يرى الباحث أن اللعبة الدولية تدور لاقتسام المصالح في العالم العربي، مما مهد الطريق للتغول الاقليمي، بمشروعه الصفوي المتسلح بالتشييع السياسي، والساعي لتفكيك المجتمعات العربية. وعليه ازدهرت ظاهرة "المليشيا-السلطة" الفاسدة التي تتجاوز الدولة والقانون.

ظاهرة المليشيا سلطة

مهنّد العزاوي

"إن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار" (ونستون تشرشل)

يؤكد الواقع السياسي الدولي والإقليمي بحقيقة التحالفات والصفقات المخفية التي تعمل لتفكيك وتمزيق العالم العربي، وتفكيك مناطق التاثير الاستراتيجي، ونهب الثروات الاستراتيجية، واندثار المحاور الجيوسياسية العربية، وإزالة مفاصل القدرة الصلبة التي تبددت بعد غزو العراق 2003، وبلا شك أن قواعد اللعبة الدوليّة تعمل وفق فلسفة القوة والتأثير، بغض النظر عن محظورات القانون الدولي التي لا تأبه بها الدول الكبرى، لأن المصالح هي الأهم "لا عدو دائم ولا صديق دائم بل هناك مصالح مشتركة"، ولغة المصالح مكنت دول اقليمية من التغول والتمدد لتحقيق المصالح الهرميّة الدوليّة لتمنح على أثرها حوافز تحاكي أطماع الوكيل الاقليمي.

مخاطر بعين المطمئن الحالم
تضرب الفوضى وسوء التدبير والتسرع خارطة النظام السياسي العربي، الذي أتاح للتغول الاقليمي بمشروعه الصفوي المتسلح بالتشييع السياسي، والمسلح، والمتحصن بمنظومة أساطير أيديولوجية مصممة بخبث السياسة الهدامة، لتفكيك وتمزيق المجتمعات العربية، إنطلاقاً من لبنان مروراً بالعراق وسوريا واليمن والبحرين والصومال والسودان وليبيا ومصر وتونس.. الخ، وبعيداً عن هوس المؤامرة فإن الخلل يكمن في النظام الرسمي العربي ومنظومته المتصدعة المختلفة على بوصلتها، والتي ترى المخاطر بعين المطمئن الحالم، خصوصاً بعد أن فقد العرب أمنهم القومي، وانصرفوا لأمن قطري هش يمارس التقية السياسية، ليتخطى المخاطر الاستراتيجية الناجمة عن التقصير المؤسساتي والفكري والايدولوجي والإعلامي والنفسي، الذي أغفل تحصين الشعوب والمجتمعات من خطر التسلل الايدولوجي العابر للدين والوطن، وبذلك ترك الأبواب مفتوحة للايدولوجيا الهدامة الوافدة تستقر في عقول الكثير خصوصاً بعد "ظاهرة المليشيا سلطة" التي رسختها الإدارة الاميركية وإيران في العراق وقبل منها في لبنان، وقد أعطت حافزاً للقتلة والمجرمين والإرهابيين وقطاع الطرق للقفز إلى الدولة وسرقتها، وتهديم بناها التحتية وخطف مجتمعاتها.

