يتابع الناقد الفلسطيني هنا تناوله للكتب الجديدة التي تصدر بالانجليزية، فيقدم دراسته لكتاب الباحثة والأكاديمية السعودية مضاوي الرشيد ـ أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة لندن ـ عن المشهد السلفي المعاصر في السعودية ويتقصي ملامح الخطاب الاسلامي الجديد عبر مساءلة رموزه.

نقد الخطاب السلفي ومساءلة الشرعية

إبراهيم درويش

 

هذا كتاب للكاتبة والباحثة السعودية مضاوي الرشيد، وهي باحثة في علم انثروبولوجيا الدين في كلية كينغز/ جامعة لندن، وهي متخصصة في دراسة التاريخ والمجتمع والدين في السعودية. وعملت كباحثة في كلية نفيلد التابعة لجامعة اوكسفورد قبل انضمامها لكلية كينغز عام 1994، كما درست في كلية غولدسميث التابعة لجامعة لندن ايضا، ومعهد الدراسات الاجتماعية والثقافية الانثروبولوجي التابع لجامعة اوكسفورد، وقدمت عددا من المحاضرات في الولايات المتحدة، واوروبا والشرق الاوسط، وعملت كأستاذة زائرة في معهد الدراسات الاجتماعية في باريس. وكانت اطروحتها للدكتوراه عن امارة آل الرشيد التي صدرت في كتاب تحت عنوان السياسة في واحة عربية (1991)، ولها كتاب عن تاريخ السعودية (2002)، سرد مضاد: تاريخ، والمجتمعات المعاصرة والسياسة في اليمن والسعودية (2004)، والاتصالات ما فوق قومية/ وطنية في منطقة الخليج (2005)، السعودية ومأزق الاصلاح في القرن الحادي والعشرين (2005) وقامت بدراسات عن الهجرة العربية في لندن، والمهاجرين العراقيين ما بعد حرب الخليج

في واحد من التقييمات التي قدمت في نموذج الدعوة الوهابية، كتب قبل اكثر من نصف قرن، المفكر المصري محمد البهي قائلا ان دعوة محمد بن عبدالوهاب ( 1703 ـ 1792) التي بدأت في قلب الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، وهو القرن المعروف باسم عصر الاصلاح والتجديد، كانت امامها فرصة كبيرة لتوحيد المسلمين واحياء الاجتهاد ضد التقليد والتعصب الاعمي. الا ان الحركة التي ولدت كرد فعل علي الممارسات الصوفية التي انتشرت واكدت ممارسات اعتبرها الشيخ بن عبدالوهاب مناقضة لروح العقيدة لاسلامية، لم تقدم فكرا واجتهادا علي الرغم من اعتمادها علي المذهب الحنبلي الذي يحتفي بالاجتهاد، واخذها من فكر تقي الدين بن تيمية الذي عاش مرحلة تشبه مرحلة بن عبدالوهاب، وقارع في زمنه ما رآه انحرافا عن عقيدة السلف، وبدلا من ان تقدم الدعوة الوهابية اجتهادا معاصرا ومتقدما اكتفت بنموذج شعائري، يؤكد علي ممارسات لها علاقة بطريقة العبادة من صلاة ووضوء واهملت البعد الاجتماعي للدعوة الاسلامية، وبدلا من الانفتاح اكدت التقليد، وعوضا عن توحد المسلمين فانها اصبحت عامل فرقة من خلال تأكيدها علي الفروقات الشيعية ـ السنية.

