صدر هذا الكتاب قبل حوالي شهرين. وكان الهدف من قراءتي له، ككل قارئ عادي، إثراء معرفتي في علم المرأة: محنتها وأسباب تخلفها وشحذ إنسانيتي وإزالة الغبار المتراكم عنها – إن أمكن.
كتاب الدكتور عادل سمارة "تأنيث المرأة: بين الفهم والإلغاء"، لما فيه من زخم الأفكار، تشابكها وتداخلها وفي الغالب تناحرها، لا يستسلم للقارئ من أول جولة. يحتاج الأمر إلى جولة أخرى وقراءة متأنية. مع كل ذلك، فالأمر لا يحول دون تقديم قراءة أولية وسريعة. خاصة أن الكتاب لا يسمح لقارئه بأن يخرج منه، وكأن شيئا لم يكن. فالكاتب يشعل العقل، يعمل الفكر، ويخض إنسانية القارئ ويقلقل مسلماته. ويجعلني أتساءل: أهكذا حال المرأة حقاً؟ يا للعار...
أسئلة كثيرة يطرحها الكاتب على مساحة 346 صفحة من الحجم الكبير وكلها في غاية الذكاء وإحراج للذَّكَر، مضطهد المرأة. وأجوبة أكثر من ذلك. معظمها مصيب والبعض الآخر ليس تماما. لكن الثابت أن المطالبة بحقوق للمرأة من حرية ومساواة... لم تأت من الفراغ. حيث أن نصف المجتمع يضطهد نصفه الآخر، دائما وأبدا، في كل زمان ومكان، أيام السلم والحرب.
"حين سقطت بغداد عاش الكثير من النساء من أفخاذهن. كان هذا الواقع المستجد، الذي يجب أن يعاش حيث فرض الجوع قيمه الجديدة عليهن قسرا".
هل الإنسان رجل فقط؟ الجواب بالطبع (لا) كبيرة. حيث يتناصف المجتمع الإنساني: رجل وامرأة، ذكر وأنثى. أكثر من ذلك، فإن وجود أحدهما مشروط بوجود الآخر وعلة كيانه.
ما دام الأمر كذلك فلماذا يتأسس المجتمع (الذكوري) على أن الأنثى منقوصة الحقوق؟ وبالتالي فكل ما هو منقوص فهو ممتهن.
شرعنة الاضطهاد لا تمنحه غير صفة الثقيل البغيض المرير الذي يجب مقاومته. وهذا ما يحثنا عليه الكاتب ويدعونا إليه بلا كلل أو ملل.
كتاب عادل سمارة "تأنيث المرأة: بين الفهم والإلغاء" يُقدم للقارئ العربي على طبق من وجع وألم، قصة اضطهاد المرأة. من فجر التاريخ - يوم حدث أول تقسيم للعمل وظهور الملكية الخاصة وحتى يومنا هذا وما تفرضه علينا "العولمة" من سلوكيات ومفاهيم ومستوى معيشي....
يقدم لنا الكاتب دراسة خصبة جدا احتشدت بأسئلة كثيرة وتشعبت بأجوبة أكثر كلها تدعو لإصلاح حال المرأة ونصرتها ورفع شأنها في مجتمعها. بسبب ذلك يعتبر الكاتب "نصيراً للمرأة" بامتياز.
ما يميز هذه الدراسة عن سابقاتها أنها قراءة شيوعية للمرأة. "طبقية في المنطلق والمنتهى" لا تخلو من أفكار تأسيسية.
تأتي الدراسة، بمجملها مخضبة بومضات معرفية تحاور العقل وتجادل اليقين وتكسب القارئ أبعادا فكرية في علم الجندر والتاريخ والاجتماع والسياسة والفلسفة....
ينتمي الكاتب، فكريا واجتماعياً، إلى الطبقة المسحوقة التي ما فقدت بوصلتها وبقيت متمسكة بصفاء ذهنها ونقاوة فكرها وجرأة عقلها. من هذا المنطلق- الطبقي الشيوعي الملتزم- لم أقرأ شيئا مشابها لطروحات عادل سمارة بين كل ما كتبته النساء والرجال العرب عن الغبن والاضطهاد اللذين يحيقان بالمرأة، خاصة في الشرق العربي. لذلك فإن الكتاب يعتبر ماركسياً طليعياً في موضوعه وله قصبة السبق في مجاله.
المؤلف يعرف سلفاً النتيجة التي يريد أن يصل إليها، لهذا أقام استدلاله العقلي تبريراً مسبقاً لما يريد أن يقول ولم يكن أمامه من خيار آخر إلا أن يشن هجومه الشجاع على مضطهد المرأة – الذكر- عبر كل التشكيلات الاجتماعية تاريخياً، وأينما أقامت هذه التشكيلات جغرافيا. فجاء كتاب "تأنيث المرأة: بين الفهم والإلغاء" "مشتبكاً" مع كل النظم الاجتماعية: منذ ظهور الملكية الفردية وتقسيم العمل التي أسست لاضطهاد الأنثى: يشتبك مع الرأسمالية التي عمقت الاضطهاد النسوي، ومع الاشتراكية التي عجزت عن إنصاف الأنثى فأبقيت المرأة في نفق عزلتها وإقصائها.
