بعد أكثر من ثلاثة عقود على صدوره، يتكشّف كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد عن مفارقات كبرى. مع السنين، اكتسب الكتاب حياة قائمة بذاتها، منفصلة عن حياة مؤلفه وعن تطوره الفكري. بل أكثر من ذلك، جرى اختزال تراث إدوارد سعيد بكتاب واحد وتكاثرت القراءات لرائعته بطريقة معاكسة لاستدراكاته وتصحيحاته ومؤلّفاته اللاحقة. هكذا صودر فكر إدوارد سعيد لحساب ثلاثة تيارات. الأول، هو الاتجاه الغالب على الدراسات المسمّاة «بعد كولونيالية» في جامعات أوروبا والولايات المتحدة.
الثاني، هو الأصولية -الإثنية والقومية والدينية العربية والإسلامية- التي شاءت أن تقرأ في نقد سعيد للاستشراق تبشيراً بضرورة العودة الى «أصالة» مهجورة أو مهجّنة ودفاعاً عن هوية «شرق» متمايز جوهرياً عن «الغرب». التيار الثالث يضمّ من يمكن تسميتهم حديثي نعمة الماليين والثقافيين من عرب ومسلمين، يعيشون في الغرب أو يبحثون عن اعتراف «الغرب» بهم، اختزلوا فكر إدوارد سعيد إلى نقيق احتجاجي على الكيفية التي تُشوّه بها «صورة» العرب والمسلمين في «الغرب».
اللحظات الثلاث في فكر سعيد
سار تطوّر إدوارد سعيد بطريقة جدليّة، أو طباقيّة، كما يحلو له أن يسمّيها، في لحظات ثلاث لم يكن الانتقال من الواحدة إلى الأخرى مجرد سير في خط مستقيم، بل لزم تحوّلات وتصحيحات وعمليات إعلاء وتجاوز، غالباً ما استدعت الانتقال من إشكالية ومنهجيّة إلى أخرى.
اللحظة الأولى: نقد الاستشراق
«الاستشراق» (١٩٧٨) مؤلف كبير، مكتوب بأسلوب حصيف ومعقّد، اكتسب شهرة عالمية، فصار يشكو مما تشكو منه الروائع العالمية بعدما اعترفت به وسائل الإعلام وتبنّته الحياة الأكاديمية وتداوله الجمهور الأوسع. صار الكتاب معروفاً بما يروى عنه، ويلخصه أكثر مما هو معروف بما فيه. الشائع عن «الاستشراق» أنّه تمرين نظريّ في ثنائية «المعرفة/ القوة»، مطبقاً على العلاقة بين «شرق» و«غرب». في مسح أوّلي لموجوداته، يتبيّن أنّ الحيّز الأكبر منه مخصّص لتأريخ نقدي دقيق وبطيء وعاجٍّ بالأسماء والمراجع لمدرسة أكاديمية وفكرية وثقافية هي مدرسة المستشرقين. لكن مسحاً ثانياً أعمق وأدقّ، يستظهر الوميض الذي يشعّ من البناء المحكم والجهد التوثيقي والدأب البحثي والموهبة التحليلية والذوق الأدبي والثراء الثقافي، قبل أن يطلق سعيد شرارات الخيال والجمال والمحاججات الذكية ونفاذ النقد وعمق التطلّب الفكري.
يعاين كتاب «الاستشراق» عملية إنتاج «الشرق» في إطار إنتاج «الغرب» لنفسه على يد جماعة احتكرت مع الوقت ترجمة هذا «الشرق» وتأويله وتفسيره وتقديمه للغربيين والشرقيين، على حد سواء. ويتتبع الكتاب، من ثم، نشوء تلك المدرسة وتطوّرها، فيعرض أبحاث رجالاتها وإنجازاتهم، ويناقش أعمالهم، مقارناً في ما بينهم، من خلال التحقيب لمراحل تطور أفكارهم وأبحاثهم والمناهج.
ولا يكتفي سعيد بذلك، بل يقيم العلاقات الضرورية بين الاستشراق ورجالاته وبين مرجعيتين اثنتين في التاريخ والثقافة الغربيتين.
