(سيميائيات المسرح) من أواخر إصدارات الباحث: أحمد بلخيري1 وهو عمل ينضاف إلى أعمال أخرى سابقة له في مجال المسرح. ومع ما يشي به هذا المجهود من مسعى لإغناء الدرس النقدي المسرحي، فهو في الآن نفسه يعطي قارئه الانطباع بأن طموحات صاحبه هي من الجسامة التي تحتاج معها إلى إمكانات أكبر في المعالجة النقدية والمنهجية. خاصة وأن سيميولوجيا المسرح بالصورة التي يقترحها الباحث موضوعا لدراسته، تراهن ضمن مقاصدها الأساسية على توسيع فرضيات القراءة وفق تمثل نقدي يتغيا إعادة قراءة الخطاب المسرحي في أبعاده وتقاطعاته الممتدة داخل خطابات وأنساق ثقافية مغايرة. ليصبح سؤال النقد بالتالي مفتوحا على عدة إشكاليات من قبيل:ما حدود وإمكانات التمثل النقدي للنظرية السيميائية وأفاقها التطبيقية؟ (السؤال النقدي). ما هي الكفايات التحليلية الكفيلة بإنجاز قراءة مجاوزة تفكر في المسرح بوصفه خطابا يقيم بين النص اللساني و"النص الثقافي"؟ (السؤال الثقافي). هل يمكن أن يتحول السؤال في المسرح من سؤال في "الشعرية" أي في هويته الأجناسية إلى سؤال في الابستيملوجيا حين ينتهك حدوده النوعية بحثا عن علائقه الممتدة في المعرفة؟ (السؤال الابستيمولوجي) (نموذج المسرح والسياسة، والمسرح والفلسفة كمحاور موضوعاتية في الكتاب). كل ذلك سيجعل عمل الباحث أمام صعوبات لا تخلو من مآزق في كثير من وجوهها.
يتضح ذلك من خلال مباحث الكتاب التي انصرفت في أغلبها إلى معالجة قضايا عامة بعيدة عن سيميولوجيا المسرح، هذا فيما ظلت مباحث أخرى من تلك التي ركزت خطابها على موضوع السيميولوجيا -و هي قليلة- تراوح بين منظور حفري ينقب في أرشيفات النظرية النقدية للمسرح وأصولها الفنية والثقافية، ومنظور مدرسي تلقيني موجه لبناء تعلمات وأشكال من المعرفة الاستهلاكية (استعراض كتب ودراسات معظمها معروف، التذكير بأصول بعض المصطلحات، بسط معلومات من تاريخ الأدب..)
بعودتنا إلى مقدمة الكتاب من حيث هي المدخل الضابط لحدود، القراءة وآليات اشتغالها يتضح جانب من الاشكال النقدي الثاوي في هذه الدراسة، إذ يبدو أن الباحث وهو الذي أعلن من خلال العنوان عن مرجعيته النقدية (سيميائيات المسرح) قد شغلته نظرية النقد عموما وضمنها مشروع النقد الحداثي العربي وما راكمه من أسماء وتجارب منذ بداية عهد التنوير النهضوي الحديث، وهي مداخل على أهميتها داخل سياقها الأدبي والتاريخي إلا أنها في علاقتها بموضوع الدراسة تبقى بلا مردودية كبيرة، وربما جنحت بالبحث نحو التبسيط والاجترار والنمطية، وخصوصا إذا عرفنا أن الاحتراز المنهجي الذي حاول الباحث الإمساك به لتجنب مأزق كهذا، كان يفرض عليه أن يخصص جانبا من هذه المقدمة لموضوع النقد السيميائي، وهو ما تم فعلا ولكن دائما وفق منظور اختزالي توليفي تحضر فيه سيميائيات المسرح كنقطة باهتة ضمن أنواع أخرى من السيميائيات (سيميائيات: الشعر، الرواية، التواصل، الكلام) فضلا عما في هذه الإجراءات من انتقائية أملت على الباحث التركيز على اجتهادات فردية لدى نقاد ودارسين دون أي سند منهجي أو نقدي يسوغ ذلك. حتى أننا لنتساءل من داخل هذه المقدمة دائما: ما الذي يبرر هذا الاهتمام الزائد لدى الباحث بسيميائيات الكلام عند: محمد الداهي مقابل تلك الاضاءات السريعة لأعمال باحثين آخرين (سعيد بنكراد، سعيد يقطين، محمد مفتاح..) بل وما مشروعية استدعاء مثل هذه المرجعيات على اختلافها، إذا لم يكن ممكنا إثبات ملاءمتها النقدية والمنهجية لموضوع البحث؟ علما بأن المسرح هو أكثر الأنظمة السيميائية قدرة على اختراق بقية الأنظمة الأخرى، ومن تم قابليته لامتلاك أجهزة "تسنين" متنوعة تجعل منه بالتالي خزانا للمعاني أو "آلة سيبرنيتقية" بتوصيف "بارث" حاملة لرسائل ومعلومات وشفرات تمنح الخطاب إمكانات بناء برنامجه التواصلي.
