ثقيلة تلك الحقيبة المدرسية على كتفها الصغير، كثقل ساعات الدرس المجهدة. في المدرسة لم تملك صديقاً، أو أحدا يهتم بأمرها. تحمل الحقيبة راكضة فرحة بانتهاء ساعات القلق المدرسية وتسارع إلى السوق، هناك وجوه وأشياء جديدة ستراها، ثوب سوف تتأمله وتحلم بارتدائه، وقت صغير كحلمها سوف تقتنصه من ساعة الأم.
كل يوم تجلس على تختها، إلى جانب الشباك مكسور الزجاج، تحاول تمثيل التركيز على شرح المعلمة كي تتجنب عقوبة عدم الانتباه إلى موادٍ لم تثر اهتمامها ذات يوم، هي الطفلة ذات الأحد عشر عاما، سيشدها دائما منظر الشارع الرئيسي الممتد مع نهر البلدة الصغير الممتد أمام مدرستها، شباك الصف يشرف عليه، تجد نفسها هناك خلف الزجاج المكسور وبرد الشتاء يلفح براءة وجهها دون أن تتقيه بورق مقوى كما فعل زملاؤها، من هناك ستطل يوميا على مشاهد كثيرة، مارة يحثون الخطى إلى السوق القريبة أو إلى موقف السيارات في نهاية الشارع حيث سيركبون مبتعدين عن البلدة، أعراس في أيام الخميس يترجل المحتفلون من مركباتهم للرقص أمام المدرسة في بعض الأحيان، فينسى التلاميذ درسهم وتنسى المعلمات الاهتمام بالنظام الصارم للحظات، ومشهد لن تنساه طوال حياتها لتوابيت قادمة من حمى الحرب المستعرة، لتنتهي إلى مجهول لم تدركه، كان اسمه القبر.
تخرج مع الأطفال الضاجين من المدرسة، تفرح كما يفرحون بتحررهم من قيد الدروس، تركض كما يركضون صوب متعهم الصغيرة، تصرخ كما يصرخون وهم يهربون من مشاهد التوابيت، لكنها تسلك شارعا صغيرا وتدلف إلى السوق، متعتها أجمل من دمية عرض في فاترينة محل واكبر من جسد فتاة نحيلة تنوء بحمل حقيبة مدرسية تثقلها بكراريس الرسوم وعلب الألوان التي ادخرت مصروفها لأيام كي تشتريها، تلك التي كانت تمثل أحلامها التي عبأت بها الحقيبة.
على زجاج الفاترينة اللامع رأت جسدها الناحل قد امتلأ فجأة بملامح الأنوثة وكبر عن حجم الطفولة وارتدى الثوب، بذلك الثوب ستدخل إلى بيت جدتها الذي امتلأ بالأقارب في أيام العيد، سترى الفتاة الجميلة التي اختبأت بداخلها وقد ظهرت في بريق عيني ابن عمها وسيقول بأنها أجمل من رأى، سوف تعطي "عيدية" للصغار، وسوف تشارك الفتيات أحاديثهن التي لا يشركنها بها الآن.
والأحلام تنتهي بالصباح. صحو قسري من أجل الالتحاق بطابور المدرسة الصباحي المشحون بالخوف من وجه المديرة الأبيض المشرب بحمرة الغضب دائما، وجسدها الممتلئ القصير، الذي ترفعه بكعبٍ عال كي تبدو أطول من التلاميذ. الهيئة تكتمل لتلك المديرة ببدلتها الزيتوني التي ارتدتها مؤخراً هي وبعض المعلمين، لكن الإكسسوار الأهم في تلك الهيئة كان المسدس الذي تمتاز به عنهم، مضافٌ للعصا الغليظة التي تعاقب بها المتأخرين عن الثامنة صباحا بعشرة عصي على اليد اليمنى ومثلها اليسرى.
كل شيء إذن تام في تلك الهيئة المرعبة لتجعلها تركض وتركض للالتحاق بالطابور الصباحي لتتم تعداد الصارخين بالنشيد (وطن مدا على الأفق جناحا وارتدا مجد الحضارات وشاحا) يصرخون ويصرخون من اجل أن تسمعهم البلدة أجمعها وتستيقظ على صراخ أطفال الحرب وهم ينشدون (لبابا صدام) كل يوم، صراخ يطل على النهر الذي يعد توابيت الحرب بصمت، حرب سيكون للعراق النصر فيها على الفرس المجوس ـ كما تنص على ذلك كتبها في الحقيبة ـ، الحرب لعبة الأولاد المفضلة في ساحة المدرسة وهم يموتون ويحيون ضاحكين، الحرب ينشد لها الصغار والكبار على شاشة التلفاز، وتردد يوميا هي وزملاؤها تلك الأناشيد بفرح وهم يركضون متحررين من ساعات المدرسة ( هسه يجي بابا البطل متخيل الدبابة، هسه يجي مثل الصبح فتح بوجه أحبابه)، الحرب التي لفت في طياتها ابن عمها الكبير دون أن تتذكر شكله ذات يوم، والحرب التي كانت صورا لأشلاء جنود مبعثرة في برنامج – صور من المعركة – الذي يسبق أفلام الكارتون الصباحي في العطلة الصيفية، الحرب كانت أنواط شجاعة تقلد ليلة بعد ليلة لجنود سيموتون قبل مسلسل العاشرة ليلا، مجالس عزاء تنصب كل يوم في احد دور الحي.
لم تكن تلك الحرب كما هي تلك الألوان الزاهية التي تعبئ بها حقيبتها أو بلون الثوب الذي تتطلع له يوميا في فاترينا العرض فتدس حلمها بارتدائه في كراس الرسم، تراه الآن ـ ثوبها ـ وتستمع لإعادة البيان الذي خرج به المذيع ليلة البارحة بصوته الأجش ليعلن انتهاء الحرب، حرب الثمان سنوات.
أنها ترى ثوبها لأول مرة دونها.