المدينة الشاطئية التراثية. مدينة الآداب والفنون المفعمة بالسمات المتوسطية. من كتابها الذائعي الصيت گونثالو دِلْ كُونْضِي الشهير بإبداعه المسرحيِّ المعروفِ في الأدب الإسپاني بالسّايْنِـيطي، أي المسرحية الفكاهية. لذلك لقب بـ:
- Gonzalo el sainetero
موضوعات مسرحياته تميزت بالتصوير الساخر للأزمات الاقتصادية التي تعانيها إسپانيا، ممزوجة بتفاصيل محلية، ذات صلة بالتاريخ العربي القديم للمدينة، وكذا بموقعها الجغرافي الفريد. لذلك لم يكن الطابع التراثي السياحي السبب الوحيد في ذيوع صيت دِلْ كونْضي فحسب؛ وإنما يرجع كذلك إلى تلك العروض البسيطة التي يشخّص فيها هذا الكاتب هموم أهله وتطلعاتهم في هذه المرحلة العصيـبة التي تعيشها إسپانيا. ففي مسرحياته ترى الناس كأنهم تخلوا مؤقتاً عن الشرود مع واقعهم الحرِج، ودنياهم المفتونة ليصعدوا على خشبة المسرح ويتقمصوا فوقها حقيقة أفراحهم وأتراحهم.
هناك يكمن سر نجاح دِلْ كُـونْضي، وسر محبة الناس له.
أصبح دِلْ كُونْضِي مَعلمة أخرى من معالم المدينة السياحية التراثية. يسأل عنه السياح حينما يزورونها، ويحلو لهم أن يلتقطوا معه صوراً كأنه ميسي أو رونالدو، عِلماً بأن مدينته لا ترقى في حجمها وشهرتها إلى رتبة مدريد أو برشلونة. لقد كافأته المدينة بالحب، وكرمته في أكثر من مناسبة؛ خاصة في المهرجانات الأدبية والمسرحية التي تقام طوال السنة. كما رسّختْ في السنين الأخيرة، تقليداً إنسانياً مؤثراً تمثل في اختطاف الكاتب من وسطه الأسري، وحرمانه من الاحتفال الضيق بعيد ميلاده، ففتحت الدائرة المغلقة، وجعلته احتفالاً عمومياً. وفي سبيل ذلك تنافست الجمعيات والمؤسسات التعليمية والثقافية من أجل أن تحظى إحداها بشرف تنظيم الاحتفاء بعيد ميلاده. وعادة ما كانت المنافسات والترتيبات تنطلق منذ بداية السنة الجديدة، حتى تصل إلى أوجها قبيل العيد بأسابيع قليلة. ذلك أن دِلْ كُونْضي غالباً ما كان يتردد في إعطاء موافقته لهذه الجمعية أو تلك. فقد كان شغله الشاغل الانغماس في عمله المسرحي. لكن بعد أن اشتدت حدة المنافسات انتهى الأمر إلى "جمعية كتاب الدراما" التي حظيت بشرف احتكار الاحتفال السنوي دون غيرها.
گونثَالو دِلْ كُونضي من مواليد برج العذراء. ازداد في السابع من أغسطس من عام ألف وتسعمائة وخمسين من القرن الماضي بإقليم الباسك. ثم انتقل مع أسرته إلى هذه الناحية بحكم عمل والده المدرّس. أمه مدفونة في سان سباستيان، لذلك تعود الاحتفال منذ شبابه بعيد ميلاده في تلك المدينة الباسكية، احتراماً لذكرى أمه الغالية. لكن بعد الشهرة؛ استسلم لرغبة محبيه، وغدا يحتفل بعيده في المدينة التي احتضنته.
