في بنية قصصية شيقة تحاور القاصة العراقية حالة إنسانية مستعصية، وضع المرأة العاشقة والأم حينما تكتشف خيانة الشريك مع صديقتها وأقرب الناس إليه ويمنعها المحيط والوضع المجتمعي من التعبير فتذوي بصمت، ولا تكتفي الكاتبة بذلك بل تحيل الحالة وتساويها بعملية اغتيال بالسم لرفيقة لها قديمة تعتقل في حبكة محكمة وفلسفة معنية بالإنسان كوجود والمرأة ككيان يعاني من ثقافة مجتمع يسحقها بلا رحمة.

رجال كالسمِ

ناهدة جابر جاسم

صعقتُ وأصبتُ بالخرسِ حينما رأيتها وهي تحاول وبعناءٍ شديدٍ أن تدخلُ عابرة عتبة الصالة مقبلةً نحوي بعباءتُها السوداء وردائها الأزرق الغامق وقسمات وجهها الشاحبة المتصحرة والباحثة عن اليقين وجسدها الذاوي وكأنها لم ترتشف جرعة ماءٍ منذ دهرٍ.

 

ازدحمتُ بالأسئلةِ؛ ما الذي أطفأ هذا الكيان الذي كان يشتعلُ بالحيويةِ والحياة؟ وأية مصيبةٍ فَجعتها؟ 

أخذتني اللحظة والسؤال إلى أماكنٍ كنتُ اعشقها في صباي وشبابي!

                                     *           *            *

بعد عناء زيارة مثوى أبي في مقبرة السلام الواقعة في مدينة النجف، فرضاً أدمنته  كلما ازور وطني حيث أبوح له بكل ما أصابني من حيف متمنيةً الشفاء من علل وأمراض المنفى. ذهبتُ مع أختيَّ الصغيرتين  لقضاء الظهيرة في  بيت خالي "عادل"، وكان قد انتقل وخالي الأكبر منه "جاسم" إلى النجف بعد وفاة جدي وجدتي إذ تقاسما  قطعة ارض ورثاها ببناء بيتين يشتركان بباب داخلي، لكن خالي عادل رفيق طفولتي وصباي مات بغتة في سيارته  أثناء عمله تاركاً زوجة جميلة وستة بنات وولد واحد.

دخلنا عليهم دون موعد هكذا هو حضور الضيف في وطني. رحبوا بنا وكأننا هبطنا  عليهم من السماء.

كنت حزينة ومتعبة جدا من الزيارة التي أنهد فيها باكية طوال وجودي جنب قبره حالمة بلمسه مستحيلة من يده الحانية وقبلة على جبينه!

-   مية هلا بيكم..يا ألف هلا بنهودة.

 استقبلتنا "وفاء" أرملة خالي "عادل" مرحبةً وحروف كلماتها تنقط حياة ولهفة، مع خالي "جاسم" الذي رحب بنا ترحيبا مشوب بارتباكٍ سرعان ما توارى من قسمات وجهه. لم يثِر استغرابي وجوده في بيت خالي الراحل، فهما أخوة ورفاق طفولة وصبا ونضج  حتى أنهما تزوجا بحفلة مشتركة وبنفس اليوم، لكن ما شدني وأثار استغرابي هو أرملة خالي وما ارتسمَ على محياها من فرح وحيوية وكأنها صبية عشقت للتو  وليست أرملة حديثة الترمل مع ست بنات وصبي.

 سألتهما:

-  أين نجاة؟.

و"نجاة" زوجة خالي "جاسم"

أجابت "وفاء":

-   مشغولة!.

 وسارع خالي قائلا في نفس الوقت:

-   سأذهب لها وأخبرها!

لم أنتظر كررت سؤالي عنها، وهممت بالنهوض أقصد  بيتها المشترك بباب خشبي داخلي بدون قفل، وفي لحظة نهوضي  دخلت علينا مرحبةً  وهي تمسح قطرات عرقٍ تتصببُ على جبنيها بفوطتها السوداء وحزن قاتم ينحت  تقاطيعها السمراء، وعيناها البنيتان سكبتا فيضا من الدمع ظننت للوهلة الأولى  فرحاً بزيارتي فهي لم تكن زوجة خالي فقط بل كانت زميلتي في مرحلة الثانوية وتربطني بها علاقة حميمة حين كنا بعمر الورد والحلم وتبادل أسرار العشق والغرام.

