الشاعر اللبناني بول شاوول، من أشهر شعراء الحداثة في لبنان والعالم العربي. شغل منصب مسؤول القسم الثقافي في صحف لبنانية عدة، وهو الآن يترأس القسم الثقافي بصحيفة المستقبل. من مؤلفاته "أيها الطاعن في الموت"، "بوصلة الدم"، "كتاب الشعر الفرنسي الحديث"، "وجه لا يسقط ولا يصل"، "ميتة تذكارية"، "الهواء الشاغر"، "موت نرسيس"، "دفتر سيجارة" وهو آخر إصداراته.
لا يصعب على من يجلس بصحبة بول شاوول أن يلمس العلاقة الحميمة بينه وبين سيجارته، هو الآن "يعيش حالة شعرية عمومية تاريخية"، وباختصار هو "يعيش جنونا عظيماً هو الربيع العربي".
رواسب الدّين
شمل حوارنا مع بول شاوول مواضيع شتى شاغلة كان أولها الحديث عن أهم رموز الحداثة في لبنان والعالم العربي، وفيها يرى أن "الحداثة لم تبدأ في الستينات ولا في السبعينات ولا هي وليدة اليوم بل بدأت في نهاية القرن التاسع عشر مع رواد النهضة مثل جبران خليل جبران، علي محمود طه، أمين الريحاني، سعيد عقل، إلياس أبو شبكة، أمين نخلة. ثم جاءت أسماء لتضاف إلى هذه الحداثة مثل أدونيس، شوقي أبو شقرا، محمد أبو شقرا، إحسان مردان، بدر شاكر السياب، صلاح عبد الصبور، أنسي الحاج، صلاح لبكي، ويوسف الخال.
لكن مرحلة الرواد والرموز انتهت اليوم مع الزمن الأيديولوجي، ومع نهاية زمن المدارس الشعرية التي كان يرأسها شاعر ما، مثلاً السريالية تزعمها أندريه بروتون، والدادائية تزعمها كريستيان زارا، والرمزية من أبرز ممثليها رامبو وفرلان ومالارميه وبول فاليري، وفي المسرح كان هناك على كل مدرسة زعيم، كذلك في الفلسفة، والشعر السياسي، والرسم التشكيلي.
القرن العشرون كان زمن المدارس والنظريات أي زمن الأيديولوجيات، وأظن أن المدارس الشعرية والفكرية والأيديولوجية حتى الماركسية والنازية والصهيونية والفاشية وصولاً إلــى المــدارس الفنيــة كلها من رواسب الدِّين من حيث أنها تضع الفكرة قبل التجسيد، أي تضع النظريــات قبل القصيدة، مثلاً السرياليون لديهم البيانات السرياليــة أي الشـروط والقـوانين التي يجـب أن يتبعها الشاعــر لكي يكــون سرياليــا، ولهــذا أظن أن النظريات والمدارس كلها مناسبية، وهي مطلقــة، في الوقت الذي أرى فيه أن الشعر هو نسبي ولا يمكن فرض المطلق على النسبي، والمقصــود هنا هو فحـوى الديــن.
اليوم ذهبت العصور الأيديولوجية وحلت التجريبية محل النظرية بمعنى أن النظرية تأتي بعد القصيدة وليس قبلها.
نحن في زمن الحرية، الشعر في زمن الحرية، حيث تحرر من الأيديولوجيات ومن الرواد والحمد لله ومن زعماء المدارس، وصار بلا رؤوس، وبلا قيادات تاريخية تشبه القيادات السياسية المطلقة".
الهروب من الثورة
وعن رأيه في شعراء مثل عباس بيضون وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وعقل عويط وغسان مطر وأدونيس، يقول: "أنا وعباس بيضون على خلاف فيما يخص المفهوم الشعري، واللغة الشعرية، لكنه شاعر لديه موقعه، وهو مهم حتى لو كنت أنا وهو على خلاف.
أنسي الحاج من الشعراء البارزين، أهم ما كتبه "لن" وهو أول كتاب له. شوقي أبو شقرا شاعر كبير لا يشبه في شعره أحداً، وهو أكثر الشعراء المتفردين في لبنان والعالم العربي، لم يدّع شعارات تمرد ولا جنون الحرية، وإنما بقي هو وقصيدته في عزلة. عقل عويط شاعر من جيل الثمانينات يكتب بشكل جميل ومن قلبه.
غسان مطر من أوائل أصدقائي في الشعر، شاعر ملتزم، ولكن لا يمكن حصر شعره في الالتزام المباشر، وفي اللغة المباشرة أي في الموقف السياسي فقط. شعره مرّ بتجربة عميقة يجعل الشعر يحول الإدراك السياسي إلى إدراك شعوري ولغوي.
عرف غسان كيف يجعل الالتزام يمر بمشاعره ولغته وليس فقط كموقف سياسي ولهذا أعطى قصائد ملتزمة جميلة وقصائد حب أيضا".