حرق التاريخ
خلال العقدين الماضيين وضحت مسارات اللعبة الدولية بعد سيل الأفكار المنشورة لعدد من المفكرين الأجانب، وهم يقسمون العالم العربي على مائدة للشرب، أو في لحظة ملل، أو في موائد القمار، ليتلقفها الإعلام الغربي والناطق باللغة العربية ويسوقها كفكرة أو مشروع، دون الأخذ بنظر الاعتبار خطورة تسويق أفكار تتعلق بالأمن والسلم والدولي، وتخترق خصوصيات المجتمعات والدول، وتعد انتهاك صارخ للقيم القانونية الدولية، وبالرغم من ذلك وجدت تلك الأفكار الهدامة مواقع مختلفة للتطبيق في ظل تراجع منظومات الوقاية العربية، وتخلف أدوات العلاج، ودخول الثورة الرقمية والمعلوماتية كلاعب سياسي، لتجعل من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ميدان للدعاية والتشويه والتحريض وشيطنة المجتمعات وتمزيقها، وقد أضحت أرضاً خصبة لنشر الأساطير الهدامة الساعية لتفكيك المجتمع وفق فلسفة الهندسة المعكوسة التي تستهدف الأساس الفكري والفلسفي والديني للمجتمعات العربية والإسلامية، ناهيك عن عسكرة الاسلام وصعود الراديكالية المذهبية العابرة للإنسانية والتعاليم الإسلامية والدينية، وقد أصبح تأسيس المليشيات تجارة رائجة تعود على تنظيماتها أرباح مالية خيالية، ضمن تجارة الدم والموت والحروب، وباستخدام شعارات مذهبية محفزة للعاطفة العمياء، بغية تحقيق ظاهرة المليشيا سلطة، والتي طبقت في لبنان والعراق والصومال، وكما يبدو أن هذه الظاهرة تزحف بشكل مضطرد إلى دول عربية اخرى لتنسف كل ما تبقى من قيم التاريخ الحضاري والتأثير السياسي الدولي، لتحول المنطقة برمتها إلى رقع حمراء ملتهبة منشغلة بالنزاعات الداخلية، لنتج دول المكونات والطوائف وأمراء الحروب وشيوخ المصائب، كما في العراق المخطوف حيث تعصف به ظواهر المليشيا عبر الشيخ الأمني والشيخ المذهبي والشيخ السياسي مع مليشياتهم المتنقلة المستنزفة لأموال العراق وأمنه.

العراق في القرون الوسطى
سئم العراقيين واقعهم الأمني والسياسي والثقافي والاجتماعي، في ظل تسلط سياسيو الحاجة التي جلبتهم الولايات المتحدة خلف دباباتها وأوفدتهم ايران على بساطها، ليجعلوا من العراق بلد ممزق محترب ومتخلف وكما وصفت أحد تقارير هيئة محاسبة الحكومة الأميركية "الحرب على الإرهاب أعادت العراق إلى القرون الوسطى"، وأضحت أمواله تنهب من قبل طائفة السلطة، والغالبيّة العظمى من المال يذهب للأنظمة المحيطة بالعراق أموال وأسلحة وعقود وتبرعات سياسية ومؤتمرات ومشاريع وهميّة، وشعبه تحت خط الفقر ويبحث عن لقمة عيش في أغنى بلد بالعالم، يستورد عمالة آسيوية مقابل تهجير طبقته الوسطى، وقتل علمائه وتهجير كفاءاته، واعتقال أبنائه، لتسود شريعة المليشيا كما في العصور الوسطى.

يزف العراقيون يومياً أبنائهم للموت على أثر التفجيرات المنظمة، وحرب الكواتم، وعمليات الاختطاف الرسمي الحكومي والمليشياوي (عقيدة الصدمة) ضمن فلسفة الفوبيا، لأجل يعاد انتخاب طائفة السلطة الفاشلة الفاسدة من جديد، وتأمين اصطفاف طائفي جديد بعد أن فشلوا في تأمين مقاعد في انتخابات المحافظات وعزوف الشارع العراقي عن انتخابهم، ولعل الأحداث الأمنية الدامية اليومية تؤكد أن الفاعل يستهدف كل الأطراف، وفق عقدية طائفيّة مذهبيّة يعتنقها منذ استلام السلطة وحتى الآن (صراع المذاهب بإدارة سياسيو المذهب)، ليتم التضليل على ملحمة النهب الحرّ للعراق، والقتل الشامل لأبنائهم، وحرق تاريخ العراق المشرف، ونحر الهوية الوطنية العراقية الجامعة، ويتوهم البعض من أصحاب القرار الدولي والعربي بأن شرار هذه الظاهرة بعيد عنهم، بل أنها من الأخطار الاستراتيجية الزاحفة، ويبقى الأمل بالجيل الشاب الواعي والمسؤول الذي يعول عليه استعادة بلده المختطف بعد أن هدمه تجار المذاهب، وشيوخ المصائب، والمرتزقة السياسيين، وتجار الوطنية من أصحاب الدكاكين السياسية بائعي الوهم وسارقي الحلم.

 

كاتب من العراق