*             *           *                                                                  

 أتلمس روحه وكيانه الجميل العذب ولقاءي الأول به بعد فراق دامَ  أكثر من خمسة وعشرون عاماً حين زرتُ مدينتي وأهلي في خريف عام ٢٠٠٣!

 كان صامتاً وجميلاً وعذباً!

- هله بيك عدولي حبيب روحي خالي الزغيرون

 كنت أردد بينما دمعتان، لا بل درتان نزلتا على خديه وهو يقبلني ويضمني إلى صدره!

الحزن الساكن قسمات وجهه ونبرة صوته الخافتة والشيب الذي غزا شعر رأسه جعلتني هذي المظاهر أشعر بغصة ووجع، فقلت له مترجية بعد أن أخذته جانبا:

 - احكِ يا روحي ما بكَ؟ أفضِ لي يا بعد قلبي، فأنا خزينة أسرارك بأفراحها وأحزانها ما تتذكر أيام صبانا وأسرارنا، هل نسيت يا حبيبي؟!.

قلت له متذكرة كيف أفضيت له أول ما عشقت رفيق العمر والتجربة وأنا بنت السابعة عشر. ضحك ضحكة تعبان وهز رأسه وضم رأسي إلى صدره بصمت. صمته وحزن عينيه لم يفارقاني في السنين التالية في المنفى، كنت خائفة أتوقع رحيله في كل لحظة وهذا ما حدث قبل شهرين.

    *             *           *                                                      

ازدحم رأسي بالأسئلة وأصابني الغمُ وأنا أراها ذاوية ناحلة متعبة منهكة بائسة ويائسة تلف جسدها الناحل بثوبها الأسود الطويل بعباءة سوداء تزيد من بؤس مظهرها. جلست صامتةً تنظر نحوي بين الحين والحين بنظرات مكسورة من عينيها الواسعتين. أوجعت قلبي وأشعرتني بأنها لا تستحق العذاب الذي تصطلي فيه. أشعرتني بذلك وهي تبحث في وجهي عن مبرر ما، نجاة التي كانت مشتعلة بالحياة والحيوية ومحبة الناس، ماذا حلّ بها وأي مصيبة وقعت عليها؟.

من لا يعرفها سابقا قد يقول أنني أبالغ في وصفها كانت نخلة شامخة، مثمرة وارفة محنة وحياة.

حاولت جهدي أن اصبر حالي وامنعها عن السؤال ولكنني رأيت في جلستها المسترخية المنهكة وكأنها وجه صديقتنا وزميلتنا في الثانوية "جميلة" الرقيقة الحنونة التي حضرتني بقوة وكأنها حلّت في جسد نجاة الجالس على الكرسي أمامي السادرة بصمتها ونظراتها الخائفة المذعورة والمستنجدة

 

-   ماذا بك يا ناهده؟

-   هل أعطب المنفى ذاكرتك يا صديقتي ورفيقة تجربتي؟

أجابتني جميلة 

 كانت راقدة في سرير أركانه من الحديد البارد وشراشفه ألم، متروكة في غرفة معزولة تماما عن كل مرضى مستشفى الديوانية الجمهوري كان ذلك في شتاء عام 1978  غرفة باردة جدا أركانها شاحبة وموحشة وذات شباك واحد مفتوح  يطل على العراء الذي تدخل منه نسمات هواء باردة مسروقة من الدنيا التي ضاقت بروح جميلة الراقدة بكبرياء فتاة عاشقة للحرية والحياة ومتمسكة رغم أنها على حافة الموت بحلم مدينة فاضلة.

