة السيرة الشعرية ضرورية لمعرفة مسارات القصيدة واللغة عند الشاعر؟

- لستُ أَعرفُ، رغمَ أَنَّني فكَّرتُ مرارًا بِها، ورغبتُ بالمحاولةِ، إِلاَّ أَنَّني لمْ أَجدْ وقتًا لهَا، لأَنَّ الموضوعَ ليسَ سهلاً، وهوَ بالنِّسبةِ إِليَّ يشبِهُ حالةَ الكتابةِ الشِّعريَّةِ، وهوَ استعادةٌ من بعيدٍ؛ عالٍ وعميقٍ وأُفقيٍّ ممدودٍ في آنٍ، كأَنَّهُ كلُّ الوقتِ الماضِي، وكأَنَّهُ الأَمسُ، وكأَنَّهُ الآنَ، وكأَنَّهُ غدًا، وكأَنَّهُ لمْ يكنْ!

هذهِ حالةٌ تنتابُني كثيرًا حينَ أُحاولُ أَن أَستعيدَ مشواريَ الشِّعريِّ، وبالتَّأْكيدِ سأُصابُ بِها أَكثرَ فيمَا لوْ شرعتُ بكتابتِها، وإِذا كانَ الشَّاعرُ الرَّاحلُ (صلاح عبد الصَّبور) قد جعلَ عنوانَ كتابهِ "حَياتي في الشِّعرِ"، فأَنا أَعتقدُ أَنَّ العنوانَ الأَنسبَ لِسيرَتي الشِّعريَّةِ هوَ "حَياتي الشِّعرُ"، لأَنِّي كرَّستُ جُلَّ حياتِي لهُ حتَّى بلغتُ، أَكثرَ من مرَّةٍ، حافَّةَ اللاَّجدوى من شدَّةِ اعتناقِي لهُ، وخَوفي عليهِ، في هذَا الزَّمنِ العربيِّ المَريضِ بكلِّ شيءٍ مريضٍ.

كتابةُ السِّيرةِ الشِّعريَّةِ بصدقٍ وأَمانةٍ، وبوحٍ مُريحٍ وشفيفٍ بإِيجابيَّاتِ التَّجربةِ وسلبيَّاتِها، ودونَ بطولةٍ ثلجيَّةٍ، إِضافةً إِلى الحواراتِ، ومقالاتِ وكتاباتِ الشَّاعرِ الأُخرى، والقراءاتِ الإِبداعيَّةِ لآخرينَ مبدعينَ، وغيرُها، لاَ شكَّ أَنَّها تشكِّلُ عتباتٍ ونوافذَ ومعابرَ لولوجِ النُّصوصِ الشِّعريَّةِ، على الرَّغمِ من أَنَّ كلَّ هذَا لاَ يُغني عن قراءةِ النَّصِّ ذاتهِ قراءةً إِبداعيَّةً من قِبَلِ قارئٍ مُبدعٍ، لأَنَّ القارئَ خلاَّقٌ آخرُ. 

"القرآنُ الكريمُ"

* ما هو أجمل كتاب قرأته وأثر في متخيلك، وتجربتك في الحياة والكتابة؟

- "القرآنُ الكريمُ". أَقولُ دونَ تذكُّرٍ، أَو تردُّدٍ. بالتَّأْكيدِ كانَ، ولا يزالُ، لهُ أَثرٌ عظيمٌ في تَربيتِي الحياتيَّةِ والشِّعريَّةِ، واجتراحِ مُحاولاتِ كتابةِ القصيدةِ. لقدْ وجدتُ أَثرَه في كتابتِي الشِّعريَّةِ، وغيرِ الشِّعريَّةِ، يتغلغلُ فيهما، حيثُ تعلَّمتُ الكثافةَ اللُّغويَّةَ، والإِيجازَ التَّعبيريِّ، وما وراءَ النَّصِّ، ... لستُ أَدَّعي أَنَّهُ الوحيدُ الذي تأَثَّرتُ بهِ، لكنْ لأَنَّ سؤالكَ يطالبُني بذكرِ كتابٍ واحدٍ كانَ لهُ حضورُه الفعليُّ في الحياةِ والكتابةِ.