المرجعية الأولى، هي علاقات المدرسة الاستشراقية المتعددة الأوجه بالمؤسسة الاستعمارية ثم الإمبريالية الأورو-أميركية، بمصالحها واستراتيجياتها والسياسات. وهي علاقات لا تختزل بالتطابق والمباشرة والتبعية، بل ترى أنّ مدرسة الاستشراق لا يقتصر دورها على المكتشفات والأبحاث والدراسات في مضمار اللغات والجغرافية والآثار والثقافات الشعبية والديانات والحضارات «الشرقية»، قديمها والحديث. يصل دور المستشرق أحياناً إلى مستوى الفعل والتأثير المباشرين في مراكز القرار السياسي والاقتصادي في الدول الاستعمارية أو الإمبريالية، حيث يلعب دور المثقف الهامس في أذن «الأمير»، تقرّر نصائحه واستشاراته وتقديراته مصائر شعوب وبلدان بأكملها. المثال المعاصر عن هذا النمط من المستشرقين هو البريطاني برنارد لويس، مستشار شؤون الإسلام والعراق خلال عهدي جورج بوش الأب والابن، ناحِت مصطلح «صدام الحضارات» وصاحب النصيحة بغزو العراق رداً على هجمات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١.
المرجعية الثانية هي الوشائج التي تربط تيارات مدرسة الاستشراق بتطور العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية الغربية. يكتشف سعيد هنا أنّ الوصل ليس مباشراً ولا هو آلي، وإن يكن يلاحظ انحياز المستشرقين الى مذاهب ومنهجيات دون أخرى، وخصوصاً استبعادهم المدارس التاريخانيّة والماركسيّة ومنهجيّة «التأريخ الجديد».
غير أنّ التوثيق الموسوعي الذي يمارسه إدوارد سعيد لن يقتصر على التأريخ الفكري والثقافي لأبرز تيارات المدرسة الاستشراقيّة. يحلل نقدياً أعمال أدباء ومفكرين وسياسيين أسهموا في إنتاج الغرب لـ«شرقه». ويخلص إلى أنّ المستشرقين يشتركون في عدد من الثوابت في نظرتهم إلى «الشرق» أهمّها:
١) النعرة الجوهرية، والمقصود بها تقديم الغرب والشرق بما هما جوهران متمايزان يختص كل منهما بخصائص أصلية ثابتة صارت طبيعة ثانية لكل منهما. لكن التمايز يفصح عن تراتب عمودي صارم وثابت، حيث العقلانية والتطور والرقي هي جوهر جماعة، والروحانية واللاعقلانية والتخلف جوهر جماعة أخرى.
٢) التعميم، أي الافتراض أنّ معرفة الجزء تكفي لمعرفة الكل.
٣) التنميط، أي إضفاء خاصة واحدة من خصائص الجماعة على الجماعة كلّها.
٤) الجمود، تصوير عالم الشرق وحياته على أنّهما ثابت لا يتحوّل، ما يعادل إعدام فعل الزمن والتاريخ فيه.
٥) التفرّد، وهو عكس التعدّد، إذ «الشرق» دين واحد ومجتمع واحد و«عقل» واحد وجبلة نفسانية واحدة وثقافة واحدة.
٦) الثقافوية، أي تفسير أفكار الشرقيين وسلوكهم ونمط حياتهم على أساس مبدأ تفسيري أوحد هو «ثقافتهم»، التي تختزل إلى دينهم بالدرجة الأولى. (سعيد، الاستشراق، طبعة عام ٢٠٠٣ الإنكليزية، ص٢٤-٤٨).
يختم سعيد كتابه في خاتمتين. تحذّر الأولى من أن «يسهم الشرق الحديث في تشريق ذاته»، وتؤكد الثانية أنّ «الاستغراب ليس هو الجواب على الاستشراق» (سعيد، الاستشراق، ٣٢٨).
أنْ يستشرق الشرقي يعني أن يستبطن الخطابات الاستشراقية، بخصائصها المثبتة أعلاه، عن الشرق والغرب على حد سواء. أما الاستغراب، فيرى إليه سعيد على أنّه مجموعة سوانح وأفكار وانفعالات ترتضي بالقسمة الجوهرانية للعالم إلى شرق/ غرب لكنّها تسعى إلى الإعلاء الرمزي والنفخ في معنويات الشريك الدوني والتابع في علاقات السيطرة الإمبريالية. بعبارة أخرى، الاستغراب هو الوجه الآخر للاستشراق. إنّه التيار العاجز عن إنتاج معارف مجدية عن الذات وعن الآخر، تنذر إعاقته الفكرية والثقافية بأوخم العواقب إذا ما تسنّى له أن يكوّن القيادة الفكرية لحركات التحرّر من التبعية الاستعمارية المباشرة أو من الاستعمار الجديد.
الخلاصة الأبرز الواجب استخلاصها من تحليل هذه اللحظة -التي نادراً ما يلتفت إليها- هي أنّ إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» أسّس لنظريتين نقديّتين، ما لبثت إحداهما -نقد التصورات الغربية عن الشرق- أن طغت على الأخرى وهي نقد التصورات الشرقية عن الغرب.
