هذه كتابة أشبه باليوميات لرحلة ظل ابن مدينة الزرقاء الأردنية الفلسطيني الأصل يحرص على عبورها ويسجل مشاهداته كتابة وتوثيقا من خلال الصور، وسواء لملتقيات أو معارض أو أمكنة أو كتب حديثة..ففي كل مرة يأخدنا الكاتب الى عوالمه الخاصة ومشاهداته مستحضرا جزء من سحرية الذاكرة.

همسات ما بين فرح رام الله وتين تل

زياد جيّوسي

(أتوق للدخول إلى عالمك

أصادم الامتداد القاتم في عينيك

لأغيب... أغيب في حلكة الألوان)..

  تستحضر روحي هذه الحروف الألقة لابنة لبنان جانسيت جركس، حين كنت أجول دروب رام الله وشوارعها، وأتنشق ياسميناتها عصر الخميس ومساءه في 22/8/2013 ، وأقف إلى التلال، وأنظر إلى المدينة التي كبرت وتوسعت وتغيرت، وفي مناطق عدة بدأت أفتقد وجه رام الله التي عشقت، لكنها تبقى هي رام الله العشق والجمال كما اعتدت أن أسميها، وهي حاضنة الطفولة، والمعشوقة التي انتظرت عاشقها ثلاثين عاماً حتى عاد إليها بعد أن خط في رأسه المشيب، أجولها ولا أحمل معي إلا قلمي وعدستي وقلب عاشق.

رام الله             

   أجول المدينة على أقدامي، وأتنشق عبق التاريخ، وأتأمل جماليات رام الله وبيوتاتها القديمة، فأتجول الممر الشجري والحديقة الجميلة في الحد الفاصل ما بين رام الله والبيرة، وأتأمل الجمال في بيت بناه المرحوم ميخائيل أيوب أبو ريا العام 1920، وصممه وأشرف على البناء بنفسه، بين حديقة غناء تمتد من بوابة الدخول حتى محيط البيت، تتميز بأشجار الصنوبر التاريخية والأشجار المختلفة والأزهار وجمالية المكان مقابل مدرسة الفرندز للبنين، وتسكنه حالياً السيدة نهى أبو ريا مستذكرة الماضي الجميل وهي تؤنس وحدتها مع هذا الجمال المتميز والهادئ.

بيت بناه المرحوم ميخائيل أيوب أبو ريا العام 1920

    أتجه من هناك إلى شارع الإذاعة والمعروف بشارع الإرسال، والذي كانت الأشجار تتكاثف فيه حتى كنا نسميه شارع العشاق، لكن التوسع العمراني قضى على هذه الأشجار تقريباً، وإن تفضلت بلدية رام الله في فترة رئاسة السيدة جانيت ميخائيل لها بإعادة تشجير الشارع في الجزيرة الوسطية، وهو مشروع ناجح حتى الآن، من ضمن مشاريع ترك المجلس السابق على المدينة من خلالها لمسات طيبة، فأقف متأملاً كعادتي قصر الحمراء، وفي كل مرة أقف لتأمله أجد به الجديد، علماً أني ما زلت أحتفظ بالعديد من الصور له قبل الترميم الأخير، متذكراً فترة طفولتي حين كنت أمر من هذا المكان لأزور أصدقائي فيما كان يسمى (المركز) في تلك الفترة، حيث كانت تقيم به عائلات رجال من الشرطة في أحد أبنيته، إضافة إلى مركز شرطة وإسطبل خيول وكلاب تتبع الأثر في جانب آخر، وصار مركزاً لقوات الاحتلال بعد هزيمة حزيران، ليعرف باسم المقاطعة في فترة لاحقة، وكان من المباني القديمة والمنعزلة عن المدينة، ما أضاف إليه رهبة المكان ورهبة السلطة، وقد جرى هدمه بالكامل تقريباً في فترة حصار الشهيد ياسر عرفات، وأعيد بناؤه بشكل حديث مؤخراً، ليكون مقراً للرئاسة واجتماعات القيادة الفلسطينية.