قراءةُ عوالمَ أُخرى

* هل السّفر يعطيك متسعًا أو رغبة في الكتابة؟

- أَعتقدُ أَنَّ أَثرَه كانَ غيرَ مباشرٍ في كتَابتي، بِمعنى أَنَّني لا أَتأَثَّر مباشرةً بالحالةِ التي أَتواجدُ فيها مكانًا وزمانًا.

بالتَّأْكيد السُّفرُ ضرورةٌ للمبدِع، فهو مثلَ قراءةِ عوالمَ أُخرى تساهمُ في إِثراءِ تجربةِ الشَّاعرِ، حيثُ تعملُ الذَّاكرةُ المُنتبِهةُ للشَّاعرِ على تَخزينِ أَثرِ السَّفرِ بشتَّى الأَشياءِ، وبالتَّالي قد تَظهرُ هذه في نصوصِ الشَّاعرِ من حيثُ لا يَدري هو، أَو بقصدٍ منهُ، مع عَملِ المخيلةِ المُنتبهةِ، وهذا بلاَ شكٍّ شيءٌ جميلٌ يضافُ إِلى جماليَّاتِ النَّصِّ الشِّعريِّ الإِبداعيِّ.

لا يعرِفُ لماذا يكتبُ!

* يقول الشاعر محمد بنيس في حوار أجري معه بجريدة الحياة اللندنية بتاريخ 10 مايو 1990: "أنا لا أعرف لماذا أكتب، ولا ما الذي يدفعني للكتابة، وبالتالي لو كنت أعرف ذلك لم أكن لأكتب على الإطلاق." كيف تنظر لتفسير مجهول الكتابة ودوافعها؟

- أَجملُ ما في الإبداعِ أَن لا تَعرِفَ لماذا تُبدِعُ! "معرفةُ الشَّيءِ تَقضِي على ثلاثةِ أَرباعِ المتعةِ فيهِ" كما قالَ الرَّمزيُّونَ.

إِنَّ الكتابةَ الإِبداعيَّةَ عبورٌ من منطقةِ الحلمِ/ اللاَّوعيِ  إِلى جهةٍ/ جهاتٍ مجهولةٍ، لم تكنْ عَرفْتَها من قبلُ بأَيَّةِ وسيلةٍ. ثمَّةَ لذَّةُ الاكتشافِ التي تدهِشُ المكتشِفَ أَوَّلاً وهو يعبرُ عتمةً يُضيئُها بحواسِّهِ اليقظةِ.

فِعلاً، المبدعُ لا يعرِفُ لماذا يكتبُ، وما هيَ دوافعُ الكتابةِ؟! فالكتابةُ، لدَى المبدعِ، ليستْ ممارسةً غريزيَّةً/ آليَّةً، لأَنَّهُ لو عرفَ ماذا يكتبُ، أَو ماذا سيكتبُ مُستقبَلاً، لَكسرَ القلمَ، ورفعَ ورقتَه بيضاءَ للنَّاظرينَ، لأَنَّ الكتابةَ، وشتَّى الفنونِ، يجبُ أَن تأْتيَ بجديدٍ؛ مبدَعٍ لم يكنْ موجودًا من قبلُ.

الحبُّ الذي لا أَستطيعُه

* أَحبّ المجموعات الشعريَّة إلى نفسك، ولماذا؟

- لا أَستطيعُ هذا الحبَّ مهما حاولتُه، لكنِّي أَستطيعُ القولَ: إِنَّ العملَ الأَخيرَ، وأَثناءَ إِنجازِه، يستحوذُ على محبَّتي رِعايةً واهتمامًا واستحقاقًا حتَّى يُشعِرَني بانتهائهِ. كلُّ عملٍ؛ مجموعةً شعريَّةً كانتْ أَم قصيدةً، كنتُ أُعطِيها منَ الوقتِ والتَّفرُّغِ الكثيرَ ممَّا تحتاجهُ لإِنشائِها، رغمَ كثرةِ مشاغلِ الحياةِ وضروراتِها؛ بَدءًا منَ الجريِ خلفَ قُرصِ الخبزِ، وليسَ انتهاءً بالنَّومِ القليلِ جدًّا. (أَهذا جنونٌ، أَو غيرُ مُجدٍ؟ كما يقولُ لي ابني، كلَّما مرَّ بي ورآني غائبًا عنِ الوعيِ بينهم من أَجلِ مقطعٍ شعريٍّ، أَو بيتِ شِعرٍ).