اللحظة الثانية: «الثقافة والإمبريالية»
يفتتح كتاب «الثقافة والإمبريالية» (١٩٩٤) اللحظة الثانية في تطور فكر إداورد سعيد. الكتاب يكمل «الاستشراق»، إذ يتناول الوجه الآخر لمشروع سعيد الفكري: «الغرب» في مرآة «الشرقيين». لا يكتفي «الثقافة والإمبريالية» بدراسة دور الثقافة في تبرير الإمبريالية وتزويدها بوسائل الشرعنة والطواعية على ضحاياها، بل إنّه يدرس أيضاً، دور الثقافة المقاوِمة في النضال التحرري من الاستعمار والإمبرياليّة. لكنّنا هنا قد خرجنا أصلاً من «الشرق» (منطقة غرب آسيا الذي جرى التركيز عليها في «الاستشراق») إلى حركات التحرر لشعوب القارات الثلاث.
في هذه اللحظة من تطوّره الفكري، فتح سعيد ورشة تصحيح لما في «الاستشراق» من شطح وأحادية جانب، آخذاً في الحسبان الملاحظات النقدية الموجهة إليه خصوصاً من جهة اليسار.
أولاً، اتخذ مسافة نقدية من ثنائي «المعرفة / القوة» المنسوب إلى ميشيل فوكو، منتقداً الفيلسوف الفرنسي لأنّه «يهمل دور الطبقات والاقتصاد ودور الثورات والانتفاضات في المجتمعات التي يتحدّث عنها» (إدوارد سعيد، العالَم والنص والناقد، ١٩٨٣، ٢٤٤). وفي الاتجاه ذاته، صحح أحادية الجانب في مقاربته السياسة، الثقافيّة للاستعمار بأن أعاد الاعتبار إلى أبعاد الاستعمار الاقتصادية والاستغلالية، بما هو عملية «سيطرة على الأسواق والمواد الأولية واليد العاملة الرخيصة والأراضي المدرّة لأعلى معدلات الربح» (سعيد، الثقافة والإمبريالية، ١٣-١٤).
ثانياً، اعترف سعيد بصحة النقد الذي وجهه الناقد الأدبي الأميركي جيمس كليفورد إليه بأنّه «ينتكس إلى أنماط النعرة الجوهرانية ذاتها التي يهاجمها [في كتاب «الاستشراق»]» (سعيد، الانسنية والنقد الديموقراطي، الترجمة العربية، دار الآداب، بيروت، ٢٠٠٥ ، ص ٢٤-٢٥ ). والإشارة هي إلى تحويل سعيد الغرب إلى جوهر قائم بذاته والتعامل معه على أنّه كيان ثقافي متجانس وموحّد يمتدّ في خط مستقيم من إيسكيلُس الإغريقي إلى كارل ماركس.
ثالثاً، ينفي سعيد الزعم بأنّ غرض كتاب «الاستشراق» هو الدفاع عن شرق حقيقي يشوّهه الاستشراق الغربي، فيؤكد: «لقد اعتمدت في نقدي [للاستشراق] على الطبيعة المغلوطة لكل التمثلات بسبب ارتباطها الوثيق بالدنيوية، أي بالسلطة والموقع والمصالح. وقد اقتضى ذلك أن أجاهر بأنّ كتابي لم يكن معدّاً للدفاع عن الشرق الحقيقي، بل إنّه لم يكن يطرح فكرة وجود شرق حقيقي أصلاً. والمؤكد أنّي لم أكن أنافح عن نقاوة تصوّرات ضد أخرى، وكنت واضحاً جداً في اقتراحي أنّ كل مسار تحويل التجربة إلى تعبير لا يمكن أن يكون منزّهاً عن التلوّث. والمسار ملوّث أصلاً وبالضرورة لتورطه بالسلطة والموقع والمصالح، أكان ذلك من موقع الضحية أم لم يكن» (سعيد، الانسنية، ٧٠).
هكذا استبدل سعيد ثنائي «معرفة / قوة» بثالوث «سلطة/ موقع/ مصالح»، أي السياسة والموقع الجغرافي (شمال/ جنوب) والمصالح الاقتصادية والطبقية، وهو تعيين أشمل للمحدّدات التي تتحكم بتفكير الجماعات البشرية وسلوكها.