قصر الحمراء قبل الترميم

   في نفس الشارع أتأمل مكان بيت آل إعقال، والذي بيع وجرى هدمه بالكامل، ومع هدمه ضاع جزء من ذاكرة المدينة، وقد حاولت جهدي أن يتم الاحتفاظ بالحجر الذي يحمل تاريخ البناء أو بالجسر المعدني كجزء من ذاكرة المكان، لكن دون جدوى وباءت جهودي بالفشل، ومكانه أصبح موقفاً للسيارات كمقدمة لاحقة لبناء مركز تجاري مكانه، وهذا البيت الذي وثّقت كل زواياه الخارجية بعدستي، والذي يعود وجسره المعدني الذي صممه مهندس ألماني للعام 1924، كان من المباني المتميزة في ذاكرة المدينة، لأتأمل مكان مبنى المدرسة الذي جرى هدمه أيضاً بجوار هذا المنـزل، وأيضاً أصبح موقفاً للسيارات، وما زلت أحتفظ بذاكرة الصور التي وثقتها عدستي للمكان.

بيت آل اعقال وجرى هدمه وبني عام 1924

    من هناك أنتقل بالمسير إلى رام الله التراثية (رام الله التحتا) فأتأمل دروبها وأقف أمام منـزل آل جابر والذي يعود لبدايات القرن الماضي، وكان آية في الجمال وروعة التصميم، لكنه مغلق الآن منذ زمن طويل، والإهمال بدأ يتسلل إليه ليأخذ معه إن لم يرمم بعضاً من جماليات ذاكرة المدينة، وأواصل التجوال حتى أصل إلى بلدية رام الله وساحة راشد الحدادين الذي أسس المدينة، فأقف أمام منـزل داود شامية الذي جرى ترميمه، وأصبح مركزاً للاستعلامات السياحية التابع لبلدية رام الله، حيث بجواره سيكون افتتاح مهرجان رام الله بنسخته الخامسة، فأتوقف عن إكمال جولتي، والتي سيكون عنها حديث آخر لاحقاً، حيث تاريخ رام الله وذاكرتها والجمال، فأقف وينثال شلال الذاكرة بقوة حين كنت في طفولتي أتسلل لمهرجان رام الله في الصيف، والذي كان دائماً في متنـزه البلدية، حين كانت رام الله تتميز عن المدن العربية بهذا المهرجان، وكانت رام الله تمتلئ صيفاً بالمصطافين العرب، وكان مهرجان رام الله ظاهرة فريدة في المنطقة العربية، ونقطة جذب سياحية متميزة.

بيت داود شامية وجرى ترميمة وتحويله لمركز استعلامات سياحية

   هذا العام أعادت البلدية الذاكرة بمهرجان رام الله الخامس الذي توقف منذ الاحتلال للوطن العام 1967، وإن جرت عدة محاولات لم تكن جميعها ناجحة من وجهة نظري الشخصية في سنوات سابقة، لكن هذا العام كان المهرجان بأسلوب آخر مختلف، فهو اعتمد على مشاركات لفرق فلسطينية وأفراد، بعضها وبعضهم داخل الوطن، والبعض الآخر في المنافي والشتات، ومازج بين الفن الغنائي والأدائي والموسيقى والشعر والأدب والمسرح الخاص بالأطفال، والسيرك والمقامات وغيرها، واعتمد البرنامج على توزيع الفعاليات في أماكن مختلفة من المدينة، ولم يحصرها في مكان واحد، فشكراً لكل من بذل الجهود لتتألق رام الله في مهرجانها الجميل.