في مناسبة عيد ميلاده الثاني والخمسين كان گونثالو مدعواً هو وزوجته كلارا إلى العشاء من لدن "جمعية كتاب الدراما" بالناحية. فقد تقرر تنظيم حفل الميلاد في "فندق إلْـپِسْكادور"، المطل على الكورنيش الساحلي. حوالي الثامنة مساءاً من اليوم الصيفي الموعود بدأ المدعوون يتوافدون على قاعة الاستقبال في الفندق الفخم، أفراداً وجماعات. المائدة الطويلة مُدت في الركن القصيِّ للقاعة؛ في جانبها الأيمن، بما فيها من مشروباتٍ روحية وغازية، وكؤوس، وصوانٍ، وحلويات ومخللات. في حين انتشرت في سائر الأرجاء موائد صغيرة، محاطة بكراسي، مزودة بكل مستلزمات المناسبة. كان أكثر من نادل يحوم بين الضيوف، عارضين في صوانيهم الفضية مشروبات ومُزات. ثم بدأت حدة الصخب والثرثرة تتصاعد بالتدريج، موازاة مع تناول مشروبات ما قبل الاحتفاء وتذوق المخللات فاتحات الشهية. وكان من الصعب على كلارا أن تظل إلى جانب زوجها، حيث إن موجات المدعوين وتشابك موضوعات الكلام كانت ترمي بها نحو أكثر من موضع في الصالون. أما گونثالو فكانت دوائر المناقشين والمعجبين تتلعب به كيفما شاءات؛ كما لو كان دوّارة هواء في سطح عمارة. حتى الكأس المملوءة إلى نصفها ظلت في يده مدة، من دون أن يجد برهة صغيرة لارتشاف ولو جرعة. لكن رغم الهرج والمرج أثار انتباهَ الجميع دخولُ وفد مشكّل من ثلاثة أعضاء، معروفين بانتمائهم إلى "جمعية نقاد الإبداع الأدبي". دخلوا في مثل هيئة العسكر، بسرعة وثبات . وميز الحاضرون من بينهم إِيلِنا القصيرة القامة؛ الكاتبة الشابة ذات القلم النافذ في كتابه القصة ومقالات النقد في وقت واحد. هي فتاة من مدريد، وبالذات من خِـطافِـي التي ارتبط اسمها باسم الأديب لُـورنْـثو سِيلْبا. كانت قد تعودت قضاء عطلتها الصيفية في هذا الساحل، فاستهواها وقررت الاستقرار به، مدفوعة في ذلك بدوافع متوسطية غامضة، وسماتِ حنينٍ تسربت إلى ما بين أسطر قصصها ومقالاتها. عملت متعاونة في الإذاعة المحلية، ثم اشتغلت بالصحافة. وتقدمت إيلِنا صحبة مرافقيها، إلى أن وصلوا بعد جهد إلى حيث يقف گـونْثالو. وبمجرد ما رآها حتى توقع أن تحصل مفاجأة ما في هذه الأمسية، بل توجس حتى أن يحصل خلل في الحفل ذاته. وذاك ما وقع، إذ لم تلبث الفتاة طويلاً حتى فجرت القنبلة:
- جئنا من أجلك..
- مرحباً.
- هل يعني ذلك أنك موافق؟
- موافق على ماذا؟
- أن تتعشى معنا.. مع جمعيتنا.
ابتسم گـونثالو. وفي لحظات البحث عن الجواب المناسب واتته فرصة صغيرة لكي يرشف من كأسه:
- لكن القرار يا صغيرتي اتخذ منذ سنوات، وها أنت ترين أني في ضيافة إخواني كُتاب الدراما..
واتخذ وجه إِيلِنا سمتَ الرصانة التي لم تكن في واقع الأمر تليق بسنها الفتي، وجمالها الناعم:
- نحن على علم بتفاصيل الاتفاق القديم، إنما خطرت لنا فكرة الحل الوسط إثر مناقشات متأخرة..
- لكن..
- اسمع يا عزيزي گونثالو.. لقد جرينا ضد الساعة بعيد ازدهار الفكرة، وتصرفنا بحثاً عن حل يرضي سائر الأطراف. ندوة اليوم حول "الأزمة والخطاب السردي" هي التي شجعتنا على ذلك، إذ بمجرد ما أن أنهيناها مبكراً حتى خطرت فكرة تنفيذ المبادرة: أن نستدعيك ولو لمدة ساعة، نشرب النخب وتشرفنا بكلمة في الذكرى. البوفي لا يزال مفتوحاً في "مطعم ميگيل دي ثرفانطس" القريب؛ في الرصيف الآخر المقابل لـ"فندق إِلپْسْكادور"..
وضحك گونثالو. وبرشاقة مرحة التفت إلى الثلة المحيطة به:
- سمعتم أيها السادة؟.. الإخوة نقاد الأدب طمعوا هذه السنة في ضرب عصفورين بحجر واحد: الندوة والتكريم.
ثم تابع بما يشبه العتاب الموجه إلى إيلِنا ورفيقيها:
- أنتم معشر النقاد لا ثقة فيكم. أهواؤكم معرضة دوماً لتقلبات الرياح..
- مقبولة منك يا سيد گونثالو. لا تنس أنني كاتبة قصة أيضاً. ومع ذلك فالمهم أن تشرفنا الليلة ولو ساعة..
ثم عاد الرجل إلى سابق جديته.
- لست أدري لماذا لم تطرحوا من قبل فكرة الاحتفاء المشترك مع الإخوة المسرحيين؟. ثم، لماذا لا تلتحقوا بنا هنا في الفندق؛ فالقاعة كما ترين فسيحة ونحن أغلبية..
- أعترف لك أن كل هذه الأفكار قد راودتنا بالفعل، لكن لم يحصل عليها الإجماع. فقد ألح بعض أعضاء جمعيتنا على أن يكون تكريمكم نقدياً خالصاً. جمعيتنا تحتفل بالذكرى العاشرة لتأسيسها، لقد أرادوا أن يحظوا بشرف التكريم ليقترن بالذكرى.
- أعدكم بالاحتفال معكم في السنة القادمة إذا لم تقتلني "الأزمة".
- ستكون الذكرى العاشرة قد مرت..
- وما الفرق يا غادتي لدى الأديب بين الذكرى العاشرة والحادية عشرة؟ وإلا فهي أنانية من قِبلكم..