ولعل اهم ما في نقد البهي وغيره لفكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب هي رؤيته للجهاد، اذ ان اعلانه الجهاد علي الذين عارضوه وقيامه بتحدي البنية الاجتماعية والاقتصادية التي قامت حول المزارات وقبور الاولياء ادت الي اخراج الكثيرين ممن يعتبرون انفسهم من اهل القبلة من حدود الايمان، فعلي خلاف مصلحين ظهروا في شمال وغرب افريقيا وشبه القارة الهندية التي اكدت علي البعد الاجتماعي للصوفية واثره في العادات والممارسات الاسلامية التي ادت لولادة اسلام فولكوري، شعبي لا يمت لروح الاسلام، ورأوا ان المشكلة تكمن في اصلاح الصوفية وليس رفضها كما رفضها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فالاصلاح عند السنوسي وبن فوديو كان يعني اصلاح فهم الصوفية واعادتها لحضن الفهم الاسلامي الاصيل وتأكيد الاتباع وليس التقليد الذي يولد التعصب، وبالنسبة لشاه ولي الله واحمد السرهندي كان الاصلاح يعني تقديم نموذج فهم لوحدة الوجود التي قدمها العارف وشيخ الصوفية ابن عربي.
اثرت دعوة محمد بن عبدالوهاب علي الكثير من الدعوات الاسلامية في العالم الاسلامي وفي شبه القارة الهندية، وعلي العموم فانه عندما يتم الحديث عن الظروف التي ولدت فيها دعوة الامام محمد بن عبدالوهاب في قلب الجزيرة العربية، نجد حرص مؤرخي الدعوة علي تقديم موازاة بين حال العرب قبل الاسلام وحال العرب عندما بدأ الامام محمد بن عبدالوهاب. فالجهل بالعقيدة الصحيحة كان علامة مشتركة بين عرب الجاهلية قبل الاسلام وبدو نجد وهي قضية تحتاج الي تحليل ودراسة جديدة ونقد.

دين بلا سياسة
دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في تركيزها علي الشعائر والطقوس انتهت الي التأكيد علي هذا الاطار دون الالتفات الي البعد السياسي الذي تركت شأنه للعائلة السعودية التي تحالفت معها في بداية الدعوة وتحديدا عام 1744 والعهد وان اوحت به الظروف الا انه اصبح جزءا من تكوين الدعوة حتي اليوم اذ تركت الحكم لولاة الامر واقنع مشايخ الدعوة انفسهم انهم اقاموا دولة اسلامية لا يجوز الخروج عليها، او معارضتها بالسيف، او حتي بالنقد والمظاهرة والكتابة، فاي نقد للدولة التي اقامتها الدعوة يعتبر خروجا علي الامام وبغياً وظلماً. ولكن فكرة الدعوة الوهابية بعيدا عن ظلالها السلبية اذ تقرن الان وقبل في ذهن الكثيرين، فهي قرينة التطرف والارهاب في عدد من دول آسيا الوسطي.  وفي الوقت الذي لا يحب اتباع الدعوة ربطها بشخص المؤسس ويحبذون ربطها بالسلف الصالح باعتبارها دعوة للعودة الي جوهر السلف الصالح، الدعوة الوهابية في خروجها الاول وتقسيمها المجالين الديني والسياسي الذي تم احياؤه وتأكيده مع انشاء الدولة السعودية الثالثة في الثلاثينات من القرن الماضي، ليست جوهرا ثابتا، فبعد اكثر من قرنين من الزمان فالدعوة التي قصد منها اصلاح فهم المسلمين وعقيدتهم بتأكيد مبدأ التوحيد ـ فان الكثير من السعوديين لا يوافقون علي الفكرة التي تدعو للفصل بين السياسة والدين، بل ان الاجماع الظاهري علي اسلامية الدولة السعودية وتماهيها مع الدعوة الوهابية وافكارها بات محلا للسجال، ليس من نقاد للنموذج من الخارج بل من داخل النموذج، فهناك مساحات واسعة بدأت تفتح في جسد النموذج تعيد تقييمه وتحليل دواعيه.