لا جَدوى حتَّى منَ الحُلمِ

* ماذا يعني لك أن تكون شاعرًا الآن؟

- أَرشقُ نظرةً عميقةً كسَهمٍ مُتعَبِ العينِ إِلى ورَائي البعيدِ.

أَنظرُ بينَ قدميَّ الآنَ كأَنَّهما على حافَّةِ هاويةٍ.

أُحاولُ أَن أُرسلَ نظرةً شهابيَّةً إِلى ما لمْ يأْتِ بعدُ.

أَفعلُ كلَّ هذَا من أَجلِ أَن أُجيبَ على هذا السُّؤالِ! ربَّما لأَنَّني لم أُفكِّرْ، ذاتَ يومٍ، بكَينُونتي شاعرًا.

لا أُخفِي أَنَّني، بهذهِ الصِّفةِ، شِبهُ فَرِحٍ حتَّى مَطلعِ اليأْسِ، وشِبهُ يائسٍ حتَّى مَطلعِ الفَرحِ.

لقد قرأتُ، حينَ كنتُ في تمارينِ البداياتِ، مقولةً لأُستاذي الشَّاعرِ والكاتبِ عَلي الخلِيلي: "الكتابةُ فرحٌ". كنتُ، حقيقةً، أَشعرُ بِهذا، حيثُ لمْ أَكنْ أَعرفُ الكثيرَ عن "قَرَفِ" الواقعِ الثَّقافيِّ، والذي أَدَّى بِي، منذُ سنواتٍ كثيرةٍ، إِلى هجرِهِ نحوَ عزلةٍ صحيَّةٍ، مَنحتْني قُدرةً هائلةً على القراءةِ الجشعةِ، والتَّأَمُّلِ الشَّبقِ، والكتابةِ باشتهائِها.

أَتذكَّرُ الآنَ أَنَّني، منذُ الوعيِ الأَوَّليِّ، كنتُ أَحلمُ كثيرًا أَن أَكونَ شيئًا ما؛ شيئًا اعتباريًّا، على اعتبارِ أَنَّ على الإنسانِ أَن لا يَمُرَّ في الحياةِ دونَ أَن يتركَ أَثرًا جيِّدًا مهما صَغُرَ شأْنُه، وكنتُ أُردِّدُ: صورةُ الإِنسانِ أَبقَى منهُ. لهذا، حاولتُ تفعيلَ أَكثرَ من مَوهبةٍ منذُ صِغري، إِذ يُخلَقُ الإِنسانُ وفيهِ أَكثرُ من مَوهبةٍ، إِلاَّ أَنَّ إِحدَاها أَو أَكثرَ، تظهرُ وتستبدُّ بهِ. وكانَ أَن ظهرتْ أَكثرَ موهبةُ الشِّعرِ، وفرِحتُ بِها حِينَها، لكنَّ هذا الفرحَ كانَ يتناقصُ تدريجيًّا، لأَنَّكَ تكتشِفُ باستمرارٍ، بمَهارةِ العبثِ ربَّما، أَن لا جَدوى، في واقعِنا المريرِ/ المنهوبِ/ المـ... ، حتَّى منَ الحُلمِ.

 أَنا شاعرٌ؟! كيفَ أَكونُ هذَا، بعدَ مقولةِ الشَّاعرةِ (فِيسْوافا شِيمبُورِسْكا) هذَهِ: "مَن ذَا الَّذي يَقوى على مُشاهدةِ شَخصٍ يجلسُ إِلى مِنضدةٍ، أَو يَستلقِي على أَريكةٍ مُحمْلقًا في الجدارِ أَو السَّقفِ بِلا حركةٍ، إِلى أَن يكتبَ سبعةَ أَبياتٍ لِيحذفَ أَحدَها بعدَ خَمس عَشرةَ دقيقةً، ثمَّ تمرُّ سَاعةٌ أُخرى خِلالها لا يحدثُ أَيُّ شَيءٍ؟"