وهيمن صمت ثقيل على الدائرة الصغيرة المحيطة بگونثالو. بل ارتسمت على الوجوه حتى بعض الاستفهامات الحائرة. كما لو ارتاب الحاضرون في النوازع الخفية لهذه الدعوة الملحاح. كان قرار الدراميين قد اتُّـخذ، وانطلق الاحتفال طبيعياً وبإيقاع متدرج. بل هم الآن على وشك الجلوس إلى الموائد الممدودة وبدء إلقاء الكلمات وتبادل الخطب. لكن ها هي المبادرة الطارئة يبدو كأنها قد تهدد كل شيء. وحتى يتخفف گونثالو قليلاً من ضيق الحصار المضروب عليه التفت إلى من يحيطون به:
- ما رأيكم يا سادة؟..
وبعد برهة صمت جديد بادر أحدهم إلى القول:
- أقترح أن تفاتح الآنسةُ إيلِنا ضون سَانْشِثْ رئيسَ جمعيتنا. هو صاحب العقد والحل.
ولقي الاقتراح استحسان الدائرة. بدا ذلك على الوجوه، وترجمته حركات الأيدي، والابتسامات الناطقة. وحسم گونثالو:
- عليك إذن يا آنستي بالسيد سَانْشِثْ. هو هناك.. وأشار إلى ركن جنب النافذة، في القاعة العريضة.
وظلت إيلِنا متماسكة، محافظة على ثباتها: وقفة مستقيمة، وبريق العينين الممزوج بالأنوثة والعناد. ثم لا مجال هناك لحركات الأيدي الطائشة. مستحيل.
واستغلت كلارا فرصة ابتعاد الفتاة فأسرعت إلى الالتحاق بزوجها. كانت تراقبه من بعيد. عين عليه وأخرى على من كان يحادثها. وعلى الرغم من الحشود؛ تمكنت من الانفراد به هنيهة. ثم همست في أذنه:
- حدستُ لماذا أتوا. إياك والموافقة. إن قبلتَ ستهين الإخوة الذين يكرمونك..
ابتسم گونثالو وطمأنها حتى من دون أن يقول لها كلمة. اكتفى بالابتسامة ولغة العينين. لكن كلارا كانت قلقة. ربما كان في الأمر بعض الغيرة، فإيلِنا أصغر منها سناً. حتى لباس الفتاة الخفيف، المشكل من قطعة وردية واحدة؛ مقطوعة الذراعين، ومفتوحة الصدر، ساعد على إبراز مفاتنها. أما تسريحة شعرها القصير على طريقة جان دارك، وسمطة حقيبتها اليدوية فوق الكتف النحيف؛ فقد جعلا منها فتاة مهيأة لا لكي تؤكل فحسب، بل وحتى لتُختطف. إن إيلِنا منذ أن اختارت الاستقرار في الساحل وإشعاعُها الأدبي في تطور محيّر. فهل في سماء كلارا إذن غيرة من المنافسة الأدبية، أم على الزوج الغالي؟..
وعاين گونثالو من بعيد كيف دخلت إيلنا ومرافقاها في جدل مع ضون سانْشِثْ. وكما كان منتظراً، لم يَغضب كاتبنا ولا تمكن منه القلق؛ بل على العكس من ذلك انتابته أحاسيس ملؤها الدفء والغبطة. ولكي لا يُرمى بالحياد السلبي؛ مضى إلى حيث المتحاوران، وتوقف إزاءهما. قال:
- إيه! توصلتما إلى حل؟.
وبادر ضون سانشِثْ ببعض النـزق:
- في الأصل ليس هناك مشكل حتى نبحث له عن حل.
واستخلص گونثالو أن مهمة إيلنا ومرافقيها آيلة إلى الفشل لا محالة. كان يَحذَر لكي يظل محافظاً على احتياطي طاقته من أجل أن يلقي خطابه بطلاقته المعهودة. وعوض أن يبددها في حدث عارض قرر الحسم:
- أنت يا سيد سانشث ابن الناحية، وأنت يا إيلِنا ابنتها كذلك، ولو بالتبني. لتتخاصما مشكورين بسببي قدر ما تشاءان. ذاك شأنكما. أما أنا فما علي إلا التجويد. أفهمتما؟. التجويد ولا شيء آخر..
خرجت الكلمات من فم گونثالو وعيناه تكادان تدمعان. لم يدر لماذا انفعل بتلك الصورة المفاجئة. لكنه استغل تشابك موجات الصخب ومضى نحو كنبة في يسار الصالون؛ قريباً من باب القاعة. ابتعد حتى عن كلارا. ولم يشأ أن يبحث عنها بعينيه الرطبـتين. في تلك اللحظات الموحية ببداية مكدرة بدا له الفضاء كثيفاً أكثر من اللازم؛ بل حتى غميقاً. لكن خلال ذلك استنارت في عقله فكرة؛ كضوء منارة في محيط صاخب:
- خلاف إيلنا وسانشِثْ الدائر حولي.. ألا يمكن أن يكون موضوعاً مسرحياً؟..
وهرب منه مخه إلى غابة أخرى وراح يفتش بين أدغالها عن الغزالة الطائشة..