رابعاً، إذ ينتقل سعيد إلى التمثّلات الشرقية للذّات والآخر، ينتقد مرض «الغُراب» (occidentosis)، أي اللوم العُصابي للغرب على كل الويلات النازلة بالشعوب المستعمرة. ويرفض «نظريات المؤامرة». إلا أنّه يوجّه النصل الحاد في نقده إلى النعرة البلدية nativism: «.. إنّ القبول بالنعرة البلدية يعني القبول بكل مستتبعات السيطرة الإمبريالية: كل الانقسامات العرقية والدينية والسياسية التي فرضتها الإمبريالية هي ذاتها. إنّ مغادرة العالم التاريخي لمصلحة غيبيات الجواهر مثل النعرة الزنجية أو الايرلندية أو الكاثوليكية تعني مغادرة التاريخ لمصلحة نعرات جوهرانية تحمل الطاقة على استعداء البشر بعضهم ضد بعض» (سعيد، الثقافة والإمبريالية، ٢٧٦). ويمكننا أن نضيف النعرة الإسلامية إلى لائحة النعرات البلدية.
يعود سعيد في رائعته الأخيرة، الصادرة بعد الوفاة، إلى نقد إيديولوجيات الانتماء والهوية على أنّها أخطر ما خلّفه العصر الإمبريالي، في نص يرقى إلى مستوى الوصية الفكرية: «إنّ الهوية هي العملية التي تتسلط بها الثقافةُ الأقوى والمجتمعُ الأرقى بواسطة العنف على شعوب يتقرر أنّها شعوب دونيّة، بمقتضى عملية فرض الهوية تلك. إنّ الإمبريالية ما هي إلا عملية تصدير للهويات» (إدوارد سعيد، On Late Style ـــــ في الأسلوب المتأخر، ٢٠٠٦، ص ٨٥). درءاً لمثل هذه الأخطار، وهي تحديداً أخطار «تشريق» الشرقيين، ينضمّ سعيد إلى فرانتس فانون في الدعوة إلى تحويل الوعي الوطني-القومي، الذي ساد فترة النضال ضد الاستعمار، إلى وعي اجتماعي في الحقبة الاستقلالية، أي الانتقال من التحرر الوطني-القومي من المستعمر إلى التحرر الاجتماعي الداخلي، أي بناء مجتمع الحرية والمساواة وبناء الثقافة الجديدة على أنقاض ثقافة المستعمر والمجتمع التقليدي.
بالتحرر الاجتماعي يغادر سعيد ثنائي شرق/ غرب نهائياً، بما فيه من سيطرة ومقاومات للسيطرة، داعياً إلى «اكتشاف عالم ليس مبنياً على جواهر متعادية».
اللحظة الثالثة: إلى الإنسانية العلمانية
مثّلت دعوة سعيد إلى اسكتشاف عالم «ليس مبنياً على جواهر متعادية»، علامة الانتقال من نقد الاستشراق ونقد الاستغراب إلى النظرية الإنسانوية العلمانيّة، بما هي الأوج والخاتمة في تطوره الفكري. لم تكن النقلة مفاجئة، بل كانت تختمر في اللحظتين السابقتين بركيزتها الفلسفية التي تقول إنّ البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم وإنّ مفاتيح فهم هذا العالم هي في هذا العالم (الانسنية، ص٧٠-٧١).
بعد هذا العرض لتطور فكر إدوارد سعيد، يمكن إلقاء بعض الأضواء على وجه منسيّ من شخصيته الفكرية ودور مهمل من أدواره.
ترجمة ومترجمون
يشير إدوارد سعيد، في أكثر من مكان، إلى أنّ الاستشراق لا يكتفي بالنطق باسم شرقيين، لادعائه عجزهم عن التعبير عن أنفسهم، بل يزعم أيضاً امتلاك «الترجمة الرسميّة» لكل ما هو شرقي أو صادر عن الشرق (الاستشراق، ص ٢٠٣، ٢٢٢). يقوم نقد إدوارد سعيد للاستشراق على سلسلة من الأدلّة والحجج والبراهين تثبت أنّ «المترجم» يحرّف في النقل من لغة إلى أخرى ويتلاعب، تحديداً بسبب عدم قدرته على التحرر من مركزيته الأورو-أميركية. في مقابل ترجمة المستشرقين العييّة، ينهض إدوارد سعيد بما هو «مترجم» بذاته.
إدوارد سعيد عربي يكتب بالإنكليزية. أمضى حياته البالغة «يترجم» فلسطين إلى لغة المستعمر، التي تعلّمها في مدرسة خصوصية في مدينة القاهرة، حيث لجأت أسرته بعد احتلال الصهاينة فلسطين. إلا أنّ سعيد يتعامل ولغة المستعمر على طريقة كبار الكتاب والأدباء المناهضين للاستعمار في القارات الثلاث: بالتخريب وكسر المحرمات والتفوق على أصحاب اللغة الأصليين عن طريق الابتكار والتخييل والإبداع. هكذا تصير الكتابة بلغة المستعمر فعل مقاومة بذاتها.
