تثير رواية محمد البساطي الجديدة «جوع» أهتماما واسعا بها في مصر، ومع أن قراءة القاص المصري خالد عاشور للرواية لا تقدم تحليلا نقديا لبنيتها أو تفكيكا لشفراتها السردية المتراكبة، فإنها تعرف القارئ على عالمها وتقدم لكاتبها تحية محبة.

«جوع» أو أقرأوها بسلام آمنين

«رواية جوع».. سيمفونية جديدة

خالد حسين عاشور

سأظل ما حييت لا أنسى تلك الرواية الرائعة التي كتبها أحد أهم أصوات جيل الستينات في مصر، ألا وهى رواية الخالدية لمحمد البساطي أحد أهم الروائيين العرب بلا مبالغة، والتي لو قدر لي أن أكون واحداً من المحكمين في جائزة نوبل لأقمت الدنيا ولم أقعدها وأعطيت الجائزة لتلك الرواية التي أعتبرها أهم وأجمل الروايات التي كتبت بالعربية حتى الآن. تلك الرواية التي كلما أحسست بحنين إلى قراءة رواية جميلة أعود فأقرأها حتى أنني قرأتها إلى الآن أكثر من ثلاثين مرة أو يزيد من فرط حلاوتها وشعريتها، حيث عالم تحكمه الكوابيس وتسيطر عليه الأحلام المجهضة، فالبطل يصنع شخصيات متخيلة وهمية، بل ومدينة بأكملها يسميها الخالدية يؤسسها في غرفته في صور "ماكيت" وينجح في إقناع السلطات ـ وإقناعنا ـ بأن مدينته لها وجود حقيقي، ولكنها غير محددة المعالم والقارئ لا يستطيع أن يؤكد أين تقبع هذه المدينة الوهمية التي أسسها البطل المحتال، ولكنه يستطيع التخمين وبقوة أن هذه الشخصيات والأحداث تنتمي إلى عوالم البساطي السابقة وان اختلف الموضوع.

وها هو ذا البساطي يعود إلى بئره الأول وعالمه الجميل الأثير، عالم القرية المصرية بكل ما فيه من أسرار، عالم المهمشين في الأرض، والذي لا يستطيع أي كاتب غير البساطي أن يعبر عنه بقدر ما يعبر عنه ذلك الروائي الفذ في صور لا تلتقطها أي عين غير عينه الحساسة التي تمتلك بداخلها كاميرا تسجل أدق تفاصيل المهمشين والفقراء، وتصور لنا في عزوبة وبلغة متقشفة عالية التركيز ينفرد بها البساطي عن غيره فتصور لنا عوالم كلنا نراها ولكن قليل منا عاشها أو أحسها. في روايته الأخيرة "جوع" يعزف لنا البساطي سيمفونية جميلة من ثلاث حركات: الزوج، الزوجة، الابن، مع استهلال وخاتمة.

جوع .. عوج .. وجع .. تلك هي الرواية بكل إيجاز مع التلاعب البسيط في تقديم وتأخير حروف كلمة جوع. فالزوجة هي عماد البيت وهى المكلفة بمحاربة "جوع" الأسرة وحدها ليفضح من خلالها الغبن الذي تتعرض له المرأة في المجتمعات الريفية ومحاولتها الدائمة في البحث عن طريق يسعد حياتها في ظل وضع مغلق تطرق إليه قبلها في روايته الجميلة "فردوس". أما الزوج فيهيم في عوالمه تاركاً لها دفه البيت في "عوج" وهروب من المسئولية. أما الوجع الحقيقي فهو الابن ذلك الجزء من الرواية الذي دمعت عيني وأنا اقرأه من فرط الحساسية والحزن ومشاعر الجوع التي تخيم على الابن زاهر، وخاصة حين يقوم صديقة "بدلدلة" رغيف خبز مربوط في حبل أو كسره محشوة بمحشى لم يأكله إلا ثلاث مرات في حياته.!
يا الله ... كم هو رائع ذلك الكاتب حين استطاع أن يصور لنا في عذوبة وألم معاناة أسرة مكونه من أربع أفراد ليلخص لنا في رواية جميلة حال مصر كلها في رواية يضيفها إلى أعماله الرائعة، ففي المفتتح يبدأ بأية قرآنية (ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) آية (46) سورة الحجر. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يبدأ بها البساطي روايته بنصوص من الكتب المقدسة إذ سبق وان استهل رائعته الخالدية بجملة من العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الأول "وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ...."وكما صور لنا في الخالدية مصر الحالية بكل تفاصيلها، بكل انتهازييها وفاسديها وناهبيها، الذين يمثلهم الموظف الذي أنشأ المدينة الوهمية من أجل جمع المال الحرام، وكذلك فساد رجال الشرطة والحكم وظلمهم وترويعهم للمواطنين البسطاء، يصور لنا في تحفته الجديدة "جوع"، مصر بهزائمها وتاريخها وأزماتها المتتالية ... فمن الجملة الأولى في الرواية يسحبنا البساطي بجمله الشديدة التكثيف والشاعرية الرقيقة، ليصور لنا حال البيت من الخارج والداخل "كالمثل القائل... من بره الله الله.. ومن جوه يعلم الله"، اقرأ معي الجملة الافتتاحية للرواية:

