في استيعاب لجملة الأشياء ووقوعها ما بين الإنسان والمكان، وفي حيّز مبادرة درايش لاختبار الموادّ وإعادة تركيبها وفقًا للمفاهيم المعماريّة والمكانيّة، أطلقت درايش ضمن مهرجان تاء الشّباب مساء أمس (الاثنين الموافق 9 سبتمبر 2013م) مختبرها العمرانيّ الثّاني متبوعًا بمحاضرة أكاديميّة بعنوان (أ إنسان أم معمار؟) بالتّعاون مع المركز الإقليميّ العربيّ للتّراث العالميّ الذي استضاف الحدثان بموقعه في المنامة، وبرفقة البروفيسور بلاتون إلكسيو عميد كلّية الهندسة بجامعة المملكة.
وقد دشّن الدكتور منير بو شناقي مدير المركز الإقليميّ العربيّ للتّراث العالميّ الفعالية، مبديًا سعادته بالتّجربة الثّقافيّة الشبابيّة، ومشيدًا بمشروع تاء الشّباب الذي يشتغل على مختلف المشاهد الثّقافية والتي يهتمّ من بينها بالمعمار والتّراث. وقال: (سعيدٌ بمثل هذه المباحث التي يشتغل عليها الشّباب، والتي تتّجه في تعاملاتها إلى العلاقة ما بين الإنسان والمعمار والتّراث بشقّيه الطبيعيّ والثّقافيّ)، وعلّق: (هذه التّجربة هي البداية فقط وليست نهاية الحدث، نبحث عن استمراريّة مثل هذه المشاريع والمواضيع التي تهتمّ بالأمكنة والنّسيج الإنسانيّ الحضاريّ).
أتبع كلمته افتتاح معرض (بتصرّف عن المكان) الذي يلخّص بلغة الرّسم والسكتشات والتّصاميم العلاقة ما بين الإنسان ومراحل المعمار، بالإضافة إلى رصد ردود الأفعال الأوّليّة التي يتّخذها الإنسان مقابل لحظة حدث فجائيّ. وقد اشتغل على هذا المعرض مجموعة من الشّباب، حيث أوضح الشّاب عبدالرّحمن سلامي القائم على المعرض أنّ هذه التّجربة ترصد تأثيرات العمارة على سلوكيّات الإنسان، وتنسج سياقًا لنفسها بدءًا من خطوات التّصميم المعماريّ ومقارنة تعامل المعماريّ والإنسان العاديّ مع كلّ مرحلة من مراحل هذا التّصميم. كما قدّم المعرض مقارنات بصريّة ما بين حضارات وثقافات وديانات مختلفة سواء في طبيعة المهن، المواصلات، الطراز المعماريّ وحتّى القهوة بشعبيّتها قديمًا وحديثًا، وأخيرًا إلى رسومات ترصد تفاعل مختلف الفئات مع عنصر الماء في اللّحظة الأولى.
ومن التّعامل البصريّ إلى الاشتغال الأكاديميّ، قدّمت مبادرة درايش بعد المعرض المعماريّ محاضرة (أ إنسان أم معمار؟) التي انتقل من خلالها البروفيسور بلاتون إلكسيو عميد كليّة الهندسة بجامعة المملكة إلى العلاقة ما بين الإنسان والمكان في محيط إقامته ومنزله، باعتباره الحدود الجغرافيّة والمكانيّة الأقرب إلى الإنسان والأكثر انسجامًا مع طبيعته ونمط حياته. وبدأ المحاضرة بطرح مجموعة من الأسئلة المتواصلة حول فكرة المكان والسلوك الإنسانيّ، ودور العناصر المعماريّة في إيجاد بيئة معاشة تؤثّر وتتأثّر بتفكير النّاس ومشاعرهم وعاداتهم، قائلاً: (كلّنا نختبر المكان بطريقة أو بأخرى، شعورنا بالسّعادة أو الحزن، بالجمال أو السّوء، بالدّهشة أو الملل جميعها ترتبط بمحيطنا المباشر.إنّ المكان سيرة حياتنا، ومنه نستدرج تفكيرنا ونمارس تصرّفاتنا). معلّقًا: (هذا المبحث واسع وكبير لا يمكن تلخيصه، لكنّ فكرة الدّخول إلى المنزل الذي هو فكرتنا المشتركة عن المكان سيكشف لنا بصورةٍ مبسّطة مدى الاختلاف والتّعامل الذي ينفرد به كلّ إنسان منّا داخل منزله).