ثم إنّ علاقة إدوارد سعيد بالعالم العربي فعل ترجمة هي أيضاً. فالصدمة التي دفعت الجامعي العربي-الأميركي إلى دراسة نتاج المستشرقين، كانت هزيمة الجيوش العربية على يد إسرائيل في حرب حزيران ١٩٦٧ وما تبعها من احتلال كامل فلسطين التاريخية إضافة إلى صحراء سيناء ومرتفعات الجولان. وإنّه لمعبّر جداً أن يكون رد فعل إدوارد سعيد الفوري على صدمة الهزيمة هو قراره تعلم اللغة العربية. من هنا تضافرت صدمة نكسة ١٩٦٧ واستعادة اللغة الأم على تكوين الحدث التأسيسي الذي استولد إدوارد سعيد الآخر. إدوارد سعيد المثقف العمومي والمناضل الذي نعرف، في مقابل إدوارد سعيد الآخر الذي تعرفنا إليه في «خارج المكان».
لذا ينبغي تصنيف إدوارد سعيد في عداد فريق المثقفين العرب الذين فجّرت نكسة ١٩٦٧ طاقاتهم الخلّاقة والغضب. ضمن هذا الفريق مارس سعيد «الترجمة» مجدداً، وهي الاسم الآخر لصيغته المحببة عن «تحويل التجربة إلى تعبير». آلى على نفسه أن يعبّر عن تجربة المخاض الفكري النقدي الجذري وعن الحركات التحررية والثورية لحقبة ما بعد نكسة ١٩٦٧، وأن يسكبها في اللغة المفهومية لغرامشي وفانون ووليامز وبولانتزاس وستيوارت هِلّ وسواهم. سلّط سوط النقد على الأنظمة الاستبداديّة والدكتاتوريّة لعجزها عن مواجهة الإمبرياليّة والصهيونيّة ولقمعها شعوبها، مع أنّ نقده الأنظمة الشعبويّة العسكريّة كان أبرز وأقسى من تناوله الأنظمة السلاليّة النفطيّة المحافظة والموالية للغرب. طاول نقده أيضاً حركات التحرر العربيّة وفي مقدمها تلك التي التزم بها: منظمة التحرير الفلسطينية. عارض اتفاق أوسلو ١٩٩٣، الذي وصفه بـ«سلام الضعفاء»، لأنّه نتج من قراءة مغلوطة للاستراتيجيات الأميركية والإسرائيلية من القيادة الفلسطينية، التي ما لبث أن قطع علاقاته بها. ولم يُعف سعيد مثقفين عرباً من النقد، كما في حال الذين تضامنوا مع المفكر الفرنسي روجيه غارودي لإنكاره المحرقة اليهوديّة (راجع: لوموند ديبلوماتيك، آب-أيلول ١٩٩٨).
لم يكلّ إدوارد سعيد يوماً عن ممارسة دوره في «ترجمة» الاستراتيجيات الأميركية إلى لغة مواطنيه العرب، مقترحاً أين وكيف ومتى يمكن مواجهتها. رغم المرض، وجد الوقت الكافي ليحلل لقرّائه العرب آليات اتخاذ القرار في الإدارة الأميركية مع وصول المحافظين الجدد إلى الحكم. وكان من أوائل من نبّه إلى خطورة ظاهرة الأصوليّة المسيحيّة في الولايات المتحدة، وإن يكن عبّر، في الوقت ذاته، عن إعجابه بزخم حركة الاحتجاج الشعبيّة الأميركيّة ضد الحرب على العراق. وفي آخر زيارة له إلى لبنان، قبل رقاده الأخير فيه، اقترح إدراج دراسة المجتمع والدولة الأميركيين في برامج التعليم العربيّة بديلاً من مجرد تعليم التلامذة والطلاب العرب في كتب مدرسيّة أميركيّة أو منقولة عن الكتب المدرسيّة الأميركيّة.
في الأمر أكثر من وصيّة أستاذ جامعي. إنّه إدوارد سعيد يستعيد الهاجسين اللذين ختم بهما كتاب «الاستشراق»: التحذير من تشريق الشرقيين ومن الردّ على الاستشراق بواسطة الاستغراب. لكن «الترجمة» هذه المرّة تدرج التحذير في اللغة المفهومية لأسلوب إدوارد سعيد المتأخر، لغة إنسانوية علمانيّة قد تجاوزت الثنائيات والهويات المتعادية.