مهرجان رام الله بنسخته الخامسة

   سعدت بدعوتي للمهرجان وإن كنت كعاشق لرام الله ليس بحاجة للدعوة، فرام الله كانت ولم تزل تسكن الروح وتجري في الشرايين مجرى الدم، وكنت ولم أزل بين رام الله وعمان كالمضيع بين فراشتين، فتمتعت بحضور فعاليات اليوم الأول، حيث تألقت صابرين كمال، وتألقت فرقة دوزان وأوتار القادمة من الأردن، وتمتع الحضور بالعرض الجميل، فعادت لذاكرتي الطفولة، وكيف كنا نتسلل أطفالاً للمهرجان، وتذكرت من خلال تصرف غير مهذب من بعض أفراد مكلفين بالحفاظ على النظام في المهرجان، كيف كان رجال الشرطة في القديم يحملون العصي والهراوات وكيف كنا نهرب قبل أن يمسكونا، لكن الآن لا يحملها هؤلاء الأفراد، لكن بعضهم تصرف كما كان يتصرف رجال الشرطة في الماضي، وليسمح لي رئيس البلدية أن أهمس له: نحن أبناء هذه المدينة منذ الطفولة، وأنا كفرد بلغت من العمر تسعة وخمسين عاماً، وثقت لرام الله الكثير ما بين الصور والمقالات، وأنجزت بجهد شخصي ثلاثة معارض صور فوتوغرافية في ثلاثة دول عربية، وربما لا تزال في غرفة رئيس البلدية إحدى الصور التي أهديتها للسيدة جانيت ميخائيل من نتاج عدستي، وفي صفحة البلدية الإلكترونية الكثير مما وثقت عدستي أيضاً، وكذلك في تقويم صدر عن البلدية من سنوات، فالأَولى أن يكون هناك اهتمام بتوجيه المشرفين على التنظيم، كيف يجب أن يتعاملوا بتهذيب مع الحضور، وخاصة الإعلاميين والصحفيين، ما جعلني أحجم عن متابعة الفعاليات في اليوم الثاني والثالث، فقد خشيت أن لا أتمكن من السيطرة على أعصابي مرة أخرى، إن تصرف معي أحد الشباب كما تصرف أحدهم يوم الافتتاح، وهو من جيل أصغر من أصغر أبنائي، وإن لم يمكنني التغيب في اليوم الثالث بعد أن علمت بأن هؤلاء الشباب من لجنة التنظيم لن يكونوا موجودين، فسارعت لحضور أمسية مجموعة نوى للموسيقى التراثية، فكانت أمسية متميزة لنوى رغم النوى.

مهرجان التين في بلدة تِل

وصلت رام الله في الصباح المبكر قادماً من طولكرم، حاملاً بعض من ذكريات زيارتي لمهرجان التين في بلدة تِل بالأمس، وأتذكر جماليات المهرجان وحجم الحضور الذي فاق التوقعات، وحجم الطيبة والتهذيب والأدب من الشباب الذين أشرفوا على تنظيم المهرجان، وكان كل منهم يضع على صدره بطاقة تحمل اسمه بشكل واضح، وبدلاً من أية عبارة مثل تنظيم/ انضباط/ أمن.. وإلى آخره من الكلمات المنفرة، كانوا يضعون على البطاقة عبارة (لجنة الضيافة)، وقد غمرونا بلطفهم وكرمهم وتهذيبهم، فشكراً لهم وكل الاحترام للجنة الوطنية العليا لمهرجان التين، ولشباب بلدة تِل وأهلها على حسن الاستقبال وطيب التعامل والتهذيب والكرم، الذي سيكون له حديث لاحق.

أصل إلى مكتبي الرسمي مبكراً  كالعادة، ومع كوب القهوة وروح طيفي ترافقني وشدو فيروز وهي تشدو: (يا رئيس البلدية خطية ومية خطية، أنا شو ذنبي كل ساعة بتبعتلي البوليسيّة، شغلة وصارت وحياتك لا تحط الحق عليي، يا رئيس البلدية.. يا رئيس البلدية)، أبتسم وأهمس من نافذتي: صباحكم أجمل أحبتي.. صباح الخير يا رام الله.. صباح الخير يا وطن..

(رام الله/الأحد 25/8/2013)