كان أستاذه ورفيق دربه حسين مروة يطلق عليه اسم الكادح، أما هو فيطلق على نفسه صفة «الشغيل». على الرجل تنطبق الصفتان في كل مراحل عمره. فقد بدأ طفولته بائعا متجولاً، ثم حداداً في محل سمكرة. فقر عائلته جعل حظه من التعليم ضئيلاً، لكنه سيغدو واحداً من أهم النقاد العرب على مدار ستة أو سبعة عقود، ومؤسسا ومشرفاً على مجلات ثقافية ساهمت في صناعة الحياة الثقافية والفكرية والأدبية لا في لبنان وحده، وإنما في العالم العربي كله. أجيال من المثقفين والمناضلين خرجت من عباءة المجلات التي كان محمد كروب في قلب مطبخها، لا بل كان الدينامو الأساس فيها (الثقافة الوطنية)، (الطريق)، وربما غيرهما.
الأولى مهدت الأرض لبذور الفكر التقدمي وللحداثة الأدبية والفكرية في لبنان، والثانية سارت على ذات الخطى، وتخطى صيتها لبنان ومحيطه ليصل إلى أرجاء العالم العربي. لم يكن العالم العربي يعرف بعد اسم محمود درويش وسميح القاسم وزملائهما، كانوا ما زالوا شبانا في مقتبل العمر صدرت مجموعاتهم الشعرية الأولى. في صوفيا عاصمة بلغاريا حيث ذهب محمد دكروب لحضور مهرجان الشبيبة والطلبة عام 1968، التقاهما هناك، وأعدّ للطريق ملفاً حافلاً عن ما وصف يومها بأدب المقاومة في الأرض المحتلة، تضمن لقاءات مطولة معهما، ونماذج من أشعارهما وبقية زملائهما، ونقداً أدبياً حول ماينتج هناك.
كان شغيلاً ثقافياً بامتياز، ظلّ كذلك وقد تجاوز الثمانين من عمره. تدهش من تلك الروح الطفولية للرجل، الذي لا يمنحك فرصة الاعتقاد أن شيخ يحمل على كتفيه ثمانين علاماً ونيف من الحياة والكدح والتعب. كل السر في أنه ظل فرحاً بالحياة، مفعماً بالأمل في بلد أنهكته الحروب والفتن والمكائد والعدوان.
حين قدم الراحل عبدالرحمن منيف لكتابه: «وجوه لا تموت» وهو جزء من ثلاثية عنيت بإعادة تقديم وجوه مضيئة في ذاكرة الثقافة العربية التنويرية والتقدمية، قال نبدو كأننا نتعرف على الوجوه التي يقدمها دكروب في الكتاب أول مرة، «فالكاتب وهو يصطحبنا في رحلته معهم حمل معه عُدة جديدة: التقطيع، المونتاج، الفلاش باك، الرسائل، صحافة تلك الأيام، شهادات ذوي العلاقة، وهذه جزء من أدوات السينما ومن أساليب الرواية، خاصة وأن الكتابة، بعض الأحيان، تتيح مقداراً من المرونة قد لايتوفر في السينما، واخيراً فان المهنة التي بدأ بها محمد دكروب حياته، اي السمكري، تظهر هنا، وهو يلحم الأجزاء ببعضها، وهو يعرضها للنار والنور كي تأخذ شكلا وقوامها الأخير».
حين اصدر المفكر الشهيد مهدي عامل كتابه: (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازية العربية) وهو واحداً من كتبه المبكرة، كتب على الصفحة الأولى من النسخة التي أهداها لمحمد دكروب قائلا له: «انت تعلم أن لك الفضل الأول في أن يكون هذا الكتاب، وأنا سعيد بأن أعلن ذلك. أليس طريفا أن أهديك ما هو بالفعل لك». كان دكروب قد طلب من مهدي عامل أن يكتب تعليقاً موجزاً عن ندوةٍ عُقدت في الكويت عام 1974عن «أزمة الحضارة العربية»، لينشر في أحد أعداد (الطريق)، ولكن مهدي لم يكتب التعليق المطلوب، وإنما ألفَّ كتاباً كاملاً عن الموضوع.
في مغزى هذا تكمن روح محمد دكروب الملهمة: شحذ الفكر من أجل جلو الحقيقة.