كان يلازمني كظلي في حلي وترحالي , في نومي ويقظتي , في سعادة وشقاوتي , حيث أنني في يوم من الأيام بينما كنت أجلس في غرفتي أجهشت بالبكاء دون أن أعي سبب ذلك , وفي غمرة صمتي وانسياب دموعي فوق خدي , شقّ صمتي وسكوني بتنهداته كان يجلس جانبي. كان يدخل إلى عالمي الخاص دون استئذان , كنت أضيق به ذرعا , إذ أنني لم أستطع ثنيه عن ملازمتي , والإطلاع على خصوصياتي , كنت أخجل من نفسي أحيانا بسببه , لما يجلبه لي في كثير من الأحيان من حرج وسخرية الآخرين ونظراتهم الهازئة . عندما كنت أنفرد بمجالسته لا أتورع في لومه وتأنيبه, وتوجيه أقذع عبارات التوبيخ والتحقير له, إلا أنه لا يرد عليّ بل لا ينبس بكلمة واحدة في وجهي , فكأنه يعترف بذلك ويعتذر إليّ بصمته هذا. أحيانا أستعذبه وأجد فيه مرآة نفسي, أجد نفسي تحنو عليه وتستلطفه رغم ما يجلبه لي من تشتت في ذهني وتضارب في أفكاري , وضيق وتزاحم غير مبرر في صدري , أراه قدري فأسلم إلى القدر المحتوم . في يوم من الأيام وفي خضم تلاطم أمواج نفسي وتصارع مكنوناتها , قررت أن أستجلي أمر هذا الرفيق واستكشف هويته , هذا الذي لا يغيب بغياب الشمس أو طلوعها عني . حزمت أمتعتي وحملت حقيبتي إلى المدينة حيث أحد الأصدقاء هناك لمساعدتي في ذلك , توجهت صباحا إلى موقف الحافلة , صعدت مع آخرين , كان يشاطرني ذات المقعد . بدأ كنترول الحافلة في جمع الأجرة من الركاب , فوجدتني في صراع مع نفسي بين القيام بالواجب ودفع الأجرة عنا كلينا أو الاكتفاء بدفع أجرتي فقط وأخيرا وصلت إلى القرار الأخير بدفع الأجرة عن نفسي فقط , لكنني في الحقيقة بعد دفع الأجرة كنت مرتبكا , فما عرفت إن كنت دفعت الأجرة عن نفسي فقط أم عنا. وصلت الحافلة أخيرا إلى المدينة حيث وجدت صديقي بانتظاري , حياني وحدي مصافحا ثم اعتذر مني لانشغاله مكتفيا بنصحي بالتوجه إلى تلك البناية الضخمة ذات اللون القرميدي ثم ناولني قصاصة من الورق كتب عليها رقم الطابق ورقم الغرفة , حيث سأجد شخصاً هناك بانتظاري ثم ودعني وانصرف , توجهت نحو تلك البناية , وما أن وصلت إلى ناحية البوابة حتى وجدت لوحة كبيرة على واجهة البناية كتب عليها ( مستشفى الطب النفسي ) دخلت المبنى حيث اتجهت إلى الطابق الثاني وأنا أرمق الورقة التي بيدي لاستهدي إلى الغرفة المطلوبة , دون أن ينازعني رفيقي في حملها , كانت الغرفة مقابلة لي في نهاية الممر الواسع توجهت إليها قرأت ( عيادة الانفصام ) طرقت الباب ثم دخلت وقد أذن لي بالدخول ورفيقي يتبعني طوال ذلك دون انقطاع وجدت الغرفة فارغة إلا من طاولة كبيرة تتصدر الغرفة خلفها يجلس شخص سبعيني يرتدي نظارة سوداء كبيرة , أمامه فوق الطاولة لوحة مستطيلة نحاسية تحمل عبـارة ( الطبيب سعد ماضي ) وفي المقابل مقعد لشخص واحد , ألقيت التحية ثم سألت الطبيب مرتعشا وقد أشرت إلى المقعد نحن اثنان , تنهد الطبيب ثم زفر زفرة عميقة لا أعرف سرها قائلا : تفضل اجلس يا بني , لا أحد معنا.