"واجهة البيت من الطوب الأحمر. انتفخ أسفلها بسبب الرطوبة، وتساقطت بعض حِجَارتها. فجوات كبيرة جرى ترقيعها بالأسمنت. الباب من الخشب السميك، كتب على الحائط فوقه بفرشاة في لون أبيض:
          "ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ"

اللون مازال زاهياً، والكلمات رغم السنين مكتملة الأطراف. الولد الصغير فى البيت كان يرعاها، هو لا يفك الخط إنما أعجبه شكلها. منذ تفتحت عيناه على الدنيا يراها كلما هم بدخول البيت. كان يتسلق الباب لينظفها من الغبار ويغسلها بخرقة.
جدران البيت الجانبية والداخلية من الطين. الحجرة الوحيدة مسقوفة بعروق الخشب، والحوش نصفه بدون سقف مما يسمح لضوء النهار والليل بالدخول. النصف الآخر معرش بخليط من فروع الأشجار والجريد وقطع صفيح وخرق تتدلى أطرافها لا تختلف في شكلها كثيراً عن الثعابين التي تتلوى جنبها.
المصطبة تأخذ تجويفاً عريضاً أشبه بكهف أمام الباب، تكفى العائلة حين تشتد الحرارة وينامون فوقها خِلفْ خِلاف."
ولننتقل إلى الحركة الأولى من سيمفونية البساطي ألا وهى الزوج (زغلول) الفلاح البسيط الذي ليس له شغل شاغل غير التسكع والبحث عن الحكايات، وتعجبه مع أصحابه الطلبة عن حال بلادنا. "لِمَ بلادنا دون بلاد العالم التي رأت سنوات طويلة من الاستعمار، وأسوأ أنواع الاستعمار، تركي، فرنسي، انجليزى، وما سيأتي بعد ذلك. لابد أن العيب فينا نحن أهل البلاد، نرضى بأي وضع وبأي حكم، أين الثورات الكبرى التي قرأنا عنها في بلاد أخرى التي طردت المستعمر وأطاحت بنظم الحكم الفاسدة، انظر ماذا لدينا. بعض المظاهرات في الشوارع، وتكشر السلطة وتدفع بعساكرها المـدرعين، تتفرق المظاهرة في الشوارع وتنفض، ثورة عرابي، وثورة 1919، هذا كل ما لدينا، بتاريخنا الطويل وحضارتنا كما يقال، وتأتى ثورة 1952، ثورة العسكر. وأين كان الناس وقتها ؟ مـوجودون والحمد لله في بيوتهم، استيقظوا في الصباح على من يقول لهم "انتهى الحكم الفاسد إلى غير رجعة، وجئنا لنرعاكم". على خيرة الله. وهو في السماء شاهد على كل شيء. اذكروا لي بلداً واحداً حكمه العسكر لما يقرب من ستين عاماً. هذا ما أقوله. العيب فينا نحن أهل البلد."
غير أن هذا الفلاح البسيط حين تجول بخلده أسئلة أعمق ـ أتحدى أن يجيب عليها أحد العقلاء ـ حتى يهتدي إلى الشيخ رضوان أستاذاً الفقه والشريعة، ذلك الأزهري ضيق الأفق كعادة مشايخنا حين نسألهم اسألة تلح علينا كالأسئلة التي سألها زغلول للشيخ:
" ـ أسئلة كتيرة. تروح وتيجى في دماغى. وقلت انك تشرح لى.
أغمض الشيخ عينيه لحظة، ثم نظر في حدة إلى زغلول الذى استمر ينبش بين قدميه ويقـول:
