صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية العدد السابع من سلسلة أوراق بعنوان "اقتصاد المعرفة كآلية لتحقيق نهضة مصر"، للدكتورة "نسرين اللحام"، المدير السابق لمركز الدراسات المستقبلية في مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، وتتناول الورقة أحد أهم الموضوعات المرتبطة بملفات المستقبل والنهوض بمصر وهو اقتصاديات المعرفة وسبل استغلالها ودمجها في البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة لتحقيق النهضة الشاملة.
وتنطلق الورقة من أن تحقيق النهضة لا يمكن أن يحدث بمعزل عن رؤية للتغيرات الجذرية الشاملة التي يمر بها العالم، فعصر المجتمعات الزراعية المستقرة الذي اعتمد على الرعي والزراعة لأكثر من عشرة آلاف سنة سادت فيه أسس اقتصادية واجتماعية ومنظومة قيم واحدة على مستوى العالم بغض النظر عن الأعراق والأجناس والبيئات، ومع الانتقال إلى المجتمعات الصناعية عقب اختراع الآلة البخارية حدث تغيير جذري في كافة جوانب الحياة ولم تعد الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومنظومة القيم النابعة من واقع الحياة الزراعية صالحة للتعامل مع الحياة الصناعية التي فقدت مرجعيتها.
وترى الباحثة أن دراسة هذا التحوّل من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة يساعدنا في تناول التغيرات الكبرى التي نمر بها الآن، من تحول من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات والتي تتجاوز في سرعتها انتقال البشر من الزراعة إلى الصناعة. فطوال عصر الصناعة، كان بإمكان دولة ما أن تقرر المضي في حياة الزراعة بنفس أسس عصر الزراعة – فيما لو لم يجد الاستعمار النابع من طبيعة النظام الصناعي حاجة لاستعمارها- أمّا اليوم فليس بإمكان أي دولة صغيرة كانت أو كبيرة، أن تتجاهل التحوّل الشامل إلى عصر المعلومات.
ولرسم معالم الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات يجب دراسة مؤشرات التغير العظمى التي طرأت على حياتنا منذ منتصف القرن العشرين تقريبا، بالتركيز على تلك المؤشرات مطردة التأثير والنمو، والتعرف على التأثيرات المتبادلة بين تلك المؤشرات، في سبيل تحديد المبادئ الأساسية للمجتمع الجديد، والتعرف على آثار الاعتماد على التكنولوجيا المعلوماتية أو الرقمية في صياغة الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للحياة في المجتمع الجديد.
كما تجد د.نسرين أن المبادئ الأساسية لمجتمع المعلومات تتمثل في؛ التحول من العمل الجسدي إلى العمل العقلي، ومن إنتاج البضائع إلى انتاج المعلومات، ومن المركزية إلى اللامركزية، ومن التنظيم الهرمي إلى التنظيمات الشبكية، ومن تلويث البيئة إلى حمايتها، ومن الاعتماد على الوقود الحفري إلى أشكال جديدة ومتجددة من الطاقة، ومن الاقتصار على المواد الخام المستخرجة من جوف الأرض، إلى الاعتماد على الخامات المختلّقة، ومن فصل الإنتاج عن الاستهلاك إلى اقتصاد تعاوني، والإنتاج من أجل الاستهلاك الشخصي، ومن التمثيل النيابي إلى المشاركة في اتخاذ القرار، ومن الاعتماد على المؤسسات إلى الاعتماد على الذات، ومن الاقتصاد القومي إلى الاقتصاد العالمي.
وبالنسبة للحالة المصرية فتقول الباحثة إن تحقيق نهضة مصر وتقدمها لا يمكن أن يقاس بمعزل عن موقعها بين الدول، ومدى تنافسها معها، وأحد أهم أدوات قياس أداء الدول وتنافسها هو مدى احتلالها مركزا متقدما في مؤشِّر التنافس العالمي، وكما اوردت أن لمصر مركزا متدنيا نسبيا في مؤشِّر التنافس العالمي، حيث جاءت في المركز 107 بين 144 دولة عام 2012/2013.