وقد أشار البروفيسور بلاتون خلال حديثه إلى أنّ السلوك الإنسانيّ النّابع من تفكير ومشاعر وثقافات النّاس يتأثّر بالرّغبات والأحلام والعواطف بالإضافة إلى القاعدة المعرفيّة للشّخص، مستعرضًا العديد من النّماذج المدروسة والتّعاملات البشريّة مع المكان الخاصّ بهم. وعرج خلال ندوته إلى ثقافات عديدة ومناطق بعيدة تتراوح في فترتها الزّمنيّة، مؤكّدًا أن العديد من السلوكيّات إمّا أن تكون وراثيّة مكتسبة أو ظاهريّة ملحوظة نتيجة حدث أو ظاهرة ما. وأشار إلى أنّ الدراسات المتخصّصة لاستيعاب العلاقة ما بين الإنسان والمعمار، تتناول في اشتغالاتها ومعايناتها العديد من المناطق المعرفيّة والعلميّة الاجتماعيّة، السيكولوجيّة، الأنثروبولوجيّة، وغيرها.مبيّنًا: (المعمار سواء كان سكنيًّا أو تجاريًّا أو غيرها من البناءات الوظيفيّة جميعها تحدّد موقع الإنسان فيها بمتوازيات عديدة تبدأ فرديّة وتتصاعد إلى المستويات العائليّة، الجماعيّة، الفضاءات المفتوحة وانتهاءً بفكرة الحياة عمومًا)، وأكّد: (حواسّ الإنسان هي طريقة تفاعله واستيعابه للمكان بدون النّظر إلى تفاصيل التّكوين المعقّد للمعمار. فاللّون أيًّا كان موقعه في المنزل، النّسبة والتّناسب ما بين كتلة الإنسان والمكان، الإضاءة التي تحكم البيئة وقطع الديكور جميعها مجرّد تفاصيل تتبادل علاقاتها ما بين الإنسان والمكوّن المكانيّ). وتساءل:ما هو التّصميم الداخليّ الملائم الذي يفسّر حياة الآخرين داخل المكان؟ ما هو التّفكير؟ كيف تنام؟ كيف تشعر وتتواصل؟ ما هو الأنسب لك؟ ماذا نريد أن نفعل؟ هذا الكمّ من الأسئلة كلّه يقود إلى علامات استفهام حول طبيعة العلاقة المتبادلة؟
واستعرض البروفيسور بلاتون في شرحه العديد من الصور والمقارنات الزمانيّة والمكانيّة والعلاقة البشريّة بها، بدءًا من الحضارة اليونانيّة القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد والعلاقة ما بين الفراغ المكانيّ والحياة الإنسانيّة داخل المكان، مرورًا بهولندا، واليونان في مراحل الاستيطان التركيّ، الفايكنغ والمنازل ذات الغرف الأحاديّة والعالم العربيّ وغيرها. كما شرح في نماذج صوريّة السلوكيّات والعادات الإنسانيّة داخل المنزل، سواء في النّوم، تناول الطّعام، لحظة التقاط الصور، الرّقص، طهو الطّعام وغيرها من اللّحظات المعيشيّة. وأشار قائلاً: (بعض التّصاميم العبقريّة والبسيطة قد تغيّر سلوك الإنسان داخل محيطه الخاصّ، فعلى سبيل المثال لو تمّ وضع سبّورة داخل المنزل لاتّجه الأطفال للرّسم عليها بدل تشويه الجدران)، وأضاف: (كلّ اللحظات الإنسانيّة تحصل داخل هذا الإطار الضّيق من الحيّز المكاني، فكرة العنف ولحظات السّعادة جميعها متوازيات محكومة بطبيعة المكان وعلاقتنا به، فالإضافات الدّاخليّة والرّغبة في نمط معيشيّ معيّن تؤدّي إلى تغيير التّعامل مع المكان، والعكس يحدث).