بغض النظر عن سياق النظام السياسي، يشير الباحث المغربي إلى أهميّة اختيار المدرس من حيث قدرته على التأثير الجمالي والسلوكي في مجاله التعليمي. ويحذر من الاحتراب النافل، والاختيارات البيروقراطية التي تنصر الشهادات دون النظر الفعلي للمؤهلات العقليّة والتربويّة.

أزمة المدرسة المغربية: إشارات عن المدرس

سعيد بوخليط

حتى لا تنسينا، كرنفالية الخروف، وأسطرته الديماغوجية في مجتمع صار يجنح بجنون نحو صنم الاستهلاك، دون أن ينتج، ارتأيت العودة ثانية إلى منطق العقل والبقاء في حضن المدرسة، بقيمها البناءة التي تبتغي إرساءها، كي يستوعب الناس قبليا ما ينبغي حقاً الانكباب على السعي لاستهلاكه جسدياً أو معنوياً.

احتُفل مؤخراً بعيد المدرس، الفاعل الأكثر حساسية وفعلاً وتفاعلاً، ضمن الدائرة التي تصنع عن حق مرتكزات الفعل التعلمي، مادام هو في اتصال مباشر مع الذوات التي يتحتم عليه توجيهها نحو آفاق بعينها، أكانت إيجابية، من تم تطوير الأجيال، أم سلبية مما يضاعف ويكرس إخفاقات المنظومة التعليمية. المدرس، يتحمل وزراً كبيراً من المهمة تكويناً وتكوناً، تهذيباً وتهذباً، تعليماً وتعلماً، تطويراً وتطوراً، إلخ.

بغض النظر طبعاً، عن حمولة الفعل المجتمعي، الذي ينتجه السياق العام ضمن طيات النظام السياسي، ثم الظروف والمعطيات القائمة، هناك أشياء تلتصق وجودياً باختيارات المدرس الفردية وقناعاته الشخصية، بوسعه أن يخلق من خلالها مجاله التداولي، على الأقل في علاقته بحقله المغناطيسي الأقرب المتمثل في التلاميذ. صحيح، مسؤولية الدولة بتوجهها اللاعقلاني، الارتجالي، بالتالي نظرتها إلى التعليم كأي خردة من قطع الغيار المستعملة، يشكل بؤرة الخلل، وهو استنتاج لم يعد خافياً على أحد، اللهم جوقة المنافقين المنتفعين من الأوضاع. بناء عليه، فالأجواء والظروف الملوثة التي تلف المدرس من كل صوب، تقوده عبر كل الواجهات نحو إفقاره فكرياً ومادياً، وتبليط نزوعاته الآدمية، بحيث غدا مجرد آلة صماء. لكن، رغم الواقع المريض، يتحمل المدرس المغربي، قسطاً مما يحدث داخل مجاله، مساهماً بكيفية أو أخرى في الدفع بمؤسسته إلى مزيد من التأزم البيداغوجي والثقافي، لأن هذا المدرس أضاع الأشياء الجميلة، ولم يعد يملك ما يعطي، غير كلام مستهلك نعرفه جميعاً، تنميه كراسي المقاهي.

الإشارة الأولى: يحوي اليوم فضاء المدرسة المغربية، حرباً سرية بمسدسات كاتمة للصوت، حيث البلاغات والبلاغات المضادة، بين زمرتين. البعض منهم، يظن نفسه أحق من غيره بهاته المدرسة، ومالكها الوحيد. ثم في الجهة المقابلة، يقوم فريق ثان، يعتقد جازماً أنه أكبر من المدرسة ومحيطها،لأنه قد ولجها بأوراق ثبوتية "خارقة". علماً، أنه فوق هذا أو ذاك، تبقى المدرسة حقنا جميعاً. أقصد بالتصنيف الأول، ما بات يعرف انتشاء بخريجي المراكز التربوية. أما الفريق الثاني، فالمقصود به تحديداً، أصحاب الشواهد العليا، المدمجين مباشرة في قطاع التربية الوطنية. حتماً كلاهما، في نهاية المطاف، عليه إقناع نفسه والناس والمجتمع والعالم، بأنه مدرس قولاً وفعلاً. بالتالي،لا يشرعن الموقع المفترض للمدرس، شهادة ورقية كيفما تأتى مصدرها، لأنها لا تتجاوز مساحة كونها تدبيراً بيروقراطياً، بينما المهم ما ستظهره من مؤهلات عقلية وتربوية وسلوكية، كي يخاطب المدرس كائنات بشرية، يستطيع حسب درجات زخمه الروحي، التأثير فيها وتطعيم جيناتها الخيالية والجمالية. أما الوقوف عند شهادة "شهادة"، كيفما كانت تسميتها (امتحان التخرج، ماستر، دكتوراه)، فلا يعدو أن يكون احتماء قاصراً بوثيقة إدارية، لا غير، قد تطوي اعترافاً نظرياً لأشخاص بعينهم (أساتذة مبرزين، لجنة مناقشة) محدودين في الزمان والمكان، دون حتى استحضار مستويات إشعاعهم العلمي.