ـ الله سبحانه خلق الدنيا، والناس، وكل حاجة، وأمرهم أن يعبدوه، أقول لنفسى إذا كان خلق ده كله عايز عبادتهم في إيه ؟ وإذا لم يعبدوه يغضب ويتوعدهم بالعذاب.
الشيخ على الدكة أفاق تماماً، واتسعت عيناه، نظر حوله مأخوذاً.
قال زغلول وهو يلم الجلباب حول ركبته:
ـ آه. خذنى على قد عقلى وفهمنى. إن كان سبحانه عايزهم يعبدوه. طيب، يبان بالشكل اللى عايزه ويقول أنا خلقتكم اعبدونى. وساعتها ما حدش حايقول لأ. سكت، ومسح فمه بظهر يده، نظر للشارع والناس تذهب وتأتى ثم أحنى رأسه وعاد ينبش الأرض، والشيخ على الدكة مشدود الظهر ووجهه يتلون بالغضب، مد قدميه يبحث بهما عن حذائه وكان منزوياً في جانب تحت الدكة. وقال زغلول:
ـ طب أنا فهمى شوية، إنما برضه بفكر. أقول لنفسى هو سبحانه أرسل أنبياء كتير، كل كام سنة واحد. أعرف منهم ثلاثة. موسى وعيسى ومحمد. عليهم الصلاة والسلام. الثلاثة بيدعوا لعبادة الله. وكل دعوة ولها طريقتها، واللى معاها يقولوا إنهم الأفضل عند ربنا، ويكدبوا غيرهم. وييجى الزمن ونشوف الثلاث دعوات في وقت واحد ونازلين في بعض ضرب وقتل، وأقول لنفسى طب ليه ؟ إذا كان ولابد، نبى واحد كفاية.
يتكلم ساهياً عما حوله، وأدهشته الرفسة قبل أن توجعه، أطاحت به خطوات للوراء، وقلبته على ظهره، ثنى ركبتيه ورفعهما كساتر لحمايته، صيحة الشيخ أوقفت الحركة في الشارع، ودفعت الزبائن بما فيهم النسوان إلى خارج المحل.
ـ بتعدّل على ربنا يا ابن الكلب.
جاء البعض جرياً من الشارع، وصاحوا:
ـ سيبه لنا يا أستاذنا.
ونزلت ضرباتهم عنيفة على زغلول الذى كاد يختفي بينهم، واحدة من الزبائن خلعت شبشبها وصاحت:
ـ هو فين ؟ كان بيسرقك يا سيدنا الشيخ ؟
كان بكعب فردة الشبشب مسمار، طرفه المدبب خارج من الكعب، انغرز في رأس زغلول، شده الشيخ من صدر جلبابه:
ـ يا كافر يا ابن الكفرة.
صوت زغلول ضائع وسط الصياح:
ـ الجلابية. حاتقطع الجلابية.
جذبه الشيخ وكفه الممتلئة مرفوعة تتأهب لصفعه، بإصبعها الوسطى خاتم بفص كبير، سطع لحظة في ضوء الشمس، وهمست المرأة المليحة وكانت تقف بباب المحل:
ـ ذهب عيار 24. لمعته. أعرفه ولو على بعد مترين.
فوجىء الشيخ بالجلباب ينشق بسهولة في يده، بدن زغلول العاري شديد الشحوب، وعظام صدره بارزة، وسرواله بلون الطين، دفعه الشيخ بعيداً عنه، وقعد لاهثاً على الدكة:
ـ الكافر. أنا. أنا اللى يتقال له الكلام ده.
كف الآخرون عن ضربه. أنفه ينزف، ورأسه به ورم في حجم البلحة، وشفتاه منتفختان، وحول عينه كدمة حمراء:
ـ قطعتّ الجلابية.
ضم جانبي الشق الطويل حول جسده.
صاح الشيخ بقريبه الذى يدير المحل:
ـ اقطع خمسة متر وارميها في وشه.
استدار زغلول ومشى من بين الواقفين.
صاح به قريب الشيخ أن ينتظر حتى يقطع له القماش.
استمر زغلول في مشيه. عَبر الشارع واختفي في الحارة المواجهة."