عادل سمارة يناقش الطروحات النسوية، غير النزيهة وغير البريئة فنسمعه يقتبس ما قالته النسوية المشهورة- نوال السعداوي في ردها على شري بلير (زوجة رئيس الحكومة البريطانية السابق ورئيس الرباعية الحالي- طوني بلير) في صدد نصائحها للنساء العربيات و"توعيتهن" بحقوقهن: تصرخ نوال السعداوي في وجه شري بلير "أصبح الحديث عن ختان الإناث موضة، لكنها مفصولة عن السياسة بعموميتها. إنني أنظر إليك بشك شامل. إذا كنت تدعمين الحرب في العراق ولكنك تقاتلين ضد ختان الأنثى فهل عليَّ أن أقول، يا إلهي إنها بطلة، إنها نسوية؟ لكنك تدعمين الحرب في العراق وتقفين إلى جانب كونداليزا رايس! إنني أحاول فهم إيديولوجيتك ورؤيتك كي أتمكن من معرفة ما إذا كنت حقاً صادقة أو إذا كنت تمارسين التلاعب". وهكذا اسقط عادل سمارة ورقة التوت عن شري بلير ومثيلاتها.
عادل سمارة لا يستطيع أن يمارس فعل الكتابة، إجمالا، إلا في مواجهة خصم. إلى حد أنه إذا لم يجد خصماً اخترعه. لهذا فكتابه "تأنيث المرأة: بين الفهم والإلغاء" جاء "مشتبكاً، مصطدماً، متقاتلاً..." مع مسلمات كثيرة، في معظمها بالية ورجعية، كلها ضد الأنثى. فالكاتب يرفض أن تكون المرأة جسدا أنثويا مشتهى. فهي في الأساس شخصية أصدق وأقوى من أن تذوب في ملامح أنوثتها. كما يرفض، جملة وتفصيلا، كل المقولات الشوفينية، وهو يشد تلك المقولات حتى منزعها الأخير. ولعل من طريف ما قاله، في هذا الباب: يخطئ من يعتقد أن "الرجل يبول واقفا، في حين تبول الأنثى وهي جالسة". للكاتب تجربة مشاهدة مع أم إبراهيم تبطل القول. إلى جانب ذلك لا يخلو الكتاب من روح جدالية ومؤدلجة يسعى من خلالها الكاتب إلى إقناع الرجل بسوء موروثه الفكري عن اضطهاد المرأة وحبسها بالخانة الدونية، أكثر مما يطرح حلولا لمأساتها. وككل خطاب أيديولوجي فهو موجه من صديق إلى صديق ضد عدو مشترك. تهدم مسلمات خاطئة دون أن تؤسس لأفكار جديدة. بمعنى، أن المقولة السلبية تطغى على الموجب في الخروج من نفق الظلام. والهدم بطبيعته السلبية لا يبلغ الجذور حقا ألا إذا قام مقام المهدوم بناء جديد ليملأ الفراغ.
لقد وظف الكاتب في إنتاجه جهدا فكريا كبيرا. طرح أفكارا طازجة فيها سلاسة وقوة إقناع، اتكأ على مصادر أصيلة وظفها في خدمة ووضوح الفكرة وتناسق البحث وعدالة القضية ومصداقية الطرح. فتارة كان يغترف منها وحينا يردمها. وفي كلا الأمرين يبذل جهدا كبيراً.
أنا من القراء الذين يتلذذون من تعب الكاتب، شريطة أن لا تفوح من جسده رائحة العرق الكريهة. لكن لذة القراءة التي اكتسبتها في بداية كتاب "تأنيث المرأة: بين الفهم والإلغاء" عابها تعب الكاتب عند النهاية.
يلاحظ القارئ، أحياناً انقطاع العلاقة المباشرة بين الفكرة وموضوعها، بين منطق الخطاب ومضمونه، فحينا يسترسل في غير حاجة وبلا صلة، كأنه يقدم كل ما عنده، ليس تماما في موضوع البحث. وحينا ينقبض كأن ماعونه نضب. في مثل هذه الحالة تصبح الفكرة فجة أو ضبابية مموهة ويأتي الخطاب مبتورا.
