ينظر العقل البشري للثقب الأسود كشذوذ موضعي عن طبيعة الكون المتمدد منذ "الانفجار الأعظم". وذلك لكونه حالة تنكمش فيها المادة على ذاتها لتجتمع عناصرها في بؤرة مركزيه تقارب كثافتها اللانهاية. ملغية الفضاء الذي كانت تسبح فيه تلك العناصر وتتفاعل، منتجة الحياة. ربما يمكن النظر للعنصرية، للفاشية، أو للنازية كظاهرة شاذة مشابهة لظاهرة الثقب الأسود في مرحلة تشكله. فعموماً تتميز تلك التشكيلات بأنها مغلقة لا تنبسط على أرض الواقع كتنظيمات أو كبنية لها وسط ويمين ويسار. بل تأخذ من منظور الكتل شكلاً كروياً ليس له فوق، أو تحت، ولا يمين، أو يسار، بل مركز ومحيط يعمل المركز على إخضاعه بالقضاء على عناصره الرافضة للاحتواء، وإزالة الفضاء الفكري لينكمش حول الفكرة المركز. ملغيا الفطرة والمرجعية القانونية للحقوق، رابطاً وجود الفرد وقيمته بمستوى تماهيه معها.
هي حالة مضادة في بنيتها ومسارها للرؤية وللمسار اللذين شقا الطريق لعصري النهضة والأنوار، يوم بحثت ريشة فنان كان يرسم (مكرهاً) لوحات نمطيّة تكرس هيمنة مطلقة للمركز على جدران وسقوف الكنائس والكاتدرائيات عن مخرج. فكان أن رسمت في مكان ما من اللوحة نافذة صغيرة جداً. التقط رسام آخر الفكرة، فأظهر منها طرف غصن، ثم ثالث .. ومدّ المجتمع رأسه من خلال تلك النافذة ليرى أن هناك دنيا أخرى غير تلك التي داخل سجن المركز النمطي. تعمل العنصرية اليوم كما بالأمس على عكس اتجاه دوران الأرض للعودة إلى جدران بلا نوافذ، مبيدة كل تنوع! قد تبقى العناوين القديمة شاخصة، لكن لافتة اليسار الفكري أو السياسي (مثلاً) لا تعود تعبر بعد عن مضامينها التاريخية؛ كالنضال من أجل توسيع فضاء المخيلة والحريات والحقوق المدنية، وانتزاع المجتمع المدني لمزيد من السلطات التنفيذية من بين مخالب السلطة التنفيذية، إضافة لتوسيع دائرة مراقبته وإشرافه على سلوكها.
ولا يعود اليمين هو ذلك المستكشف للحدود القصوى الآمنة لضغط مكبس السلطة التنفيذية للحقوق المدنية بالقدر الذي لا يتسبب بإيقاف عجلة الدولة والمجتمع عن الدوران، ويحافظ على طاقة كافية لمواجهة دول أخرى. ولا يعود الوسط جديدا كان أم تقليديا هو ذلك الذي يبحث عن مخارج توفيقية للتناقضات بين مسار اليمين ومسار اليسار. تتلاشى الحدود الفاصلة بين اليمين واليسار والوسط ليسقط الكل؛ الثقافة والسياسة والاقتصاد في الفكرة المركز، فتسيطر حالة من العبودية على كل شيء تحت رداء البحث عن الجبروت. يستبدل اليسار حصان دون كيخوتة سيرفانتس بدبابة، وطواحين الهواء بأجساد أطفال تنبض بالحياة والأمل. يتحول المجتمع، الشعب، الأمة، إلى ثقب أسود. كرة تتدحرج في كل الاتجاهات ملتهمة جوارها ولهدف أوحد، هو اصطياد مزيد من الطاقة كي تنمو وتتمدد وتزيد من قدرتها على زيادة طاقة مركزها. لكن وكما يعلن الثقب الأسود عن موته منفجرا وقد وصل إلى حالة لم يعد فيها قادراً على التهام المزيد ولا التوقف عن الالتهام.
تندفع تلك المجتمعات نحو انفجارا يدمر الذات وبعضا من المحيط، وحسب مستوى الطاقة الكامنة. وقد أدى انفجار النازية لمصرع قرابة ستين مليون إنسان منهم عشرة ملايين من الألمان. وربما سيكون انفجار الحالة الإسرائيلية أشد خطورة. ففي مركز الكرة الإسرائيلية قوى سياسية متشابهة ونووية. وما يمكن اليوم أن يتم على أساسه تصنفيها كيمين أو كوسط ويسار هو درجة شغفها باحتلال مركز المركز، بعد أن أنجز سحب المجتمع الإسرائيلي وفي غالبيته العظمى بتلك الجاذبية. حسب قوانين الطبيعة لا بد لهكذا تكوين من أن ينفجر وقد أنجز بيديه تدمير الفضاء العازل الذي يوفر حق وحرية الاختلاف والبحث عن أفاق وحلول للأزمات، وما من شأنه تخفيف شدة الاحتقان. تفكك تجمع "المعراخ" العلماني الاشتراكي،المرحب به دائما في منابر الاشتراكية الدولية. وضغطت حركة السلام الآن، وتلاشت موجة المشروع الثقافي الناقد للصهيونية والحريدية؛ ذلك الذي شهدت فترة حكم نتنياهو الأولى زخما قويا له، بشر بتغيير واعد قبل أن يعاني من تأمر حزب العمل عليه ولصالح اليمين. فكان أن وقعت الثقافة المجتمعية الإسرائيلية في الشرك الثقافي الذي نصبته الحركة الصهيونية للآخرين (تقاضيهم وتعزل وتدمر حياة كل من يطرح تساؤلا حول دقة مقولات الصهيونية وفي كل بقاع الأرض)، محيلة مذهب الشك الديكارتي إلى زنزانة تحرسها الأحادية.