يا الله .. كم هي بسيطة تلك الأسئلة، غير أن العقول الغبية كعقول مشايخنا لا تريد أن تجيب، فقط سوف يكفرونك أو يضربونك إن جربت وسألت، أو يحكم عليك مجمع البحوث أو الأزهر الذي كان شريفاً بأنك كافر.! وستصبح أنت ذاتك "ابن الكلب" بدلاً من زغلول الفلاح الساذج بأسئلته المحيرة .. والذي لم يهمه الضرب بقدر ما يهمه جلبابه الذي قطع! وكم تؤلمك المشاهدات التي يراها زغلول من موت كل من يقترب منه والذي يتعامل معه البساطي بمنتهى الوقار، فستجد المشاهد المكتوبة والمتحدثة عن الموت تمتليء بالأدب الجم، الأدب والخوف من الموت، واحترامه في ذات الوقت.

الحركة الثانية من السيمفونية هي الزوجة "سكينة" التي كُتب عليها أن تكون عصب البيت بدلاً من زوجها وبحثها الدائم في توفير لقمة "العيش الحاف" لو أمكن تلك المرأة البطلة الحقيقية في الرواية ... فنساء محمد البساطي كتب عليهن الذل والعناء. وقد نجح البساطي من خلال السرد الروائي وتطور الحدث الدرامي أن يؤكد استغلال المرأة وقمعها إلى حدود قصوى كحالة لا تملك خيار نفسها، فتلجأ إلى طريقة تخفف من وطأة هذا القمع، ويقدمها بشكل قضية حياتية، لا يطرح لها حلولاً بقدر ما يشير إلى الأخطاء القائمة، وعلى القاريء أن يجد الحل الإنساني الملائم، فسكينة هي مصر المعذبة، والتي كتب عليها أن تتسول من اجل أبنائها الجياع، في ظل بطالة دائمة وجيل ضائع تائه في غيبوبته.

الحركة الثالثة والأخيرة والأهم هي سيمفونية الابن "زاهر" الذي ليس له حظ من اسمه سوى الاسم ذاته مجرداً من أي معنى، ذلك الطفل الذي قذف به الجوع والوجع إلى أفق لا يتحملها طفل في عمره فأخذنا معه إلى عالم من الألم والوجع لم أتحمله حين قرأت ذلك الجزء وخاصة علاقته بصديقة عبد الله الذي يمن عليه برغيف يربطه له في حبل وينزله له من فوق سطوح منزلهم، لكم هو مؤلم ذلك الجزء من الرواية اقرأ معي: "يفكر زاهر أن يمر على اثنين أو ثلاثة من أصحابه. الوقت مبكر وربما كانوا نائمين، وحده عبد الله الذي يصحو الآن، غير أن أمه لا تسمح له بالخروج قبل الفطور، رافقه مرتين حين أرسلته لشراء الفول المدمس، وفي مرة منها اشترى طعمية، وفي الطريق فتح عبد الله قرطاس الطعمية وتناول قرصين، أكل واحداً ومد يده بالآخر لزاهر، وزاهر رفض رغم جوعه الشديد، حذرته أمه هو وأخاه من أن يأخذ شيئاً من أحد، وأصر عبد الله، وقـال زاهر:

ـ وأمك ؟
ـ حا أقول اننى أكلتهم.
هو من دون أصحابه لا يكاد يفارقه، وجاء إلى بيته مرتين، وقعد معهم على المصطبة، لابد أنه سمع بما تستلف أمه من أرغفة العيش، البعض من الأولاد عايره بذلك في شجارهم. ويوماً قال له عبد الله:
ـ اسمع. عندى فكرة. تستنانى ورا البيت وأدلى لك حاجة من فوق السطح.
ـ حاجة إيه.
ـ حاتشوف. بس ماتعملش صوت.

يبدو الأمر وكأنها لعبة جديدة يرتبها عبد الله ويريد أن يفاجئه بها كعادته. وينتظر خلف البيت ملتصقاً بالجدار.
ويسمع "هس". ويرى عبد الله منبطحاً فوق السطح يمد رأسه وينظر إلى الناحيتين، وتتدلى الدوبارة وطرفها يلتف حول رغيف عيش، رغيف كبير وناشف، يتأرجح في هبوطه، زاهر يحدق ويداه متأهبتان لالتقاطه لو سقط، يفك الدوبارة وينظر إلى عبد الله، وكان يشير له بيده أن يسرع بالابتعاد، وهرول زاهر بالرغيف، وقف على رأس الحارة ينتظره، ولم يأت. بحث عن مكان تخف فيه القدم ليتناوله دون أن يزعجه أحد. وضع الرغيف في حِجرة رافعاً ركبتيه ليخفيه، امتص أول لقمة في بطء مستمتعاً وطرفها يذوب لزجاً على لسانه، وصوت بقبقة في بطنه وقد اضطربت.