فقد شهد العقدان الاخيران من القرن الماضي سجالا بين اتباع الدعوة السلفية حول النموذج وتم من خلال السجال اعادة الحديث عن حيوية الفهم الاول الذي قدمه ائمة الدعوة النجدية ـ باعتبارهم سدنة الدعوة وحراسها خاصة من ابناء الامام محمد بن عبدالوهاب، وهناك سجال دائم حول الدولة السعودية وهويتها وعلاقتها بافكار محمد بن عبدالوهاب او جوهر الدعوة السلفية، لم تشهد الدولة السعودية الحديثة نقدا وتحليلا من الداخل كما شهدته في نهايات القرن الماضي، فمع ان مؤسس الدولة قام بمواجهة مقاتلي الدعوة الاولين الذين اسهموا في توسيع حدود العائلة والقضاء علي المنافسين لها في حائل والحجاز وعسير واستعادة ما اطلق عليه بن سعود ارض الاجداد، فان الدولة بعد ثورة الاخوان عام 1928 لم تشهد تمردا علي ولي الامر الذي اصبح يمثل الشرعية السياسية في الدولة الدينية التي حققها فقهاء الدعوة ومشايخها. ولكن ثورة الاخوان ظلت حاضرة في وعي الدعوة لكي تنفجر فيما بعد في حركة جهيمان العتيبي الذي قام باحتلال الحرم عام 1979، وهذا العام له دلالاته التاريخية والسياسية وترك تحديدا اثاره علي مسار الدولة السعودية ـ فهو العام الذي انتصرت فيه الثورة الاسلامية في ايران، وهو العام الذي اجتاحت فيه قوات الاتحاد السوفييتي السابق افغانستان، وهو العام الذي احتل فيه جهيمان العتبي الحرم. وهذا المثلث ترك اثاره العميقة علي السياسة السعودية، فستقوم بمنافسة تصدير الثورة الاسلامية بتصدير النموذج السعودي الذي بدأ بعد عام 1973 وزيادة اسعار النفط، حيث تم استخدام المال الزائد عن الطفرة النفطية في تأكيد الدعوة عالميا، هذا اذا اتفقنا مع الباحث الفرنسي جايلز غيبل، مع ان نشر النموذج بدأ قبل ذلك بفترة علي خلفية التنافس بين الملك فيصل وجمال عبدالناصر، كما انه العام الذي بدأ فيه المشروع الجهادي في افغانستان الذي دعمته الدولة وعلماء السعودية وشارك فيه اكثر من 30 الف شاب سعودي وانفقت فيه السعودية اكثر من 40 مليار دولار هذا علاوة علي التبرعات التي قدمها الامراء والتجار والناس العاديين.

تحولات عن المركز النجدي
ان طبيعة الخطاب الذي نتج من خلال هذه الاحداث المهمة في تاريخ المنطقة وتاريخ السعودية مهم اذ انه يلقي في ظلاله علي الطريقة التي حاول فيها تلامذة الدعوة وابناءها انتقاد مركز الدعوة وسدنتها، خاصة ان النقد القادم من الداخل جاء من مراكز جديدة للدعوة بعيدا عن الدرعية والرياض ونجد، كما ان نقد الدولة وممارستها الشمولية لم يعد مرتبطا بمطالب الاقلية الشيعية في شرق السعودية، والتي تأثرت هي الاخري بانتصار الثورة الاسلامية في ايران كما تعززت مطالبها بسقوط صدام حسين. ان الحيوية الجديدة في الفكر السلفي او الوهابي هي حيوية داخلية كانت نتاجا للقمع الفكري وقمع الدولة وسياساتها الشمولية، وهي ايضا، اي النقاشات مدينة اولا للتفاعل الاولي الذي تم بين ناشطي الحركات الاسلامية الذين وجدوا ملجأ لهم في السعودية، خاصة تيار الاخوان المسلمين واتباع حزب التحرير، وفي فترة لاحقة تأثير من التجربة الافغانية التي فتحت عيون الشباب او سياح الجهاد علي حقائق جديدة واعطتهم رؤية جديدة للتعامل مع الدولة، سيتخذ في مرحلة لاحقة طابعي عنف وقتل. كما انه ، أي الخطاب، كان نتاجا للتطورات التي شهدتها المنطقة منذ اجتياح صدام حسين الكويت وظهور تيار الصحوة ومشايخها في السعودية، والذين جاء معظمه من خارج المؤسسة الدينية التقليدية مع انهم كانوا في داخلها.