وقعت ثقافة إسرائيل أخيرا في ذلك الشرك فتقلص خطابها إلى موضوع وحيد هو حماية الذات بالقضاء على الآخر أو بمسخه، وانكمش فضاء فنونها إلى تلاوة أسفار ومزامير الأصولية الدينية والقومية، وغابت موسيقى مندلسن وفكر ابن ميمون من الذاكرة والواقع. انتهت الحفلة التنكرية بأقنعة الديمقراطية، ولم يعد هناك من يسار أو وسط بعد أن قتل رابين مرات متتالية وبدون توقف إلى أن اندثر حضوره كعقل وفكر ومنهج ومخيلة ترى وتسمع غير صوت صاحبها. فتحت ضربات متتالية لمطارق العنصرية، قطعت الصلة مع فكر إنساني حي ومعاصر تطور من عجينة عصر الأنوار، لينجز منطقة حرة ومحايدة لحوار بناء، وليعمل وبجدية ومثابرة لإنجاز المصالحة التاريخية بين الطبيعة وبين الإنسان وحضارته. لينتج فلسفة جديدة للخلاص هي فلسفة البيئة التي تلحظ حقوق كل العناصر المكونة للطبيعة.
قطع المجتمع الإسرائيلي صلته مع كل ذلك واستنفر لصنع مطارق راحت تشكل فضاءه الثقافي، في ظل صمت وتخاذل الوسط الأكاديمي الإسرائيلي عن المواجهة. نقتبس من مقال استشهد كاتبه* بقول لستيفان هيسل (87 سنة)، آخر الأحياء من بين الذين اشتركوا، قبل ستين عاماً، في تحرير «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، حول ما حدث في غزة "هي جريمة لا يجوز أن يسكت عنها الضمير الإنساني. وأضيف، من منطلق كوني أتحدّر من عائلة يهودية، أنها جريمة تمثّل كارثة على القيم والأخلاق اليهودية، وتشوّه صورة اليهود عبر العالم". ونضيف: إنه الواقع وقد عبر عمليا عن الاحتمال الطبيعي والأرجح لتطور عمارة أشيد أساسها على الفكرة الصهيونية. التي جوهرها منفتح للتطور نحو لكرة نارية، لا نحو "السلام الآن". إن المرء وهو يقف متأملا لوحة هذا الواقع تنتابه الرغبة بأن ينحي جانبا وللحظة كل تاريخ إسرائيل الإجرامي القبيح، والآلام التي سببتها لنا. ويتمنى لمجتمعها أن يجد لنفسه مخرجا من تلك الكرة النارية غير مخرج الانفجار. أن يعي أن ضرب إيران أو سوريا أو لبنان سيفاقم أزمته. أن يستعيد شريط مجزرته في غزة ويقيس مقدار احتقانه قبلها وبعدها. أن يراقب نفسه عله يلحظ أنه يكاد ينجز تحوله هو إلى رصاص مصبوب هدف وجوده الوحيد هو البحث عن ضحية لقتلها. عله يدرك ذلك المجتمع ذلك الفرد هناك في حيفا أو تل أبيب؛ أن الرصاصة المصبوبة ليست هي الحل أو المخرج، وأنها سترتد لصدره وبيديه ولو بعد حين. عله يتذكر يهودا جسدوا في سيرة حياتهم نقيض الرصاص المصبوب وهم كثر. أن يدرك أن السلام مع الآخر لن يكون من نصيبه يوما إذا لم يعرف السلام مع نفسه أولا. وأن السلام مع النفس يتطلب منها أن تقبل بآخر قوي وند ومنافس، وأن تعيد تشكيل ذاتها ليس على شكل "رصاصة كروية مصبوبة"، بل على شكل نبتة تعيش إلى جوار عدد كبير من النباتات المختلفة لونا ورائحة. تأخذ حصتها من الماء والضوء وتترك لغيرها حصته.
سبق أن زرت معتقل بوخنفالد المجارو لمدينة فايمر، والذي اعتقل فيه ستيفان هيسل ونجا بأعجوبه. وما زلت أذكر دهر الصمت الذي مر بنا ونحن نقف أمام الشجرة التي شنق المئات (من قوميات ومذاهب مختلفة) بحبل تدلى من أحد أغصانها. ما زلت أتحسس الدموع الصامتة وهي تنحدر خاشعة على وجنات الواقفين. ما حدث في غزة ذكر بذلك الذي حدث في بوخنفالد، واستفز دموعاً وخشوعاً مماثلين من سكان المعمورة كلها. إن التفكير الذي يحكم عقل إسرائيل نتنياهو وليبرمان وغيرهما، بضرورة وشرعية تحويل سلاحهم النووي إلى رأس مال غير مجمد. يفرضون من خلاله أسعار الأسهم في بورصة الاقتصاد والسياسة والثقافة والجغرافيا في هذه المنطقة. يشبه التفكير بتحويل جرائم النازية إلى تجارة رابحة. وفي هذه الحالة سيطرح التاجر على نفسه، وبغض النظر عن اسمه، السؤال التالي: لو أن الجستابو قتل مزيدا من اليهود، إذا لزاد ربحي. هل حقاً أرغب لو أنه فعل؟