الرغيف يسكت قرصة الجوع قليلاً، ويسمح له بأن يأخذ جولته دون عجلة على دكاكين الفاكهة والخضار، يلتقط المعطوب ويكون عادة غير بعيد عن الأقفاص، يرمى الجزء التالف ويتناول الباقي، أكثر من مرة تمد له البائعة خيارة سليمة أو حبة طماطم، غير أنه كان يتراجع مبتعداً. ومرة بعد مرة وجد نفسه ينتظر رغيف عبد الله، حين يتناول العيش قبل أي حاجة تستريح بطنه ولا تزعجه، وحين يبدأ بالخضار أو الفاكهة تمور بطنه بالبقبقة طويلاً. عادة يكونان معاً أثناء رجوع عبد الله إلى بيته في الظهيرة حين يأتي موعد غذائه، في البداية أدهشه أن يكون هناك من يأكل بمواعيد، غير أنه لم يسأل، لا يحب أن يسأل عما لا يعرفه، يفضل أن ينتظر حتى تأتى وحدها، ويسمع عبد الله وهما في الطريق يقول أنه سيدلى الدوبارة. كان من قبل يعترض، والآن يسمعه ويكون الرفض على لسانه ويسكت. كان أبوه مدرساً بالمدرسة الإلزامية، وعنده بدل الجلباب أربعة، ويلبس فانلة داخلية، ويتناول ثلاث وجبات في اليوم، هو لا يحكى أبداً عما يأكل رغم أن زاهر كان يحب أن يسمع.

ويوماً فاجأه برغيف دلاه به كسر من الجانب، وحين استقر في قعدته وجد بداخله عدداً من أصابع محشى الكرنب، تأملها مغتبطاً، هو أكله ثلاث مرات من قبل، واحدة في بيتهم من زمن طويل، واثنتان في بيت الحاج هاشم، المرة التي في بيتهم قعد وأخوه بجوار أمهما من البداية، نزعت أوراق الكرنبة للمحشى، وقطعت العيدان والرأس في أجزاء صغيرة وملحتها مع الماء في زلعة، لم ترم شيئاً من الكرنبة، هما لم ينتظرا المخلل حتى يستوي، أنهيا على ما بالزلعة في نفس اليوم، لم يبق بها غير الماء المالح، وكانت تطاردهما في الحوش. والمحشى أيضاً، حاولا مشاركتها في لف الأصابع، غير أنها نهرتهما وأبقتهما بعيداً، ترمقهما من وقت لآخر، ووجهها يتألق بالبهجة، وتقول:
ـ خلاص. قربت أخلص.
لم ينتظرا نضج المحشى على النار، وكانا يرجوانها حتى أخرجت اصبعين لكل منهما:
ـ حاتكلوه ازاى وهو لسه.
لو عرفت أنه الآن يكاد يأكل رغيفاً كل يوم، وأحياناً بالمحشى، لن يخبرها، لا يستطيع أن يذهب به إليهم، ستسمعه الكثير من الكلام ولا يجد ما يقوله، وبعد ذلك ماذا يأخذ الواحد منهم غير كسرة. ومرات يفاجئه عبد الله أثناء تسكعهما في المساء بورقة صغيرة ملفوفة داخلها كبدة أو قونصة فرخة، ومرة رأس أرنب بجزء من رقبته، يحتفظ باللفة في جيبه.
ويسأل عبد الله لم لا يأكلها ؟
ويقول: بعدين.
هو نفسه لا يعرف لم لا يأكلها أمامه، يتحسسها في جيبه من حين لآخر، وما أن يفترقا حتى يخرج اللفة ويأكل ما بها.