وهنا اتخذ شكل السجال والنقاش طابعا خاصا، اذ وجدت الدولة السعودية نفسها امام تيار يدعو الي الاصلاح السياسي، وهو الذي حجر مشايخ الدعوة علي اتباعهم الحديث عنه، لانه ضد ارادة ولي الامر الذي يمثل السلطة الدينية والدنيوية وان تقاسمها في شقها الديني مع مفسري وشراح الدعوة. ان الحراك الجديد داخل الفكر الوهابي جاء ليسقط الكثير من التعميمات حول خطية هذا التفكير وتركيزه علي الشعائرية واهتمامه بالجزئيات والتفاصيل التي جسدتها هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اصبحت تمثل في نظر الاجيال الجديدة والكتابات الروائية القادمة من ارض السعودية مآلات هذا النموذج، لم يعد الخطاب الديني هو ذلك الذي تجسده هيئة كبار العلماء والمفتي بل قدم تنوعا وخطابا معقدا ومشاريع وافكاراً ناضجة وغير ناضجة وسجالاً ضد ومع المؤسسة. وقد استفاد هذا النقاش الذي لم يكن متاحا لاجيال النساخ وحفظة تراث بن عبدالوهاب من التحولات ومسارات القرن العشرين وثورة الاتصالات والتعليم الجماهيري واخيرا ثورة الانترنت التي فتحت منابر جديدة لنقاش وتقييم التجربة والدعوة الوهابية وادخالها في حقل النقاش السياسي.
في الوقت الذي تعرضت فيه الوهابية لنقد وتحليل داخلي من ابنائها فالحركة والفكرة كانت منذ نشوئها مصدر نقد من الجماعات غير السنية التي اعتبرت رؤيتها غير المتسامحة معها تهديدا علي افكارها، وفي البحث الغربي غالبا ما قدمت الحركة علي انها احيائية موحدة ذات طابع طهوري، ومع اعتراف الباحثين بانها قد تكون متشددة ومتعصبة الا ان البحث الغربي لم يتعامل معها كتهديد لنموذجه. ويبدو ان هذا الموقف كان نابعا من ثقة الغربيين الذين استفادوا من النفط السعودي بقدرة آل سعود علي احكام السيطرة علي الوهابية ومنع اي احتكاك بين اتباعها وبين العاملين الاجانب الذين عاشوا في مجمعات خاصة تشبه المستوطنات بعيدا عن سكان البلاد. وستصبح هذه المستوطنات الهدف الرئيسي لهجمات قاعدة الجزيرة العربية في السنوات الاخيرة. ومن هنا فقد كان لهجمات ايلول (سبتمبر2001)  اثر واضح في تغير الموقف الغربي من الوهابية، حتي اصبحت الوهابية صنوا للارهاب. وفجأة صحا الغربيون، الاكاديميون والصحافيون ومراكز البحث، علي مخاطر السلفية السعودية التي قالوا انها مصدر الارهاب وانها تضطهد المرأة وتقوم باضطهاد وتمييز ضد الاقليات والطوائف الاخري.

شيطنة الوهابية ما بعد هجمات ايلول ـ سبتمبر
وفجأة اخري تحولت الحركة الوهابية من حركة توحيدية طهورية اقامت امبراطورية كبيرة بحسب مؤرخ شركة النفط العربية السعودية المعروفة بارامكو جورج رينتز الي حركة غير متسامحة ذات خطاب كراهية وارهاب. وعزز من صورة الوهابية الشائهة والشيطانية ما اتخذته فيما بعد هجمات ايلول (سبتمبر) وهي الحرب علي العراق والنظرة عن مشاركة السعوديين في الجهاد ضد امريكا فيها، وبدون تحر او بحث فان مشاركة السعوديين في العراق نظر اليها علي انها نتاج لعملية تجنيد ممأسسة يقوم بها مشايخ السلفية ولم يأخذ الموقف الغربي بعين الاعتبار ان هؤلاء الشباب ربما اندفعوا للعراق بدافع الحماس والغيرة مع تأثرهم الديني وشعورهم بالتضامن مع اخوانهم العراقيين. فالبحث الغربي اوجد علاقة واقام مفهوما من ان الوهابية والارهاب اصبحا مفهوما واحدا، ومن هنا ازدهرت الدعوت لاعادة النظر في البرنامج التعليمي السعودي الذي اتهم بانه يربي الاطفال علي الكراهية والتعصب.