لهذا السبب ولا شك، نجد الباحث في الفصل الثاني يتقدم خطوة نحو موضوعه الجوهري مسترشدا في ذلك بمجموعة من روافد التنظير النقدي الغربي التي حاول على ضوئها ردم الفجوة الفكرية والمنهجية، القائمة داخل الخطاب المقدمتي، وإن كان على مستوى الطرح الإشكالي للنظرية السيميائية الخاصة بالمسرح تحديدا، لا ينشغل كثيرا بافتحاص طرائق تمثل أجهزتها "و تنسيب" متعالياتها، الأمر الذي يجعل من تلك المداخل فضاء لصناعة معرفة مكتفية بذاتها وممتلكة لنسقها المنغلق، وهذا ما يبدو واضحا من خلال مجموعة من مباحث الكتاب التي لا ترتبط بشكل مباشر بسيميولوجيا المسرح. بل اكتفى بتحليلها كموضوعات تتقاطع مع المسرح وفق علاقات قرابة ثقافية أو إبستيمولوجية أو أدبية، كما في فصلي (المسرح والفلسفة) و(المسرح والسياسة) اللذين خصهما لبيان أوجه التفاعل الثقافي والفكري بين المسرح من جهة والفلسفة والسياسة من جهة أخرى. والحال أن المقاربة السيميائية لهذين الموضوعين كانت تفرض على الباحث النظر إليهما باعتبارهما نظامين دالين لهما قوانينهما في إنتاج المعاني وممتلكين لأنساق ممتدة في الثقافة والتاريخ كما في أنماط أخرى من الانتاج الرمزي والتخييلي والجمالي لتفكير الإنسان ورؤيته للحياة. بمعنى أننا أمام نظامين "علاميين" متمفصلين: نظام ذي طبيعة ثقافية (الفلسفة، السياسية) يوفر أطر ومدونات التسنين الملائمة انطلاقا من خطاطات وأبنية ذهنية ينظمها حقله الإكسيولوجي الجمعي، ونظام آخر ذي طبيعة تجريبية (المسرح) يقوم بترهين مواد الحقل السنني من أجل بناء سيرورات التدليل المنتجة للخطاب.
و هكذا يمضي بلخيري في مباحث أخرى من كتابه مشرعا قراءته نحو "تيمات" نقدية أو إشكالات نظرية،
و لكن دائما بمنأى عن مدار البحث السيميائي المعلن عنه انطلاقا من العنوان. هذا في الوقت الذي كان يبدو مغريا أن تنفتح المقاربة على أنظمة سيميائية أخرى قريبة من المسرح مثل الفنون ببعض أنواعها على سبيل المثال، باعتبار القرابة الأجناسية والتناصية والجمالية القائمة بينهما، والقابلة لتوسيع الدائرة السيميائية الحاضنة، واستكشاف حلقات جديدة من انتظاماتها "البينية" الكائنة والممكنة. وعلى خلاف ذلك يجد القارئ نفسه أمام تيمات تصلح لأن تكون مدار دراسات أدبية ونقدية، وليس المسرح مجالها الطبيعي على أية حال. ولنا- إلى جانب ما وقفنا عنده سابقا- مبحثان يدخلان في هذا السياق وهما: قضية السرقات الأدبية (فصل النحل والانتحال...) وموضوع النقد الروائي (فصل: الخطاب والنص..) هذا فيما انصرفت فصول أخرى للخوض في قضايا تهم المسرح بشكل عام وليس سيميولوجيا المسرح بالتحديد.
