غابت بين تلك الابواب الكثيرة المغلّقة .. و المفتوحة عنوة ..
غابت عن عينيه لحظات .. بين سحابات الدخان و اللّهيب الأحمر ..
جال بجسده و نظره في أرجاء الخرابة .. عله يلمحها بين الأطياف التي تحوم حوله ..
عمته فوضى الخوف .. الجزع .. أول مرة تغيب عن ناظريه لطالما كانت تتمسك به بشدة و لا تكاد تفارقه لثواني .. كلما رجف قلبها الصغير خوفا من أصوات الموت رمت بنفسها بين أحضانه ترجو الأمان .. و هو كان لها ملبّيا دائما .. حتى في أشد حالات ضعفه .. حزنه .. تشتته .. و ألمه .. كان دائما موجودا ليطرد أشباح الموت من حولها فهي كل ما يهمه في ما تبقى من حياته ..
صغيرة هي بجدائل شعرها الأسود ..
في كل مساء .. يُغير طريق العودة الى البيت فقط ليمر من أمام بيتها علّه يلمحها من خلف الشجيرات المحيطة بصور منزلها .. كل ما يريده نظرة خاطفة من عينيها العسلية .. إبتسامة من ثغرها التوتي .. و خصلات شعرها تتلاعب بها نُسيمات المساء ..
كانت حلمه .. و منتهى التمني ..
تكاد الخرابة تسقط على آخر الباقين فيها .. و لكنه لم يجدها ..
ناداها بأعلى الصوت .. علّها تسمعه .. ربما مختبئة في أحد تلك الزوايا المتهدمة تنتظره لينقذها .. ليطرد خوفها ..
تلاحقت الكلمات حوله و الأصوات و الصياح ..
- " اسكتو جميعا .. إخرسو ربما هي لي منادية .. أسكتو .. أسكتوووو .... "
أجابه أحد رفاق دربه ..
- " لا يا أخي يجب أن نذهب .. و أن كانت هنا لوجدناها يجب أن نخرج أو كلنا هالكون من أجل هالكة .. "
- " أو ليس كلنا هالكون من أجل هالكة !!.. أو ليس كلنا محاربون من أجل الموتى !! .. أتركوني أبحث عن ما تبقى لي من الحياة .. لا هي ليست بهالكة .. أسمعت .. ليست بهالكة أبدًا .. سأجدها .. "
لم يكن هناك من جدوا للنقاش معه و ما عساك أن تقول لميت يبحث عن سويعات الحياة الأخيرة ..
تهافتت عليه ذكرياتها .. حتى أهلكت صموده ..
" قُصي .. منعوني من لقياك .. لن أصل لك طريق بعد اليوم هكذا أمروني .. و انا لست بعاصية .. فهل أنت بتاركي .؟ "
كانت هذه الكلمات التي من أجلها جمع شتاته و جمع ما أستطاع من متطلبات العائلة ليتقدم لها .. لتكون له الرفيقة .. و الصديقة .. و الحبيبة .. و الحياة ..
" و متى كنتُ لك تارك يا قرة العين .. و هل للجسد أن يترك روحهُ !!"
رفع عينه للسماء
" يا الله دُلني اليها يا الله يا رحمان ليس لي سواها و ليس لها سواي .. يا رحيم أرفق بحالنا يا رب .. "
علت من جهة البناية العالية أصوات الرصاص و صياح الرجال بين تكبير و زفراة الموت ..
- " سأجدك ...."
......
صباح يوم الجمعة استيقظت باكرا على غير العادة .. خرجت الى السوق ثم رجعت لتحضر فطورا يليق بذاك الحبيب النائم يوم راحته ..
بدت ملامح القلق على محياها واضحة و جلية .. تزينت و تكحلت في محاولة منها اخفاء تعب الروح فيها ..
- " استيقظ ايها الامير النائم ينتظرك فطار شهي هيا استيقظ أريد مرافقتك على الفطور .. "
لم يستطع لصوتها الملائكي مقاومة .. و استيقظ ..
و بين رشفات الشاي كان ينظر الى عينيها العسلية ..
-" كم أعشق الكحل في عينيك .. و لكن جمال سواده لا يخفي القلق المختبئ فيهما .."
- " قصي .. لا تذهب أرجوك ... "
جذب كرسيه في هدوء ليدنو منها أكثر ..
- " يا عمري .. الرب واحد و الحياة واحدة و لكل منا عمرَ معين كتبه الله له فلا تخافي .. "
- " و ان اخذك الموت مني فماذا فاعلة انا و و هدية الله التي في احشائي ؟؟ "
- " لكِ و لي و لنا الله .. أفضل الاستشهاد ليذكرني ابني انّ كان له أب مجاهد و مات من أجل قضية خير لي من أن أختبئ بين جدران بيتي .. "
- " و لكن ... "
وضع يده على شفتيها المرتعشتين ...
- " فقط كوني بجانبي و أحبيني و صوني غيبتي هذا كل ما أرجوه منك يا رفيقة الروح .. و أن سرقني الموت منك فلنا لقاء آخر ليس بعده فراق .. ثقي بالله ... "
أغرورقت عينيها دمعا .. خوفا .. و إستسلام لإرداته و لمشيئة الله ..
كانت تراقبه في سكون و هو يتجول في أرجاء البيت .. يجهز نفسه لصلاة الجمعة .. و يالها من جمعة ..
في دولتي كل الأيام جمعة .. تخرج الحشود الغاضبة بعد كل صلاة لتنادي بالحرية .. و ليس غير الحرية مرادًا يرضيهم ..
كل يوم تسقى جدران المساجد .. أرصفة الشارع .. أتربة القبور بدماء الشباب الغاضب .. بدماء الطفولة الحالمة .. بالأمومة المحرومة .. بالشيوخ الزاهدين ..
و لكن أرضي أبدا لا ترتوي من دماء الحرية .