ويُضيف قائلاً: "أما أدونيس فمنذ ثلاثين عاماً كانت هناك خصومة بيني وبينه، وعندما مرض كنت أول المتصلين به، ومن يومها أخذت على نفسي عهداً بأن لا أتعرض له بعد مرضه. بعض المحطات التلفزيونية العربية اتصلت بي لتطلب مني أن أرد على موقف أدونيس من النظام السوري أي يطلبون مني بكل بساطة أن أشتمه لأني على خصومة معه، فقلت لهم عندما يرد أدونيس على ما أكتبه عن الربيع العربي أرد على ما يكتبه هو، وذلك بسبب العهد الذي أخذته على نفسي.
أدونيس شاعر كبير، وفي خصومتي معه لم أتعرض لشعره بينما هو تعرض لشعري. عندما كتب مقالة شتم فيها بيروت كتبت رداً مفعماً بسببه نفدت جميع طبعات الجريدة حينها.
أدونيس أصبح في الثمانينات من عمره وهو أكثر شباباً من الذين يصغرونه في العمر، فتراه يكتب، يسافر، يشاكس، وما زال في حيويته ويثير الجدل. بينما الشعراء الذين يصغرونه بعشرين وثلاثين عاماً تجمدوا واستنقعوا في أمكنتهم خصوصاً كتاب مجلة "شعر" الذين أصبحوا يكتبون بعد الربيع العربي مقالات لا معنى لها كي يهربوا من أخذ موقف من الربيع العربي.
أنا مع استمرار حيوية أدونيس، ولكن ينبغي عليه أن يمارس نقداً ذاتياً على شعره، وألا يظن أن كل ما يكتبه جيد لأن الشاعر عندما يفقد نقده الذاتي على شعره يعلن نهايته أي يقع في النرجسية الميتة والعقيمة".
جمالية الغموض
وعن مسألة الغموض الذي يكتنف معظم قصائد النثر إن لم يكن كلها على الإطلاق، يذهب بول شاوول إلى أنه لا يرى غموضاً في قصيدة النثر ذلك أن "ما كتبه جبران في كتابه الأشهر "النبي" وفي "رمل وزبد" هو نثر، ويتساءل "أليس الشعر العمودي غامضاً".
سعيد عقل أول من طرح الغموض في الشعر الحديث، أبو تمام في الشعر العباسي كان يتكلم عن جمالية الغموض في الشعر والجرجاني تكلم عن الغموض أيضاً. الغموض شيء نسبي. فلا يفهم كل العامة المتنبي وأبا تمام والنابغة.
بول فاليري شاعر عمودي فرنسي لكنه أصعب شاعر فرنسي. الغموض ليس خصوصية في قصيدة النثر فقط، في الدين الإسلامي هناك ما يسمى التفسير في الأحاديث والقرآن، وفي الدين المسيحي هناك علم اللاهوت، وهما وجدا لتوضيح ما هو غامض في الأديان"
هناك من يعتقد أن الهروب من الكلاسيكية في الشعر والنثر هو نتيجة لضعف في اللغة والتفكير وهذا ربما ما يفسر بروز عشرات من الشعراء من الذين لا يمتلكون ناصية اللغة صرفاً ونحواً فضلاً عن جهلهم بموازين الشعر. وفي هذا الشأن يتساءل شاوول: "هل كل الذين كتبوا شعراً عامودياً هم أقوياء في اللغة، هل أدونيس ضعيف في اللغة، نزار قباني، الماغوط، أنسي الحاج، شوقي أبو شقرا، عباس بيضون، وعبده وازن؟ هل كل هؤلاء لديهم ضعف في اللغة.
يمكن لشاعر واحد أن يكتب شعراً عمودياً وشعرَ تفعيلة في قصيدة واحدة، وهذا الأمر موجود في الغرب. لا يجب أن نضع حدوداً فاصلة ما بين قصيدة النثر والشعر العمودي والشعر الحر.
إذا جاء شاعر عمودي عظيم ومارس تجريبية كبيرة ضمن الوزن والتفعيلة فإني أحيه. السياب كتب التفعيلة والشعر العامودي. محمود درويش كتب التفعلية والشعر العامودي وسعيد عقل أيضاً".
مشروع إلغاء لبنان
وعن الثورات العربية وإذا ما كانت قد سرقت التمرد من نصوص الشعراء والمثقفين ونقلتها إلى أرض الواقع يرى شاوول أن من المبكر الكلام وإعطاء رأي وتقييم عما يكتب في الساحات العامة حول الثورة، الشعر يحتاج الى الوقت كي ينضج.
