الطفولة هي سرك الأكبر. حتى وأنت تخطو إلى الثمانين تتجلى الطفولة في ابتسامتك، في عينيك، في طلتك البهية، في ملامح وجهك المنشرحة، وفي روحك الحالمة. أما إذا ضحكت فتتجلى الطفولة كركرات مليئة بالحب، والتوق، والشغف بالمعرفة والجمال، ولهذا يكفي لقاءً واحداً بك كي تبقى حاضراً في القلب. بعد ذلك اللقاء بعثنا لك رسالة مع أحد الأصدقاء، حمَّلناها الأشواق، والانطباعات الجميلة، والتمنيات، وعرفنا أنك سُعدت كثيراً بالرسالة، ووصلتنا سلاماتك وتحياتك.
أتذكر المرة الأولى رأيتك فيها كنت برفقة عبدالرحمن منيف في برنامج ‘حوار العمر’ مع جيزيل خوري على شاشة LBC، كان ذلك اللقاء عن حياة منيف وتجربته الإبداعية، وكنت أنت تقدم لمحات نقدية عن عالمه الروائي بروح الناقد والصديق المحب، جذبتني يومها بشاشتك، وعمق ثقافتك، وبساطتك، وأتذكر حين سألتك جزيل: أنت كناقد، كيف تقرأ رواية أرض السواد؟ ضحكت كطفل ضُبط متلبساً بتقصير ما، وسألتك: ‘ليش تضحك؟ وأجبت: لأن عبدالرحمن لايزال يعاتبني أنني لم أقرأ الرواية بعد’.
بعد ذلك اللقاء قرأت كتابك الجميل ‘وجوه لا تموت’، والذي استعدتَ فيه أرواح عشر شخصيات إبداعية في الثقافة العربية، مضيئاً جوانب عميقة من حياتها، وإبداعها بأسلوب يجمع بين الدراسة العميقة، والروح الروائية، واللقطات السينمائية، متناولاً أبعاد إنسانية في حياة تلك الشخصيات وانعكاسها على تجربتها الإبداعية، كما قرأت بعض دراساتك النقدية، وأعداد من مجلة الطريق التي تشرف على تحريرها، ولهذا أصبحتُ متشوقاً أكثر للتعرف إليك.
كنت والصديق سعيد الهاشمي في شتاء 2008 قادمين من دمشق بعد زيارة لسعاد القوادري زوجة عبدالرحمن منيف، وهناك عرفتنا على الفنان مروان قصاب باشي، حيث زرناه في أحد المراسم، ودارت بيننا حوارات جميلة وعميقة حول الفن والسياسة، وأعطتنا سعاد منيف عنوان الناقد ماهر جرار الذي التقيناه في أحد مقاهي بيروت، وبعد جلسة حوار طويلة مع ماهر سألناه عنك، ومباشرة أعطانا هاتفك، وشجعنا على التواصل معك، وبالفعل ما إن عرفت أننا قادمون من عُمان ومتشوقون لرؤيتك، حتى رحبت بنا بصوت مليء بالبشاشة والترحيب، وحددت الساعة الواحدة ظهراً في اليوم التالي موعداً للقاء.
جئناك قبل الموعد بحوالي عشر دقائق، ضغطنا جرس باب الشقة، وسمعنا خطواتك في الداخل، فتحت لنا الباب وصابون الحلاقة في ذقنك وأنت تضحك منشرحاً: ‘ما كأنكم مبكرين شوي.. تفضلوا على الصالة، بس دقائق أكمل الحلاقة وأجيكم’.
دخلنا مباشرةً إلى صالة الاستقبال، حيث الكتب تملأ الرفوف، وطاولة الكتابة ممتلئة بالكتب، وواضح من الأوراق أنك عاكف على الكتابة والقراءة. الشقة تشيء بعزلة مقدسة تليق بمثقف حر ونزيه آمن بالقلم، والأدب، والكلمة كوسيلة للعيش والتنوير. كنت أتأمل المكان الذي يتضوع بعطر المعرفة، ورشاقة الروح النبيلة التي تنزهت عن مطامع الدنيا، وأسترجع سيرة حياتك العصامية. من يصدِّق أنك تركت المدرسة قبل نيل الشهادة الإبتدائية بسنتين لضرورات العيش؟! كان ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي. تركتَ المدرسة الإبتدائية لتعمل في بيع الفول في مطعم صغير يملكه والدك، ثم عملت في عدة مهن: بائع ترمس في الخمّارات، بائع ياسمين، بائع حمص أخضر مشوي، بائع خبز وفلافل، عامل بناء، سقَّاء للعمال الزراعيين، ثم سمكري في دكان أخيك، ولكنك في هذه الأثناء كنت تقرأ، كما ذكرت، ‘أرسين لوبين’ و’شارلوك هولمز′ وترجمات المنفلوطي الرومانسية، وصولاً إلى طه حسين. ادمانك للقراءة قادك إلى عالم الكتابة، حيث تركت مدينتك صور في أواخر الأربعينيات وانتقلت للعيش في بيروت. عملتَ في البداية كاتباً للحسابات عند تاجر ورق، لتنتقل بعد ذلك للعمل كمحرر صحفي في عدد من الصحف والمجلات حتى وصلت إلى رئاسة تحرير مجلة ‘الطريق’، منتمياً للحزب الشيوعي اللبناني، ومتبنياً الماركسية كفكر وحياة بروح نقدية متجددة بعيداً عن الأيديولوجيا، داعياً بإستمرار للحوار، والمراجعة والنقد، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وترجمت دعواتك هذه بمراجعات نقدية ذاتية لأعمالك ولرؤاك الفكرية.
