يرسم القاص المصري ملامح مكان شعبي تتجاور فيه الطيبة والخبث، الخير والشر وتتحكم فيه المعتقدات الخرافية بتحريض من البك ورجال حمايته وأداته الخفية وهو شخص يضفون عليه هالة وقدرات تجعل البسطاء ينصاعون إليه، موضوع قديم جديد يقدمه لنا من خلال حدوته مألوفة ومستمرة.

العفاريت

محمد ذهني

ما أن أشرقت الشمس حتى هرع كل أهل البلد إلا قليلاً لاستقبال بركات. هذا الذي لم يره أحد يرحل بينما كانوا يحرقون بيته. هذا الذي بحثوا كثيراً عن بقاياه أو أي شيء يدل على موته. الذي لو وجد يومها حياً لمزقوه إرباً ، يعود الآن أمام الجميع. يعود في الصباح حسب الاتفاق الذي أعلنه البك الذي لابد كان يعرف مكانه طوال العام الأسود. سيعيدون بناء البيت بسراديبه المرعبة ،التي لم يرها أو يعرف بوجودها أحد إلا و هم يفتشون في الأطلال المحترقة . كانت خالية وخمنوا أن سكانها بينهم يرتعون. بعض من شاركوا في حرق البيت كانوا من المنتظرين. يراهم مختار من سطح منزله وقد تخلف عن الموكب. حتى الشباب من خرجوا من أجل سعاد نسيوا ثأرها في سواد الليالي التي لم يذق فيها أحد النوم رعباً. نسوها ولعنوها واليوم الذي ماتت فيه بينما كانوا يعدون الدقائق كل ليلة منتظرين الشروق .لا يشاركهم مختار الفرحة بعودة بركات فهو لن ينسى ثأر سعاد ولو لم يكن بركات هو الفاعل. ولكنه يعذرهم. حتى أمه تقف معهم في انتظار من سيعيد العفاريت إلى سراديبه الأسطورية. هي أول من حذره. يوم أن عاد من عمله في الليل فأخبرته بعد أن اغتسل و بدل ملابسه وتعشى أن سعاد أحرقت نفسها.

سعاد أجمل بنات البلد. عشقه منذ الطفولة. أمه وحدها تعلم بقصة حبهما التي ظنها ستنتهي بعد يومين بزواجها من البك. والآن تعلن أمه نهاية أخرى ولديها المزيد:

-         أمها تقول بركات.

سعاد ماتت . أشعلت بيديها الجسد الذي تعبد فيه طويلاً. استطردت أمه وهي تتأرجح في جلستها بين الأمام و الخلف بانتظام من تعود ذلك:

-         أهلها مجتمعون في دار أبيها ومعهم شباب البلد الغاضبون من بركات وأفعاله.

هل هو بركات حقاً؟ يعملها فأكيد الهانم أرسلت له ليسحر لها قبل أن تكون درتها. ولكن ألا يمكن أن تكون خافت الفضيحة؟ ليتك رضيت أن تهرب معها. ما ألعن الجبن وما أشد خسارتك.

انتفض واقفاً وقال :

-         أنا ذاهب إليهم.

لم يبد على أمه التأثر. ظلت تتأرجح ولا يعلم هل هذا علامة الضجر أم نوع من النواح الصامت. ارتدى ملابسه مرة أخرى وسمعها  وهو على الباب تقول له:

-         لن تقدروا على بركات.

يعلم أن كبار البلد مثل أمه هم صناع أسطورة بركات.

-         بركات الوحيد الذي حبس العفاريت. ألن يقدر عليكم؟

أشعل ذكر العفاريت غضبه فرد في غضب:

-         لم أر في حياتي عفريتاً في البلد.

ما أكثر الخلوات التي اتخذاها. هل كانت أماناً بفضل بركات؟

-         نحن رأينا. لم نكن نترك المنازل بعد المغرب. بركات هو من حبسها. لن تقدروا عليه. ولو تركنا عادت العفاريت.

انفجر فيها:

-         فليكن الشيطان نفسه. كفى إتاوات و بلطجة ونجاسة.

بركات لا يعني له شيئاً، ولا حتى هو متأكد أن بركات هو سبب موت سعاد. هو الغضب. فلتشتعل البلاد ناراً مادامت سعاد احترقت. فلترقص العفاريت على الرؤوس مادام لن يراها ثانية.

سار باتجاه منزلها، ولكن في منتصف المسافة وجدهم قادمون. ظل سائراً نحوهم حتى اقتربوا. كان الفتيان يقودون المسيرة ولا أثر لأهل سعاد. وقفوا ينتظرون منه كلمة أو رد فعل وقد ظهرت وجوههم محمرة من نور المشاعل.

-         معنا؟

هز رأسه ودخل وسطهم.

