صدرت عن مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية الطبعة الثانية من كتاب الناقد الفلسطيني الدكتور حسام الخطيب "النقد الأدبي في الوطن الفلسطيني والشتات"، بعد الطبعة الأولى التي صدرت عام 1996 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ويوضح المؤلف بعنوان فرعيّ طبيعة الكتاب بأنه "دراسة في حركة النقد الأدبي في فلسطين المقيمة والظاعنة من النهضة حتى الانتفاضة- 1988"، والخطيب بهذا العنوان يبين حدود هذه الدراسة الزمانية والمكانية، واتصالها بفرع محدد من فروع الدراسة الأكاديمية وهو النقد الأدبي.
يتخذ المؤلف من المنهج التاريخي الوصفي مسلكا في دراسة المادة النقدية في المراجع ذات الصلة، ويتتبع تطور الحركة النقدية على أيدي النقاد الفلسطينيين منذ بداية عصر النهضة فيبدأ بإصدار أحكام حول طبيعة ما هو مكتوب في هذا الفرع قبل عصر النهضة وقبل الوصول إلى الرواد والنقاد، فيخلص المؤلف بنتيجة حول تلك الكتابات بقوله إنها "نصوص ضئيلة القيمة وغرضها تقريظي وتفكيرها ضحل ولغتها مصطنعة" معللا ذلك بأن كاتبيها "لم يكونوا من أهل النقد ولا ادعوا ذلك"، لافتا نظر الدارس والقارئ إلى ضرورة التفريق بين الأراء النقدية والنصوص النقدية، فدراسته هي للنصوص النقدية وليست للأراء النقدية التي لا تنقطع في أي عصر من العصور.
وتحدد الدراسة حدها الزمني الأول بعام 1904، وذلك عندما بدأت بالحديث عن جهود "روحي الخالدي" الذي يصفه د. حسام الخطيب بأنه رائد النقد الأدبي الحديث، فيلقي الضوء على ملحوظات الخالدي النقدية من خلال كتابه "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو"، والكتاب صادر عام 1904، بعد أن صدر على شكل مقالات متفرقة في مجلة الهلال المصرية عام 1902، وتحدد عام 1988 حدها الثاني ببداية الانتفاضة فتتوقف الدراسة عند إدورد سعيد وإحسان عباس وجبرا إبراهيم جبرا، مبينا آراءهم النقدية وتطورها وتنوع مجالاتها وأشكالها واتفاقها واختلافها عن بعض النقاد العرب أو العالميين، وخاصة أفكار الناقد إدورد سعيد.
وتحدد الدراسة مجالها الجغرافي بفلسطين التاريخية، والشتات الفلسطيني العربي وغير العربي، على ما في هذا الحد الجغرافي من مطاطية وعدم تحديد إلا أن القامات النقدية التي تعرض لها المؤلف والتقدم النقدي الواضح لدى النقاد الكبار في الشتات جعل هذا الحد واضحا نوعا ما على أن بعض النقاد لم يأخذ حقه في الدرس والبيان، وخاصة النقد الأكاديمي في الجامعات سواء في فلسطين أم خارجها، كما ارتبط النقد بجنسية الكاتب وأصل مولده، وعلى ما تثيره هذه القضية من إشكالية ما تختلف بكل تأكيد عن الأدب إلا أنها محدد ربما يكون مقبولا، على الرغم من أن علمية النقد وعدم ارتباطه الحتمي بأدب جغرافيا معين يجعله عصيا على التصنيف الجغرافي، وخاصة النقاد الفلسطينيين الكبار من أمثال إدوارد سعيد وإحسان عباس، فجهودهما لم تقتصر على الأدب الفلسطيني بل كانت القضايا النقدية والأدبية المفتوحة على آفاق أرحب من تحديد الجغرافيا هي الأبرز في جهودهما النقدية.
يقسم المؤلف كتابه إلى قسمين: يتناول في القسم الأول النقد الأدبي في فلسطين من النهضة إلى النكبة (1948)، ويتوقف الكتاب في ختام فصله الأول عند "بدء النقد الأكاديمي والنقد المتخصص وإسهامات أخرى"، فيعرض إسهامات إسحق موسى الحسيني وجهوده النقدية، وشارك الشعراء بالكتابة النقدية، وبدأت تظهر المقالات النقدية في الصحف العربية كتبها أدباء وشعراء من أمثال فدوى طوقان وعبد الكريم الكرمي وإبراهيم طوقان، وغيرهم.
