متذكراً المسرحي والموسيقي السوري أحمد أبي خليل القباني (1833-1903)، يحتفي الباحث السوري بمناسبتين تخصّان الرائد الفنان: 180 سنة على ولادته، في حيّ القنوات الدمشقي العريق؛ و110 سنوات على رحيله في مسقط رأسه، طريد الرقابات السياسية والدينية، بعد أن أرسى فاتحة المسرح السوري والعربي.

يا مال الشام

صبحي حديدي

هذه السنة، 2013، تُصادف مناسبتين تخصّان المسرحي والموسيقي السوري الرائد الشيخ أحمد أبي خليل القباني (1833-1903): 180 سنة على ولادته، في دمشق، لأسرة من أشراف حيّ القنوات العريق؛ و110 سنوات على رحيله، في مسقط رأسه، طريد الرقابات السياسية والدينية، ولكن في ذروة عطائه الفنّي. وهذه السنة، أيضاً، شاءت الأقدار أن يسلم بيته الأثري من أذى القصف الذي تتعرّض له منطقة المزّة ـ كيوان، والتي باتت هدفاً دائماً لمدفعية النظام وراجماته. أمّا تكريم السلطة للمناسبتين، فقد اقتصر على ندوة يتيمة هزيلة، تبارى خطباؤها في امتداح مسرح "يعلّم الحوار الديمقراطي وحرية الكلمة"… على مبعدة أمتار من أبشع جرائم وأد الحرية!

كان فاضحاً أكثر، هذه السنة تحديداً، أنّ الجهات الحكومية، ممثلة في وزارتَيْ الثقافة والسياحة، ما تزال تتلكأ في تكريم بيت الرائد الكبير؛ ليس لجهة ترميمه وصيانته وحمايته من المضاربات العقارية الهوجاء فحسب، بل في ضرورة تحويله إلى متحف يضمّ إرث القباني الشخصي، وملفات الحقبة التي عاش فيها وصنع الكثير من ذاكرتها الثقافية، مسرحاً وغناء وتلحيناً وإحياء تراثٍ وتربية جمالية. هذا، في نهاية المطاف، بيت رجل هزّ مملكة، وهزّ باب (الباب العالي)، وهزّ مفاصل الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر’، كما كتب الشاعر الكبير نزار قباني، الذي كان أبو خليل عمّ والدته، وشقيق جدّه لأبيه. ألا تبدو السلطة، هذه الأيام، منهمكة أشدّ الانهماك بمقارعة "المطامع العثمانية" في سورية، كما يعبّر عنها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان؟

"أعجوبة كان هذا الرجل"، يتابع قباني الشاعر. "تصوّروا إنساناً أراد أن يحوّل خانات دمشق التي كانت تزرب فيها الدواب إلى مسارح، ويجعل من دمشق المحافظة، التقية، الورعة، (برودواي) ثانية. وفي غياب العنصر النسائي اضطرّ الشيخ إلى إلباس الصبية ملابس النساء، وإسناد الأدوار النسائية إليهم، تماماً مثلما فعل شكسبير في العصر الفيكتوري (…) وطار صواب دمشق، وأُصيب مشايخها ورجال الدين فيها بانهيار عصبي، فقاوموا بكل ما يملكون من وسائل، وسلّطوا الرعاع عليه ليشتموه في غدوه ورواحه، وهجوه بأقذر الشعر، ولكنه ظلّ صامداً، وظلت مسرحياته تعرض في خانات دمشق، ويقبل عليها الجمهور الباحث عن الفنّ النظيف".

هي مفارقة عثمانية، مع ذلك، أنّ والي دمشق مدحت باشا، طبقاً لرواية الباحث الموسيقي جبرائيل سعادة وآخرين، كان هو الذي شجّع القباني على متابعة أنشطته التمثيلية، وأوعز إلى البلدية بمنحه 900 ليرة عثمانية لإقامة مسرح خاصّ به (أنشأه، بالفعل، في حيّ باب توما)؛ وفي المقابل، كان والي دمشق التالي، حمدي باشا، هو الذي أغلق مسرح القباني، ومنعه من التمثيل، وتغاضى عن عمليات التنكيل التي نظمها بعض المشايخ ضدّه. ذلك لأنّ مسرحيات القباني، وخاصة "أبو الحسن المغفل"، أخذت تزعج هؤلاء، فسافر الشيخ سعيد الغبرا إلى الأستانة، واختار موعد صلاة الجمعة ليهتف بالسلطان عبد الحميد الثاني: ‘أدركنا يا أمير المؤمنين، فإنّ الفسق والفجور قد تفشيا في الشام، فهُتكت الأعراض وماتت الفضيلة ووُئد الشرف واختلطت النساء بالرجال’. ولم يكن عجيباً أن يأمر السلطان واليه في دمشق كي يقوم باللازم!

وهكذا أحرق الغلاة المسرح، وحاصروا منزل القباني، فغادر إلى مصر سنة 1884، ليس طلباً للنجاة، بل لكي يواصل مسرحه هناك، حيث بقي منفياً حتى سنة 1900. ولقد عمل في الإسكندرية أوّلاً، ثمّ في القاهرة، وجال في المنصورة والمنيا والفيوم وطنطا وبني سويف، وثمة مَن يحصي له 150 حفلة مسرحية، كما كانت جماهيرية عروضه قد دفعت عبده الحامولي ومحمد عثمان إلى تقديم بعض ألحانهما اثناء الاستراحة بين الفصول. ومن مصر سافر القباني إلى شيكاغو، في الولايات المتحدة، لتقديم ثلاث مسرحيات غنائية، "هارون الرشيد" و"عنترة بن شداد" و"عرس دمشقي"، فأكد مجدداً أنه أحد كبار روّاد المسرح الغنائي، الذي سيجتذب فيما بعد أمثال سلامة حجازي وسيد درويش. وفي مصر أيضاً، ورغم ما كانت تتمتع به من هامش تسامح في ميادين الفنون، تعرّض مسرح القباني لحريق مدبّر، عاد بعده الشيخ إلى دمشق، منكسراً ويائساً ومتعباً أكثر من أيّ وقت مضى.

ولعلّ البعض يجهل أننا، إلى جانب أغنيات شهيرة مثل "يا طيرة طيري يا حمامة" و"يا مال الشام"، ندين للقباني بتلحين عشرات الموشحات، لعلّ أشهرها "يا غصن نقا مكللاً بالذهب"، حسب ترجيح جبرائيل سعادة. والمرء، بذلك كلّه، قد يعذر تلميذه محمد كامل الخلعي حين وصف الشيخ هكذا: "شهد من قبل أكابر الموسيقيين وفطاحل الملحنين بما له من بديع التلاحين الرقيقة لأناشيد الطرب الأنيقة ما يزري برنة الدينار ويذهب بصوت الناي والأوتار ويطوح بالهموم والأتراح ويغني بلذته عن الراح. فكم له من قطعة رافعة للقدر ومدحة شارحة للصدر ومرثية مبكية للعيون ومقطعات مختلفة الفنون".

الأرجح أنّ جدران بيته، المعرّضة لاحتمال قصف عشوائي لا يميّز بين بشر أو شجر أو حجر، تستذكر ميلاد الشيخ ورحيله، فيئنّ جدار أوّل: "طال المطال وعيوني بتبكي/ وقلبي ملان ما بقدر يحكي"، ويردّ جدار ثانٍ: "يا طيرة طيري لوادينا/ واحكيلو عَلّي مبكّينا"!