انتبه على صيحات الحبور فعلم أن بركات ظهر في الأفق. ما أعظم الفارق بين يوم رحل ويوم عاد. الحماسة والفخر بما قدموه للبلد يوم رحل بركات، تحول في الليلة التالية إلى لعنات تصب عليهم. والآن الجميع سعيد إلا هو. الكبار سعداء بالأمن الذي عاد. والصغار تعلموا الدرس وفرحوا بالعودة للخلاص من العفاريت وعقدة الذنب التي تلازمهم.  كم حاولوا التغلب عليهم من بعده. بالعصي والبنادق والقرآن والنار. كم فقدوا من أصحاب اختفوا أو وجدوا في المصرف أو معلقين على جذوع الأشجار. و هناك وجدي الذي تحول إلى مجذوب يلف البلدة بدون أن ينطق ولا يتقبل الطعام أو الشراب أو المأوى. وجدي.. الوحيد الذي كسر معه حاجز الخوف يوم هجموا. أوقفهم صوت بركات الجهوري وكأنه يتكلم من كل مكان يحذرهم من الاقتراب. لم يكن أحد يعرف هل هو في البيت أم مختبئ في مكان آخر. صار لا أحد يراه في الأعوام الأخيرة. فقط رجاله تجمع الإتاوات. ورجال ونساء يموتون حرقاً أو غرقاً أو يختفون ببساطة منهم من لم يدفع أو من أغضبه في شيء أو أغضب البك أو عائلته أو أحد الأعيان. صوت بركات الجهوري الآتي من كل مكان أرعب الجميع إلا هو الذي صرخ:

-         سعاد أحرقت نفسها.

أتاهم الصوت به مسحة سخرية:

-         و هل أنا مسؤول عن أي فتاة تقتل نفسها قبل فرحها؟

-         أنت من سحرتها.

-         لست أنا. غيري سحرها حتى نسيت اسمها بسببه.

كان يعلم بقصتهما. وهو ما جعل نار الجنون فيه تستعر حتى لم يعد يرى أمامه

-         وهل تنسون تضحياتي من أجل فتاة؟ لولاي لما خرج أحدكم في الظلام. اسألوا آباءكم ماذا كانت البلد من قبلي.

عم الصمت في وقفتهم كأنهم لا يعلمون ماذا بعد أن وصلوا أمام بيته. لو عادوا لما تركهم.

-         ارجعوا و غداً سآتي لكم بمن أغوى الفتاة وتسبب في موتها. مهما فعلتم لن تستطيعوا إيذائي، و لن أغضب عليكم فأنتم أهلي. لكنني سأرحل وأترككم للعفاريت.

 كان ما يقوله تحذير إن أقدموا وطمأنة إن عادوا وتوعد لمختار وحده. نظر حوله فإذا بهم يتبادلون نظرات التردد. ما عدا وجدي. هو وحده من نظر إليه بثبات، ومد إليه يد بالمشعل. ابتسم مختار و حمل المشعل نحو البيت. طوح يده ورمى المشعل نحو إحدى النوافذ. كسر الزجاج  وعلا من داخل المنزل لسان اللهب. انتهى التردد بين الشباب وهجموا. اختفى صوت بركات وسط تكسير الزجاج وطقطقة الخشب و هدير الفرحة. لكن من وسط الدار  المحترقة كانت هناك صرخة. أخذت في الارتفاع دون انقطاع حتى شملتهم جميعاً. توقفوا عن التخريب ووقفوا ينتظرون خروج شيء عليهم من النار. لكن ظلت الصرخة تعلو حتى لم يعد أحد يحتمل. ظلوا يبتعدون و عيونهم على المنزل وقد خرج منه عامود دخان نحو السماء. ظل العامود والصراخ لا ينقطع حتى انهار المنزل وخبا اللهيب ومعه الصراخ.

ظهرت عربة البك يجرها فرساه ويقودها البك بنفسه. علا الهتاف و الترحيب بالجالس في الخلف وحده. من مكانه رأى كتلة من القماش لا يظهر منها ولا حتى الوجه. لن يأتي الليل حتى تكون البلد كلها في الطرقات سامرة. يذكر أول عفريت رآه. لم يكن في الليلة التالية كبقية البلدة. ولكن في الليلة ذاتها. أمام بيته . لم يلمح شيئاً ولم يسمع صوتاً. سرت في جسده قشعريرة فاستدار. كان يقف هناك، معلقاً في الهواء. ظل لم يتبين ملامحه. لكن الأكيد أنه ينظر إليه ، وأنه يتحرك في فرح من لم يذق الحرية منذ سنين. وقتها تفاءل وسأل نفسه: لماذا ستؤذيهم العفاريت و هم من حرروهم؟ ولماذا تركه ذلك العفريت لو كان ينوي الأذى ؟ لكن لم تكد الليلة التالية تمر حتى ارتفعت صرخات الاستغاثة من أنحاء البلد. نار تشتعل في دار و رجل وجد نفسه معلقاً فوق غضن شجرة. امرأة ضبطها زوجها عارية تحت الحمار ولا تنطق وسط الضرب و أمام العيون المستطلعة إلا بأنها كانت تحلم. المؤذن لم يستطع الصعود للمئذنة إذ وجد الطريق مسدوداً بحائط. من بعد صلاة المغرب لم يجرؤ رجل أن يذهب للصلاة إلا وصل المسجد عارياً وعاد إلى بيته مضروباً. من الليلة الرابعة كانت البلد ميتة بالليل. الأبواب مغلقة والأقفال بلا مفاتيح والمفاتيح مخبأة . و يا ويله من جرب أن يطل برأسه من شباك أو حتى صعد فوق السطح.