و ما بقي إذن من مباحث الكتاب –على قلتها- (ثلاثة مباحث) هي وحدها التي ستتكفل بتغطية هذا الشح النقدي، الذي طال المادة السيميائية، وخاصة على مستوى الدراسة التطبيقية. فمع تنامي السيولة النظرية التي تكتسح معظم فصول الكتاب من جهة، وانصراف مناحي التفكير النظري هذه نحو قضايا عامة لا تخدم عن قرب سيميولوجيا المسرح من جهة ثانية. تأتي الفصول الثلاثة في شكل قراءة/قراءات لمتون نصية درامية (مسرحية) و"ميتا-درامية" (نقد مسرحي) مشرعة بذلك أفقا ممكنا للعبور من سؤال المعرفة/النظرية إلى سؤال المنهج/النقد. ومع أن العملية لا تخلو من مآزق اعتبارا لإكراهات "التنسيب" النقدي المفترض لحظة المرور من النظرية إلى النص، فإن عملا كهذا بالنسبة لأحمد بلخيري، يضمر ولا شك بعضا من شروط تخلقه داخل رحم هذه الالتباسات، من جهة التعويم النظري، الناتج عن غياب الانسجام الموضوعاتي كما قدمنا سالفا، وأيضا من زاوية انشغال جل مواده الفكرية بقضايا أدبية أو نقدية بعيدة عن الإطار المرسوم لقراءته، وهو الوضع الذي سيفضي ولا شك على مستوى القراءة النصية إلى إنتاج معرفة تقلقها احراجات الانضباط لكلية ناظمة منهجيا ونقديا، على نحو ما نجد في قراءته لنصوص درامية للكاتب: قاسم مطرود (العراق)، والتي اشتغل عليها وفق مقاربة وصفها بـ"إجمالية جامعة" (ص:98) على خلاف ما كان منتظرا منه، وهو الذي وسم كتابه بـ (سيميائيات المسرح)، أي أننا أمام عنوان يؤسس لميثاق استباقي حاضن لفرضيات انتاج الخطاب وتلقيه. وما يترتب على ذلك هو انتصار الباحث لمقاربة تكاملية تعتمد اجراءات توليفية حاول على ضوئها إنضاج وعيه النقدي باستدعاء أجهزة مفاهمية منحدرة من أصول مرجعية مختلفة غير معلن عنها في أغلب الأحيان.
أما في مقاله المخصص للنقد المسرحي، والذي يقترح له كتاب: "اللغات الدرامية، وظائفها وآليات اشتغالها" لصاحبه: د. محمد أب(و) العلا، فمقاربته تأخذ منحى شبه تجزيئي يروم تفكيك بنيات الخطاب الواصف عبر مفاصل قرائية موجهة لرصد وحداته الموضوعاتية (المحتوى)، ومنها إلى مساءلات نقدية في شكل ملاحظات أو انتقادات شخصية. لينتهي إلى بعض التصويبات التقنية والطباعية في العمل المدروس.
و هي كلها –على أهميتها- تبقى محدودة المردودية النقدية، إذا ما اعتبرنا أن مهمة نقد النقد يجب أن تتجاوز نفسها من حيث هي مجرد معرفة تفكر في ذاتها ومن داخل نسقها المغلق، إلى معرفة تصنع نفسها كحدث داخل الثقافة والتاريخ وأقصد هنا بالنسبة للباحث أن يفكر في كتاب: "اللغات الدرامية"... داخل سياقه الثقافي العام المغربي والعربي: ما هي الإضافات النوعية التي قدمها؟ ما هي التحوطات التي وفرها لتحقيق شروط الملاءمة الممكنة بين النص العربي موضوع دراسته، وآليات نقدية هي في أغلبها وافدة من سياق ثقافي مغاير؟ ما الأسئلة الكبرى التي يفترض أنها تشكل مدار تفكيره النقدي؟ كيف يراهن صاحب الدراسة محمد أبو العلا على إنتاج قراءة متوازنة ومنسجمة بفك شفرات "لغات درامية" "مسميأة" في نصوص تفرقها الجغرافيا (المغرب، مصر، السعودية، البحرين، سوريا)، وتسمها –تبعا لذلك- تمييزات سوسيوثقافية متباينة؟ ثم ما حدود نجاعة هذه القراءة إذا كانت هذه اللغات بحمولاتها الثقافية تلك لا تملك-على خلاف اللغة اللسانية- قواعد وتقاليد قرائية سابقة ترشد مسارات تحليلها؟