ويقول إن كل ما كتبه من شعر ومسرح ومقالات سياسية كان مربوطاً وبشكل لا شعوري بالحرب، فهو يؤمن أن "الكتابة شرطها التجربة الإنسانية والاجتماعية والسياسية والحب والموت والحياة والزمن والحرية، منذ أربعين عاماً ونحن نعيش في الحرب، الحرب قتلت كل شيء حولنا: قتلت مئــة عــام ممــا بناه رواد النهضة العربية، قتلت كــل الإنجــازات.
حصدت هذه الحرب 300 ألف قتيل، ما عدا المهجرين وما خلفته من طائفية وعنف ووصايات خارجية منها السورية، والعرافاتية، والإسرائيلية، والإيرانية، وهي أسوأ الوصايات التي عرفها لبنان لأن لديها مشروعا يقوم على إلغاء لبنان، وكيانه، وتغيير وجهه وتاريخه، وأظن أن الوصاية الإيرانية لن تدوم كثيراً فالمشروع الإيراني هزمه الربيع العربي".
ويضيف: "كان الموت يرافقني أينما ذهبت، إذا كنت سائراً في الطريق وحدي فهو الثاني. الموت كان المرافق الدائم للبنانيين. 40 عاماً من القتل وانتهاك الإنسانية والضمير الديني والأخلاقي والمدني. بيني وبين الوردة كانت هناك الحرب، بيني وبين حبيبتي كانت هناك الحرب، بيني وبين الشارع الحرب، وبيني وبين حلمي الحرب. ولهذا أقول إن كل ما كتبته في الثلاثين عاماً الماضية هو جزء من هذه الحالات التي أعيشها كل يوم، حتى كتاباتي الغزلية كانت مدموغة بالحرب.
كتابي "كشهر طويل من العشق" يحوي كل شيء: الدين والجنس والحب والفرح، وهناك أيضاً الموت. حتى كتاباتي المسرحية كلها كانت عن الحرب حتى دون أن أتكلم عن الحرب بشكل مباشر فأثر الحرب في ضعف وقوة اللغة وهشاشتها، كلها مربوطة بحالة الحرب".
مخاض الربيع العربي
وعن سؤالنا هل سينتج الربيع العربي مسرحاً وثقافة جديديْن؟ يرد شاوول: "هذا سؤال من الصعب الإجابة عنه الآن، لأننا في أول الربيع العربي وليس في آخره، نحن نعيش مخاض الربيع العربي.
اليوم أصبح هناك فن الشارع وشعر الشارع، هل سيحل هذا محل شعر النخب، وهل سيحل مسرح الشارع كما في المسرح في أوروبا أي المسرح خارج المكان المسرحي المعهود، هل سيتراكم هذا ويشكل حركة مسرحية جديدة، أنا لا أتنبأ ولكن أطرح أسئلة. هناك بوادر لحركة جديدة ولكن السؤال هل سوف تنضج هذه الحركة، هل سوف تتوافر الشروط لتراكماتها وتجاربها لتكون جزءاً من المرحلية السياسية وتزول بزوالها.
لكن على الرغم من كل شيء لن يكون المسرح العربي بعد الربيع العربي كما كان قبله".
الشعر في الميادين
وأخيراً كان حوارنا معه عما سينتجه بعد "دفتر سيجارة" وعن موعد إفراجه عن الكتب الشعرية التي أرسلها إلى المطبعة ومن ثم قام بسبحها بسبب الربيع العربي. يقول: "أرسلت قبل الربيع العربي ثلاثة كتب شعرية إلى المطبعة. وكانت على وشك أن تصدر، لكن باندلاع الثورة التونسية والمصرية والليبية سحبتُ الكتب من المطبعة وهي محفوظة لدي الآن. حين سألني أحد الصحفيين أين هي كتبتك التي كنت ستنشرها؟ قلت له: "الشعر في مكان آخر، الشعر في الميادين وفي هذه الملاحم التي يحققها الشعب العربي منذ ألف عام وما كتبته لو نشرته لبدوت صغيراً أمام هذه القصائد العظيمة التي تغزو الميادين والطرق وهؤلاء الشهداء الذين يموتون فداء للحرية.
لا أعرف متى سوف أفرج عما كتبت، فأنا في حالة غير شعرية ذاتية، أنا أعيش حالة شعرية عمومية تاريخية أعيش جنوناً عظيماً هو الربيع العربي.
لدي كتاب عن المسرح وعن المسرحيات العربية التي شاهدتها وقصائد مختارة من الشعر العالمي ومسرحيتان وقد أوقفتها جميعاً. كتبت قصائد أسميتها "أطفال منتصف الشمس" وفيها قصيدة تحية لأطفال غزة وقصيدة تحية إلى الشهداء الأطفال في الثورة السورية وتحية للأطفال شهداء الثورة العربية، هذه القصائد من صلب الحياة والربيع العربي، عندما أصدرت قصيدة "أطفال غزة" طبعتها في كتاب ووزعتها مجاناً على المكتبات والمعارض العربية. أفرج عن كتاباتي عندما يفرج عني الربيع العربي".