-         وقف يا جداااااع.

لم يكن غير وجدي. أول من اختفى ، والوحيد الذي نجا مع مختار ، ولكنه صار مجذوباً لا يتكلم مع أحد ولا يسمع من يناديه . يسير في البلدة من أول النهار حتى المغرب مدمدماً وكأنه يصارع شيئاً داخله . فقط إن رأى مختاراً يهدأ ويتحدث بصوت صار مرتعشاً وعينين زائغتين. لم يحاول مختار أن يعرف ماذا وكيف. كان يكلمه لأنه صديقه الوحيد الحي و الوحيد الذي رغم جنونه يستطيع الحديث معه. كان في عيني مختار أعقل الجميع بلعابه السائل و دقائق صمته المفاجئ كأنه في حلم. يقف الآن قاذفاً الحجارة والرمل على البك وبركات والحصانين اللذين بدءا في الهياج مما ينذر بعواقب وخيمة. للحظات لم يقترب منه أحد حتى صرخ البك وهو يحمي وجهه بذراعه.

-         رح الله يلعنك.

حينها فقط هجم الشباب وأمسكوا بوجدي من ذراعيه وساقيه وحملوه بعيداً. لكن بركات وقف. رفع ذراعاً لم يظهر منها شيء من كم جلبابه ولا دليل على وجودها إلا عصاه التي امتدت ناحيتهم. قال بصوته الجهوري:

-         هاتوه.

حملوه إليه طائعين. نزل من العربة ووقف عند رأس وجدي. كان حاملو وجدي ناظرين في الأرض . لاحظ مختار أنه لا أحد ينظر في وجهه. وضع بركات ما يفترض أنه يده على جبين وجدي.

-         مسكون بعفريت.

هلل الواقفون ونظروا إلى بعضهم فرحين بينما وجدي يحاول تحرير نفسه بعنف يكاد يخلعهم مطلقاً سباب لا يفهمه أحد. أكمل بركات:

-         أعرف هذه العفريت. كنت أضعه في الزنزانة السفلية مقيداً بمئة سلسلة. إذا سكن شخص حوله كما ترون مجذوب بالنهار، وشيطان مريد بالليل.

علت صرخات فزع وغضب. رفع بركات يده من على جبين وجدي وقال:

-         مسكين.

مر في الهواء فوق رقبته فانتفض الجسد وقد تناثرت دماؤه على جميع الواقفين الذين هللوا في هستيرية ورموه على الأرض متفرجين على احتضاره. صعد بركات إلى العربة التي سارت في طريقها وخلفها أهل البلد مقتربة من البيت حيث يوجد مختار على سطحه. وقفت أمام البيت. رفع الجميع رأسهم إلى مختار. لم يكن أحد يكلمه منذ شهور عندما أعلن البك أن كل أصحابه الذين حاربوا العفاريت انتهوا عدا مختار لم يصب بخدش. صارت الإشاعة واقعاً ويقيناً بأن مختار يقود العفاريت. قال بركات دون أن يرفع رأسه:

-         هل تعلمون من هو أخطر عفريت كان محبوساً عندي؟

علت الأصوات تسأل فأجاب:

-         كنت أحبسه في حفرة غطاها مطلسم لا يفكه إلا النار. لولا حرق بيتي لما خرج ولما طغى العفاريت.

قال البك مديراً النظر فيهم:

-         وأين هو الآن يا سيدنا؟

-         في مكانه الأصلي. في جسد خادمه .الشخص الذي حرره. الذي حرق البيت من أجله. يسكنه ويجعله يقتل باسمه كل من يتحداه. فيقولون العفريت قتل. يظهر بينكم عاقلاً  و بالليل يخطف الشباب وينام مع النساء ويحرق الحقول ويمنع الصلاة .لا يظهر عفريته إلا بالليل. لذا وجب قتله قبل الغروب.

قالها واشار للبك فتحركت العربة بينما الناس واقفة تنظر إلى مختار . حتى أمه كانت تنظر إليه وكأنها لا تعرفه. وأخيراً تحركت من بينهم نحو باب البيت . ما أن سمع صريره يفتح حتى رآهم وقد بدأوا في الدخول بهدوء ونظام