امام هذه الهجمة علي الفكر الوهابي قامت المؤسسة الرسمية السعودية بتشجيع باحثين غربيين علي كتابة واعداد دراسات ذات طابع اعتذاري تحاول نزع تهمة الارهاب عن الحركة الوهابية ولعل اشهر هذه المحاولات كتاب ناتانا دي لونغ ـ باس الاسلام الوهابي من الاحياء الي الاصلاح الي الجهاد العالمي  (2004) وقد منع الازهر الكتاب، والذي حاولت فيه تقديم تبرير لعدد من الافكار الاشكالية في حركة محمد بن عبدالوهاب منها نفي ان عبدالوهاب اعلن الجهاد علي المسلمين وانه شرع استخدام السيف لنشر افكاره، ومن هنا اعفت الحركة الوهابية من اية علاقة بالارهاب او العنف في القرن العشرين وما بعده. وقد وقع البحث الغربي في اخطاء كثيرة من ناحية التعامل مع الفكر الوهابي باعتباره فكرا متجانسا وواحدا، ولم يفهم البحث الغربي او يحاول فهم التطورات الحادثة في السعودية منذ عقود وطبيعة العلاقات الدولية. فالوهابية لم تعد مركزا واحدا تمثله هيئة كبار العلماء بل صارت مراكز كل مركز منها يحاول تقديم نفسه علي انه الممثل الحقيقي لافكار المؤسس فمن التيار المحافظ هذا الي التيار السلفي الصحوي، والصحوي الليبرالي والتيار الجهادي وحتي التيار المرتبط بوزارة الداخلية بتنا نعثر الان علي العديد من الاتجاهات السلفية داخل تيار الحركة. ومثلما حاول السعوديون اعفاء الوهابية او ابعادها عن الاتهامات الموجهة للوهابية فان الاعتذاريين الغربيين بوضعهم كل تمظهرات الوهابية في سلة واحدة يتناسون او ينسون الاثر السيء والسلبي الذي تركته التدخلات الامريكية في المنطقة العربية. وكما يلاحظ فان الفهم الغربي يتعامل مع وهابية - سلفية واحدة والتي تجسد الدعوة للعنف والارهاب ضد الغرب.

خطاب متعدد
الخطاب السلفي المعاصر هو متعدد الاتجاهات لم يعد مرتبطا بفكر أبناء الدعوة النجدية، بسبب التعليم الجماهيري والاعلام والتلاقح بين المؤسسة السلفية من خلال اجيالها الجديدة ومدارس الحركة الاسلامية المعاصرة فان هذا الفكر بدأ ينفتح علي آفاق جديدة، وصار هناك مجال لمحاكمة تجليات الفكر الاصلي الذي مثله جيل محمد بن عبدالوهاب واتباعه وسدنة افكاره بل تحدي وسجال الدولة السعودية، الدولة التي قامت علي اساس الريعية التي يمنح فيها الحاكم المال والمنصب مقابل الولاء، واسس لفكرة الطاعة علماء الدعوة السلفية الذين اعتقدوا انهم اقاموا الدولة الاسلامية ولا يجوز والحالة هذه الخروج علي ولي الامر سواء باللسان او الجنان والقلب علاوة علي السيف.

