تكتب القاصة التونسية ذكرياتها عندما كانت طالبة تدرس في بغداد، في سرد يتغزل بليالي شارع أبو نؤاس، مصورة فرح الناس ومرحهم ومشاعرها هي زملائها الطلبة العرب الساكنين في وسط بغداد، وتحدد بالضبط تلك الفترة بالضبط "1978-1982" والنص يعرض لوجهة نظر رومانسية وخارجية عن الواقع العراقي، ففي الأعوام المذكورة في النص تركزت السلطة بيد الدكتاتور والحرب كانت مستعرة مع إيران، والخراب الحالي كانت خطواته الأولى في تلك الأيام بالتحديد. نص يعكس واقعا مقلوبا.

«شهرزاد» تشتهي عودة الليالي

حياة الرايس

لقد بدأت الحكاية من بغداد ، على شاطئ دجلة بالذات .عند نصب شهرزاد و شهريار الناهض  كشاهد ابدي على شهوة الفن للحياة و شهوة الحكاية للتجدد ....حيث تقف شهرزاد قبالة شهريار: شامخة كنخلة بغدادية ، ملكة  تمسك صولجان الكلمة بيدها  و تقبض على سرّ الحرف الوهّاج و تعلّمنا أسرار الليالي  في مقاومة شهوة الموت عند مليكها شهريار.  وتُبعث كل يوم جديدة  كما أرادها الفنان النّحات محمد غنيّ حكمت ( الذي أقام النصب في منتصف السبعينات) : واقفة غير راكعة أمام شهريار الحاكم بأمره ، المتكئ على أريكته ، ظهره إلى النهر و عيناه إلى شهرزاد و شهرزاد عيناها إلى النهر يركض الموج  بخيالها  من دهشة إلى دهشة لا تنتهي ....

شهرزاد التي ملأت الدنيا حكايات و أثّثت ذاكرتنا ووجداننا بقصص عالم عجائبي تفرّدت وحدها دون نساء الأرض بابتكاره : عن  التاريخ القديم وأخبار الملوك و السلاطين و الإنس  والجن والإنسان والحيوان والّلصوص و الشّطار و الحكماء والأطباء و الأبطال  ورجال الدين والدنيا و الخير و الشّر....

واقفة الآن بحدائق دجلة بقلب شارع  ــ أبو نؤاس ــ أو شارع الشّعراء والعشّاق كما كان يسمّى  : قلب بغداد السبعينيات  النّابض بالعشق والشّعر والأنس و الطرب و الفرح و السّهر و السّمر ...  تشتهي لو تعود بها  الحكاية إلى جديد الّليالي ،  بعد أن ملّت الهجرة خارج الحكاية ،  معلّقةَ بفراغ الغياب .  تبحث ألان عن غواية جديدة تعيش على وقعها  ، ووجود متفرد لجوهرها  الأنثوي  الاستثنائي  .  تبحث في عيون حفيداتها عن بداية جديدة للخلاص من صمتها الذي طال . تبحث عن الدهشة في روح أهل هذا الزمان و هي التي تعرف أكثر من غيرها  أن وجودا بلا دهشة هو هوّة و سقوط في الفراغ .

لأجل عيون " شهرزاد" ملأت جدّتي طفولتي حكايات و وعدتها منذ صغري أن أملأ بدوري الدّنيا  حكايا . خاصّة بعد تلك الليلة التي وضعت رأسي على ركبتها و هي تهدهدني لأنام و تحكي لي حكاية فاطمة و محمد بن السلطان... فأخذها النوم و هي في عزّ الحكاية   و لم تفق بعدها أبدا ... إليها سأواصل بقية الحكاية التي لن تنتهي لأني سأنام مثلها في عزّ الحكاية .... و قد كتبت لها هذا الإهداء في روايتي " عشتار" فيما بعد ،لأن عشتار أكثر الآلهة انتشارا هي أسطورة متجددة عبر الزمان أيضا ...

هناك في ليالي بغداد ومن نصب تمثال  شهرزاد عرف القلم طريقه إلى النشر .

كنت أحرّر النصوص و المقالات والحوارات باللّيل وآخذها إلى الجريدة بالنّهار إلى " دارالجماهير للصّحافة " حيث مجلة " ألف باء " وجريدة "الجمهورية" اللتين احتضنتا بداياتي ثم " أفاق عربية" و مجلة  " فنون " فيما بعد.... ربّما تشجيعا لطالبة مهووسة بالكتابة والأدب و الصحافة  تنتمي إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة بغداد .في تلك السنوات مابين 78الى 1982

كنت أوّل تونسية تدخل قسم الفلسفة  في بغداد.  كما أفادتني سكرتيرة قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة بغداد و هي تسجل اسمي  ... كنت انظر إلى أصابعها تتحرك بالقلم و تخطّ سطورا  و ترسم خطوطا معلّقة كعرّافة تفك أسرار حروف مقفلة وترسم لي قدرا جديدا و منعرجا تاريخيا في حياتي لم تكن تعنيني نهايته بقدر ما أنا مفعمة بروح المغامرة و البدء من كوكب جديد .