لم يقطع التأملات في محترفك الفكري وسيرة حياتك سوى إطلالتك الباسمة، الضاحكة، البشوشة بعد الحلاقة، وما هي إلا لحظات حتى شعرنا بجو من الألفة والمودة معك، أخذتنا فيها معك للتساؤل، والتأمل في الوضع الثقافي العربي، وكيف انتهى إلى ما انتهى إليه؟ وما هي الاحتمالات التي تنبئ بها الأيام القادمة؟ كنت حزيناً لرحيل عدد من رفقاء مسيرتك الفكرية والنضالية، ومتألماً لتراجعات البعض الأقرب للخيانة والتنكر للمبادئ التي آمنتم بها معاً، لكنك رغم نبرات الشجى المترقرقة في روحك وصوتك، تنثر بذور الأمل، وتوزع أزهار الحب، وتمر على كل المآسي والخيبات والإحباطات بروح نبيلة، أبية، مؤمنة بالمستقبل الأجمل، مؤكداً على ضرورة نزاهة المثقف، واستقلاله لا بالكلمات فقط، بل بالروح التي تتجلى إيماناً، ونزاهةً، ونبلا.
أثناء الحديث ظللت أعاود النظر إلى صورة فتاة جميلة لفتت انتباهي منذ أن دخلت الشقة. ملامحها من روسيا أو أوروبا الشرقية، جذبتني ابتسامتها الرقيقة المعبرة عن لطافة روحها، وجمالها الداخلي الدافئ، شعرت وكأنها تنشر الضوء والدفء على المكان. كانت الصورة لا تحتل الجدار فقط، بل تمتد مساحتها النفسية لتملأ الغرفة كلها، وتنبع من قلب الطفولة في صدر محمد دكروب، ولهذا كان لا بد أن يتطرق الحديث إليها:’هذه زوجتي. رحلت منذ سنوات. إنها روسية..’ كان يتحدث عنها بحب وفرح، لا بصيغة الغائب، وإنما بصيغة الحاضر معه دائماً وأبداً.. ويبتسم بحب وهو يتحدث عنها أمام الآخرين وكأنه يستميحها عذراً في الحديث الذي تمليه الأشواق واللواعج الدفينة.
أشار للأوراق التي ترتفع أكواما على طاولة مكتبه وقال:’أشتغل الآن على إعادة إصدار مجلة الطريق من جديد بعد توقفها، اتصلت بعدد من الأصدقاء الكُتَّاب وأرسلوا لي دراسات جديدة، وقريباً سيصدر العدد الجديد..’ كان يتحدث بفرح وتفاؤل، لأنه كان مؤمناً بالمستقبل، وبالعطاء الفكري والثقافي النبيل الذي أصبح غذاء حياته الوحيد، وبالفعل صدر العدد الجديد من مجلة ‘الطريق’ بعد أن توقفت لسنوات، وعرفنا أن محمد دكروب، ابن الثمانين، يشتغل بنفسه في إعداد وتحرير مواد المجلة، ومراجعتها، ومتابعة كل التفاصيل. إنه ابن الثمانين الذي ظل يعمل بهمة الشباب، وبطاقة الطفولة الكبيرة الحالمة النابعة من روحه العاشقة للحياة، ولهذا لم يكف حتى أواخر أيامه عن التجول في شوارع بيروت، متوقفاً عند المكتبات للسؤال عن الإصدارات الجديدة، وجالساً في المقاهي يطالع الصحف، ويقرأ المقالات، ويتأمل، ويحلم.
محمد دكروب ظل وفياً لطفولته، لأحلامه، للتراب الذي مشى عليه حافياً في صباه، للياسمين الذين كان يبيعه في الطرقات، وحتى وهو ينتقل من العمل اليدوي إلى الحقل الثقافي والفكري، ظل منتمياً للفقراء الذين جاء منهم، وللعمال البسطاء الذين انتمى إليهم، مدافعاً بفكره وقلمه عن حقوقهم، ومطالباً بالعدالة الاجتماعية لهم، ساعياً لإحداث الثورة الفكرية والثقافية التي ستبني مجتمع المساواة والحرية والعدالة الإجتماعية. كان محمد دكروب إنساناً أولاً وقبل كل شيء، آمن بالصدق، والنزاهة، والحرية، واستقلال المثقف، وكان حاضراً بمحبته للآخرين وعطائه الفكري والثقافي الكبير، ولهذا سيظل حاضراً، حتى بعد الغياب، مفكراً وإنساناً نبيلاً.
كاتب من عُمان