 مضاوي الرشيد، الاكاديمية السعودية والكاتبة المراقبة لما يجري في السعودي، قدمت عددا من الدراسات عن السعودية، تاريخ النشوء وقضايا الاصلاح، تقدم في كتابها الجديد الصادر عن جامعة كامبريدج للنشر دراسة شاملة وواعية وطامحة للمشهد السلفي المعاصر، وعلي خلاف دراسات سابقة حاولت تقصي ملامح الخطاب الاسلامي الجديد عبر مساءلة رموز الخطاب، خاصة مشايخ الصحوة فالرشيد تقدم دراسة اثنوغرافية، وهي غير معنية بتحليل ملامح الخطاب الوهابي علي المستوي العقدي، قضية التوحيد والعادات والتقاليد والولاء والبراء مع انها تلاحظ انه في ظل سيادة الخطاب الرسمي تم تقديم رواية واحدة عن الجزيرة العربية قبل ولادة الدعوة الوهابية التي قلنا انها قدمت موازاة بين جاهلية سكان نجد وعموم الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر وبين جاهلية العرب قبل الاسلام. وتقول ان هذه الرواية اصبحت بمثابة الخطاب الذي استبعد كل الروايات الاخري وجري استخدامه لتعميم ان كل ابناء الجزيرة ضالون عن السواء الطريق، شركيون بدعيون، وفي الطريق لتأكيد هذه الرواية جري استبعاد روايات اخري ناقدة للخطاب الوهابي.

طبعا هناك خطاب صوفي وجد نفسه مهددا من الخطاب الجديد فرد عليه مهاجما، تماما كما فعل الشيعة والاسماعيلية وغيرهم من الطوائف. وبعيدا عن هذه الردود فان علماء قدموا نقدا واعيا لملامح هذه الخطاب وقد نشرت قبل عامين مجلة الدراسات الاسلامية الالمانية نقدا اوليا لملامح هذا الخطاب من خلال نشر وتحقيق مخطوطة في هذا المجال. لم يجر نقاش علمي حول حيوية هذه الرواية مع ان دراسات دكتوراه ايضا حددت عددا من الملامح العلمية التي عاشتها منطقة نجد، فهناك علماء نجديون ومدارس بعيدا عن الرؤية السائدة عن ظلامية المنطقة. هذا ملمح من ملامح دراسة الرشيد التي تحاول قراءة تجادل السياسي والديني وعلاقته بمجالات الشرعية والهوية السياسية للدولة واشكالية المعارضة التي اضحت مستحيلة في ظل خطاب ديني لا يتسامح ولا يسمح بالمساءلة. وهي هنا تقدم ملامح الخطاب الذي اكتفي بالشرعية ولم يعمل علي المستوي الاجتماعي والثقافي.