لنقر أن للمؤلف رؤية، وأن هذه الرؤية تتموضع على صعيد فلسفته المناصرة للمرأة، وأنها رؤية عريضة جدا تخترق كل القارات وجميع التشكيلات الاجتماعية، من يوم ظهور الملكية الخاصة وحتى يومنا هذا وما تدثرنا فيه العولمة من بؤس وشقاء. فالصراع بين المركز والمحيط دموي، معظم ضحاياه من المحيط. ولكن الكاتب يبث فينا الأمل ويبشرنا بزوال هذا النظام الاستبدادي سريعا.
نحن نرى، في الممارسة الواقعية، عكس ذلك تماماً فأكثر ما يميز الرأسمالية الحديثة- العولمة- أنها دينامية وأنها متجددة، وأنها- على عكس النظم الاقتصادية السابقة التي اختنقت وماتت في أزمتها- تتخذ من أزمتها الداخلية والخارجية على السواء عتلة لمزيد من الحيوية والتقدم. ونلاحظ أن أزمات الرأسمالية هي في الحقيقة انتصارات تصاعدية. وبالتالي فالرأسمالية مرشحة للتصحيح المتواصل وللاغتناء المُطرد أكثر مما هي مرشحة للزوال السريع. وما أزمة المال الحديثة إلا مثال على ذلك.
إننا نعتقد، ضمن معطيات العصر، أن أزمة النظام الرأسمالي الحقيقية، ليست في تقويضه والخروج منه، بل في دخوله. في الحقيقة هذا حلم كل دول المحيط الفقيرة. العالم الثالث، كونه ثلاثة أرباع البشرية، لا يزال يعيش على هامش النظام والمسافة بين المركز والمحيط تزداد ولا تنقص. وعليه فما يحدث للمؤلف، في هذا السياق، أن عملية تطور الرأسمالية تكون جارحة لنرجسيته ومستفزة لضغينته.
فعلى سبيل المثال. نقاط البداية في العالم العربي ( مصر، العراق...) كانت أفضل من مثيلاتها في كل من والهند ماليزيا وسنغافورة... مع ذلك فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عند الأخيرات أفضل مما هي عليه عند العرب. فأين هم وأين نحن؟ السر في ذلك أنهم دخلوا النظام الرأسمالي قبلنا. في الحالة العربية، بما في ذلك وضع المرأة- اكتشفنا كم هو كبير تقدم الآخر علينا فكان الأمر مفجعا لذاتنا، وعندما اكتشفنا تأخرنا الكبير كان الأمر بالنسبة لذاتنا بمنزلة المأساة.
هل معنى ذلك عدم التفكير في إمكانية تجاوز الرأسمالية وفي ضرورة هذا التجاوز؟ بالطبع (لا) كبيرة. فلا أحد يزعم بأن الرأسمالية هي "نهاية التاريخ".
وفي باب حرية المرأة ومساواتها. هناك إشكالية لم يقدم لنا الكاتب حلا مقنعا لها. النضال من أجل الحرية والمساواة هو جمع الضدين. قطبان ينزع كل منهما إلى أن يفرز من ذاته ما ينقض الآخر. الحرية مولودة بطبيعتها، للامساواة. والمساواة لا تقوم لها قائمة إلا بقدر ما تُحدّ وتُضبط وتُقمع عند الضرورة. فكيف الطريق إلى هذه الإشكالية؟
أعتقد أننا بحاجة إلى طرح إبداعي، توفيقي شرط أن تكون النظرة التوفيقية بين الرجل والمرأة ليست محض جمع تلفيقي بين المتناقضات بقدر ما هي ارتفاع مُبدِع بصراع الأضداد إلى مستوى المُندَمِج العضوي يصهر طرفيه في وحدة جديدة- هي الإنسان.
عادل سمارة ولد وعاش وتعذب ورفض الواقع وداور الحلم في عصر القوميات والأيدولوجيات الكبيرة حتى فاجأته الأيدولوجيا بموت سريري. فالماركسية، وإن لم تكن مقدسة، إلا أنها أصبحت دينا، له نبيه- ماركس، ومؤسس كنيسته- لينين ولها نصوصها الدينية- الماركسية اللينينية. بعض الماركسيين لا يفكرون، بل تنوب الماركسية نفسها عندهم مناب التفكير، مثلها مثل النص المقدس بالنسبة إلى اللاهوتي؟
بعد ذلك رأينا كيف هُرست القوميات تحت جنازير دبابات المحتل وأصبح الحديث عن الديموقراطية من باب التنجيم أو الاستمناء الفكري.
لكن عادل سمارة بقي ملتزما لألمه الدائم. ولهيب الألم الدائم أنضج عنده" تأنيث المرأة: بين الفهم والإلغاء".
إن مناصرة المرأة ومساواتها مع الرجل، لا تزال في مجتمعنا العربي نبتة لم تنتش ولم تزهر. لكن ما قاله عادل سمارة في " تأنيث المرأة: بين الفهم والإلغاء" يضيف مدماكا في صرح حرية المرأة وانعتاقها ويهدم أساساً في قلعة أعدائها ومضطهديها.