وبالنظر إلى مرحلة التنمية التي تمر بها مصر، نجد أنها تقع ضمن مجموعة الدول متوسطة التنافس، حيث تصنف ضمن اقتصاديات التحول التي تمر بمرحلة انتقالية من مرحلة (الاعتماد على عناصر الإنتاج) التي تعكس الحد الأدنى من التطور إلى مرحلة (محفزات الكفاءة) التي تعكس الحد الاوسط للتطور، وبالتالي فإن انتقال مصر إلى مصاف الدول المتقدمة والأكثر تنافس بين الدول لا يمكن أن يتم دون التحول إلى الاعتماد على دعائم الابتكار والتطوير. وهو الأمر الذي يبين مدى أهمية عنصر الابتكار والاقتصاد كسبيل أمثل لتحقيق نهضة مصر ولإحداث تحول حقيقي في المسار التنموي المستقبلي للاقتصاد المصري، بما ينعكس على رفع مؤشِّر التنافسية المصري.
ايضا تؤكد الورقة أن هذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن التعامل مع اقتصاديات المعرفة؛ وتعرف اقتصاد المعرفة بأنه: "الاقتصاد الذي تلعب فيه القطاعات التي تستخدم وتنتج المعلومات الدور الأساسي في الاقتصاد، في مقابل القطاعات التقليدية والتي تُشكِّل فيها عمليات استخدام المواد الخام والطاقة الدور الأساسي في توليد الناتج مثل الزراعة والصناعة"، ويرتكز اقتصاد المعرفة على أربع ركائز أساسية تُكَّون مؤشِّر اقتصاد المعرفة، هي: الحوافز الاقتصادية، والتعليم، والابتكار، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ويُلاَحظ تدني مرتبة مصر في مؤشِّر اقتصاد المعرفة مقارنة بالدول المتقدمة أو حتى بالمقارنة بالاقتصاديات الصاعدة رغم جهود النمو والتنمية في مصر خلال السنوات الأخيرة، حيث جاءت مصر في المرتبة 90 بين 146 دولة بقيمة 4.08 درجات، كما تأتي في مركز متأخر إذا ما قورنت بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي بلغ فيه المؤشِّر 5.47 درجات.
ويتطلب التحول من اقتصاد الموارد إلى اقتصاد المعرفة في مصر، التحول من التوجهات التقليدية في الاقتصاد إلى توجهات حديثة ومبتكرة ثبت نجاحها في مختلف الدول، وفي هذا تضرب الباحثة أمثلة لقوى اقتصادية آسيوية صاعدة عديدة نجحت في تحويل اقتصادياتها إلى اقتصاديات معرفة مثل؛ كوريا الجنوبية وسنغافورة.
ويرتبط بناء اقتصاد المعرفة بإيجاد مجتمع المعرفة الذي تعرفه الباحثة بأنه "المجتمع الذي يحسن استعمال المعرفة في تسيير أموره وفي اتخاذ القرارات السليمة والرشيدة، والذي ينتج المعلومة لمعرفة خلفيات وأبعاد الأمور بمختلف أنواعها، والذي يعتمد بالأساس على المعارف كثروة أساسية؛ أي على خبرة الموارد البشرية ومعارفها ومهاراتها كأساس للتنمية الشاملة".
وفي نهاية الورقة يتم طرح إستراتيجية يمكن الانطلاق منها لتفعيل اقتصاد المعرفة والمجتمع المعرفي، وتتمثل أهم نقاط هذه الإستراتيجية في؛ زيادة نسبة الإنفاق الحكومي على البحث والتطوير لتصل إلى 3% من الناتج المحلِّي الإجمالي عام 2030، وكذلك رفع كفاءة الاستثمار لتحقيق أفضل عائد ممكن من خلال تحديد الأولويات التي ينبغي التركيز عليها.
وهذا ما تركز عليه كل من؛ اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، حيث يصعب مع محدودية الموارد البدء في تطوير جميع المجالات، وأيضًا تنويع مصادر تمويل البحث والتطوير لتشمل القطاع الخاص بجانب الحكومة، ففي اليابان يمول القطاع الخاص 63% من أنشطة البحث والتطوير، وفي أوروبا يمول القطاع الخاص 55% من هذه الأنشطة.