وهكذا فإن مدار الإشكال النقدي في هذا الكتاب لا يعود إلى طبيعة أو قيمة المعرفة التي ينتجها الخطاب بقدر ما يعود إلى استراتيجية بناء هذه المعرفة ممثلة في أطروحة ترسم إطار تفكيرها ضمن صيرورة ثقافية مضمرة لتقاطعات ملتبسة تعبر بالخطاب من السياق إلى النسق، ففي حين ينحو السياق إلى وصل الخطاب بشرطه المرحلي، فإن النسق يتجه به نحو الكلية والشمول. مع السياق تكتب المعرفة سيرتها بحثا عن معناها/معانيها المتشظية في زمنيتها الثقافية، هذا فيما يجتذبها النسق نحو "الزمنية الكبرى" « la grande temporalité » بتعبير: (م باختين) بما هي تمثيل فوقي لمنظومات وخطابات منمذجة تشرع للمعرفة مسارات تشكلها وفق قوالب وصياغات متعالية. والإشكال هنا يبدأ من اللحظة التي تسعى معها أطروحة الكتاب إلى استعادة سياقات محددة ثقافيا وزمنيا من أجل إعادة دمجها داخل أنساق جديدة دون توفير شروط الملاءمة الممكنة لذلك وهو ما لاحظناه من خلال موضوعات ومباحث أنتجتها ظرفيات متفرقة(2) لكن الدراسة قد تجرأت وبكثير من المغامرة لإعادة أنسقتها في وضع جديد وبعد فصلها عن سياقاتها الأصلية. والحصيلة في نهاية الأمر كما رأينا هي هذه "البوليفونية" الثقافية المهجنة التي تفرقت بها السبل لاسترجاع هويتها الضائعة. ومعها أيضا سيكون على "النص المقالي" بوصفه المعادل الجمالي في ذاكرة المؤسسة الثقافية ومن منظور سوسيولوجيا التواصل لصعود خطاب التحديث الموازي تاريخيا وثقافيا للانتقال من الشفوي إلى الكتابي، سيكون عليه أن يعود هنا كما لو أنه يجاوز ذاته وينسى شيئا من ماضي ولادته الأولى من أجل أن ينخرط في تاريخ أوسع يستوي أفقا وصيرورة ثقافية منتجة للأفكار والكليات الكبرى. ومسوغ هذه الملاحظة دائما هو هذه التيمات التي تناسلت في ولادات ظرفية ربما متباعدة أحيانا قد سارت تبحث عن مكانها داخل أنساق جديدة. وإلا فما مشروعية مثل هذا الإجراء التفكيكي الذي يسمح بخلخلة القرابات الواصلة بين سلالات وأنساق ثقافية معينة خصوصا إذا كان ذلك يتم بوعي قرائي أحادي الرؤية؟ ولنا في الكتاب أمثلة من قبيل: المسرح والسياسة، المسرح والفلسفة.. والأدب... وهي كلها موضوعات قرئت وفق علاقة قرابية معينة وفي سياق زمني وثقافي معين قبل أن تطل علينا ثانية من خلال هذه الدراسة متشحة في إهاب نسق جديد هو (السيميائيات) ولكن بدون أي تغيير أو تعديل في المنظور القرائي المؤطر. فهل هي بحق مشاريع معرفة تبني نفسها على مشارف خطابات انفلتت منها أنساقها أو بالأحرى تعيش حيرتها المضاعفة بين العودة إلى منابعها الأولى أو الارتحال نحو جغرافيا ثقافات جديدة؟ وعبر هذه "البينية" الملتبسة تتشظى أطروحة الكتاب إلى مقتربات ونويات تفكير تصلها بسياقاتها الأولى المولدة، في الوقت الذي كان يبدو أن استدراجها خارج هذه المدارات قد تعوزها الإمكانات والوسائل. وعبر هذه المسارات يتقاسم خطاب الدراسة سؤالان كبيران: سؤال في المنهج يهدد بتصديع بنيته الكبرى المؤطرة لمنظوره القرائي. وسؤال في المعرفة يترصد المادة النقدية في غنى وتنوع تيماتها وقضاياها، موسعا لوظائفها التعليمة ومعمقا لسجالاتها الفكرية والنقدية. وفي ذلك قليل من رصيد راكمه الباحث في مجموعة من أعماله الجادة.
هوامش:
• أحمد بلخيري: سيميائيات المسرح، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، طبعة 1، 2010.
• يبدو أن مجموعة من مقالات هذه الدراسة قد كتبت استجابة لمطالب لها سياقات ثقافية وزمنية محددة، وجمعها في كتاب يقوي فرضية ما تحدثنا عنه بخصوص هجرة الخطابات بين سياقات وأنساق مختلفة وما يترتب عن ذلك من التباس أو ارتباك في المنظورات القرائية ما لم يوفر الباحث ما يلزم من الإمكانات المنهجية والنقدية لترشيد آليات المقاربة.