هذه الرؤية الروائية المرهفة ترى هذه المآسي وتحيلها لنا على ورق بصورة اشد واقعية واشد إحساسا وكأننا نراها أمامنا فنتعذب معك ومع أشخاص رواياتك الذين يتحولون مع القراءة إلى شخصيات من لحم ودم تنبض بالحياة، ولكنها حياة المعذبين.!! أما الجزء الأشد جمالاً في الرواية والذي كنت أتمنى أن يفرد له البساطي رواية خاصة به من فرط حلاوته وجماله وتناوله الذي لم يسبقه أحد قبله في مشاهداته وسرده، تلك العلاقة الغريبة بين عبده الفران وحبيبته التي نشعر معها بكلمات الغزل التي يقولها فيها، تلك الحبيبة هي "النار"..!!
نعم النار .. أو ليست المرأة تشبه النار في هيجانها وحرقها لقلوب المحبين ولنقرأ معاً تلك المعزوفة التي يتغنى فيها عبده ويحكى حكايته مع النار في عشق صادق:
قال زاهر لصاحبه عبد الله وكانا يمشيان على شاطىء النهر:
ـ عبده الفران ده حدوته، وعنده شوية حكايات. يصدف أخدك الفرن وتسمعه.
ـ حكايات إيه ؟
ـ أقول لك.
وحكى زاهر.
قال انه جاء البلد من سنتين. شاف بلاد كثيرة، لا يبقى في البلد الواحد أكثر من ثلاث أو أربع سنين ويزهق. وأسأله:
ـ تزهق من البلد ولا من ناسها ؟
ـ ولا من البلد ولا من ناسها، كلهم شبه بعض في أى مكان أروحه. أبقى عايز أمشى وخلاص.
يعمل الليل وينام مع طلعة الشمس، يجاور النار، يرمقها خلال فوهة الفرن، ويرى ألسنتها عندما تتراقص ثم تستقر، هما أصحاب. هو والنار.
ـ عمرك سمعت حاجة زى كده ؟
ـ هو والنار.
ـ آه. هو وهي.

يطمئن لها. وتطمئن له. حين تصدر فحيحاً يلتفت إليها، ويجدها تشكو من قطعة جِذر رطبة وغليظة ترفض أن تشتعل، وتنفث دخاناً كثيفاً يكتم لهبها، ويمد حديدته ويسحب قطعة الجذر شديدة السواد، ويجدها استراحت، ويعود لهبها يرقص، وغناؤها يطقطق.
ـ آه. بيقول كلام عجيب. قال النار بتغني. وأسأله عندك عيال يا عم عبده ؟
ـ ومين ترضى بواحد النار أكلت حته منه.
طول الليل هو والنار وحدهما. يتركها ويدخل الكنيف ويعود ليجدها كما هي. ويأتيها النوم، تعبت وتريد أن تستريح. ويضحك عم عبده. يخفت اللهب قليلاً ثم يختفي. الجمرات متوهجة. وهجها الجميل. ويضحك عم عبده. ويطول انتظارها للنعاس، ثم تنطفيء. ودخنة صغيرة. تتثاءب، وأنا بجوارها أنتظر تثاؤبها، وأتمدد جنبها وأنام. ويضحك عم عبده. ويسألني إن كنت أظنه مخبولاً ؟
وأقول: إيه يا عم عبده ؟ مخبول إيه ؟
وأنا موش فاهم حاجة. عارف الكلام اللى بيقوله وموش فاهمه.

وجاءت ليلة غفل عنها. دس في الكانون قطعة من جذع شجرة. رطبة. وكان يضعها جانباً حتى تجف، وسها عليه ودفعها للكانون، وأعطاها ظهره، وسمع زمجرتهـا وراءه ولم يلتفت، كان مشغولاً بالزعيق مع الخباز، جاء بالعجين قبل أن يختمر، والمشادة طالت بينهما، وأحس بدخان كثيف يغمره، والتفت، سحب بسرعة قطعة الشجرة من الكانون، ودفع إليه بقطع كثيرة من الخشب الجاف وعيدان الحطب، واستدار إلى الخباز. لحظات وسمع الحفيف، والتفت، فوجىء بموجة هائلة من النار مندفعة من فوهة الفرن، لم يجد وقتاً ليبتعد أو ينحني ليأتي بجردل الماء القريب منه. لفحته. هنا. وهنا. وبعد أن نالت منه تراجعت. واللهب عاد إلى هدوئه. هو راقد يحدق إليها، لا يكاد يحس بما أصابه. ويضحك عم عبده. تغضب. آه غضبت لأنه أهملها.

وتنتهي سيمفونية البساطة بخاتمة من خاتماته الجميلة التي تتركك نهب الحيرة قائلاً كما كان جمهور أم كلثوم يقول لها بعد كل أغنية " تانى.. تانى" ولكنه يتوقف ليتركنا لعالم المهمشين نفكر في مشاكلهم وحياتهم ومآسيهم ... تلك الرواية السيمفونية التي اتعبتنى بقدر ما امتعتنى بتلك العبارات الجميلة المكثفة لأستاذ القصة القصيرة، فرواياته عبارة عن مجموعة قصص قصيرة، وقصصه القصيرة عبارة عن رواية مجزأة .. وأخيرا لا أجد إلا أن أقول لكل من سيقرأها "إقرأوها بسلام آمنين".