إذن، مشروعية المدرس لا تعود إلى اعتراف جامعي، لكن في عطائه الميداني، ثم ما هو قادر عليه حين انتقاله إلى أرض المعاينة؟ كي يعيش تجربة المحك الملموس لما يدعيه، بالتالي، من يظن نفسه مدرساً معصوماً ومنزهاً، لأنه فقط نجح في مباراة وتخرج من مركز تربوي، فإنه بلا شك وأهم، الدليل أن المدرسة المغربية بدأ انحدارها تقريباً مع بداية التسعينات، بينما الأفواج الأولى للتوظيف المباشر الملتحقة بقطاع التعليم، لم يتضح بجلاء بصمتها إلا خلال العقد الأخير. أيضا، وبنفس المنطق، ليست الماستر أو الدكتوراه بالحصن الحصين، الذي يمنح صاحبه هالة ربانية، بل الأمر مجرد عقد ورقي قابل للفسخ، قياسا لمستويات تفعيل صاحبه له. فهل، من قيمة تذكر مثلاً، للدستور دون انتقاله من حبر على ورق، وخطاب أجوف إلى التأثير فيزيقيا على حياة المواطنين؟ هل، لوثائق الأحزاب الضخمة والهائلة، وأدبياتها وبياناتها التي لا تنتهي، من مسحة نَفَس إن لم تتبلور عمليا؟ هل، للترسانة القانونية من جدوى إن لم تمنح الحقوق لأصحابها؟

خلاصة، ليس سند المدرس أن يتحجج بمشروعية أو تلك، بل بكل بساطة قدرته على أن يدلي بدلوه الكيفي في الميدان، يعكس فلسفته الوجودية، واضعاً أمام نصب عينيه تحويل المدرسة المغربية صوب الجهة الأصح.علينا، تجاوز الوجاهة الاجتماعية كيفما كان مصدرها، إلا واحدة، العمل. بهذا، لن تقع حرب المدرسين!!

الإشارة الثانية: أعتقد في حدود رؤيتي المتواضعة، لكنها وليدة ملاحظات ميدانية مركزة، أنه للنهوض بالمدرسة المغربية، ابتداء من عتبة اختيار مدرسين متميزين، بحثاً عن النوع وليس الكم، يفترض منهجياً أن لا ينتقل المدرس على وجه السرعة من الجامعة -لاسيما مع هاته الجامعة الضعيفة التي نعرفها حالياً- بل ضرورة عبوره من ميادين حياتية أخرى، وتفاعله مع العديد من الفئات البشرية، حتى يتشرب ذكاء شعبيا يصقل جوانبه النفسية، ويمنحه مختلف مفاتيح أنواع الشخصيات، فتتضح شخصيته وتتسع حمولة دماغه شيئاً فشيئاً، ويفهم كنه المعطيات في محدداتها الجذرية، حينذاك قد نفتخر بقامات علمية وتربوية.

في سياق الهواجس المهيمنة على مخيلة مدرسينا الحاليين، تابعت مؤخراً جدالاً بين مجموعة من هؤلاء، تكرر موضوعه لساعات طويلة وفق كثير من الأخذ والرد والسؤال وابن عم السؤال، تعلق مضمونه ولسخرية القدر، حول كيفية تنظيم مساهمات شهرية في حدود ثلاثين درهماً، من أجل تهيئ وجبات الفطور في المدرسة!!! استمر النقاش صاخباً، مدوياً حول المبلغ، ثم من سيتناول أقداحاً من الشاي أكثر من غيره؟ بناء على قيمة المساهمة المالية لكل واحد؟ قمة الجفاف الذهني، والضحالة الفكرية التي أنتجت بالتأكيد هذه الصحراء التي تبتلعنا كل يوم، حيث نتصرف بذات الطريقة، نمارس السلوكات نفسها، ندخل الدوامة عينها، سواء تعلمنا أم لم نتعلم، بقينا في المدرسة أم غادرناها. إنه خلل مهول في علاقة الفكر بالواقع؟ فحينما، يجلس مدرس لساعات طويلة، متناظراً حول موضوع كهذا، يعني أن الوضع الحالي للمدرسة المغربية، لا يمكنه إلا أن يكون كذلك، فأتساءل في هذا الإطار: أيهما الأصل، الفقر الفكري أم المادي؟ من، يقولب الثاني ويؤسسه؟

الإشارة الثالثة: يتحتم تجاوز الأساليب البيروقراطية، بخصوص آليات تحفيز المدرس ودفعه أكثر نحو تفتيق ملكاته كي يرتقي بعطائه. بالتالي، ما يعرف بالكفاءة المهنية والعملية، التي تمثل الاختبار المطلق للمدرس، كما يفهمها منظور الوزارة منذ عقود ويفعلها. أظنها، تقييم في غاية التخلف عن روح العصر، لا يرقى إلى الفرز النوعي الذي نريده لمدرستنا. بمعنى، إجراء اختبارات وشفوية مع ما يكتنفها من شوائب ونواقص وثغرات عديدة، تعيد المدرس إلى موقع كراسي الحضانة، لذلك يصاب بالنكوص ويمارس الغش كأي طفل، لأن مصيره في كف عفريت، كما أن الوزارة لا تتعامل بالجدية المطلوبة كي تخلص إلى التقييم الصائب، وترسم الصورة المناسبة لوضع الخطط والبرامج الملائمة. لذلك، الأهم والأبقى يكمن في التأهيل والتكوين المستمرين، موضوعياً وذاتياً، عبر ربط المدرسة بمشاريع علمية جماعية، هكذا يصبح المدرس مشتغلاً بالقضايا الجوهرية، ويتسامى عن نقاش الشاي،المشار إليه سابقاً.