أَشعرُ بأَنَّني حصانُ شعرٍ ذو صَهيلٍ عالٍ، في جَغرافيا لا حدودَ لها، مكسوَّةٍ بإِبرِ الرَّملِ السَّاخنةِ، والأَعشابِ المأْكولةِ، يهرعُ حافيًا نحوَ حدائقِ الأَسفِ.  لقد أَنفقتُ معظمَ سنواتِ ما مضَى من عُمرِي في الشِّعرِ، وفي كلِّ مرَّةٍ أَضعُ فِيها القلمَ/ الريِّشةَ بعدَ الانتهاءِ من قصيدةٍ وأَفتحُ قبضَتي، لا أَجِدُ فيها حتَّى القليلَ منَ الرِّيح، ورغمَ هذا، فأَنا لا أَستطيعُ أَن أَتخيَّلَ حياتِي دونَ شعرٍ، لهذَا ربَّما (قدْ) أَستمرُّ!

الكفنُ المؤجَّلُ والتَّابوتُ الجميلُ

* نشرت الأعمال الشعرية الكاملة، هل هذا وفاء لعقود مع مصاحبة القصيدة، أم هي سيرة اليد التي ارتعشت مرارًا وتشنجت لتهب القارئ متعة الشعر؟

- هيَ ليستِ الكاملةَ، لأَنَّهُ صدرتْ دونَ العملِ الأَخيرِ الثَّالثِ عَشر "كأَعمى تقودُني قصبةُ النَّأي "، وكذلكَ لا أُحبِّذُ استعمالَ هذه الكلمة (الكاملة)، بل المُنجَزة، لأَنَّهُ ما من أَعمالٍ إِبداعيَّةٍ كاملةٍ، حتَّى بعدَ الوفاةِ.

لاَ أَعرفُ إِن كانَ صدورُها يَعني ما قلتَهُ، فقط، في سؤالِكَ، لأَنَّهُ يكونُ وراءَ إِصدارِها أَسبابٌ عدَّةٌ.

كذلكَ هيَ فرصةٌ لمُراجعتِها وتصويبِ الأَخطاءِ الطِّباعيَّةِ، لكنْ لاَ أَعملُ على تغييرِ أَو تعديلِ أَيِّ شيءٍ، لأَنَّ النَّصَّ، في حينهِ، وُلِدَ على هيئةٍ مَا، ولَو حاولتُ، لَوجدتُني أُعدِّلُ وأَحذفُ وأُضيفُ، و...، وبهذَا أَقضي عليهِ بشكلٍ أَو بآخرَ، وقد لاَ يَخرجُ مرَّةً ثانيةً، وإِن خرجَ، فإِنَّهُ يَخرجُ نصًّا آخرَ، وفي هذَا اعتداءٌ علَى آنيَّةِ كتابتهِ بكلِّ أَشيائِها، حيثُ كنتُ قدَّمتُ لهُ أَقصى مَا استطعتُ من إِمكاناتٍ مختلفةٍ آنَها. حينَ أَشعرُ بأَنَّني انتهيتُ من نصٍّ مَا، تنتابُني حالةٌ منَ الفَقدِ؛ فَقْدِه. لذلكَ أُحاولُ أَن أُبقيه في مَخبَري الشِّعريِّ حتَّى بعدَ انتهائهِ كأَنَّهُ لمْ يزلْ قيدَ الإِنجازِ، ولاَ أَنشرهُ في جهةٍ مَا، حتَّى لو طُلبَ منِّي جَديدِي،  إلاَّ بعدَ أَن أَغوصَ في نصٍّ تالٍ، ومُطمئنًا أَنَّهُ قابلٌ للحياةِ.

كنتُ كتبتُ في تصديرِ مَجموعتي الشِّعريَّةِ "كتابُ المُنادَى"، تحتَ عُنوان "مَرايا لاَ تتَّسعُ لخُدوشِها": "حينَ تُنشَرُ القصيدةُ على سطحِ ورقٍ ما، يتحوَّلُ هذَا الورقُ إِلى كفنٍ مؤجَّلٍ، وحينَ يَعصرها كتابٌ بينَ لَوْحَيهِ، يتحوَّلُ هذَا الكتابُ إِلى تابوتٍ جميلٍ... وأَيضًا، حينَ تَبقَى داخلَ زجاجِ المخيلةِ وغرفِ الذَّاكرةِ ولاَ تخرجُ فإِنَّها تقتلُ صاحبَها. إِذًا.. ماذَا أَفعلُ بعبارةِ الشَّاعرِ [هنري ميشو] الَّتي مَا تزالُ تنالُ مِنِّي، بعدَ كلِّ مَا أَشْعرُ أَنَّهُ نهايةُ قصيدةٍ، كأَنِّي قاتلُ أَبيهَا: "إِنَّ مجرَّدَ التَّفكيرِ بكتابةِ قصيدةٍ يَكفِي لِقَتلِهَا"؟