وفي قراءة محاولة الرشيد نعثر علي اتجاهات وملامح للخطاب السلفي الجديد المتنوع والذي لا تحبذ حبسه في قوالب وعناوين، معتدل، متطرف، رسمي، اخواني صحوي وغير ذلك، فهي مع اعترافها بوجود حراك مهم في داخل الفكر السلفي خاصة في العقود الاخيرة الا انها تري انه في بعض ملامحه غير ناضج وتمت عولمته قبل ان يؤكد نفسه علي الصعيد المحلي، كما انه خطاب يسير علي رمال متحركة فالصحوي قد يصبح سلفيا جهاديا او سلفيا مخابراتيا او سلفيا ليبراليا معتدلا وهناك اسماء كثيرة تكتب الان في صحف معروفة وتقوم بمراجعات للخطاب السلفي ولكن ليس كما حدث في مراجعات الحركة الاسلامية الجهادية المصرية، بل ان شيوخ الصحوة اصبحوا في لحظة مهمة من المدافعين عن سياسة الدولة، فهم وان لم يلعبوا دور العميل لها الا ان الدولة استخدمتهم لاعادة الجهاديين السلفيين من اتباع بن لادن الي رشدهم . المهم في دراسة الرشيد ليس ملامح تطور الخطاب او الخطابات، لكن ما يعني في بحث الرشيد هو تحديدها معالم هذا الخطاب في مدارسه المتعددة، النيو ـ سلفية، والاصلاحية الصحوية والجهادية علي طريقة بن لادن، والسلفية الليبرالية او المتفرنجة، والسرورية من اتباع الشيخ السوري محد سرور بن زين العابدين. فزين العابدين لا يمثل كما يعتقد كثيرون تيار الصحوة بتعدد اتجاهاته، ولكنه تيار وسط لعله يمثل ما يراه سلطة العلماء علي غرار الشيخ محمد بن ابراهيم بن عبداللطيف الشيخ (توفي عام 1969) وهو تيار يموضع نفسه بين ما يراه حزب الولاة وحزب الغلاة، ويدعو الي اعادة سلطة العلماء التي يمثلها الشيخ والتيار السلفي الحقيقي الذي يتمثل افكار محمد بن عبدالوهاب.
فكما قلنا، فان هذا الخطاب المتعدد وغير الناضج ادي الي تغير في المواقف والمعسكرات، فالصحوي اصبح فيما بعد بوقا في يد السلطة يدافع عن سياساتها. ولعل ما اثر علي تطور الخطاب هذا هو درجة القمع التي تعرض لها الخطاب السلفي، حيث ادي سجن دعاة الصحوة الذين تقول انهم جماعة هلامية، متحركة او سائلة عصية علي التحليل الي تراجع عدد من دعاتها عن افكارهم او الاعتزال او محاولة استخدام الفضاء المتاح لهم. ومن المهم هنا التفريق عند الحديث عن تيار الصحوة الذي يعتقد بضرورة الحديث عن السياسة ونقد ولاة الامر، مع ان هذا النقد لا يقتضي بالضرورة الدعوة الي التخلص منهم بل اصلاحهم، بين خطاب الدولة الذي حاول ربط الخطاب بمتغيرات خارجية وقوي وافكار غريبة علي الفكر السلفي السعودي، وقد اعطي هذا الخطاب مبررا للدولة لالقاء تبعة العنف والتطرف علي الاسلاميين القادمين من الخارج، خاصة الاخوان المسلمين وفكر ابو الاعلي المودودي وسيد قطب، واراح هذا التبرير الدولة من البحث عن جذور العنف ومسبباته في داخل المجتمع السعودي. خاصة ان عددا من علماء السلفية المرتبطين بالدولة اخذوا علي عاتقهم الرد علي ما رأوه عنفا وكفرا بواحا في كتابات سيد قطب، ويمثل هذا الاتجاه ربيع بن هادي المدخلي، الذي دبج العديد من الكتب والرسائل للتهجم علي قطب واتباعه من القطبيين ، كما دبج كتبا ترد علي كتابات الشيخ محمد الغزالي.
كان القمع اذا واحدا من الادوات التي ادت لتراجع عدد من ممثلي الصحوة عن افكارهم او علي الاقل التكيف مع الوضع الجديد الذي افرزته الاحداث، ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان العنف مستورد، فمع دخول القوات الاجنبية الي ارض الحرمين وفتوي مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز بن باز بجواز الاستعانة بالجيوش الاجنبية لاخراج جيش صدام حسين من الكويت، ووجود القوات الاجنبية هذه كان وراء تساؤل عدد كبير من اتباع السلفية عن معني الجهاد، فاذا كان الجهاد جائزا في الشيشان وافغانستان وفلسطين فلماذا لا يجوز في السعودية، ومن هنا وضع الخطاب السلفي الجديد، الدولة وشرعيتها علي المحك، خاصة مع بروز تيار القاعدة وجهاديي الجزيرة العربية السلفيين وتيار العنف والعمليات داخل الدولة، وقد ادي هذا التيار الي بلبلة كل الاوراق، وخلط الادوار. وعبر هذا التيار الجهادي عن نفسه من خلال مواقع الانترنت وغرف الحوار عليه.