في أوائل الثمانينيات كنا مجموعة طلبة عرب ببغداد : تونسيون  و سوريون (لاجئون في بغداد حينها ) و لبنانيون و مصريون وفلسطينيون و مغاربه و سودانيون  ... تلفظنا  "أقسامنا الداخلية " من شدّة الحرّ بمنطقة " الوزيريّة"  كل ليلة إلى نسائم شاطئ دجلة بكورنيش  أبي نؤاس ، خاصة أواخر السنة الدراسية حيث يشتدّ الحرّ في شهري أيّار و يونيو وحيث يحلو السهر والسمر على شاطئ دجلة .... شارع أبو نؤاس الطافح بجموع العائلات العراقية و السيّاح الأجانب  الذين يحبّون الرحلات النهرية خاصّة ، تتأرجح بها القوارب على سطح الماء النابض بالحبّ و الحياة تحت ضوء القمر الساهر معنا .... و كثيرا ما كنّا نصادف أساتذتنا و غيرنا من الطلبة وبعض الشعراء و الإعلاميين و السياسيين و المثقفين ....و يجرّنا الحديث إلى نقاشات ساخنة تحوّل حديقة  الشاطئ إلى صالون سياسي أدبي شعري ثقافي  ، لولا هسهسة الموج تجذبنا  لتذكّرنا بان ليل أبي نواس هو ليل  طرب أيضا و أصوات تصدح بالشجن العراقي ...و تختلط  أغاني ناظم الغزالي و زهور حسين بأغاني أم كلثوم و أغاني الأعراس  ....  بينما تتعالى قربنا ضحكات الأطفال و مرحهم بين المراجيح  . و لمعان عيون العشّاق تطرّز قصائد الغزل تحت ضوء القمر . بينما تتمايل الزوارق مع النسائم مبحرة بأضوائها كأنها اللؤلؤ المنثور آخذة راكبيها في نزهة مائية

 و أبرز ما في هذا الشارع سلسلة المقاهي والمطاعم الشعبية  التي تقع على طول ضفة النهر و رائحة السمك المسكوف تملا المكان وأفضل الأسماك النهرية   التي شهرت بها بغداد ا كالشبّوط والكطان والبني الذي يتم صيده مباشرة من قبل صيادي منطقة الكرادة القريبة من شارع أبو نواس. والكباب العراقي والذي يقدم ساخناً مع الخبز البغدادي الخارج من التنور تواً ...

كان شاطئ دجلة مؤثثا أيضا بمقاعد خشبية مستطيلة أمام شاشات  تلفزية كبيرة  تتحلّق حولها العائلات كأنّهم في بيوتهم . و طاولات فردية عليها لامبات مضيئة  ينكبّ عليها بعض الطلبة للمراجعة خاصّة وقت الامتحانات .

 أما مجموعتنا فكنا نأخذ زادنا معنا لنفترش الرمل على ضفاف دجلة  مباشره قرابة الميّ نتسامر ونتناقش و نتجادل و  تغني و ندبك ع العتابا و الميجانا  ....أحيانا حتى الفجر حيث نشهد طلوع الشمس من وراء النهر و ننتظر مقاهي الصباح حتى تفتح لنشرب استكانات  الشاي المعطّر بالهيل  ، قبل أن نعود إلى أقسامنا الداخلية و أحيانا إلى محاضراتنا الصباحية و قد بدأت الدروس تخف بحكم نهاية السنة

كان ليل دجلة ليل حبّ و أنس و طرب و مرح و جدّ و هزل و جدل  طافحا بأمواج الناس  راصدا حقيقيا لنبض الهدير الليلي لبغداد خاصة وقت الاحتفالات و مصاحبة الفرق الغنائية في المواسم و الأعياد .

يحرسه تمثال أبو نؤاس يرنو من بعيد ، بيده كأسه الشهير، الطافح شبقا وعشقا ،الناهل من كل متع الحياة على اختلافها ، لشاعر خالد لن يموت حتى لو كسر الأصوليون يده و الكأس بالذات  ، بعد أن أبدع في تصميمه الفنان إسماعيل فتّاح الترك في العام 1972

 أمّا أنا فقد كنت كثيرا ما انسحب إلى موعدي السريّ.... أسير مع حافة النهر حافية القدمين أتلذذ بمياهه الباردة تحت انعكاسات  الأضواء الملونة للحدائق الغنّاء  .

حتى أصل إلى شهرزاد التي تنتظرني لنتحاور و نتجادل حول ما روت   لنا و ما سنروي لغدنا

و في ليلة واجهتها "هل رويت كل الحكاية يا شهرزاد ؟ "

أم انك سكت على كثير من الأسرار بفعل المحرّم والاّمباح  لا بفعل قدوم الصبّاح  .أم أنك كنت تستبطنين خطاب الملك الذكر شهريار و تعيدين على مسامعه ما يشتهي أن يسمعه و جعلت تاريخ نساء الشرق جلّه تاريخ عشق و غدر  و خيانات  ؟؟؟؟

وواجهتني شهرزاد بذات الليلة :

"و أنتنّ كاتبات هذا الزمان هل رويتن كل الحكاية لمّا يتعلق الأمر بسيرتكنّ الذاتية  خاصّة أم أنكنّ تمتن كلّ ليلة بغصّة الكلمات ؟؟؟