ويجعل القسم الثاني وهو بعنوان "النقد الأدبي من النكبة إلى الانتفاضة" في فصلين، يبحث في الفصل الأول حركة النقد الفلسطينية في الداخل الفلسطيني وقد توحدت فلسطين تحت الاحتلال، مبينا الوضع الثقافي العام للكتاب والأدب الفلسطيني في مناطق الاحتلال الأولى عام 1948، وأثرها بالنقد الأدبي، ويتناول الفصل الثاني حركة النقد في إطارها العربي والعالمي.
ويعتمد الخطيب على تحليل البنية النصية للنصوص النقدية عند النقاد أجمعين محاولا استخراج ما فيها من ملحوظات نقدية، مبديا ملحوظاته عليها، غير غافل عن شرطها التاريخي الذي كتبت فيه فهو لا يدرس نصوص الرواد بمنظار النقد المعاصر بعد أن قطع النقد أشواطا بعيدة في النظريات الفلسفية والمعرفية، بعكس النظرة إلى النقد المتخصص والمستوي على سوقه بعد ذلك والذي ظهر في المؤلفات النقدية بشتى أشكالها سواء في المقالات الصحفية أو الدراسات في المجلات المتخصصة أو الكتب ومن هنا تبدو موضوعية الكتاب ورصانته العلمية.
وتكشف الدراسة تأثر النقاد الفلسطينيين بالثقافات الأجنبية، فكما تأثر الخالدي بالأدب الفرنسي، يظهر تأثر خليل بيدس بالأدب الروسي، وأحمد شاكر الكرمي بالأدب الإنجليزي وتأثر وتأثير إدوارد سعيد بالنقد الأمريكي، كما أنه يبرز التيار التقليدي في النقد الأدبي الفلسطيني، وتصدر هذا التيار كل من إسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني، ولكنه لا يلتزم بمنهجته التاريخية في أن يكون هذا التيار هو المدروس أولا، لذلك تجد المؤلف يدافع عن هذا التأخير بسبب تلك الطفرة التي تمثلت في جهود روحي الخالدي النقدية والرياح الخاصة التي أتى بها كل من خليل بيدس وأحمد شاكر الكرمي، والتي أوحت بأن مسيرة النقد الأدبي الفلسطيني كانت ذات بدايات بعيدة عن مشية الهوينا.
ويقف وقفة متأنية عند النقد الأيدلوجي، والذي مارسه بعض النقاد في منتصف الثلاثينيات أو بعد ذلك عند الناقد فيضل دراج اتساقا مع الحركة النقدية العربية بشكل عام، ويبين الخطيب أن هذا التيار النقدي "ولد جاهزا مكتملا، سواء من ناحية مستنده الفكري الماركسي أم ناحية مقولاته الأدبية الأساسية"، ولم يكن هناك ناقد بعينه يمثل هذه المدرسة بل كانت اتجاها عاما عند مجموعة من النقاد كان من بينهم نجاتي صدقي وعبد الله مخلص، وعارف العزوني، وغيرهم، ويصف الخطيب هذا الاتجاه النقدي بأنه تيار متماسك بين أتباعه أفكار مشتركة، يتيح للدارس الحديث عنه كاتجاه نقدي بعيدا عن تقديم كل ناقد على حدة.
ويعرض الكتاب كثيرا من المقولات النقدية للكتاب والنقاد الفلسطينيين واهتمامهم بالبعد الإنساني في الأدب وارتباطه بأدب المقاومة، متحدثا عن مفهوم الأدب الشعبي وأهميته، وارتباط النقد الأدبي بقضايا عامة فلسفية وتاريخية واجتماعية.
وبالمجمل فقد عرض الكتاب مخططا شاملا لحركة النقد للنقاد الفلسطينيين ودورهم في حركة النقد العربية والعالمية واستفادتهم من التطور النقدي والنظريات النقدية، وبهذا يشكل الكتاب إضافة نوعية للمكتبة العربية لا غنى للدارس والمثقف عن هذا الكتاب الذي جاء محيطا بالخطوط العريضة لحركة النقد العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص مع جوانب من التفصيل في بعض القضايا حيث جاءت متسقة تماما مع هدف المؤلف من هذا الكتاب في توثيقه للجهود النقدية للنقاد الفلسطينيين.