وتقدم الرشيد قراءة واسعة لملامح هذا الخطاب خاصة الذي القي ظلالا علي عدم شرعية الدولة السعودية من خلال استعانتها بغير المسلمين، وشرعن بالتالي الخروج عليها. ما يهم في هذا ان العنف الذي ادي لمقتل العديدين وتدمير منشآت سرع من عمليات النقاش حول الدولة وعلاقتها بالسياسة فيما تواري العلماء الرسميون خلف مكاتبهم يبحثون في قضايا بعيدة عن الواقع. ومن هنا فان قراءة ما يدور علي عالم سايبرسبيس في اطاره السعودي مهم لانه يقدم لنا سرديات كثيرة، وكلها تشير الي مفاصل مهمة من عملية التجريب الجهادي في افغانستان، التي كانت مختبرا لهذه الافكار، الي احتلال الكويت، واحداث ايلول (سبتمبر) واخيرا احتلال العراق، ما يهم ايضا ان النقاش الديني لم يعد حكرا علي مؤسسة دينية خاصة تدين بالولاء لفكر المؤسس الاول، والولاء لولي الامر، بل صار متاحا للجميع من المتعلمين وتشارك فيه قوي خارج المركز الجغرافي، النجدي، بل توسع مجال المساءلة ليشمل لندن التي تحولت الي مركز اخر لمساءلة او حتي نزع الشرعية عن الخطاب الرسمي، وهي ان لم تدع للعنف الا انها اسهمت في تهيئة الظروف للدعوة للاصلاح والتغيير سواء عبر الفاكس او من خلال الاذاعة او البيانات. كمثال عن غني السرديات السلفية، تقدم مضاوي الرشيد قراءة بل تقوم بمحاولة لاعادة تركيب شخصية من صناعة الانترنت وغرف الحوار وهي شخصية لويس عطية، الناشط الذي يجمع اسما مسيحيا ومسلماً، ورحلته من السلفية التقليدية الي الصحوة وتجريبه الليبرالية وعودته اخيرا الي السلفية الجهادية كاعتذاري او مدافع عن بن لادن، مع انه قد لا توجد روابط حركية وفكرية وتنظيميه بين القاعدة ولويس عطية، وتقدم الرشيد عطية كمثال عن حيوية الفكر السلفي الجديد وتمظهراته وقابليته للتغير وافتقاره للمركز الثقافي واهمية قراءته في ضوء التحولات التي يشهدها المجتمع السعودي.

ولعل ما يميز شخصية عطية يكمن في سرديتها وتحولاتها وهي التي نقرأ عنها كثيرا الان في السرد الروائي القادم من السعودية وباقلام شبان وشابات يريدون التحدث عن روايتهم الخاصة، فقد شهدت الاعوام الاخيرة طفرة واسعة في الروايات التي كتبها سعوديون، وبعيدا عن تقييمها النقدي وعمقها وعلاقتها بالسرد الروائي الا انها مثل سرديات الانترنت تصلح كوثيقة لقراءة الحالة السعودية المعاصرة. مما يجعل السعودية حقلا مهما في السنوات القادمة لقراءة ملامح التغير الثقافي والسياسي، فبعد اكثر من مئتي عام من ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، صار السؤال الان ليس عن علاقة اتباعه الان بتراثه، ولكن هل الدولة التي نشأت وتبنت افكاره هي دولة اسلامية. وهو تحد كبير، يطرحه ابناء الدعوة انفسهم ومنتسبوها وليس قوي خارجية. ومن هنا تبدو اهمية قراءة الرشيد الوافية لمعالم الخطاب السلفي وصورته في السنوات الاولي من القرن الحادي والعشرين. في النهاية كتاب مضاوي مهم في عرضه وطرحه وبحث اكاديمي لا غني عنه لمن يتابع السلفية وتمظهراتها، مع التنبيه هنا الي ان السلفية حتي في تيارها العام متعددة الاوجه وحمالة اوجه، فخطاب عبده والافغاني كان سلفيا ايضا، وكذا اكد حسن البنا مؤسس الاخوان علي سلفية حركته.

.