"شكرًا لموتٍ لمْ يجئْ بعدُ"

* في الذاكرة الشعرية العالمية والكونية يموت الشعراء باكرًا أمثال: رامبو، فروخ فرخزاد، أبو القاسم الشابي...الخ، مقارنة مع كتاب القصة والرواية.. ما تفسيرك في ذلك؟

- كنتُ شعرتُ، بعدَ مشوارٍ قصيرٍ من بِدَاياتي الشِّعريَّةِ، بالموتِ المُبكِّرِ، بعدَ أَن قرأْتُ عن بعضٍ من هؤلاءِ الشُّعراءِ وغيرِهم، وانْتابَتْني حالةُ قَلقٍ وشِبهُ تأْكيدٍ أَنَّني سأَموتُ حينَ بلُوغي الأَربعينَ من العمرِ إِذا ظَلَلْتُ أَكتبُ الشِّعرَ!

كانَ هذَا هاجسًا مُقيمًا في داخِلي، لِما قبلَ الأَربعينَ ببضعةِ سنواتٍ، لدرجةِ أَنَّني نسيتهُ نهائيًّا، إِلى أَن فاجأَني صَديقي الشَّاعرُ (باسِم النَّبريص- أَطلقتُ عليهِ لقبَ "المُعرِّي الفلسطينيِّ!" بسببِ أَشعارِه الفكريَّةِ التَّشاؤميَّةِ) بقصيدةٍ منهُ مُهداةٍ إِليَّ بِعنوان "الأَربعون.. خُذْها ولاَ تخفْ"، فذكَّرني بذاكَ الهاجسِ (مَوتي في الأَربعين)، فاتَّصلتُ بهِ شاكرًا بعدَ اسْتلامِي لقصيدتهِ، وقالَ لي: إِنَّ من عادةِ الشُّعراءِ أَن يكتُبوا (نصَّ الأَربعينَ)، ثمَّ قرأَها بصوتهِ على الهاتفِ، وضحكنَا معًا بعدَها، كأَنَّنا ضَحِكنا على الموتِ!

بعدَ فترةٍ قصيرةٍ من بُلوغي الأَربعينَ، وَجدتُني فجأَةً أَكتبُ نصًّا شعريًّا حملَ عنوانَ "شكرًا  لموتٍ لمْ يَجئْ بعدُ!"

هل ما زلتَ تريدُ منِّي تفسيرًا لظاهرةِ موتِ الشُّعراءِ المُبكِّرْ؟! لنْ أَبخلَ عليكَ لَو عَرفتهُ!

علَى الموتِ أَن ينتظرَ

* أخيرًا.. هل تخاف من الموت؟

- لا..لا.. لمْ أَخفْ في يومٍ ما منهُ. لمَ الخوفُ من حقيقةٍ نعرِفُها وتُدرِكُنا؟

ما يُقلِقني هوَ المرضُ بعدَ أَن أُصِبتُ بالقلبِ (يُقالُ إِنَّهُ مرضُ الشُّعراءِ)، لأَنَّني أَخشى منهُ على تعطيلِ حيَاتي، أَو جَعْلِها بطيئةً، وأَنا ما زلتُ بحاجةٍ إِلى وقتٍ كثيرٍ كيْ أُنجزَ الكثيرَ منَ الأَشياءِ التي ما زالتْ بانتظارِ تفرُّغي لَها.

أَنا أَتوقَّعهُ دائمًا، لكنَّني لاَ أَنتظرهُ، ولاَ أُفكِّرُ فيهِ، كيْ لا يُربِكَ انتظارِي لهُ وتَفكيري فيهِ، ما تبقَّى لي من عُمري.

 

* إشارة: هذا الحوار سيصدر في كتاب بعنوان "محمد حلمي الريشة - تدريب البياض على الخيانة – حوار ومختارات شعرية".