 سرير مهجور في غرفة مهجورة في ركن مستشفى مهجور هكذا رموها كي تموت وحيدة. كنت أزورها كل يوم وأتخيلها تحكي معي لكنها كان ترقد غائبة عن الوعي بوجهها الذي يطابق وجه زوجة خالي نجاة وصوت شخيرها المتقطع ينازع ملك الموت الذي يحوم حولها. أطيل التحديق بها وأراها تقاوم متشبثةً بالحياة تسحب أنفاسها بعناء وجهد شديدين.

ظلت تحتضر أياماً وجسدها يذوي ويذوي على السرير كجسد نجاة التي ضمرت كتلتها الجالسة أمامي. جميلة تقاوم بضراوة سم الثاليوم الذي سقوه لها مع اللبن في مديرية الأمن العامة في بغداد بعدما يأسوا من جعلها تعترف على رفاقها بعد القبض عليها في مطار بغداد وهي تحاول الهرب خارج العراق أثناء الحملة على اليسار والقوى الديمقراطية.

كنت أزورها في المستشفى كل يوم بمساعدة رفيقنا "رسن" الذي يعمل فيها هو الآخر سيقبض عليه بعد هروبي إلى الثوار في الجبل ويعدم.  كان يعمل في الاستعلامات ويعرف خفايا ما يجري.

 جميلة عاشقة حالمة كانت تحلم بتحقيق العدالة الاجتماعية لكنهم عندما عجزوا عن سحق كبريائها وعنفوانها سقوها سماً أسقم جسدها، لكن نجاة من كسر عنفوانها وسحقها بهذا الشكل المرعب، أي جلاد سقطت تحت سوطه؟.

لم أطق صبراً، سألتها بصوت خافت:

-  ماذا أصابك يا نجاة؟!.

- ...!

حركة وهمسة من عينيها كان جوابها على سؤالي البطر،  لم افهم شيئاً، لكن أحسست أن خلف هذين العينين والجسد الذاوي والذابل قصة لا تختلف عن قصة انكسار جميلة.

أزداد فضولي فألتفت إلى أختي الصغيرة متسائلة بهمس، فغمزت وقالت بصوت بالكاد سمعته:

-  أش أش أش!.

استجبت لطبيعة الجو الذي خيم، وفهمت من عيني أختي أن عليَ أن أتحلى بالصبر إلى حين مغادرة المكان.

*                                                 *           *

رفضت الكلام في سيارة الأجرة التي أقلتنا إلى الديوانية، وكانت محقة جدا.

ما أن احتوتنا ساحة البيت الصغيرة حتى أمسكتها من كتفها وقلت مستعجلة الجواب:

-  يا صغيرتي نوريني بمصاب نجاة؟!

 نفثت حسرة وقالت:

-  مصيبة!.

-  ما تحكين خلي أفتهم!.

قلت بغضب.

-  أش أقول العائلة العراقية تمزقت؟!.

-  إي يا روحي أحكي أنت ما  تدرين أش عمل بيّ وضعها.

قالت:

-  طيب اسمعي خالي الذي فقدناها في لحظة غادرة وحقيرة اللي حضوره نسمة، أبو عيون واسعة، الفقير اللي يكدح كل يوم حتى يجيب لعائلته الكبيرة كيس خبز ودفء، أرملته "وفاء" وخالي جاسم زوج "نجاة" عشاق ويعيشون مثل زوجين قدام عيونها!.

 -ماذا تقولين؟ هذا عين الجنون؟ 

لا..لا..لا..لا..لا يا أختي يعني خالي عشيق أرملة أخوه اللي ما صار له شهرين ميتْ!.

 -أي يا روحي!.

والكارثة  نجاة ووفاء  صديقتان وتربطهن علاقة حميمة. وهذا سر علة نجاة اللي فشلت  كل التحاليل الطبية بالعثور على مرض بجسمها.

-   ماذا تقولين يا أختي؟

-   مثل ما أخبرتك

*                                                       *           *

بعد شهرين اتصلت بي أختي إلى هنا في الدنمرك لتخبرني بموت نجاة، إذ وجدوها ميتةً على فراشها في الصالة بعدما هجرت سريرها المهجور.

 

 

الديوانية ٢٠ نيسان ٢٠١٣